قد تكون حالة جيدة، أو عكس ذلك، لازمتني منذ بواكير حياتي، فأنا أرغب أن أعرف ما لا أعرفه، في إحدى المرات طردني معلّم العلوم من الصف بسبب كثرة الأسئلة التي وجهتها له، اليوم صباحا طلبت من سائق أجرة شاب أن ينقلني إلى محل عملي في مركز المدينة...

قد تكون حالة جيدة، أو عكس ذلك، لازمتني منذ بواكير حياتي، فأنا أرغب أن أعرف ما لا أعرفه، في إحدى المرات طردني معلّم العلوم من الصف بسبب كثرة الأسئلة التي وجهتها له، اليوم صباحا طلبت من سائق أجرة شاب أن ينقلني إلى محل عملي في مركز المدينة، طلب الأجرة المقررة واتفقنا، في الطريق أثار فضولي سؤال أكرره على جميع سائقي سيارات الأجرة ومعظمهم من الشباب، هل هذا عملك الوحيد؟ يجيب السائق الشاب: نعم. فأسأله: ما شهادتك الدراسية؟، يقول: كلية التربية قسم الفلسفة!، أو كلية الاقتصاد قسم المحاسبة أو.....

أصمت قليلا أتأمل هذا الشاب العميق وأرى فيه فلاسفة نقلوا بلدانهم وشعوبهم من حال إلى حال، أتساءل لماذا نستبدل الفيلسوف صاحب القدرة التربوية بمهنة السائق التي يمكن أن يقوم بها الأمّي أيضا، أكتشف أيضا أن هذا الشاب متزوج وله طفلين أحدهما في بداية مشواره المدرسي الابتدائي، فأحثّهُ على رعاية طفليه وخصوصا الطالب، فيلتفت إليّ ويتعهّد بالقيام بمهمته نحو أطفاله لكنه يشعر بالغبن والحزن والأسف!.

أصل إلى مركز المدينة، ادخل أحد المطاعم، أطلب وجبة غداء بسيطة خالية من اللحوم والدسم، يأتيني بها شاب جميل المظهر نظيف، يضع طبق الطعام أمامي، قبل أن يذهب أطلقت عليه سؤالي الدائم، هل أنت طالب، يجيب: تخرجت من الجامعة، آداب انكليزي. لماذا لم تعمل في التدريس أو في الشركات التي تحتاج إلى من يتقن اللغة الانكليزية؟، يجيب: لم أجد فرصة عمل لا في شركات القطاع الخاص لأنه (اسم بلا وجود، نسمع بالقطاع الخاص ولا نراه)، ولا في مؤسسات الدولة المتخمة بالوظائف.

أتناول طعامي وفكري مشغول بالسائق الفيلسوف، والآن أواجه حالة أخرى مقاربة شاب درس آداب انكليزي لأربع سنوات، ثم يجد نفسه مضطرا للعمل في مطعم، هل أنت متزوج، هكذا سألته، فأجاب: نعم، وهل لديك أطفال؟ قال: نعم في الطريق.

ولا أنسى حين قال هذا الشاب: أحمد الله لأنني وجدت فرصة عمل في هذا المطعم!!.

هؤلاء شبابنا يدرسون يتعلمون ويصرف عليهم الآباء دم قلوبهم لينتهوا إلى مهن عاديّة يمكن لغير المتعلمين القيام بها، خرجتُ من المطعم مهموما بهذه الظاهرة التي لا تلتفت لها الدولة ولا القطاع الخاص، قرب الطعم هناك شاب آخر متميز يبيع الشاي، ألقيتُ عليه التحية وطلبتُ منه كوبا من الشاي، وخلال دقيقة وضعه في يدي، فسألته السؤال الذي يملأ فضولي، فأجاب: أنا مهندس زراعي. سرحتُ في تفكيري تُرى لماذا لم تستفد الدولة من طاقات شبابها؟

صدمني الشاب بجوابه هذا، فالعراقيون يستوردون معظم محاصيلهم الزراعية من الخارج، ومات قطاع الزراعة وانحدرت هذه المهنة العريقة إلى الضعف والموت في العراق. أمثال هذا المهندس يتخذون من بيع الشاي مهنة كي تديم وجودهم، لكنها من المحال أن تبني لهم حاضرا لائقا، فما بالكم بالمستقبل، أظن أن لا أحد يفكر بهؤلاء، خصوصا المسؤولون في الحكومة والوزارات المتخصصة؟!، فمعظمهم مشغول بمنافعه المادية أو السياسية.

بعد ذلك دخلت أحد الأحياء السكنية، فرأيت داراً قيد الإنشاء يقع على قارعة الطريق، يعمل في بنائه مجموعة من الشباب من مختلف الأعمار، عددهم 7 عمّال، شخص واحد منهم في الأربعين، والآخرون من فئة الشباب وجميعهم حصلوا على شهادات بين الإعدادية والجامعية، عرفت ذلك منهم فردا فردا، هؤلاء الشباب لا يختلفون عن سائق الأجرة، ولا عن عامل المطعم أو بائع الشاي!.

جميعهم يعملون في مهن لا علاقة لها بدراستهم وتخصصاتهم وشهاداتهم، إذاً لماذا درسوا، لماذا أفنوا قمة أعمارهم في مقاعد الدراسة، لماذا قدمت عائلاتهم أموالا طائلة كي تصل بهم إلى نهاية المشوار الدراسي الجامعي، ثم الحكومة نفسها لماذا تفتح المدارس والجامعات للشباب، ثم تلقي بهم إلى الشوارع وإلى مهن لا علاقة لها بما تعلموه في مدارسهم سنوات طويلة؟، تُرى أين الخلل وما هو السبب، وما هي الحلول؟؟، طاقات شبابية مهدورة بلا أسباب مقنعة.

نضع هذه المشاهد والحكايات اليومية التي تغص فيها حياة العراقيين أمام من يهمهم الأمر، من الحكومة والقطاع الخاص والمنظمات والمؤسسات العلمية وسواها، إننا مطالبون بالقضاء على ظاهرة المهن البديلة ذات الطابع السهل، ولابد من تقديم خطط علمية عملية تضع حدّا لإهدار طاقات شبابنا، فالموارد البشرية ورأس المال الفكري هما العمودان اللذان ترتكز عليه الدول والشعوب كي تتطور حياتهم في خط بياني متصاعد، وليس العكس.

وقبل أن أدون نهاية ما رصدته عيني اليوم، أختم جولتي بعودتي من المدينة إلى بيتي بالصعود في سيارة أجرة يقودها أحد شبابنا أيضا، وعلى الفور سألته ما هو تحصيلك الدراسي؟، فقال: ماجستير علوم كيمياء، ولكم أن تتصوروا كم هي خسائر هذا البلد في رأس المال الفكري؟، الأمر الذي يدعو الجهات الحكومية والمدنية ذات العلاقة، للتفكير بجدية إلى الحد من هدر الطاقات الشبابية، فهذه الشريحة فيما لم أحسنّا التخطيط لها وتوظيف مؤهلاتها جيدا، فإننا نكون في منافسة جادة مع الدول الأخرى لبلوغ قمم النجاح.

اضف تعليق


التعليقات

محمد علي
أروع ما في الشباب العراقي احترامهم للأسرة والاجتهاد لتحصيل لقمة العيش الحلال، وهو ما قرأته في احاديث الشباب بهذا المقال، واعتقد هذه تشكل القاعدة الاساس لأي تقدم وتطور حقيقي في المستقبل. وشكراً للكاتب على هذه الالتفاتات الرائعة2021-05-30