يتطلب قطف ثمار الزيارة وضع حد للانقسام والفوضى والفساد في العراق، فالصورة الإيجابية لقوة العراق الناعمة التي اظهرتها من الممكن ان تنسى ويزول تأثيرها في الاذهان إذا ما استمرت البيانات والتقارير المحلية والدولية في الإشارة الى العراق كدولة فاشلة ورخوة تعاني من الانقسام والصراع والفساد...

في الخامس من شهر آذار-مارس الماضي قام البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، بزيارة رسمية الى العراق استغرقت ثلاثة أيام، وشمل برنامج الزيارة خمس محافظات عراقية هي: بغداد، النجف، ذي قار، الموصل، أربيل، تخللها إقامة أكثر من قداس بابوي كان أبرزها القداس الكبير في محافظة أربيل، عاصمة إقليم كوردستان العراق، فضلا على سلسلة من اللقاءات الرسمية والشعبية، كاللقاء برئيس جمهورية العراق الدكتور برهم صالح، ورئيس وزرائه السيد مصطفى الكاظمي، والمرجع الأعلى للشيعة في محافظة النجف السيد علي السيستاني...

وحملت هذه الزيارة في طياتها الكثير من الدلالات من حيث التوقيت، والرمزية، والبرنامج، فهي الزيارة الأولى التي يقوم بها البابا الى دولة أخرى منذ انتشار وباء كوفيد 19، مما يشير الى أهميتها وأولويتها لدى سيد الفاتيكان، كما تمثل سابقة تاريخية عظيمة، فللمرة الأولى منذ قرون يقوم بابا الكنيسة الكاثوليكية بزيارة الى العراق، سماها رحلة الحج والتوبة، وهذا الامر له أهميته الكبيرة للعراق من جوانب عديدة منها: انه يمهد الأرضية المناسبة لتعزيز علاقاته الدولية مع جيرانه في الشرق الأوسط، وبقية دول العالم.

ويلفت الانتباه العالمي الى عمق العراق الحضاري التاريخي، بصفته مهد الديانات السماوية الرئيسة: اليهودية، والمسيحية، والإسلام، وهو بهذه الصفة يمكنه ان يصبح مرتكزا لالتقاء اتباع هذه الديانات على قاعدة روحية وإنسانية مشتركة تتجاوز خلافاتهم وصراعاتهم التاريخية، وتؤسس لحضارة إنسانية تجمع الجميع على المحبة والسلام والتعايش، ومثل هذا الهدف في حال التأكيد عليه محليا ودوليا يمكنه ان يجعل تحقيق الامن والاستقرار في بلاد الرافدين مصلحة وطنية ودولية لاستعادة السلام في المنطقة والعالم. كذلك جاءت الزيارة بعد عقود من الازمات والحروب التي عاشها العراق على الساحتين الداخلية والخارجية، فترسخت في الاذهان صورة العراق كبلد صراعات وحروب وعنف وفوضى تجعل العيش فيه بالغ القسوة والصعوبة، لذا يمكن لزيارة البابا ان تبعث رسالة جديدة الى العالم مفادها: ان الصفحات القاتمة التي عاشها العراق وشعبه يمكن أن تطوى، لتبدأ صفحات جديدة محورها حماية التنوع الإنساني، واحترام القانون والمؤسسات الدستورية، والمواطنة المتساوية التي تستوعب الجميع.

كما أن برنامج الزيارة الممتد عبر خمس محافظات عراقية مهمة كشف عن حجم التنوع داخل الفضاء الاجتماعي العراقي، مما دل دلالة واضحة على أن قوة العراق الحقيقية في منطقته والعالم انما تنبع من تنوعه، وان المطلوب هو حماية هذا التنوع والمحافظة عليه لا تمزيقه وتدميره، مما يلقي بمسؤولية وطنية وإنسانية كبيرة على عاتق القيادات السياسية والاجتماعية والمؤسسات والافراد في العراق لبذل المزيد من الجهود لإدارة التنوع وتحقيق الاندماج بين السكان.

فضلا على ما تقدم، كشفت الزيارة عن حجم معاناة العراقيين جراء التدخل الخارجي في شؤونهم الداخلية، وجراء انتشار التطرف والإرهاب، واستثمار هذا الامر من قبل الحكومة العراقية بشكل صحيح سوف يساعدها على حث المجتمع الدولي للمشاركة بفاعلية في مداواة جروح العراقيين من خلال تفعيل دور الدول والمنظمات ذات العلاقة لتقديم المزيد من المساعدات للعراق، وتلافي ما تركه التدخل والتطرف والإرهاب من آثار صحية واجتماعية واقتصادية وسياسية في حياة الانسان العراقي.

اما زيارة البابا الى مرجعية النجف ولقاء المرجع السيستاني، فإنها بعثت برسالة قوية اشارت الى محورية النجف كمركز ثقل إسلامي عام، وشيعي بشكل خاص، لا تنافسه أي مرجعية دينية أخرى داخل العراق وخارجه، وهذا الامر ستكون له تداعيات مهمة: دينية وسياسية.

فيما يتعلق بالتداعيات الدينية، فان مرجعية النجف ستكون محط غبطة وحسد غيرها من المرجعيات، الا ان الوضع لن يصل الى مستوى الصدام والنزاع الظاهر، لأن المرجعيات الشيعية تاريخيا أظهرت قدرا كبيرا من المرونة لاحتواء خلافاتها، حفاظا على رمزيتها الروحية لدى اتباعها؛ فهي تدرك ان قوتها تكمن في الحفاظ على هذه الرمزية لا على اضعافها او تهديمها. ولكن هذا لا يمنع من اتساع تأثير مرجعية النجف وكسبها المزيد من الاتباع داخل العراق وخارجه، وقد ينجذب اليها اتباع محسوبين على مرجعيات أخرى، لاسيما مع بروز رمزيتها كمرجعية وسطية معتدلة تحترم الدولة المدنية وتعزز وجودها ودورها، ولا تحاول اضعافها بالهيمنة او الوصاية.

وبالنسبة للتداعيات السياسية ربما يكون الامر مختلفا بعض الشيء؛ لأن المراكز الشيعية السياسية خارج العراق وامتداداتها العراقية، كالجمهورية الإسلامية الإيرانية وغيرها قد لا يروقها انحسار ثقلها محليا ودوليا لمصلحة مرجعية النجف، لاسيما مع بروز احتمال قيام قوى تابعة لها، بشكل او آخر، بالتحول الى مرجعية النجف لاكتساب مشروعيتها الدينية وشرعيتها السياسية. هذا يعني، في حال حصوله، تصاعد التنافس، وربما الصراع الظاهر او الخفي مع مرجعية النجف، ومحاولة وضع العقبات والعراقيل في طريقها، بل والاستعداد لوراثتها او الهيمنة عليها في مرحلة قادمة.

وعليه قد تكون مرجعية النجف على موعد مع جولة قادمة من معركة اثبات الوجود مع مراكز القوى الشيعية ذات البعد السياسي، وهي معركة تحتاج الى الاستعداد لها بشكل مناسب.

من جانب آخر، فان زيارة البابا الى المرجع السيستاني تعزز بشكل كبير الانفتاح الإنساني، فلقاء أكبر مرجعية دينية شيعية مع أكبر مرجعية كاثوليكية وهما مرجعيتان يتبعهما مئات الملايين من البشر، على الرغم من اختلافاتهما العقائدية، وازماتهما التاريخية يبعث رسالة إيجابية لعموم الناس تخبرهم أن مد جسور التعاون والثقة فيما بينهم أمرا ممكنا مهما اشتدت خلافاتهم وتقاطعت رؤاهم ومصالحهم، وان التعاون والثقة أفضل من القطيعة والشك والصراع، بل ان تكاليفهما أقل ضررا وأفضل كثيرا على مستوى النتائج، ولكن ذلك مشروط باحترام الحقوق وعدم التفريط بها.

كل ذلك سيكون مفيدا للغاية في إعطاء قوة دفع جديدة لمشروع حوار الأديان والثقافات، كما سيساعد على قطع الطريق امام محاولات اتخاذ الدين ذريعة للعنف والإرهاب واستباحة حياة واعراض وأموال الناس، وقمع عقولهم والتضييق على تفكيرهم، وهذا ما عبرت عنه النصوص الصادرة عن الزعيمين الدينيين الكبيرين، كقول البابا: "الدين بطبيعته يجب أن يكون في خدمة السلام والاخوة. لا يجوز استخدام اسم الله لتبرير اعمال القتل والتشريد والإرهاب والبطش..."، وما ورد –أيضا-في نص بيان مكتب المرجع السيستاني والذي أشار الى تأكيد المرجع على "الدور الذي ينبغي أن تقوم به الزعامات الدينية والروحية الكبيرة... (للحد من) الظلم والقهر والفقر والاضطهاد الديني والفكري وكبت الحريات الأساسية وغياب العدالة الاجتماعية...". ان مثل هذه النصوص تعد نصوصا تأسيسية ممهدة الى مستوى متقدم من الوعي الثقافي والحضاري، لكن تفعيلها بحاجة الى اعداد برامج عمل تدعمها يتم التخطيط لها بعناية، لتحويلها من خطاب فوقي الى ثقافة عامة يتم العمل بها واقعيا.

هذه الدلالات والاشارات الإيجابية لزيارة البابا الى العراق لا يمكن جني ثمارها ما لم يتم الحرص على استمرار وتعزيز دور مرجعية النجف كمرجعية اعتدال صانعة للسلام في العراق والعالم، سواء في عهد السيد السيستاني ام في العهود اللاحقة. مع الحرص على عدم توقف الأمور عند حدث زيارة البابا، اذ لا بد من إطلاق موجة من الاحداث اللاحقة كرد مرجعية النجف للزيارة من خلال القيام بزيارة مماثلة الى الفاتيكان، والتمهيد لإجراء زيارات متبادلة تقوم بها كبار القيادات الدينية للأديان السماوية في الشرق الأوسط والعالم، يترافق معها وضع برامج تكميلية من المؤتمرات والندوات التي يكون هدفها مراجعة وتصحيح لغة الخطاب الديني ليكون خطابا يصب في مصلحة الحوار والسلام بين البشر، بل ويكون الحوار والسلام هو القاعدة لا الاستثناء في التواصل بين اتباع الديانات.

كما يتطلب قطف ثمار الزيارة وضع حد للانقسام والفوضى والفساد في العراق، فالصورة الإيجابية لقوة العراق الناعمة التي اظهرتها من الممكن ان تنسى ويزول تأثيرها في الاذهان إذا ما استمرت البيانات والتقارير المحلية والدولية في الإشارة الى العراق كدولة فاشلة ورخوة تعاني من الانقسام والصراع والفساد. وهذا المطلب من العسير تحقيقه بدون نجاح مشروع بناء الدولة المدنية الذي يحقق الوحدة والتماسك للمؤسسات الرسمية والنسيج الاجتماعي العراقي؛ فالعالم غير مستعد للتعاطي الإيجابي مع دولة تقود القرار فيها قوى اللا دولة سواء في مجال تقديم الدعم والمساعدات ام في مجال تعزيز الاحلاف والعلاقات.

أيضا، من المهم جدا سعي العراق الى تطوير بنيته التحتية السياحية ثقافيا وعمرانيا؛ لتوسيع قطاعه السياحي الديني فيكون شاملا لكل اتباع الديانا السماوية ولا يقتصر على اتباع دين او مذهب محدد، لا سيما ان واقع هذا القطاع في الوقت الحاضر غير لائق ابدا بعمق العراق الحضاري التاريخي، كما لا يلبي حاجات نهضته الاقتصادية الشاملة.

أخيرا، فان الخلاصة التي يمكن الخروج بها من التطرق الى موضوع زيارة البابا فرنسيس الى العراق هي: ان هذه الزيارة فرصة ثمينة قُدمت للعراق على طبق من ذهب في وقت يحتاجها فيه كثيرا، ولكن عدم استثمارها بالشكل الأمثل يجعلها مجرد فرصة عراقية ضائعة حالها حال غير من الفرص الضائعة.

* الأستاذ الدكتور خالد عليوي العرداوي، مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2021
www.fcdrs.com

اضف تعليق