تضاعفت دافعية تلك الاحتجاجات بدخول الجماعات المتشددة التي تؤمن بالعنف السياسي على خط الحركة، وبدأت تشاغب وترفض أي مسارات للحوار والتفاهم والإنتظام، وانعكس ذلك على مشاهد فوضى وحرق وتكسير وتحطيم في قلب العاصمة باريس، مما يدلل على احتمالات خروج عن السيطرة على هذه الاحتجاجات وإبتعادها...

شهدت فرنسا موجة احتجاجات منذ ثلاثة أسابيع ما تعرف بحركة السترات الصفراء، بدأت تلك الاحتجاجات من اعتراضات على قرار الحكومة الفرنسية، برفع أسعار المحروقات كإجراء لحماية البيئة، ودعم الضرائب، إلى حركة منظمة تضمنت إضافة إلى المطالب الاقتصادية مطالب اجتماعية وسياسية، وبدأت تأخذ منحى راديكالي بإطار سياسي وصل إلى مستوى مطالبات بإستقالة الرئيس ماكرون وحل مجلس الشيوخ.

كما تضاعفت دافعية تلك الاحتجاجات بدخول الجماعات المتشددة التي تؤمن بالعنف السياسي على خط الحركة، وبدأت تشاغب وترفض أي مسارات للحوار والتفاهم والإنتظام، وانعكس ذلك على مشاهد فوضى وحرق وتكسير وتحطيم في قلب العاصمة باريس، مما يدلل على احتمالات خروج عن السيطرة على هذه الاحتجاجات وإبتعادها عن أهدافها الرئيسة.

والذي فاقم حجم هذه الاحتجاجات وضاعف الاصطفاف الشعبي معها هو تراجع الوضع الاقتصادي للمواطن الفرنسي من الطبقات الفقيرة والمتوسطة وضعف قدرته الشرائية؛ مما سبب حالة غضب عام واحتجاج على تدهور أوضاعهم.

ما يؤشر على هذه الاحتجاجات هو بروز سيناريو العنف والاصطدام بين حركة السترات الصفراء وبين قوى الأمن، مواجهات امتدت لتصل إلى شارع الشانزليزيه مقرا لها مما أعطى إنطباعا أن الوضع الأمني قد يشهد خروقات خطيرة تؤثر على صورة فرنسا في الخارج وعلى شعبية ماكرون ومصداقيته في الداخل. بالمقابل واجه رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون ورئيس الحكومة إدوار فيليب في البداية مطالب تلك الحركة بمواقف صلبة رافضة لأي تراجع عن القرارات الضريبية ورفع سعر المحروقات التي فرضت على المواطن الفرنسي تحت مبررات حماية البيئة وتمويل مشاريع لهذا الغرض.

وفي ظل مشهد تصلب مواقف الطرفين الحكومة والسترات الصفراء وابتعادهما عن التنازل للآخر وعدم وجود مؤشرات تلوح في الأفق للتفاوض، رغم حصول لقاء بين رئيس الحكومة ووفد عن السترات الصفراء، إلا أن الحكومة أصرت على الإبقاء على سياستها الضريبية والسترات الصفراء تطالب بإجراءات لتحسين قدراتها الشرائية وإلغاء سياسات رفع الضرائب وأسعار الوقود، مما يرجح أن خيار صراع الإرادات هو الذي يميز المشهد السياسي الفرنسي.

وفي الجانب الآخر، هنالك طرف ثالث استغل الأوضاع، وهو الأحزاب والتيارات المعارضة لماكرون إذ نزلت إلى الشارع وساندت حركة السترات الصفراء. ومن هذه الأحزاب زعيمة الحزب اليمني المتطرف مارين لوبين إذ عبرت عن دعمها لمطالب هذه الحركة، كذلك حزب فرنسا الأبية جان لوك ملونشون اليساري المتطرف قال إنه سيشارك شخصيا في هذه الاحتجاجات. أما اليمين التقليدي بزعامة لوران فوكيي فيحاول بشعبوية أن يركب موجة الغضب التي عبرت عنها هذه الحركة.

هذه الشعبوية السياسية المستغلة لمطالبات حركة السترات الصفراء قد تفرز تداعيات سلبية في وسائل تعامل الحكومة معها، وتتصلب أكثر رغم أن أعضاء هذه الحركة يرفضون تسييس حركتهم ومطالبهم وركوب موجتها، ويعدون هذا الإستغلال بمثابة تأجيج للشارع لا لغرض تحقيق المطالب إنما لتصفية الحسابات وإضعاف الرئيس ماكرون وتفجير للمشهد الفرنسي المعقد ودفعه لإتباع مقاربة أمنية شديدة التعامل مع الحركة مما يصعب المعالجات وإيجاد الحلول.

ومن المهم أن تفرز تلك الحركة مواقفها عن إستغلال الأحزاب والتيارات وعزلها لها لأنها أدركت أن نوايا البعض تتمثل بتحطيم صورة الدولة وهيبتها وتحاول البحث عن ربيع فرنسي لمكاسب سياسية محاولة التصدير بأن ما يحصل هو ثورة جياع وإعادة انتاج مشهد جديد ومشابه لثورة 1968، لكن مع ذلك لا يمكن أن ينكر الشارع الفرنسي أنه أمام أزمة حقيقية مستفحلة ومأزق يترسخ بين الحكومة والحركة التي ضمت مواقف مؤيدة وقد تزداد شرارتها وعنفوانها. ويصبح من الصعب المراهنة على تراجع أو يأس لأعضاء السترات الصفراء وعدم تراجعهم، بل ستحتفظ على مطالبها وتزداد شعبيتها على الرغم من مشاهد العنف التي لطختها في باريس.

ومن هنا، على ماكرون والحكومة أن يتعاملوا بحكمة وبعد نظر في إجتراح حلول هادئة بعيدة عن الحلول الأمنية؛ لأنها غير كافية، وتولد ردة فعل قوية لا يمكن من خلالها احتواء الأوضاع عبر البطش وتفريق المحتجين أو عبر خطوات قانونية مثل إعلان حالة الطوارئ، وعلى ماكرون والحكومة تجريب الأجوبة السياسية وفتح قنوات الحوار والتواصل والتفاهم؛ لأن تصلب المواقف ووجود أوضاع تسمح بتصاعد التوتر ومع اهتمام العالم والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت أكبر حزب معارض في التاريخ من حيث التداول والضغط وإبراز العيوب والإنتقادات وضخ المعلومات والشائعات، فإن فرنسا ستكون بخطر.

ولأن حركة السترات الصفراء ليست حركة سهلة أو عادية فهي منظمة وفيها بعد وعمق فكري ولها هيكليتها وهي نتاج العولمة والثورة التكنولوجية والرقمية، وأيضا نتيجة الفراغ والملل والتراجع في المجال النقابي والسياسي، لذا لا بد من إطلاق آليات حوار وتواصل وتنازل من الحكومة وطرح مبادرات ومقاربات واقعية لمنع استغلال الشعبويين والمتطرفين للمطالب وإحداث الفوضى وجر فرنسا لمشاكل في غنى عنها خاصة مع قربها بعد أشهر من استحقاق انتخابي في البرلمان الأوروبي في مايس آيار المقبل.

حل مشكلة حركة السترات الصفراء وكيفية التعامل مع المطالب يمثل أصعب اختبار واجه شعبية ومكانة ومستقبل الرئيس ماكرون وحزبه (الجمهورية إلى الأمام)، خاصة في ظل مشاكل أحاطت به بعد حادثة رئيس حرسه في الإليزية، وفي ظل أوضاع تعتقد أن أيمانويل ماكرون لديه نزعة في تركيز السلطات في قصر الإليزية تتعارض مع المعايير الديمقراطية في فرنسا، رغم أن ما حصل هو تنازل الحكومة للسترات الصفراء ووضعت تعليقا مؤقتا لقرارتها، إذ أعلن رئيس الحكومة ادوارد فيليب "لا ضرائب تستحق أن تعرض وحدة الأمة للخطر"، وقرر تعليق الزيادات على أسعار الغاز والكهرباء ثلاثة أشهر، وإجراءات تشديد المراقبة التقنية للسيارات الأكثر تلويثا، ستعلق ستة أشهر.

لكن مع ذلك، يتضح أن أهم مدخل للخروج من هذه الأزمة لا يرتبط فقط بالإستجابة للمطالب وإلغاء سياسات رفع الضرائب وأسعار المحروقات وسياسات حماية البيئة، إنما تتم عبر تغيير ماكرون من أسلوبه في الحكم والإدارة.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2018Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق