هناك واقع مختلف تعيشه اليوم حيث هناك تقدم في إعادة البنية التحتية وتطوير الطرق، والاهتمام بالخدمات، وتطبيق صارم للقانون، والاهم من ذلك كله هو الرغبة المجتمعية بتجاوز صفحة تنظيم داعش، والعودة الى التمسك بالحياة والنهضة والعمران والتعايش السلمي بين الجميع، كونها صفحة بقيت ملازمة لعقود طويلة من تاريخ...

زرت مؤخراً مدينة الموصل لمناسبة علمية في جامعتها العريقة، فكان ظرفاً مناسباً لزيارة عدة مناطق وقرى واقضية من المدينة، ومعايشة عن قرب مع مواطني المدينة، من المعروف ان مدينة الموصل تقع شمال العراق، وثاني أكبر مدينة عراقية بعد العاصمة بغداد، ويبلغ عدد سكانها ثلاثة مليون وسبعمئة ألف نسمة، إضافة الى طبيعة أراضيها السهلية من جانب والجبلية من جانب اخر، ونهر دجلة الذي يشق المدينة الى شقين: الساحل اليمن، والساحل الأيسر.

وسُميَّت الموصل بذلك بسبب موقعها الاستراتيجي الواصل بين الشمال والجنوب والشرق والغرب. من الألقاب التي تطلق على الموصل هي أم الربيعين بسبب اعتدال طقسها في فصلي الخريف والربيع، والحدباء بسبب احتدابها عند المرور بها، أو ربما يرجع ذلك لاحتداب منارة الجامع النوري.

تعرضت المدينة قبل أكثر من عشرة أعوام لاجتياح من قبل تنظيم داعش الإرهابي، وانطلق منها في اعلان عن دولته وخلافته المزعومة الى العالم، نتيجة ظروف سياسية وامنية وحتى جغرافية إضافة الى تغلغل المجموعات الإرهابية في أواسط بعض الناس المغرر بهم، لكن الحقيقة ان المدينة مثلما هو معلوم أيضا تضم خليطا متنوعا من السكان فهي تضم بنسبة أكبر المكون العربي، وتضم مجموعات من التركمان، الكرد، الشبك، والايزيدية، وأبناء المكون المسيحي ومجموعات دينية وعرقية أخرى.

تتميز مدينة الموصل إضافة الى تعدديتها العرقية والدينية والطائفية بطابعها الحضاري، وعمقها المدني، حيث يسكن كل قضاء او قرية خليط متنوع من الأديان والقوميات والاعراق بصورة متسامحة، الى جانب موقعها الجيوسياسية المتميز حيث ترتبط بتركيا وسوريا وهو ما يجعلها بموقع تجاري متميز ايضا. كما ان المدينة بانضباطها والتزامها الأوامر كونها تميزت بانتماء أبنائها الى سلك الجيش والشرطة في حقب تاريخية مختلفة.

بعد عام 2003 تعرضت مدينة الموصل الى الكثير من المتغيرات والتحديات السياسية والأمنية التي مكنت في النهاية من سيطرة التنظيم الإرهابي عليها، وبعد مرور أكثر من عامين على سيطرة تنظيم داعش شعر اهالي المدينة بالصدمة بين ما يؤمنون به من قيم وبين ادبيات التنظيم وايديولوجيته واهدافه، فأول عمل قام به التنظيم هو العمد على تدمير مكونات المدينة وتمزيقها التي هي ميزة فريدة لأهالي المدينة حيث هجر وسبى وقتل اعداد كبيرة من أبناء المكون الايزيدي، وهو فعل بنسب متفاوتة مع المكونات الأخرى التي لم تتمكن من الهرب.

