عند الحديث عن ثقافة الطفل في العراق، يحضر الإرث الكبير الذي يتميز به العراق عن دول المنطقة بهذا المجال، وهناك أكثر من باب للدخول الى هذا الإرث الذي يتشعب في مفرداته ولكنه يلتقي عند حصيلة واحدة، تتمثل ببناء الطفل وتأهيله ثقافيا ونفسيا لدخول معترك الحياة بعدة كافية...

عند الحديث عن ثقافة الطفل في العراق، يحضر الإرث الكبير الذي يتميز به العراق عن دول المنطقة بهذا المجال، وهناك أكثر من باب للدخول الى هذا الإرث الذي يتشعب في مفرداته ولكنه يلتقي عند حصيلة واحدة، تتمثل ببناء الطفل وتأهيله ثقافيا ونفسيا لدخول معترك الحياة بعدة كافية.

لقد كانت المدرسة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، تتميز بالرصانة المؤسسية، وان لم تكن تغطي مساحة العراق كله، وقتذاك، ما يعني حرمان الملايين من فرصة التعليم، لكن الذين نالهم الحظ ودخلوا المدرسة، وجدوها تنطوي على كل الضروريات التربوية والتعليمية، فبالإضافة الى رصانة التعليم كانت التفاصيل التربوية التي يمارسها التلميذ تشمل الرياضات المختلفة والسفرات والنشاط الثقافي ونشاطات اخرى تنافسية، تحفز التلميذ وتصقل شخصيته قبل ان يصل الى مراحل دراسية متقدمة.

ولعل العراق (الجمهوري) شهد نقلة نوعية في ثقافة الطفل، اضيفت الى كل ما سبقها وكانت هذه المرة من خلال اتساع رقعة التعليم مع احتفاظه برصانته المعهودة وتأسيس (دار ثقافة الأطفال)، هذا الصرح الذي ترك أثرا كبيرا في بناء الطفل العراقي ثقافيا من خلال مجلات الدار واصداراتها المستمرة، والتي كانت في متناول كل الأطفال تقريبا، فأغلب أطفال العراق في مرحلة السبعينيات، تربوا على أهم اصدارين اسبوعيين، هما (مجلتي) و(المزمار) اللتين كانتا تصدران عن الدار، وتخرجان من تحت ايادي مبدعين معروفين في ادب الطفل وفنانين مميزين، تركوا بصمتهم في ذاكرة الأطفال الذين باتوا اليوم رجالا.

وكذلك ذاكرة الثقافة العراقية بشكل عام، لاشك ان ظروف الحرب ومن ثم الحصار تركت ظلالها على أدب الطفل وثقافته، سواء من خلال تعثر الاصدارات المختلفة والمجلتين المذكورتين، او من خلال تعثر البرنامج التثقيفي والتربوي في المدرسة التي رزحت تحت ضغط الظروف تلك .. وقد اعتقد كثيرون إن ظروف ما بعد 2003 أو بعد رفع الحصار ستجعل من الممكن تفعيل الدور الثقافي والتربوي الذي يستهدف الطفل واعادته الى وضعه السابق، لاسيما ان الكوادر موجودة والاستعداد قائم عند جميع المبدعين في هذا المجال، لكن الذي حصل جاء مخالفا للتوقعات.

لقد تم اهمال هذه المؤسسة الكبيرة وتساوق ذلك مع تراجع التعليم بشكل عام، وشبه اختفاء للفعاليات الثقافية والتنافسية بين التلاميذ، يضاف اليها دخول تقنيات النت والموبايل وبرامج التسلية التي تتضمنها هذه الاجهزة وباتت تقريبا في متناول الجميع، واغلبها غير هادف ان لم يكن مدمرا ومخربا لذوق الطفل ومزاجه الغض.

واذا كان هذا تحديا يستدعي وقفة مؤسسية فأننا لم نشهد تصديا مناسبا وفي فضاء حياتي وثقافي لوثته امراض السياسة واسقاطاتها على نفسية الطفل وعبثت بفضائه الثقافي الذي يجب ان يكون ملونا ومليئا بأسباب التفاؤل والتحفيز.

ومن هنا، نجد ان اعادة تفعيل (دار ثقافة الأطفال) بات أمرا ضروريا وملحا وبإضافات جديدة يمكن ان تنهض بها الدار بالتعاون مع وزارة التربية وبدعم حكومي مباشر، يستهدف الغرض الذي ستنهض به الدار من خلال جعل المطبوعات الثقافية والفنية الخاصة بالطفل، والتي يقف عليها مبدعون في ثقافة الاطفال، ضمن مناهج التربية او توزع على التلاميذ بأسعار مناسبة، لاسيما في مراحلها المتقدمة او بعد ان يصبح التلميذ قادرا على القراءة ومستعدا لتقبل الافكار التي تناسب وعيه، وهو ما كانت تعمل عليه الدار من خلال مطبوعاتها لتؤثث عقل الطفل وتجعله متقبلا للأفكار لاحقا.

لقد خضع المزاج الشعبي العراقي بشكل عام، والطفل منه بشكل خاص، بعد 2003 الى ضغط ثقافي واعلامي متعدد الاتجاهات، بقصد خلق حواجز نفسية بين العراقيين تمهيدا لتقسم البلاد، هو الهدف الرئيس للاحتلال الذي جرى في ذلك العام.

وقد تجلت هذه الهجمة من خلال محاولتها تنميط التفكير الجمعي لدى الصغار قبل الكبار، لأنهم الأكثر تقبلا للأفكار بحكم عدم وجود مصدّات ثقافية لديهم تحاكمها، اذ سعت بعض الجهات الى تكريس مقولات ذات أبعاد طائفية أو عرقية، رافقتها ممارسات شعبوية استدرجت الاطفال الى مناطقها وبوسائل مختلفة، وقد حصل هذا بالتزامن مع واقع امني وحياتي مضطرب وموجهات اعلامية مؤثرة، ممثلة بالفضائيات التي تضخ الصور وتنقل الاحداث وتعمل بقوة على تكريس هذا النمط في الاذهان.

وكان هذا يحصل في ظل غياب شبه تام لثقافة وطنية موجهة ترعاها الدولة ومن خلال منابرها الاعلامية، واصداراتها الثقافية المتمثلة بمجلات الاطفال الهادفة، وكذلك البرامج التلفازية التي تشدهم اليها وتضخ من خلال محتواها الثقافي الوطني الذي يقرب اطفال الوطن لبعضهم، ليكون هذا بمواجهة تلك الحملة او التقليل من آثارها، خصوصا وان المناخ العام في البلاد بات اليوم مهيئا لذلك، حيث الاستقرار النسبي والهدوء النفسي الذي تحقق مع الوضع.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق