الاعتقاد أن فض الإشتباك بين الدولة والمجتمع في التجربة العربية والإسلامية المعاصرة، هو من ضرورات التحول الديمقراطي ـ السلمي. وذلك لأن إستمرار المماحكات، وتعاظم عوامل التوتر بين الطرفين، يؤدي فيما يؤدي إليه إلى إشتعال الحروب الداخلية، وإستفحال نزعات العنف والقتل والكراهية والتعصب، وتعاظم خيارات التطرف والإستئصال...

على خلفية المتغيرات العالمية، ومسارات التطور السريع الذي يجري في المعمورة على مختلف الصعد والمستويات. في هذه المرحلة التاريخية المليئة بالتحولات والإستحقاقات التي تختلف أشكالها ومضامينها على مجمل ما واجهته دول العالم العربي والإسلامي خلال المراحل السابقة.

وحتى لا تزداد أزمات الواقع العربي والإسلامي سوءا وإستفحالا، نحن بحاجة إلى جهد متواصل لإستيعاب المتغيرات وإدراك المتطلبات الجديدة. وإن هذا الإستيعاب هو نتيجة إستحقاق وسعي متواصل، وهو ثمرة تحرر وفعل نوعي في مختلف مجالات الحياة. فالإستيعاب العميق لمتطلبات اللحظة التاريخية، هو الخطوة الأولى في مشروع وقف الإنحدار وصناعة المنجز الحضاري.

وإننا نروم من هذه الدراسة، أن يتمكن المسلمون المعاصرون من إقتحام فضاء العمل السياسي المدني والسلمي، والذي يأخذ على عاتقه تعميق متطلبات التحول الديمقراطي في الوطن العربي والإسلامي.

ومن الأهمية في هذا الإطار، الاعتقاد أن فض الإشتباك بين الدولة والمجتمع في التجربة العربية والإسلامية المعاصرة، هو من ضرورات التحول الديمقراطي ـ السلمي. وذلك لأن إستمرار المماحكات، وتعاظم عوامل التوتر بين الطرفين، يؤدي فيما يؤدي إليه إلى إشتعال الحروب الداخلية، وإستفحال نزعات العنف والقتل والكراهية والتعصب، وتعاظم خيارات التطرف والإستئصال. ولا ريب أن هذه المظاهر والصور، كلها مناقضة لمتطلبات التحول الديمقراطي ـ السلمي. وليس من شك أن بقاء الوضع العربي والإسلامي على حاله، يعني فشل المشروع التاريخي للدولة الوطنية الحديثة، وإخفاق لكل النخب السائدة سياسيا وثقافيا وإقتصاديا وإجتماعيا.

فالإخفاق شامل، وأسبابه وموجباته متوفرة في كل الدوائر والمؤسسات والحقول. وأمام هذا الإخفاق، نحن بحاجة إلى عملية إصلاح المجتمعات العربية والإسلامية من الداخل، لأنها المدخل الفعال لتفعيل هذه المجتمعات وإعادة حيويتها وتخليصها من توتراتها الداخلية.

وفي سبيل الوصول إلى مصالحة حقيقية بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي نؤكد على الأمور التالية:

1- ضرورة الحوار بين النخب في العالم العربي والإسلامي، وتوطيد أسباب التواصل الثقافي والسياسي بينها. ولا شك أن تدشين مرحلة الحوار الجاد بين نخب الأمة، سيؤدي إلى إرساء قواعد وتقاليد للتواصل الثقافي والسياسي. ومن الطبيعي أن تكريس خيار التواصل يفضي إلى نضج ثقافـة سياسية وإجتماعية، ذات طابع ديمقراطي وسلمي. وهذا يساهم مساهمة كبيرة في إرسـاء قواعد وثقافة مواتية للمصالحة بين الـدولة والمجتمع.

فحالات التوتر مهما كان شكلها أو عنوانها بين الدولة والمجتمع لا تصنع إستقرارا وأمنا شاملا، وإنما تزيد من فرص الإضطراب والإنفجار السياسي والإجتماعي. لذلك فإن من المهمات الكبرى لكل قوى الأمة، هو إرساء تقاليد الحوار والتواصل الثقافي والسياسي، حتى يتسنى للجميع بلورة أطر وبرامج للخروج من الأزمة المتفاقمة بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي. فالقوة لا تحل الخلافات وإنما تؤكدها وتعمقها. والقهر لا ينهي تباين وجهات النظر وتعدد الأطر المرجعية والفكرية، وإنما يزيد من حراكها وفعاليتها. فينبغي أن نعطي لبعضنا البعض الفرصة للحوار بالوسائل الحضارية والسلمية، حتى تتراكم خبرتنا الإنسانية، وتتكثف في واقعنا حقائق العقل والحضارة. والإعتراف بالآخر وجودا وفكرا ومدرسة، هو بوابة الحوار الجاد بين نخب الأمة.

والحوار والتواصل المطلوب بين نخب الأمة وقواها المتعددة، لا يأخذ شكلا أو صيغة واحدة، وإنما ستتعدد الأشكال والصيغ وذلك بفعل إختلاف الظروف وطبيعة التحديات ومستوى النضج الثقافي والسياسي الذي سيتوفر من جراء عملية التواصل والحوار.

ولا ريب أن هذه العملية بحاجة إلى أطر مؤسسية ثابتة ترعى مثل هذا التوجه وتخطط له، وتوفر أسباب النجاح له. كما تحتاج إلى كل المبادرات الناضجة و المسؤولة والتي تأخذ على عاتقها تعميق حالة التعارف والتنسيق والتعاون بين قوى الأمة ونخبها المتعددة.

وبهذا نطرد من واقعنا الخطاب الآحادي والعقلية الدوغمائية والمنطق الشمولي والمطلق الذي لا يرى إلا ذاته ويلغي ما عداه. ويفتقر هذا المنطق إلى كل دلالات المرونة وإستعدادات الحوار والتساؤل والنقد. فالتواصل الحواري والتعاوني بين نخب الأمة، ينبغي أن يحمل في ثناياه ومضمونه القبول بالتساؤل والإختلاف والنقد.

وذلك لأن التواصل الحواري، لا يستهدف تهديم الآخر وإفشاله، وإنما يستهدف تعرية وإكتشاف كل الثغرات والنواقص التي أدت إلى إخفاق النخب في إنجاز نهضة الأمة وتقدمها. فالحوار من أجل فحص المسيرة ومحاكمتها موضوعيا، لا بعقلية المنتصر والمنهزم وإنما بعقلية مسؤولية الجميع عن الحالة الراهنة، وقدرة الجميع إذا توفرت الإرادة الصادقة والثقافة السليمة لتنظيم الإختلافات لإجتراح فرادتنا ونهجنا في البناء والتقدم.

فالتواصل الحواري ليس وسيلة جديدة لتأبيد القوالب الفكرية والمنهجيات السياسية السائدة، وإنما آلية لمنع إجتراح الأفكار وإعادة إنتاج المنهجيات والعقليات الدوغمائية، وتطمح إلى إنتاج المعرفة الجديدة والمعطيات السياسية المنسجمة وروح العصر وتثري حالات التعدد والتنوع المتوفرة في جسم الأمة.

لهذا كله ينبغي أن تهتم نخب الأمة من مختلف المواقع والساحات، ببلورة المبادرات وصياغة الأطر الكفيلة بتحريك حالة التواصل الحواري بين نخب الأمة ومؤسساتها الأهلية والمدنية، حتى تتضح وتتبلور رؤى الخروج من مآزق الراهن. وذلك لأن " حوار النخب يخفف بدرجة كبيرة من أخطار التعصب والغلواء التي تستوطن نخبة ما في ظرف ما. وغياب الحوار بين النخب هو الذي أفضى إلى سوء الأحوال في البلاد العربية إلى درجة تعلن فيها الأحكام العرفية في بلد، ونظام الطوارئ في آخر، والإقتتال الداخلي في ثالث ناهيك عن غياب المؤسسات التي تكفل حرية المواطن وحياته في كثير من البلاد " (1).

ولاريب أن الفشل في تأسيس واقع حواري بين نخب الأمة، يؤدي إلى إستفحال الأزمات وتفاقم المشكلات وتشتت الجهود، ويضمر أثر هذه النخب في الواقع العام.

2- دائما النمط الإجتماعي المغلق، والذي لا يمد جسور التعارف والإنفتاح مع الآخرين، يتحول إلى نمط إجتماعي يحتوي أو يتضمن الكثير من عوامل الخطر والتقسيم الإجتماعي. لأن هذا النمط المغلق يغذي نفسه بعقلية التميز والعداء والصراع مع الآخرين كمبرر دائم لإستمرار عقلية الكانتونات الإجتماعية.

ونظرة واحدة إلى خريطة الدول العربية الإجتماعية لنرى كيف أن عقلية الكانتون والقطيعة الإجتماعية مع الآخرين هي القاعدة الصلبة التي كرست مفهوم التقسيم والتفتيت الإجتماعي.

لهذا فإن السلم المجتمعي، لا يتحقق على قاعدة هذه العقلية التي تصنف وتفرق ولا تؤسس وتجمع. وإنما السلم المجتمعي يتحقق على قاعدة عقلية نبوية، تجمع ولا تفرق وتبحث عن القواسم المشتركة قبل أن تبحث في نقاط التمايز والإفتراق.

ولنا في تجربة الرسول الأعظم (ص) في بناء المجتمع الإسلامي الأول خير مثال. إذ أن النبي الأكرم (ص) لم يلغ الخصوصيات الإجتماعية كشرط لتحقيق السلم المجتمعي، وإنما حقق السلم المجتمعي على قاعدة إحترام تلك الخصوصيات، ولكنه إحترام لا يدفعها إلى الإنغلاق والدوغما الإجتماعية. وإنما هو إحترام يدفع إلى تأسيس عمليات الحوار الإجتماعي التي هي أحد القواعد الأساسية لتحقيق مفهوم السلم المجتمعي في مجتمع تتعدد فيه العقليات التاريخية والفكرية والسياسية. لأن الجفاء والجهل بالآخرين، هو الذي يؤسس إلى كل عمليات التقسيم الإجتماعي في حدودها الدنيا والقصوى. لأن غياب الحوار الإجتماعي، يعني غياب المصالح المشتركة وعدم تشابك العلاقات والمصالح مع بعضها البعض. وهذا بطبيعة الحال يعجل في عملية الحرب أو التناقضات الإجتماعية.

ومقتضيات الحوار عديدة من أهمها: التعارف وفتح الأجواء الإجتماعية المختلفة، بحيث تنعدم نفسيا وإجتماعيا مسألة الكانتونات والمجتمعات المغلقة. لأنه لا يعقل أن يتم حوار إجتماعي بدون تعارف وأجواء إجتماعية مفتوحة. فشرط الحوار ومقدمته الضرورية التعارف الإجتماعي بكل ما تحمله كلمة التعارف من معنى ومدلولات إجتماعية وثقافية.

والإنفتاح ونبذ الإنطواء على النفس مهما كانت مسوغات هذا الإنطواء التاريخية والإجتماعية. إن الإنسان (الفرد) المنطوي على نفسه لا يمكنه أن ينظم ويوسع علاقاته الإجتماعية. كذلك الإنسان (المجتمع) لا يمكنه أن يوسع من علاقاته، ويعرّف الآخرين بأفكاره ومعتقداته ورموزه التاريخية ومغزاها الثقافي والحضاري وهو منطو على نفسه.

فالإنفتاح وإلغاء الحدود المصطنعة والوهمية في بعض الأحيان، هو الذي يؤسس لمنظور حواري إجتماعي متقدم، يزيد في إثراء الساحة الإجتماعية، ويعمق كل مقولات الوحدة الوطنية في الواقع الخارجي.

وينبغي أن لا نفهم الإنفتاح في هذا العملية الإجتماعية الشاملة بإعتباره مقايضة تاريخية ـ ثقافية لكل الخصائص الذاتية والتاريخية. وإنما هو في حقيقة الأمر دفع وإعادة فهم لتلك الخصوصيات من أجل إيصالها إلى مستوى الحقائق الموضوعية التي يستفيد منها أي إنسان.

ولعل مقتل الكثير من المجتمعات المغلقة يبدأ حينما تصر هذه المجتمعات على إبقاء تلك الخصوصيات ذاتية. بينما المجتمعات الإنسانية المتقدمة هي التي إستخدمت إمكاناتها المختلفة من أجل إعطاء للخصائص الذاتية البعد الموضوعي التي يجعلها قابلة للتطبيق في مجالات إجتماعية أخرى. إن الإنفتاح الذي نقصده ونراه ضرورة للحوار الإجتماعي، هو الذي ينطلق من هذه العقلية التي تدفع بإتجاه أن تعطي لمضامين مفاهيمها الذاتية بعدا موضوعيا ـ جامع. بحيث تغذي هذه المفاهيم العالية مجموع الوحدات الإجتماعية. ووفق هذا المنظور نتمكن من الوصول إلى مفهوم الحوار الإجتماعي الحيوي والهادف إلى تفعيل القواسم المشتركة بين مجموع الوحدات الإجتماعية.

ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا، أن الكثير من الحروب الأهلية التي تجري في العديد من البلدان ترجع بالدرجة الأولى إلى إصرار كل طرف على جعل مفاهيمه الذاتية، هي المفاهيم الحاكمة والسائدة ودون أن يطور في مضمون هذه المفاهيم ويعطيها أبعادا موضوعية.

وهذا الإصرار هو الذي يزاوج بشكل قسري ومتعسف بين المفهوم الذاتي والشخص أو الفئة السياسية أو الإجتماعية التي تحمل لواء ذلك المفهوم الذاتي. وهذا ما يفسر لنا ظاهرة أن الكثير من الأحزاب السياسية في العالم الثالث وبالذات في الدول التي تخوض حوربا أهلية هي غطاء حديث لمضامين إجتماعية تقليدية سواء قبلية أو جهوية أو ما أشبه.

وجماع القول: أن السلم المجتمعي لا يتحقق إلا بحوار إجتماعي مستديم لا يبحث في لاهوتيات كل طرف ومواقفه التاريخية، وإنما يبحث ويؤسس لحياة إجتماعية ووطنية سليمة.

وعلى هدى هذه الحقيقة نقول: أن إستمرار الخطاب الإجتماعي والسياسي في التغذية المعكوسة لتلك التمايزات التاريخية والإجتماعية، يؤدي إلى أن يمارس هذا الخطاب دورا تقسيميا في الوطن والمجتمع. بينما من الضروري أن يتطور هذا الخطاب ويتجه نحو صيانة منظومة قيمية ومفاهيمية جديدة، تحترم التمايزات التاريخية دون الإنغلاق فيها، وتؤسس لواقع إجتماعي جديد يستمد من القيم الإسلامية والإنسانية العليا منهجه وبرامجه المرحلية.

3- إن العالمين العربي والإسلامي أحوج ما يكونان اليوم إلى الإجماع الوطني الجديد، الذي يستوعب جميع القوى والتيارات في أطر منسجمة مع بعضها البعض لمواجهة التحديات والعمل معا من أجل تنفيذ التطلعات الممكنة. ولا شك أن طريق الإجماع الوطني، لا يمر عبر الإستفراد بالحكم والقوة وإستخدام أساليب القهر والإقصاء. إنها تزيد من التشظي، وتساهم في تنمية العصبيات والعقليات الدوغمائية. لذلك نرى أن بوابة الإجماع الوطني المطلوب، وإصطفاف جميع القوى والنخب في إطار مشروع جامع، هو إصلاح الوضع السياسي في المجالين العربي والإسلامي. والإصلاح هنا لا يعني إيجاد بعض الشكليات القانونية والدستورية، أو الإعلان الدائم عن ضرورة الإصلاح والتطوير، وإنما يعني بالدرجة الأولى تغيير وتطوير شروط الممارسة السياسية، وتوسيع دائرة النخبة السياسية، وتأسيس العملية السياسية على قواعد أكثر عدالة وإلتزاما بقيم الأمة وخصوصياتها الحضارية والتاريخية.

ودون ذلك ستزداد حالات الإغتراب عن الدولة في المجالين العربي والإسلامي، وستتآكل الشرعية وستستشري عوامل الإنفجار في المحيط المجتمعي كله.

ومن خلال هذا المنظور، نرى أن الكثير من أشكال الممارسة السياسية في المجالين العربي والإسلامي تحتاج إلى تغيير وتطوير، وذلك لأنها أشكال تعمق من أزمة الواقع وتزيده غشاوة وضبابا وإرتباكا. فالسياسة ليست نضالا ضد الأخلاق والقيم الإنسانية الكبرى، وإنما هي في جوهرها نضال من أجل الحرية والعدالة. لذلك ينبغي أن تكون الممارسات السياسية منسجمة وهذه القيم. فإعادة الإعتبار إلى السياسة، يبدأ من إعتبارها حقلا عاما بإمكان كل مواطن المشاركة فيه بصرف النظر عن منبته المذهبي أو الإجتماعي. وأن المعيار الناظم لهذه المشاركة هو كفاءة الإنسان وقدرته على تقديم برامج وحلول لأزمات الواقع ومشكلاته. وحتى تتوفر الظروف الموضوعية للإنخراط من قبل جميع قوى الأمة في حقل السياسة، بحاجة إلى التأكيد على أن هذا الحقل من الحقول المدنية الهامة، التي يتم فيها التعاون والإختلاف والتنافس والصراع بأدوات مدنية وديمقراطية. ويتم الإبتعاد كليا عن كل أشكال عسكرة السياسة وعنف القول وعنف الفعل.

فعن طريق فتح المجال لكل القوى للمساهمة في حقل السياسة ضمن الضوابط الدستورية، ومدنية هذا الحقل، وديمقراطية أساليب العمل المتبعة فيه وإلتزامها التام بالقوانين المشروعة. عن طريق هذه العناصر يتم إعادة الإعتبار إلى السياسة، ودورها في إنهاض الأمة وبلورة مقاصدها العليا.

فبوابة خلق الإجماع الوطني الجديد هو تجديد الحياة السياسية، وتوسيع مستوى المشاركة فيها، وتنظيم قواعد التنافس والصراع فيها أيضا.

فالمطلوب أحداث تحولات نوعية على مستوى التصورات التي نحملها عن السياسة وطبيعة عملها وآليات فعلها، بحيث تكون التصورات الجديدة متناغمة والإطار الحضاري لمجتمعاتنا. وإننا بحاجة أن نبحث في مفهوم السياسة، ونعيد تأسيسه على قاعدة حضارية، نتجاوز من خلالها كل الرواسب السيئة لمفهوم السياسة المتداول اليوم في الساحة الدولية. لهذا فإننا بحاجة إلى مؤسسات وأطر للتنشئة والتنمية السياسية، حتى يتحول هذا الحقل إلى حقل فعال ومنتج في سبيل البناء الحضاري. وأي ممارسة تعسفية لإقصاء السياسة من المجتمع فإنها تؤدي في المحصلة الأخيرة إلى ضعف مؤسسة الدولة ومؤسسات المجتمع، وذلك لأنها أقصت من مسيرتها رافدا أساسيا من روافد التطور والتقدم. لهذا نجد أن الأنظمة التي تقصي السياسة من مجتمعها وتحارب بمختلف الوسائل نمو الأطر السياسية المؤسسية، تتراجع قيم الحرية في واقعها، وتتضائل إمكانية التضامن، وتتراجع القيم الضابطة للعمل العام، ويصاب العقد الوطني والإجتماعي بالخلل والإنفراط.

"ويفترض هذا المنظور أن سبب فساد السياسة العربية لا يكمن في طبيعة السياسة القائمة كأهداف وأساليب وغايات ووسائل عمل، وإنما في تقصير بنية الدولة عن تلبية هذه الأهداف، أي في الطابع غير الفعال وغير المتسق للدولة من حيث هي آلة تنفيذية. ومن هنا، فإن إصلاح السياسة يقتضي، بالدرجة الأولى إصلاح مفهوم الدولة، أي تحديد النموذج الصالح منها. ويلتقي هذا التفكير مع التفكير الكلاسيكي في مفهوم المؤسسة وخصوصيتها وما يرتبط بها من تقنين وتجريد وتعميم، بالمقارنة مع فكر السلطة الشخصية والزبونية والخاصة أو الإقطاعية التي كانت تميز، حسب إعتقاد محللي المجتمعات الإسلامية الكلاسيكيين، الدولة التقليدية السلطانية " (2).

وهكذا يصبح صوغ مفهوم جديد للسياسة، هو أحد الشروط الأساسية لعملية الإصلاح في الواقعين العربي والإسلامي، وذلك لأن التنشئة السياسية السليمة وسيلة أساسية من وسائل توسيع قدرة المجتمعات العربية والإسلامية على تدعيم خيارات العقل والحرية في الممارسة السياسية سواء في مؤسسة الدولة أو مؤسسات المجتمع السياسي.

ولعلنا لا نعدو الصواب حين القول: إن أحد الأسباب الرئيسة لإستشراء الفساد (بالمعنى العام) في الواقع السياسي العربي والإسلامي، هو إنفصال مؤسسة الدولة عن المجتمع، وضعف تحرر المجتمع من هيمنة الدولة وغطرستها. لهذا فإن كل خطوة في طريق إنجاز الإنسجام الواعي بين الدولة والمجتمع تعد خطوة في طريق إصلاح السياسة في المجالين العربي والإسلامي. كما أن كل جهد يبذل لتحرر المجتمع من ضغوطات الدولة الإستبدادية يعد جهدا أساسيا في بناء السياسة على أسس مجتمعية جديدة. فالسياسة كسلطة ينبغي أن تكون موضوعية وعقلانية وبعيدة عن كل رواسب الإنحطاط في الواقعين العربي والإسلامي. وبوابة إنجاز ذلك هو المزيد من الجهد والكسب والعمل لإنجاز مصالحة تاريخية بين الدولة والمجتمع والكفاح الدائم من أجل إنعتاق المجتمع من هيمنة الدولة الإستبدادية عن طريق بناء مؤسساته وتعظيم نقاط قوته وتسيير شؤونه بإرادته وإمكاناته. فتحرر المجتمع من الهيمنة الشمولية للدولة الإستبدادية هو شرط بناء مجتمع أهلي ـ مدني قادر على إجتراح تجربته وبناء نموذجه. وبالتالي فإن "إدراك سبب إخفاق السياسة وفسادها، ومن ورائها تفاقم قيم القهر والعنف، وإنسداد آفاق التحول والتقدم السياسي، في تجاه بناء الفرد كمواطن من جهة وبناء الجماعة كأمة متضامنة ومتحدة وموحدة من جهة ثانية، يستدعي، إذن، دراسة التجربة التاريخية التي حكمت تجديد نموذج السياسة ومفهومها وشرطت عملية تكوين الدولة العربية في العصر الحديث، من حيث هي تجسيد لقيم وغايات إجتماعية وأخلاقية، ومن حيث هي وكالة تنفيذية تقوم بترجمة هذه القيم والغايات في الواقع العملي وتضمن نجاعتها.

ويفترض هذا المنهج، إذن إبراز دور العوامل المختلفة، التراثية والمعاصرة، الثقافية والمادية، المحلية والعالمية التي أدى تفاعلها إلى توليد الظاهرة الجديدة بدل التركيز على أحد هذه العوامل من أجل محو العوامل الأخرى أو التقليل من أهميتها. والمقصود أن الأمر المهم في فهم الظاهرة ليس العوامل الثابتة نفسها، المادية أو المعنوية، الذاتية أو الموضوعية، بل العلاقات التي تنشأ بين هذه العوامل، والقوانين التي تحكم تبدل هذه العلاقات. ولا يمكن لفهم نظرية الدولة وحدها ولا للكشف عن أثر الذات وحده أيضا، إصلاح نظرتنا للدولة وبناء الدولة. إن جوهر الإصلاح كامن في مراجعة تجربتنا السياسية التي إرتبطت ببناء الدولة الحديثة والكشف عن مثالبها ونقائصها " (3).

فالمصالحة الحقيقية بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي، متوقفة إلى حد كبير علـى ضرورة جعل حقل السياسة بكل مستوياته وأشكاله مفتوح على جميع الطاقات والتعبيرات. فلا إقصاء لأحد من ممارسة هذا الحق في هذا الحقل، ولا تهميش لأي طرف وطني. ففي الحقل السياسي تتنافس التعبيرات والبرامج، ويبقى الخيار الأخير بيد الأمة والشعب. فهو الذي يقرر البرامج السياسية، وهو الذي ينتخب الرجال لتأدية الوظائف وتنفيذ البرامج. فلا مصالحة بدون حياة سياسية جادة، ولا حياة سياسية جادة بدون ديمقراطية تسمح للجميع من ممارسة دوره في البناء والتنمية. وهذا المطلب بحاجة إلى تظافر الجهود والقوى والفعاليات من أجل صوغ إجماع وطني جديد، وعلى أسس قانونية وديمقراطية، ترعى جميع الخصوصيات، وتلحظ طبيعة التحديات واللحظة التاريخية التي نعيشها.

وإن المصالحة بين الدولة والمجتمع ليس مقولة نظرية فحسب، بل هي حركة سياسية فاعلة تتجه صوب القواسم المشتركة لتفعيلها، ونحو السلبيات لتحديدها وبيان سبيل إنهائها، وعملية ثقافية ـ إجتماعية تأسس لعقد سياسي جديد يربط قوى المجتمع مع مؤسسة الدولة.

وآليات وأسـاليب إحـداث المصالحة والتوازن والتكامل بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني ـ الأهلي متعددة ومتنوعة ومفتوحة على كل المبادرات والفعاليات الإنسانية. وحجر الزاوية في هذه المسألة هو وعي الإنسان الذي يتجه دوما نحو بناء قوته وفق أسس سليمة. وهو وعي يقبل بعمق بالآخر ويؤسس بنضج وحكمة لحالة حوارية مستديمة أفقها مفتوح على الإنسان ومستقبله بصرف النظر عن منبته الأيدلوجي أو عرقه أو إنتماءه السياسي.

4- إن ردم الفجوة القائمة بين النخب السياسية السائدة في المجالين العربي والإسلامي وعموم الشعوب العربية والإسلامية، بحاجة إلى توفر الإرادة السياسية الصادقة التي تأخذ على عاتقها ردم الفجوة وإنهاء الهوة المتوفرة في المحيطين العربي والإسلامي.

وردم الفجوة ليس خطابا بلاغيا يتفوه به الزعيم، أو منشورا يوزعه الحزب السياسي، وإنما هو ممارسة سياسية مستديمة، تستهدف إزالة أسباب هذه الفجوة، وتوفر الظروف والعوامل الذاتية والموضوعية لردم هذه الفجوة عبر عمل سياسي نوعي يشترك في إنجازه نظام الحكم وقوى المجتمع السياسية والثقافية والإجتماعية والإقتصادية.

وفي تقديرنا أن معيار توفر الإرادة السياسية الصادقة لعملية التحول تتجسد في إطلاق مشروع التعددية السياسية والسماح بإنشاء الأحزاب والجماعات السياسية حتى يتشكل الجسر السياسي الضروري لعملية التحول المطلوب.

وينبغي أن ندرك أن النظم السياسية المستبدة هي معرضة على الدوام لفقدان شرعيتها وإضمحلال قاعدتها الإجتماعية وإسترخاء مشروعها الوطني.

فالتعددية السياسية الحقيقية هي البوابة الحقيقية لعودة الشرعية وفعاليتها، وهي معيار توفر الإرادة السياسية المتجهة نحو التغيير والتطوير، كما أنها هي التي تعمق من مشروع المصالحة بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي.

فالتعددية السياسيـة الحقيقية، بمثابة مفتاح لدخول العصر وإنجاز مقولة التحول الديمقراطي ـ السلمي في الفضائين العربي والإسلامي.

والحقيقة التي ينبغي أن لا تخفى على أحد هي: أن دولة ونظاما سياسيا لا يقر بالتعددية، سيؤدي عدم إقراره عاجلا أو آجلا إلى بروز الخصوصيات الضيقة، ونضوج أسباب التوتر والتعصب وموجباتهما، وسيدخل الجميع في نفق النـزاعات الهامشية والعصبوية المقيتة.

فالدولة التي تستبعد تشكيلات مجتمعها السياسية والثقافية، وتفرض عليه نمطا واحدا في حياته السياسية والثقافية، فإنها في حقيقة الأمر تغرس عوامل الحروب الإجتماعية بأشكالها المختلفة. وذلك لأن حقائق السياسة والمجتمع، لا يمكن نكرانها بالقوة وإستخدام أشكال القسر والإرهاب، لأن هذه الطريقة تزيد من ترسيخ هذه الحقائق.

فالطريقة الحضارية للتعامل مع حقائق السياسة والمجتمع هو التكّيف معها وسن القوانين المؤاتية للإستفادة من هذه الحقائق في بناء الوطن وتطوير المجتمع. فإطلاق مشروع التعددية السياسية في المجالين العربي والإسلامي، هو الكفيل بتوظيف حقائق السياسة في مشروع البناء والتنمية.

ولا بد أن ندرك أن هيمنة مقولات سياسية واحدة، لا ينهي مشكلات الواقع ولا يؤدي إلى الإستقرار المطلوب، وإنما يؤدي إلى ظهور مقولات وأيدلوجيات متطرفة وعنيفة. وهذا بطبيعة الحال يزيد من أوار المشكلات ويدمر كل أشكال الإستقرار.

فالتطابق القسري لا يؤدي إلى الوحدة، وثقافته لا تصنع إستقرارا وأمنا. فالوحدة لا تتأتى إلا بإحترام التنوعات والتعدديات التقليدية والحديثة. وطريق الإستقرار والأمن هو مشاركة الجميع في البناء والتنمية. والتعددية السياسية لا تستبدل بغيرها، لأنها ضرورة من ضرورات النهوض وتتكامل مع غيرها من قيم التقدم والتنمية والعمران. فالنهضة الإقتصادية ليست بديلا عن التعددية السياسية، كما أن الحرية الثقافية ليست بديلا عن الخصوصية الحضارية. فإن هذه القيم الكبرى تتكامل مع بعضها، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نمارس عملية المقايضة بين هذه القيم لأنها كلها ضرورات في البناء الحضاري، ولا يمكن لمجتمع أو أمة تنشد التقدم أن تتخلى عن بعض هذه القيم. ولا بد أن ندرك بعمق أن عملية المقايضة تشكل وفق كل المقاييس خسارة فادحة لكل هذه القيم وتجسيداتها المجتمعية، وذلك لأن لا فعالية لتعددية سياسية بدون نهضة إقتصادية ولا حرية سياسية بدون نظام إجتماعي ـ إقتصادي عادل وبعيد عن كل أشكال اللامساواة.

فهذه القيم تشكل في مجموعها منظومة متكاملة، لا يمكن لأي قيمة أن تؤدي دورها ووظيفتها الكاملة إلا في ظل مساندة من القيم والمبادئ الأخرى.

فالحرية لا تتجسد بشكل سليم في الواقع الخارجي إلا بقيمة العدالة في ميادين الحياة المختلفة، ولا عدالة مستديمة بدون مساواة وتكافؤ للفرص. فالتضحية بإحدى هذه القيم تحت أي مبرر، هو إنحراف عن الطريق السوي للبناء والعمران الحضاري. فحجر الأساس في فعالية هذه القيم أن تكون متكاملة مع بعضها، بحيث أن كل قيمة تسند الأخرى. ومن خلال فعالية هذه القيم بمجموعها تنجز عملية التقدم الإنساني. والجدير بالذكر في هذا الإطار، أن تكامل هذه القيم لا يأتي دفعة واحدة وإنما بالتدريج. لذلك ينبغي أن نتشبث بكل الأسباب والعوامل المفضية إلى هذه القيم لتكريسها في واقعنا المجتمعي، وإنضاج تأثيرها في مسيرتنا الإجتماعية. لذلك فإننا مع كل خطوة تقرّبنا وتمكننا من هذه القيم. وهذا التأييد للخطوات المرحلية ليس من أجل الإنحباس فيها أو الإكتفاء بها، وإنما من أجل الإنطلاق من خلالها إلى توسيع دائرة هذه القيم في الواقع المجتمعي.

فإستبداد الدولة وقمعيتها، يؤدي إلى إنقطاع قوى المجتمع عنها وعدم تفاعلها مع خياراتها ومشروعاتها. وهذا بطبيعة الحال يزيد من حالات الإنكفاء ويفاقم مستوى الإنعزال بين الطرفين. وهذه الحالة بكل مستوياتها لا تخدم الأمة، ولا تؤسس لعملية وثوب حضاري، ولا تحول دون بروز عـوامل التوتر والنـزاعات، وإنما تغذيها وتمدها بأمصال التفجير وأسباب الإستدامة.

وخلاصة الأمر: إننا نرى أن هذه العناصر الأربعة، توفر مشهدا تتكامل فيه علاقة وأنشطة الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي، وتزول إلى حد بعيد كل أسباب وموجبات التوتر والنـزاع المفتوح بين الطرفين. وأن هذه العناصر بمثابة البوصلة الضرورية لمصالحة الدولة والمجتمع والخروج من تداعيات التوتر الشاملة.

................................................
(1) د. عبدالله إبراهيم، الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة ـ تداخل الأنساق والمفاهيم ورهانات العولمة، ص 222، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت 1999م.
(2) مجلة العلوم الإجتماعية، المجلد 26- العدد 2 صيف 1998م، ص 135، تصدر عن مجلس النشر العلمي ـ جامعة الكويت.
(3) المصدر السابق، ص 138.

اضف تعليق