وللوقوف على كل المتغيرات التي مرت بها المدينة ونظرة اهاليها لواقعها اليوم يتطلب الوقوف على النقاط الاتية:

ابتداءً كان هناك عدم رضا من الأهالي على الطريقة التي اديرت بها المحافظة بعد التغيير، ومن مجمل الطبقة السياسية الحاكمة، وهو موقف يشبه أبناء المدن الأخرى، وبمن فيهم أبناء الوسط والجنوب والعاصمة بغداد، دخلت المدينة في عهد نوري المالكي كرئيس للحكومة الاتحادية لاسيما في ولايته الثانية بصراع بين الاخويين النجفيين أسامة النجيفي رئيس مجلس النواب الأسبق، واثيل النجيفي محافظ الموصل السابق أدى الى الكثير من المشاكل للمحافظة، وقد يكون هذا احد الأسباب الرئيسة التي أدت الى سيطرة تنظيم داعش على المحافظة إضافة الى أسباب امنية أخرى. الذين تختلف تصوراتهم حول نشأة وأسباب ظهور التنظيم لكنهم يتفقون على إجرامه وانحطاط قيادته واعضاءه.

سيطرة التنظيم الإرهابي خلق عند أهالي المدينة صدمة واليوم أهلها يعيشون مرحلة ما بعد الصدمة، بعد ان عمد التنظيم إضافة الى سبي وقتل وتهجير اهاليها لاسيما من الذين جعلهم التنظيم تحت حكم اراءه الفقهية والأيديولوجية، عمد الى مصادرة حقوق الناس وحرياتهم واضطهادهم تحت عناوين مختلفة، اذ ينقل احد أبناء المدينة ممن تعرض لهم التنظيم بأنه كان ما يسميه بديوان الحسبة وهو احد الأجهزة الرئيسة المرتبطة بالوالي إضافة الى أجهزة أخرى مثل ديوان الامارة والجيش والقضاء وما الى ذلك التي عمد التنظيم الى انشائها ابان سيطرة على المدينة، بأن كل من كان يخالف اراء التنظيم او لا يؤمن به يتعرض لهم التنظيم من الكلام القاسي والجلد، والتعذيب وصولا الى القتل بطرق بشعة، إضافة الى مئات القصص التي تعرض لها الناس خلال فترة سيطرة تنظيم داعش الإرهابي.

وبعد هذه الفترة المظلمة في تاريخ المدينة وأهلها استطاعت ان تتجاوز هذه الفترة ومحنة تنظيم داعش الإرهابي بعد ان سطرت القوات الأمنية المشتركة أروع البطولات ودحر التنظيم من كامل القرى والمناطق في محافظة نينوى التي تعيش اليوم واقع مختلف، فهناك رغبة اجتماعية من قبل أبناء المدينة بتجاوز تلك المرحلة بجميع عذاباتها والعودة بقوة الى فلسفة التعددية والتعايش الأهلي السلمي بين جميع مكونات المدينة، وتعضيد الإدارة المحلية الساعية الى تطوير المدينة والنهوض بواقعهم الخدمي والعمراني بعد الخراب الذي حل بالمدينة نتيجة سيطرة التنظيم والعيش بالبنية التحتية والتراثية والمعالم الحضارية والدينية في المدينة التي عمد التنظيم الى تفجيرها، وهذا شمل المساجد، والمراقد الإسلامية، والمعابد الايزيدية، والكنائس المسيحية.

فهناك واقع مختلف تعيشه اليوم حيث هناك تقدم في إعادة البنية التحتية وتطوير الطرق، والاهتمام بالخدمات، وتطبيق صارم للقانون، والاهم من ذلك كله هو الرغبة المجتمعية بتجاوز صفحة تنظيم داعش، والعودة الى التمسك بالحياة والنهضة والعمران والتعايش السلمي بين الجميع، كونها صفحة بقيت ملازمة لعقود طويلة من تاريخ أبناء المحافظة بجميع تعددياتها الدينية والعرقية.

وهذا ما يجعل بنية المدينة معززة لقيم المواطنة والهوية الوطنية، كما سيجعل واقع المنافسة السياسية محسوم لصالح الإدارة المحلية الحالية التي هي مثلما ينظر لها المواطنون الموصليون هناك على انها كانت جزء من واقع الموصل اثناء عمليات تحرير المدينة إضافة الى جهود القوات المدينة بمختلف تشكيلاتها وجعلها بموقعها الصحيح من العراق والحضارة والمدنية التي عرفت بها المدينة، وأنها أي الإدارة المحلية هناك وضعت واقعا جديدا للموصل الجديدة في مرحلة ما بعد تنظيم داعش الإرهابي.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2023 Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق