(مع الأسف نرى بعض الدول تسعى بجد لصنع مختلف أنواع السلاح وشراء الطائرات والدبابات والغواصات والصواريخ وما أشبه، وهي في نفس الوقت لا تمتلك القوة الإعلامية والقوة الدبلوماسية الكافية، ولا تتصف بالحكمة والحنكة السياسية، فإن شراءها للأسلحة وسعيها لصنعها يعجل في القضاء عليها. الامام السيد محمد الشيرازي/فقه السلم والسلام)

 

لعل اكبر الامثلة التي ترد الى الاذهان من القرن المنصرم عن علاقة التوسع في الانفاق العسكري على حساب التنمية، انهيار دولة كبرى كانت اشبه بالإمبراطورية في حجمها وقوتها وهو الاتحاد السوفياتي السابق، حيث أدى انخراط هذه الدولة في سباق تسلح مكلف جدا استنزف كل قدراتها ومواردها الاقتصادية والمادية والبشرية مما أدى إلى تفككها بهذه السرعة الفائقة جدا وسقوطها المريع كبناء كارتوني هش.

ومثل اخر من العراق، حيث قادت سياسات النظام السابق بإنفاقه على التسلح وعسكرة المجتمع الى اخطاء كارثية وخطايا لازال العراقيون حتى اليوم يدفعون اثمانها، وسيواصلون ذلك حتى اجيال قادمة اخرى.

في تسعينيات القرن الماضي، شهد العالم طفرة اقتصادية كبيرة كانت ثمرة مباشرة لانتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، إذ إن جزءا أساسيا من الأموال التي كانت تنفق على سباق التسلح أخذت تتوجه حينذاك نحو مشاريع البنى التحتية الاجتماعية منها والمادية ، غير أن تلك الحقبة الذهبية لم تدم طويلا ، فنهاية الحرب الباردة لم تجلب السلام النهائي للعالم ، وسرعان ما احتدمت التناقضات بين الدول ، وانتشرت النزاعات وتفاقمت الصراعات ووقعت الحروب ، وتسابقت وتسارعت عجلة سباق التسلح ، سواء كانت بين الدول الكبرى ، أم بين دول نامية وفقيرة ذات دخول منخفضة ومتوسطة، حيث كانت في آسيا وإفريقيا بالدرجة الأولى.

فحسب معطيات معهد ((ستوكهولم)) لأبحاث السلام الدولي ، فقد شهدت الفترة من عام ((1989)) وحتى عام ((2006)) ارتفاعا كبيرا جدا وغير مسبوق له في النفقات العسكرية على جميع مستوى العالم، وكان السباق الأكبر للولايات المتحدة الأمريكية بالطبع ، والتي شكل الإنفاق العسكري فيها قرابة نصف مجموع الإنفاق العسكري على مستوى العالم ككل، وقدر ذلك الإنفاق العسكري بنحو ((1464)) مليار دولار في سنة ((2008)) وحدها ، وقد شكل كل ذلك قرابة ((2.4%)) من إجمالي الناتج المحلي العالمي ، أو ((217)) دولارا لكل فرد .

ولا تقتصر معدلات الارتفاع الكبيرة هذه في الإنفاق العسكري على البلدان الكبيرة والمتقدمة فقط، بل إن بلدانا كثيرة نامية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية تنفق أيضا قسما كبيرا من ثرواتها الوطنية على اقتناء هذه الأسلحة، وذلك بدواعي حماية الأمن الوطني لها ومواجهة التهديدات الخارجية الفعلية والمفترضة عليها، وبسبب النزاعات الداخلية والإقليمية وغيرها، وتشير الوقائع والمعطيات المتوافرة إلى إن هذه البلدان أهدرت خلال العقود الأخيرة موارد ضخمة جدا على التسلح ، حيث كان من الممكن أن توجهها لمواجهة التخلف والفقر، وأيضا لتحقيق التنمية المستدامة لشعوبها.

ثمة علاقة عكسية الآن بين وتائر ارتفاع الإنفاق العسكري والتنمية الاقتصادية ، حيث توجد دراسة لأحد الخبراء الأوربيين تشير إلى إن زيادة الإنفاق العسكري بنسبة ((1%)) فقط من إجمالي الناتج المحلي لبلد ما ، يمكنها أن تؤدي خلال خمس سنوات إلى تراجع قدرات الاقتصاد الوطني بنسبة ((0.7%)) ، كما إن التنافس في تطوير أسلحة جديدة يساهم وبشكل مذهل في استنزاف موارد المجتمع كلها ، فعلى سبيل المثال ، فإن التكلفة المرتبطة بإنتاج غواصة نووية واحدة تساوي ميزانية التعليم السنوي لأكثر من ((36)) بلدا ناميا ، فيها ((180)) طفل في سن الدراسة ، ومن شأن تخفيض هذا الإنفاق أن يوفر على نطاق واسع الموارد اللازمة لإحراز تقدم سريع نحو حل جميع المشكلات العالمية ، كالفقر والجوع والتخلف وغيرها.

أما بالنسبة إلى البلدان العربية، فيقدر تقرير صادر عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن العام 2002، أن مجموع إنفاق الدول العربية يزيد على 60 مليار دولار سنوياً، أكثر من نصفها من نصيب الدول الخليجية. وقد جاء في دراسة نشرها مركز الخليج للأبحاث أن الإنفاق العسكري التراكمي لدول مجلس التعاون الخليجي ارتفع بين العامين 2000 و2005 إلى 233 مليار دولار، أي ما يوازي 70 % من إجمالي الإنفاق العسكري في العالم العربي، و4 % من الإنفاق العسكري العالمي.

في المقابل تبدو نسب الإنفاق على كل من قطاعي الصحة والتعليم متدنيَّة جداً، مقارنة بالإنفاق العسكري الهائل، مع كل ما في ذلك من انعكاسات سلبية على مستويات التنمية الاقتصادية وفرص تنمية الموارد البشرية وإيجاد رأس المال البشري المؤهل لقيادة عملية التنمية هذه.

هذه الزيادة في تجارة الاسلحة جراء التوحش الليبرالي الذي بقدر ما يحتكم إلى منطق السوق، بقدر ما يعتمد الافقار كآلة حربية، وينهج سياسة التجويع، سعيًا منه، بطبيعة الحال، وراء تطويع الرقاب، واستعباد الناس، سواء بالتحكم في حيواتهم، والاستحواذ على خيرات أوطانهم، أو بتدبير الرعب اليومي، كبحًا لرغباتهم حتى تعود أدراجها.

لذلك نشأت هوة كبيرة بين أغنى الأغنياء، وأفقر الفقراء، تزامنًا مع سيادة خطاب شمولي، ما فتئ يفصل السياسة عن الأخلاق؛ حيث إن العديد من رواد هذا الخطاب، يعتقدون، استنادًا إلى روسو أو إلى مكيافيلي: أن السياسة والأخلاق؛ مجالان منفصلان إلى حد أن ما يصلح للأول، لا يناسب الثاني بالضرورة.

إن هؤلاء بفصلهم ما بين المجالين؛ إنما يرمون إلى إقامة نوع من التعارض، يُيَسِّر لهم نزع الطابع الأخلاقي عن فعل المتاجرة في الأسلحة، والتقتيل، وإضفاء الشرعية على منطق السوق، الذي صارت تدير به الدولة سياستها الاقتصادية.

تؤكد الدراسات المختصة ان التوسع المستمر في الانفاق على الاسلحة تصنيعا وشراء يؤدي الى:

‏امتصاص نسبة كبيرة من الموارد البشرية والمالية والطبيعية والتكنولوجية، ‏ الأمر الذي يضيف عبئا كبيرا على اقتصاديات جميع الدول‏. ‏

‏ التناقض البيّن والواضح مع التخلف الاقتصادي والاجتماعي والبؤس والفقر الذي يعانيه ثلثا البشرية‏. ‏

ان التخلف والفقر مازال يعتصر عددا كبيرا من الشعوب‏، ‏ فقد أبز تقرير التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الانمائي ان خمسين دولة أصبحت أكثر فقرا مما كانت عليه عام‏1990، وان مؤشرات التنمية البشرية مثل الجوع ووفيات الأطفال ضمن الأهداف الانمائية للألفية ازدادت سوءا في بعض الدول النامية واستفحل الفقر المدقع ليضم خمس البشرية‏.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002 – 2017 Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق