القراءة الناقصة للشيء تعطي نتيجة عكسية، وعلى أقل تقدير لا توصل إلى فهم كامل للشيء، لأن الأشياء – عادة – وحدة متكاملة، يكمّل بعضها البعض الآخر، ولعلّ جزءً صغيراً مغفولاً عنه يكون له الدور الحاسم في انطباع الرؤية الصحيحة.

كما أن فقدان جزء صغير في الأجهزة والآلات، أو عدم الدقة فيه قد يسبب كارثة، فسقوط الطائرات – مثلاً – قد ينسب إلى عطل فني صغير، كذلك عدم الإتقان في الصناعة قد يسبب تعطل الجهاز عن العمل.

وتبدأ المشكلة حينما لا نحاول فهم جميع الجوانب، أو نتغافل عن المراجعة والدقة في الجوانب التي تعرفنا عليها.

وقد تعامل القرآن الكريم مع هذا الأمر تعاملاً متميزاً في عدد من الآيات الكريمة فقد قال الله تعالى: (مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ) أي على زاوية واحدة، فهو يعتقد بالله ويعبده لكن من طرف واحد من دون ملاحظة سائر الجوانب، وهذا مما يفقد الإنسان رشده وهداه (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).

كما أن الظواهر الكونية وحدة متكاملة متناسقة بدقة متناهية لا يشوبها أي نقص أو خلل، والمطلوب من الإنسان تنظيم حياته على نسقها كي يستفيد من خيرات الأرض وليحوز على السعادة الدنيوية، كما يقول الخبراء: إن أقصى درجات تقدم الإنسان هو اكتشافه لنظم وقوانين الكون ومن ثم محاولة استثمارها والاستفادة منها، وهذا يقتضي منه التجرد من موروثه الذهني وتخيلاته عن الكون وما يحيط به والدخول في معترك العمل بغرض اكتشاف الواقع كما هو والحقيقة كما هي.

فكما الظواهر الكونية، فكذلك الأوامر التشريعية الإلهية على هذا النسق فقد نظمت بطريقة يكمل بعضها البعض، وعدم محاولة الفهم الكامل أو محاولة الفهم التجزيئي، أو على حرف –حسب التعبير القرآني– يكون مردودها عكسياً، وأسوأ من عدم فهم الظواهر الكونية، ذلك أن حياة الإنسان على شكلٍ بدائي ومن دون تطور تقني قد تشوبها صعوبة في بعض الجوانب والإنسان بطبعه يعتاد الصعوبات وهذا ما يفسر وجود عصور ذهبية قبل الثورة الصناعية والتقنية، وعكس ذلك عدم التشريع الصحيح أو عدم تطبيقه فإنه سبب الكوارث والويلات التي جرت وتجري على البشرية.

ومن ذلك المآسي التي مرت وتمر على الأمة الإسلامية، فإنها نشأت من العبادة على حرف، وأخذ بعض آيات القرآن وترك البعض الآخر، ومن أمثلته شعار الخوارج الذي كان آية من القرآن وهي (إِنْ الْحُكْمُ إِلاّ لِلَّهِ) فكانوا يقولون الحكم لله لا لك يا علي!!، مع أن آيات أخرى تفسر الحكم في هذه الآية بل بعضها يعيّن الولاية لعلي (ع).

الشورى وموقعها في القرآن:

إن الشورى أصابها ما أصاب كثير من الآيات من التناسي وعدم العمل بها مع أن (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38) و(شَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ).

آيتان في القرآن الكريم، وهما آيتان ترسمان نظرية عامة لنظام الحياة بما فيه النظام السياسي.

إن البعض يدّعي أن هاتين الآيتين تبينان جانباً أخلاقياً غير ملزم لا أكثر، (فالشورى بوصفها نظاماً سياسياً يتضمن القواعد التي تنظم مشاركة المواطنين في الحكم وكيفية مراقبة الحكام ومحاسبتهم غير موجودة لا في النصوص ولا في التطبيق وكل ما في الأمر أن لبساً لفظياً حمل بعض الفقهاء على تحميل اللفظ ما لا يتحمل.. وإذا كان بعض المفكرين قد أخذ بمبادئ الديمقراطية السائدة في الغرب الأمر الذي حمله على تحميل مبادئ الإسلام ما لا تحتمل فعمد إلى ألفاظ وردت في القرآن الكريم مثل لفظ الشورى وحاول إلباسها لباساً فضفاضاً فابتدع هيكلاً لنظرية شاملة في ذهنه وحاول مقارنتها بما يقابلها في الغرب) (1).

إن هذا الكلام وأمثاله يفتقد الكثير من الدقة في الطرح:

أولاً: من الجانب اللفظي آية (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38) آية عامة ذلك إن (أمر) أضيف إلى الضمير (هم) وهو يفيد العموم كما هو مذكور في البلاغة وأصول الفقه، فشموله للنظام السياسي وهو من أهم الأمور واضح، وقول البعض بأن شأن نزول الآية في الأنصار حيث كانوا يستشيرون في أمورهم قبل الإسلام ولا عموم لها(2)، هذا القول غير صحيح حيث إن الآيات القرآنية لها شأن نزول مذكور في التفاسير وذلك لا يوجب حصر الآيات في تلك الشؤون فقط.

كما إن (شَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) كذلك، من حيث إن (الأمر) كلمة مطلقة تشمل كل الأمور، وخصوصية المورد لا تخصص الوارد كما ذكره الأصوليون في بحث الاستصحاب في حديث (لا تنقض اليقين بالشك)، كما إن العزم في تتمة الآية (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ليس نقضاً للمشورة بل المقصود به العزم الناشئ عن المشورة، كما نقول خذ الخرائط من المهندس فإذا عزمت على البناء فهيئ الأدوات، وليس معنى ذلك إلا العزم على تطبيق خريطة المهندس، كذلك الآية تعني استشر ثم إذا عزمت على تطبيق ما وصلت إليه المشاورة فتوكل على الله لأن الأمور كلها بيده تعالى(3).

ثانياً: إن الإسلام كما يختلف مع غيره في كثير من الأمور والمسائل كذلك يتفق مع الغير في كثير، لأن الإسلام بني على أسس رصينة عقلية والمشرّع لاحظ في الأمور المصلحة والمفسدة الواقعية، وكثير من تلك المصالح والمفاسد يكتشفها العقل لأنه (كل ما حكم به العقل حكم به الشرع، وكلما حكم به الشرع حكم به العقل).

ولذا نرى الفقهاء يستدلّون بالعرف وبناء العقلاء في موارد لا تعد ولا تحصى، ويقولون بأن المعاملات إمضائيات، بمعنى أن الشارع المقدس قد صحح المعاملات التي يجريها العقلاء – إلا في بعض الموارد القليلة جداً -. وعليه فإن وجود فكرة الديمقراطية قبل الإسلام أو تطبيقها في بعض البلدان غير الإسلامية ليس دليلاً على بطلانها من جميع جوانبها، إذ إن ملاحظة الأدلة الشرعية تسوقنا إلى نظام سياسي يتفق مع الديمقراطية في بعض المفردات ويختلف عنها في مفردات أخرى(4).

والفقهاء القائلون بأن الشورى نظام سياسي في الإسلام، لا يريدون تحميل اللفظ ما لا يتحمل، فليس الغرض تصحيح الديمقراطية الغربية بأي طريقة كانت، وليس المقصود محاولة جرّ الآيات القرآنية للاستدلال بمنهج معين، بل المقصود هو أن ملاحظة الآيات والأدلة الأخرى ملاحظة مجردة ومن دون خلفية ذهنية ترشدنا إلى أن الشورى نظام عام يشمل النظام السياسي.

ثالثاً: إن المهم في استنباط الحكم الشرعي هو مدى دلالة الدليل، وعدم التطبيق لا يدل على عدم الوجوب، فإذا دلت الآية أو السنة الصحيحة على حكم فهو المتبع، حتى وإن لم يطبق في الخارج لظروف سياسية أو اجتماعية مثلاً.

إن الشورى والمشورة إنما تكون في الموارد التي لا يوجد فيها نص إلهي، ومع وجود النص الإلهي لا مجال للشورى، فالنبوّة والإمامة هما بتعيين من الله عز وجل، وولاية الرسول والأئمة المعصومين ثابتة بالنص القرآني، وكذلك الأحكام الشرعية.

ولظروف سياسية معينة تمت مخالفة النصوص فسقطت الحكومة بيد بني أمية وبني العباس الذين حولوا الأمر إلى وراثة وحكم استبدادي مطلق فلم يفسح المجال لتطبيق نظام الشورى.

الخطــــــوة الأولــــى:

إن الخطوة الأولى للتقدم تبدأ حينما تشارك العقول في صنع القرار، حيث إن الإنسان محدود، والعقل وزعه الله تعالى على الجميع فلذا كانت (يد الله مع الجماعة) و(من شاور الرجال شاركها في عقولها) كما في الأحاديث وهذا يستدعي تنازل الإنسان عن بعض آرائه وأفكاره لصالح المجموع وذلك بحاجة إلى ثقافة الشورى.

إن المجتمع غير المتعلم للنهج الشوروي تصعب عليه ممارسته في حياته اليومية وفي نظامه السياسي، فإن النظام هو انعكاس لسلوك الناس وطريقة تفكيرهم وفي الحديث (كيفما تكونوا يولى عليكم)، إن التغيير يحتاج إلى نفس طويل وقد يستغرق عدة أجيال، وهو يبدأ من نقاط صغيرة تتحول بالتخطيط وبمرور الزمن إلى الأمور الهامة، إننا بحاجة إلى تحويل مؤسساتنا –حتى الصغيرة منها– إلى مؤسسات شوروية، كما نحن بحاجة إلى تعليم الأطفال في البيوت والمدارس على ذلك، فلو تحولت الثقافة الشوروية من كونها ثقافة نخبوية إلى ثقافة عامة فحينئذٍ يؤمل في تطبيق نظام الشورى.

وليس من الواقعية أن ننتظر من يقوم بفرض ذلك على الناس، لأن المؤسسات الاجتماعية لا تقوم بالفرض، وإنما بثقافة القائمين عليها، وأفضل الأنظمة قد تواجه مشاكل جمة تعرضها للزوال إذا لم تكن القاعدة واعية..

* مقال نشر في مجلة النبأ العدد 54-ذو القعدة 1421/شباط 2001

.............................
المصـــــادر :
(1)مجلة المنهاج: العدد 12 ص122.
(2) المصدر السابق.
(3) للتفصيل راجع مجلة النبأ العدد47 ص36، والعدد 49 ص18 مقالتان لسماحة الشيخ ناصر الأسدي.
(4) للتفصيل راجع مجلة النبأ العدد 52 ص6 فما بعد/ مقالة للعلامة السيد مرتضى الشيرازي.

اضف تعليق