الأحداث الجارية جعلت حكومات المنطقة بل حكومات العالم غير المحصنة وشعوبها تفقد الثقة في أمان أصولها وموجوداتها المالية المكدسة في الغرب وتبحث عن مستقرات آمنة أخرى في أماكن أخرى. البحث عن عالم متعدد الأقطاب يضمن سلامة الموجودات المادية ويفتح أبواب الاقتصاد أن اغلقها طرف متمكن، صار هدفا مشتركا...

هل ستداوي مصالحات الشرق الاوسط جراح الشعوب العربية وتنسى صراعات الماضي المعقدة والمتشابكة؟ وما هي التوقعات المستقبلية بتشكيل محور اقليمي شرق اوسطي؟

المصالحات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط هي ليست تصرف سياسي تكتيكي مناور ولا أسلوب ذر الرماد في العيون، إنما هي حاجة ماسة وضرورة ملحة املتها ظروف استثنائية محلية وإقليمية وعالمية. هي ردة فعل صالحة لفعل طالح ولحالة تشرذم وتآكل ذاتي أصاب المنطقة وأدى إلى تداعيات أمنية خطيرة والى وضع سياسي عسكري اقتصادي اجتماعي غير مستقر.

اتسمت منطقة الشرق الأوسط بعدم الاستقرار منذ نشوء الكيان الإسرائيلي في قلب الأمة العربية والإسلامية حيث تتفاقم الحالة طورا بعد طور. أحداث تمر وكوارث تنطلق وجذورها دائما تنبعث من فلسطين! فتجلب الأسى والدمار والتقهقر. حصلت حرب الخليج الأولى ثم الثانية وتبعتها الحرب في أفغانستان، وهكذا برز المشروع الأمريكي الذي رفع يافطة الديمقراطية وحرية الشعوب والموسوم بـ "مشروع الشرق الأوسط الكبير" الذي تمخض عنه الربيع العربي وتغير الوضع الجيوسياسي في المنطقة.

تحولت الديمقراطية المستوردة إلى حروب أهلية وتفاقمت النعرات الطائفية والقبلية وأسس الإرهاب دولته المارقة وانقسمت الولاءات وتعددت الأقطاب وتفتت الأواصر وتبعثرت الأمة. هذا الوضع المصطنع خلف آثارا مضنية وأثقل كاهل البلدان المعنية بهذه النزاعات واستنزفت الطاقات المالية والإقتصادية والاجتماعية والنفسية مما خلق حالة تذمر عند شعوب المنطقة من جهة وحفز القادة بإعادة النظر في حساباتهم وتوجهاتهم المستقبلية من جهة أخرى.

انتباه القادة إلى أن النزاعات المستمرة لا منتصر فيها والعنف والعنف المقابل مردوده الضعف والاستنزاف والانحطاط، كان المحفز الأول لإجراء تحول جذري في طريقة التعامل مع الموقف المتازم وإيجاد حلول وسطية بناءة ومد يد المصالحة بين الفرقاء.

لعبت أمور أخرى أدوارها في هذا التوجه نحو المصالحة والتوافق بين دول المنطقة وانتهاج أسلوب الحوار البناء والتسامح والتفاهم من أجل المصالح المشتركة ومن بينها ما يلي:

اولا/ توافق الرؤى بضرورة تحفيز اقتصاديات دول المنطقة من خلال خلق حالة الاستقرار السياسي والسلام والتعاون في المجال الإقتصادي والامني والاجتماعي. كما توافقت الرؤى في ضرورة مد الجسور مع كافة دول العالم دون التقوقع تحت مظلة القطب الواحد وابداء الولاء له دون غيره، حيث قد استغل هذا القطب الأوحد ويستغل هذا الإنتماء المطلق له في تمرير أهدافه وستراتيجياته التي قد لا تتوافق مع طبيعة وارادات وطموحات شعوب دول المنطقة.

فوق هذا وذاك فإن متغيرات المنطقة بما يخص ملفات الطاقة وملفات تبعات التغير المناخي والحوكمة الأمنية الجماعية وغيرها، هي متغيرات مشتركة تستلزم التعاون والتفاهم وفتح قنوات الاتصال.

ثانياً/ صعود الصين كقوة اقتصادية منافسة وانتهاجها مبدأ التصالح والارضاء بين الاطراف، وسياسة لم الشمل بدلا من التحريض على النزاعات والتشجيع على الحروب وعلى التدخل السافر في الشؤون الداخلية للدول، جعلها موقع لقاء آمن ومشترك وعام لدول المنطقة للتعامل السياسي والاقتصادي والاجتماعي. هذا التوجه قابله تأثير بناء من الصين في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء من أجل تأسيس نادي متوافق يسمح بمد جسور التعاون والارتقاء.

ثالثا/ إجراءات الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها المبنية على مبدأ "ان لم تكن معي فأنت ضدي"! وإن صرت ضدي فسأعاقبك بحصار إقتصادي خانق واحفز الآخرين على مقاطعتك وسأجمد أموالك المنقولة وغير المنقولة واحرمك منها! وغيرها من إجراءات تخترق منطق حقوق الأفراد والشعوب والدول.

كل هذه الأمور التي أفرزتها الأحداث الجارية جعلت حكومات المنطقة بل حكومات العالم غير المحصنة وشعوبها تفقد الثقة في أمان أصولها وموجوداتها المالية المكدسة في الغرب وتبحث عن مستقرات آمنة أخرى في أماكن أخرى. البحث عن عالم متعدد الأقطاب يضمن سلامة الموجودات المادية ويفتح أبواب الاقتصاد أن اغلقها طرف متمكن، صار هدفا مشتركا لدول المنطقة كي لا يكونوا ضحية غضب القطب الواحد.

رابعا/ التنافر السياسي الأمريكي الداخلي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري قد انعكس على التوجه وعلى النظرة إزاء الحلفاء والأصدقاء. فزعماء الدول الذين اتسموا بعلاقات وطيدة مع الرئيس السابق دونالد ترامب قد تباعد عنهم الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن. هذا التغير في المزاج الدبلوماسي والعلاقات اتخذ طابعا شخصيا مما جعل الأطراف الخارجية المتأثرة سلبا بهذا النهج تبحث عن مواقع أكثر ثباتا واكثر ديمومة في علاقاتها التي لا تتبدل ولا تتغير باختلاف الحكومات والرؤساء.

كل هذه العوامل والأسباب وغيرها قد اضعفت الثقة المطلقة لبعض الدول الشرق أوسطية الصديقة والحليفة لأمريكا وجعلتها تنفتح في علاقاتها مع دول أخرى والصين على رأسها من جهة والى تخفيف بل وإيقاف صراعاتها الذاتية مع دول الجوار التي لها معها مصالح وروابط مشتركة من جهة اخرى.

هذا ما يجعل المراقب للوضع غير مشككا في النيات بل مؤمنا بصدق التوجه لأنه السبيل الأسمى والأمثل لحل المشكلات والتحديات العالقة. مشروع التصالح هذا سوف لن يسير بطريق تحفه الورود والرياحين من كل الأطراف، بل سوف يواجه أقسى التحديات والمقالب والمؤامرات والفتن ممن لا يروق لهم هذا التصافي وهذا الوئام.

لكن لابد من تكاتف الجهود وتضافر الهمم من أجل المضي قدما في هذا السبيل الواعد والأمين، لأنه مشروع تحدي كبير واستثنائي ولكن لا مناص منه ولا مناص من تحمل تبعاته وتدبير حيثياته ومعالجة هفواته والتصدي لمقالب المنقلبين وعبث العابثين!.

* مداخلة مقدمة الى الجلسة الحوارية التي عقدها مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية في ملتقى النبأ الاسبوعي تحت عنوان (المصالحات في الشرق الاوسط بين الحقيقة والوهم)

اضف تعليق


التعليقات

سليمى احمد طيبه
لبنان
خطوة جيدة ولكنهم تأخروا كثيرا وهل كان من الضروري التقاتل حتى الموت ليعودوا إلى رشدهم هذا المخطط الجهنمي الأميركي اوصلنا إلى الجحيم2023-06-08