ركز المنهاج التربوي الإسلامي على الفرد مثلما ركز على المجتمع، في منهاج يوصف بالوسطية والاعتدال وعدم الميل الى طرف على حساب الاخر، لان الهدف الأساس هو تخليص الانسان من الآفات والعيوب التي تعيق تقدمه وتطوير المجتمع. لكي ينهض الافراد وبالتالي تحول المجتمع من الحالة الميتة الى مجتمع حي...

للفرد مكانة مرموقة ومهمة في المجتمع الإسلامي، وهي أهمية تخالف ما يروج له البعض بان الإسلام لا يعترف بالفردية او الحرية الشخصية ويحاول صهرها في بودقة الجماعة او المجتمع ككل، وهذا القول جانب الحقيقة وابتعد عنها، خصوصاً، وان الإسلام كدين سماوي وأسلوب للحياة قد حفظ الحقوق الفردية مثلما حفظ حقوق الجماعة والمجتمع والأمة التي يعبر عنها بالأمة الإسلامية، وخلق بينهما توازناً يكفل الواجبات مثلما يحفظ الحقوق، ولهذا ركز الشارع المقدس على أهمية الفرد ضمن البرنامج التربوي في الإسلام وعده ركيزة أساسية من ركائز التطور والرقي.

على هذا الأساس يمكن قياس المجتمع بقياس الفرد ومستوى نشاطه وصلاحه او فساده وخموله، كما يشير الى ذلك المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي: "إن الفرد هو أول لبنة في المجتمع، فبصلاحه يصلح المجتمع، وبفساده يفسد المجتمع، والامة النشيطة، هي الامة التي نشط أفرادها، وبخلافها الامة الخاملة، فإنها هي الامة التي خمل أفرادها، فنشاط المجتمع يكون بنشاط الأفراد، وخمول الامة هو من خمول أفرادها".

لذلك كان التركيز في صلاح المجتمع وتطويره ينطلق من الافراد، فبهم يمكن خلق مجتمع صالح متطور ونشيط، وعلى هذا الأساس يمكن القول: "إن لأخلاق الفرد المدخلية التامة في صنع أخلاق المجتمع، ولذا فإن كل مصلح يريد إصلاح المجتمع يشرع بصقل نفوس الأفراد، ويبدأ بتهذيب نفوسهم وتشذيبها فردا فردا، وهذا شأن الكون، فبالقطرات تجتمع البحار، وبحبات الرمال تتكون الصحاري، وبأفراد النجوم الزواهر، تتكون السماء الوضاءة، وعلى هذا المبدأ تبتني الأحزاب والعساكر، فإنها فرد، ثم فرد، ثم فرد، حتى يتكون حزب قوي، أو جيش عرمرم".

والبرنامج التربوي الذي يطلقه الإسلام بين افراد المجتمع يعتمد على:

1. العمل على اصلاح وتهذيب النفس وتخليصها من الرذائل والميول والشهوات التي تدفع بالإفراد الى الهلكة او الخمول او الكسل، ومعالجتها بالفضائل والنشاط والعمل.

2. اعتماد الوسطية في عملية الإصلاح، والعمل باليسر وعدم التشدد والقسوة التي توجب النفور في النفوس.

3. التوجه الى المجتمع من خلال الافراد في ممارسة عملية الإصلاح ضمن البرنامج التربوي في الإسلام.

وقد أشار السيد الشيرازي (رحمه الله) الى هذا المعنى بقوله: "وحيث إن للفرد شهوات وميولا، ونزوات ونزعات، فإن صلاحه يتوقف على إصلاحها، ومعالجتها يتم بالسير على الطريقة الوسطى، بلا إفراط ولا تفريط، ولا سرعة ولا بطء، فكل من الكبت المطلق، والحرية المطلقة هو خروج عن الاعتدال، ولذا فإن الإسلام في برنامجه التربوي للمجتمع توجه أولا وبالذات إلى الفرد: فأراه مواضع الزيغ والانحراف، وأرشده إلى العدل والنصفة، ثم دعمهما بترغيب وترهيب، وثواب وعقاب، حفظا له وللمجتمع عن الانهيار والبوار".

ومن أخطر الآفات التي يحاول الإسلام تخليص الافراد من اثارها النفسية (المعنوية) والمادية من خلال البرنامج التربوي يمكن الإشارة الى ثلاث منها على سبيل المثال:

اولاً/ الكسل:

الكسل يؤدي بصاحبه الى الهاوية، فهو يعمل على تآكل الانسان من الداخل حتى يتحول الى مجرد جسد لا حول ولا قوة له، فرد غير منتج او مفكر او معطاء: "من الآفات الخطيرة على الفرد هو الكسل، فهو يهدم الشخصية، ويذوي زهرة العمر النضر، ويؤدي بصاحبه إلى الهلاك المحتوم، والتأخر في ميدان الحياة الفسيح"، وبالتالي يتساوى مع الأموات كما يصفه السيد الشيرازي: "هذا والكسالة حلق سلسلة متصلة ومتعاقبة، يتبع بعضها بعضا، فمن كسل عن شيء لا ينفك حتى يكسل عن آخر، وهكذا دواليك، حتى يلتحق بالأموات وهو يمشي على ظهر الأرض، فيصبح في عدادهم وإن كان جسمه في الأحياء".

في حين يعمل البرنامج التربوي الإسلامي على ابراز الجانب المعاكس للكسل، فالنشاط يقترن بالحياة، مثلما اقترن الكسل بالموت: "فهو حياة وحياة، وعمل وعمل، فالنشيط كالنبت في الأرض الخصبة، فلا يلبث حتى ينمو ويورق، ويزهر ويثمر، فيغدو متعة للعين، ولذة في الروح، وفيض للحياة، ودفء وضياء، وما الآثار التي نراها محيطة بنا، من زرع وعمران، ودور ومدن، ومصانع ومدارس، وآلات وأدوات، إلا آثار النشاط".

ثانياً/ الطمع والحرص:

ان السلبية التي تحيط بالأفراد المصابين بأفة الحرص والطمع تمنعهم عن ممارسة دورهم الطبيعي في المجتمع كأفراد يمكن ان يساهموا في عملية التطور والرقي، لأنهم لا يشعرون بأنهم جزء من مجتمع يحتاجهم بقدر احتياجهم للمجتمع، بل يرفضون التعاون بقدر الاستفادة واشباع رغباتهم الخاصة بغض النظر عن الاخرين او مقدار الضرر الذي قد يسببوه.

فالطمع والحرص تشبه "البضاعة إذا نقصت احتاجت إلى ثقل معها، لتعدل الميزان، أو ترجح البضاعة، وكذا هو الحال بالنسبة للطماع والحريص، إذ أنهما يشعران بهذه الخفة في أنفسهما، فيطلبان ما يقع به التوازن، فالطماع فقير مهما كثر ماله، وكما يقولون: (إن الفقر فقر النفس، لا فقر الجيب واليد)".

ويفقد من تمكنت منه هذه الآفات الايمان والقدرة على التغيير مع مرور الوقت: "وعادة ما يكون صاحب الطمع لا إيمان له! وأي إيمان له وهو يرتكب كل محظور لإشباع نهمة طمعه، إن الإسلام يريد للفرد أن يكون مثالا في الغنى النفسي، قبل الغنى المالي، فلا يطمع حتى يسلك به الطمع مسالك الذلة والمهانة، ويسأل الآخرين"، ليتحول الى آلة للدمار، كونه قد خسر نفسه في معركة الذات التي تحدد مصيره، وهذا ما لا يرتضيه البرنامج التربوي الإسلامي الذي يعمل على خلق افراد صالحين ومتصالحين مع ذواتهم.

ثالثاً/ حب الظهور

يقول السيد محمد الشيرازي: "إن حب الظهور نبت ينمو، غالبا، في النفوس المريضة، كما ينمو الزرع الخبيث في الأراضي العفنة، وكل من أحب الظهور يجره حبه هذا في الأخير إلى المفاسد والرذائل، وكم رأينا اناسا ممن يحبون الظهور يدأبون ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، وبكل وسيلة وضيعة، ومكر وخديعة لنيل كرسي الظهور، أو للإبقاء عليه، ولو أدى ذلك إلى تلف النفوس والأموال، وهتك الحرمات والأعراض".

وهي حقيقة موجودة على ارض الواقع لا يمكن تجاهلها: "أجل إن حب الظهور مفتاح كل الرذائل والمظالم، ولو نظر أحدنا إلى الكثير من القادة ورؤساء الحكومات الظالمة، لرأى أن كل فساد يصدر منهم من: قتل الأبرياء، واعتقال الناس بغير حق، وخيانة بالشعب، وابتزاز الأموال المحرمة وغيرها، هي من آثار حبّ الظهور، واشتهاء كرسي الحكم، وركوب منصب القيادة والإمارة".

وقد اوضح الامام الشيرازي الاستثناء في تصدي الاكفاء امام الفاسدين حتى لا تخلو الساحة منهم، من اجل التصدي وطلب الإصلاح: "ومن المعلوم: إنه ليس معنى ذلك، أن يجتنب الأكفاء مقامهم، ويخلوها للمفسدين، فإن هكذا فهم يعد عند المتشرعة اعوجاجا في فقه الدين، وزيغ عن مقصد الأحاديث، وإنما المراد هو ألا يطلب الرئاسة من ليس لها بأهل، كما هو الحال في الكثرة من القادة والرؤساء، أما أن يطلبها من يريد الإصلاح والإرشاد، دون رياء أو شهوة وسمعة، فإنه طلب حقّ لإقامة الحق".

ان الخلاصة يمكن توضيحها من خلال النقاط التالية:

1. ركز المنهاج التربوي الإسلامي على الفرد مثلما ركز على المجتمع، في منهاج يوصف بالوسطية والاعتدال وعدم الميل الى طرف على حساب الاخر، لان الهدف الأساس هو تخليص الانسان من الآفات والعيوب التي تعيق تقدمه وتطوير المجتمع.

2. شخص البرنامج التربوي مكامن الخلل والزلل لدى الفرد وحدد كيفية التخلص منها والانتقال الى الفضائل والصفات والأخلاق الحميدة لكي ينهض الافراد وبالتالي تحول المجتمع من الحالة الميتة الى مجتمع حي نابض بالعطاء والنشاط.

3. الجانب الأخلاقي (المعنوي) له مكانة مهمة في البرنامج التربوي الإسلامي، لأنه يمد الانسان بالطاقة الإيجابية اللازمة لتجاوز الصفات والامراض النفسية وخلق انسان جديد قادر على العطاء بدلاً من تعاظم المشاكل والعاهات الاجتماعية.

4. في البرنامج التربوي الإسلامي لا يمكن فصل الفرد عن مجتمعه، فهو جزء منه، يتطور بتطوره والعكس صحيح، لذا يعتمد الإسلام على التكامل الذي يخلقه الفرد مع مجتمعه في تكوين صورة مثالية قادرة على تغيير الوضع القائم بالأفضل.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2022
http://shrsc.com

اضف تعليق