جيلنا الحالي يبدو كأنه في عملية نبذ لتلك الحكمة متّبعا وبسعادة غامرة مسارات بالية نحو التدمير، وان كانت مسترشدة بسوفسطائين وديماغوجيين جدد. عبقريتا المادية البحتة جعلتنا أغبياء روحيين واخلاقيين. نحن نستطيع رسم حركات السماء ولكن نفشل في تفسير جمالها كأي شيء أكثر من الوهم. نحن نستطيع فصل الذرة...

لم يكن العظماء الكبار في اليونان القديمة محبوبين في زمانهم. المؤرخ هيرودوتس تعرّض للانتقاد لتضليله الجمهور. رجل الدولة بريكلس كان باستمرار عرضة للشك بطموحاته الاستبدادية. سقراط الأب الروحي للفلسفة الغربية اُعدم بسبب تعاليمه المدمرة. مع ذلك، نحن نتذكر هؤلاء الرجال بسهولة أكبر مما نتذكر منتقديهم. حكمتهم أثبتت استمراريتها وجدواها لكل الأجيال القادمة التي تراها ملائمة ويمكن الاستفادة منها.

ان جيلنا الحالي يبدو كأنه في عملية نبذ لتلك الحكمة متّبعا وبسعادة غامرة مسارات بالية نحو التدمير، وان كانت مسترشدة بسوفسطائين وديماغوجيين جدد. ولكن لايزال هناك اناس يعتقدون ان اليونان القديمة لديها أشياء يمكن ان نتعلّم منها. كلوديا هوير واحدة من اولئك الناس، وكتابها الجديد (الانسانوية الاستراتيجية: دروس حول القيادة من اليونان القديمة)(1)، هو مرشد مختصر "للاستفادة من الادب اليوناني عندما نواجه مشاكل عصرنا الحالي". في الكتاب نجد بعض الأشياء الرائعة وأشياء اخرى محل خلاف.

هوير تدرّس الانسانيات، العلوم، واللغات في برنامج الكتب الكبرى في كلية سانت جونس. هي ايضا تدرّس الاخلاق المهنية في اكاديمية القوة الجوية في الولايات المتحدة. كتابها هو سلسلة من المقالات تلخّص ما تدرّسه للطلاب للاستعداد للخدمة العسكرية. حينما تطبّق الكاتبة الأفكار القديمة على الحرب الحديثة والجيوبوليتك، فهي تصطحب ليس فقط المعاصرين القدماء مثل فيكتور ديفس، غراهام اليسون، دونالد كاجان، وانما ايضا رجال الدولة الأمريكيين والجنرالات – بمن فيهم المؤسسين انفسهم. وكما توضح هوير في مقدمتها، "الشخصيات والسيناريوهات التي توجد في نصوص هوميروس وهيرودوتس و ثيوسيدز وارسطو لاتزال شاخصة اليوم". طبيعة الانسان، كما لاحظها ثوسيديز، لا تتغير.

لكن إحساسنا بأنفسنا ككائنات بشرية يتغير بالفعل، والفرضية الرئيسية للانسانوية الاستراتيجية هي ان ذلك الاحساس قد تغيّر نحو الأسوأ منذ فرنسيس باكون (1561-1626) وديكارت (1596-1650). الفلاسفة الطبيعيين للقرنين 16 و 17 كانوا متفائلين بافراط حول امكانية رسم خط فاصل وواضح بين الذهن والمادة. بعمل كهذا، هم كانوا يأملون تمكين الأول (الذهن) من ممارسة ارادته الكاملة على المادة. لكنهم كما في كثير من الاحيان، حققوا العكس.

باكون كان يأمل إكمال "قوة وسيادة العنصر الانساني ذاته على الكون"، وفي مجال واحد يبدو انه حصل على رغبته: نحن لدينا سيطرة تكنلوجية لا مثيل لها على محيطنا. لكن هذه المعرفة حول المادة جاءت على حساب الحكمة حول كل شيء آخر: عبقريتا المادية البحتة جعلتنا أغبياء روحيين واخلاقيين. نحن نستطيع رسم حركات السماء ولكن نفشل في تفسير جمالها كأي شيء أكثر من الوهم. نحن نستطيع فصل الذرة ولكن لا نفكر وبطريقة مقنعة حول ما اذا كان يتوجب علينا ذلك.

في الفصل الافتتاحي من الكتاب "الانسانوية اليونانية والثورة الديكارتية"، تطرح هوير جدالا مقنعا بان الانسان لايمكن اختزاله الى ماكنة او ميكانيكيين. توقنا غير المكتمل، خبراتنا الذاتية، عواطفنا اللا رشيدة: جميع هذه تبقى خصائص اساسية لإنسانيتنا رغم الجهود العلمية لإخضاعها او استغلالها. اليونانيون يمكن ان يساعدوننا في فهم كل هذا لأن "تجاربهم في الارتباط بالعالم قادتهم لإحساس قوي بمعنى الكائن البشري".

وبكلمة اخرى، مع ان بعض فلاسفة اليونان ورجال الدولة والمؤرخين كانوا مشهورين بالتحليل العقلاني للعالم، هم ايضا لم ينسوا ابدا انهم كانوا في ذلك العالم، وان الحقائق الانسانية مثل الشرف والسعادة لم يكن بالإمكان التخلص منها. هناك البعض من الذين يضعون استثناءات لإفلاطون، يلومونه لأحلامنا الفنتازية في ان الخلق يمكن تنقيته من الضعف الحيواني وتحليله في عبارات عقلانية باردة. اخرون، يعتقدون ان حوارات مثل (الندوة) تبيّن افلاطون ومعلمه سقراط اكثر من مجرد ثنائي. ولكن على الاقل، بعض انصار افلاطون المتحمسين مثل برفراي وافلوطين بالفعل سعوا نحو النقاء الفكري الى اقصى حد. هوير توضح في البداية ان هذا يفسر لماذا لم يظهر افلاطون في كتابها.

الكتاب احتوى على سلسلة من الفصول حول هوميروس (الشرف، العنف الوحشي في الياذة هوميروس)، هيرودوتس (هيرودوتس: اتجاه متعدد الثقافات" و "سلطة اللغة"، ثوسيدادز (من الديمقراطية للاستبداد)، وارسطو ("ارسطو:اخلاقي لزماننا")، كل واحد منها يمكن قراءته والاستفادة منه.

ان ما هو جذّاب خصيصا تحليل الكاتبة للعديد من التصريحات الاسطورية الغامضة في هيرودوتس، والقراءة الخاطئة لها التي اشارت الى فشل الملوك المفرطين في الثقة مثل الملك كرويسوس ليديا. "كرويسوس يتخذ اتجاها خطيا صارما لمشاكل وألغاز الاستراتيجية، وهو يفشل في الاعتراف بان تلك العبارات قد تكون لها معاني غير حرفية". الجنرالات اليونانيون مثل الأثني تيمستوكليس كانوا اكثر رغبة لقراءة ما بين السطور. تيمستوكليس اقنع زملائه المواطنين بان نصيحة الآلهة بالاعتماد على "الجدار الخشبي "تعني التأكيد على ستراتيجية بحرية. هو جسّد أعلى مستوى من التطور، في السياسة اليونانية المتميزة في إعتبار العقول فوق العضلات.

الكاتبة وبنوع من سوء الفهم، تصف هذا التعقيد الأثني كتطابق دقيق مع الفضيلة المبدئية التي سمحت لليونان بالنصر على الفرس. ولكن لاحقا، "رفض السوفسطائيون مثل غورجياس الاخلاق التقليدية مفضلين الاخلاق النسبية"، التي انغمس بها الاثنيون بقوة اثناء حرب البيلويونيس. ومع مساعدة ورعاية بيركلس، حوّل السوفسطائيون الثقافة الفكرية المدنية الى مظهر زائف للسياسة الخالصة للسلطة.

هناك ربما بعض الحقيقة في هذا، في احد أحاديث غورجياس، "الدفاع عن هيلين"، يصف كل البلاغة كزيف وكل الإقناع كنوع من العنف: "اولئك الذين يقنعون.. اي شخص حول اي شيء هم حرفيون في الكذب". في حكاية غورجياس، الفوز بالكلمات مساوي لعقاقير الاغتصاب الحالية: البلاغيون المهرة يمكنهم إجبارنا لعمل اي شيء بصرف النظر عما نريد وعما هو صحيح.

لكن غورجياس لم يخترع التيار الساخر في السياسة الاثنية. انه كان هناك منذ البداية. جاء ثيمستوكلس بستراتيجية ناجحة ضد بلاد فارس، ولكن في عشية المعركة هو ايضا استخدم تكتيك الخداع الذي هو في تضاد مع رموز الشرف القديمة التي انعكست في ابيات هوميروس. هو بالنهاية غادر الى الفرس حالما تآكل نفوذه في اثينا. البراعة ربما تتجاوز حدودها المقبولة ايضا.

تعترف الكاتبة بهذا اثناء الكتاب (اللغة لها سلطة استثنائية في تشكيل التصور)، هي تقول، "السلطة التي يمكن استعمالها للخير او للشر". ولكن بشكل عام هي تبدو مستعدة جدا لربط ابتكارات الفترة الكلاسيكية العالية الى الافتراضات المريحة لليبرالية الحديثة. اتجاهها المتعدد الثقافة لهيرودوتس يتضمن القبول باقتباس ادوارد سيد، الذي انتقد فيه علنا شوفونية الغرب. في (convering Islam، 1981)، عبّر سيد عن أمله باننا سوف نتخلص بالنهاية من جميع الكراهية المتبقية والعمومية القاسية لأوصاف مثل المسلم، الفارسي، الترك، العرب، او الغربي.

من الصحيح جدا ان هيرودوتس كان سخيا نحو الثقافات غير اليونانية، وان منافسه فلوترفس اتّهمه بحب البربرية او حب الغرباء. ولكن لا تبرير في التاريخ للاقتراح، كما فعل ساد، بانه حتى ملاحظة الاختلافات بين الثقافات وتقييم البعض تجاه اخرى ترقى دائما وفي كل مكان الى تحيّز رجعي. تقول الكاتبة، "الخطاب القديم كان كما يقاد اليوم بمجموعة من تفضيلات معادية للوعي وللممارسات المتعددة ثقافيا ". غير ان هذا ليس من هيرودوتس. التاريخ يشهد على القدرة الواضحة لدى أحسن المفكرين الغربيين للإيمان بفكرتين في آن واحد: مختلف الثقافات تسلك بشكل مختلف، ولكن موضوعيا بعض الأشياء افضل من الاخرى.

هيرودوتس يقبل حقيقة التنوع الثقافي. بعض الأشياء عالمية: "الرجال منذ وقت طويل اكتشفوا قوانين نبيلة، منها يجب ان يأخذ المرء تعليمات"، يقول Gyges ملك ليدان في هيرودوتس" الكتاب الاول (التواريخ 1.8.3). تسامح هيرودوتس لا يمتد للعادات البابلية في البغاء في المعابد، والتي يسميها "اكثر الممارسات اشمئزازا". هوير لاتتعامل مع هذا التعليق. ولا هي تعالج حقيقة ان تفضيلها لخطاب مفتوح وتعددية ثقافية هو بذاته تحيز مشروط ثقافيا.

ارسطو ايضا ضغط بإستياء لدعم قيم حديثة مستساغة: "الفكرة الارسطية للازدهار لايمكن اختزالها لتخمين احصائي مرتكز على الوصول الى المصدر الخارجي للنقود". ارسطو يقول تقريبا الضد من هذا في أخلاق نيكوماخوس 1099 a-b:"من المستحيل او على الاقل ليس سهلا ان تعمل اشياء نبيلة بدون إمدادات لازمة لأن العديد من الاشياء النبيلة يجب ان تتم باستعمال وسائل بما فيها الادوات والثروة والسلطة السياسية". هناك طرق مختلفة لصياغة حجة ضد هذا الادّعاء مع الاحتفاظ بالافكار الجوهرية في اخلاق نيكوماخوس. انه لا يثبت استحالة ان يقوم المفسرون المسيحيون بتحديث ارسطو بروح جديدة فيها الثروة والفضيلة غير مترابطان تماما. القرّاء العلمانيون، ايضا، يجدون طرقا لتليين النخبوية الارسطية عبر الجدال بان خير التأملات الفلسفية لا يكلف أي شيء. لكن هوير لا تعرض اي من هذه الحجج – هي فقط تفترض ان ارسطو لا يعني حقا ما قاله حول النقود.

الكاتبة لم توضح ايضا التعليق الملتبس التالي الذي جرى ليبيّن انه من خلال الحرب تعلمت اثينا وامريكا منْ هم. "في الولايات المتحدة، الحرب الثورية شحذت حبنا للحرية وعرّفت سيادتنا المتميزة، بينما الحرب الأهلية اوضحت فقط الى أي مدى سيذهب الناس لحماية ظلم العبودية". ذلك شيء مربك. انت بسهولة تستطيع القول ان الحرب الاهلية تبيّن كم عدد الامريكيين الراغبين بالموت لإلغاء العبودية، من بينهم جنرال روبرت لي. على اية حال من الصعب رؤية كيف ان حرب الفرس او حرب البيلونيسين لهما علاقة بهذه الملاحظة العاصفة.

اخيرا، هوير تبدو غير مطّلعة او غير مهتمة في التحديات الحديثة التي نطبّق عليها الحكمة القديمة. الكاتبة تبدو غير جادة في معالجة المشاكل الواقعية للحاضر. في أحد فصولها حول ثيوسيدايز، هي تذكّرنا بالعديد من المقاطع في الادب اليوناني ( الجمهورية 1.327c و ثيوسيدايز 3.82) اعترفت فيها ان النقاشات المدنية تنهار والعقل لا يعمل عندما لا يستمع طرف واحد او اكثر. لكن هذا وصف دقيق ليقظة الدوغما العنصرية التي أثبتت نفسها انها مقاومة بشراسة لكل محاولات التحديث او النقاش.

كل الطريقة الغربية بعمل الأشياء –بما فيها السياسة الاثنية في النقاش الرقيق والمنطقي– تواجه التهديد بهذه العقيدة الصاعدة الجديدة. فيها تنعكس الرغبة بالسلطة وبصورة اكثر تعصبا مما حلم به السوفسطائيون، كراهية نحو تقاليد وبشكل اكثر شراسة من سخرية ارستيفان، وايمان ضيق الذهن سيرسل سقراط الى موته لو كان حيا اليوم.

* المصدر: Ancient Greece and the Strategic failure of modern Humanism, Law and Liberty, June 14,2021

........................................................................
الهوامش
(1) الانسانوية موقف فلسفي يؤكد على امكانية الانسان ككائن فردي واجتماعي. انها تعتبر الانسان نقطة البدء في التحقيق الاخلاقي والفلسفي، وتؤكد على فكرة الحرية الانسانية والتقدم. الانسانوية عادة ترفض ما فوق الطبيعة وتركز على كرامة الفرد وقيمته وقدرته على الادراك الذاتي من خلال العقل. هذا النظام العقيدي يرى امكانية اشباع حاجات الناس العاطفية والروحية دون الحاجة الى اله او دين.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق