في النظام القرآني نجد أنّ كلّ جملة، وكلّ كلمة، وكلّ حرف قد جاء من أجل هدف معين، ولا نجد في القرآن الكريم حتّى حرفاً واحداً يمكن الاستغناء عنه. وحتّى لو بدا للنظرة العابرة وجود شيء زائد فإنّ البحث الدقيق يكشف عن ضرورة معيّنة تتطلّب وجود ذلك...

منهج التدبّر في القرآن يعتمد على طرح مختلف التساؤلات حول (الظواهر القرآنية)، فكلّ آية من القرآن الكريم مجال خصب لطرح تساؤلات عديدة، وعلى الفرد الذي يحاول التدبُّر في القرآن أن يثير في عقله هذه التساؤلات، ومن ثمّ يحاول الإجابة عليها.

وهذه التساؤلات تتناول 1- معنى الكلمة. 2- تخيُّر الكلمة. 3- موقع الكلمة. 4- الشكل الخارجي. 5- التسلسل المعنوي، والتناسب في الانتقال من غرض إلى غرض. 6- التصنيف.

ثالثاً: موقع الكلمة

من نقاط الالتقاء بين (النظام الكوني) و(النظام القرآني): (الهدفية) التي تشمل جميع أنحاء كل واحد من النظامين.

ففي النظام الكوني نجد أنّ كلّ المخلوقات التي تسبح في هذا الكون الكبير ـ ابتداءاً بالذرّة وانتهاءاً إلى المجّرة ـ كل هذه المخلوقات «مهدوفة».. ولا نجد كائناً واحداً زائداً على الحياة، أو طفيلياً عليها.

وفي النظام القرآني نجد أنّ كلّ جملة، وكلّ كلمة، وكلّ حرف قد جاء من أجل هدف معين، ولا نجد في القرآن الكريم حتّى حرفاً واحداً يمكن الاستغناء عنه.

وحتّى لو بدا للنظرة العابرة وجود شيء زائد ـ سواء أكان في النظام الكوني أم في النظام القرآني ـ فإنّ البحث الدقيق يكشف عن ضرورة معيّنة تتطلّب وجود ذلك الشيء.

من هنا كان على من يحاول التدبّر في القرآن الكريم أن يحاول اكتشاف (موقع الكلمة)، أي: الهدف التي جاءت من أجله هذه الكلمة، والمغزى الذي تشير إليه.

وسوف نستعرض فيما يلي بعض الآيات القرآنية. كنماذج لينطلق منها القارئ الكريم إلى سائر الآيات.

ـ 1 ـ

يقول القرآن الكريم ـ وهو يتحدّث عن قصَّة زكريا (عليه السلام) بعد أن بشرّته الملائكة بيحيى (عليه السلام): {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}(1).

ما هو موقع كلمة (كذلك) في هذه الآية الكريمة؟ ولماذا لم تكن الآية: (قال: الله يفعل ما يشاء) أو (قال: إن الله يفعل ما يشاء)؟!.

والجواب: إنّ وجود كلمة (كذلك) في هذه الآية يضيف إليها بعداً جديداً هو: الدلالة على الدأب والاستمرارية.

فعندما تعجّب زكريا (عليه السلام) من أن يهب الله له غلاماً وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر، كان الردّ: أنّ هذه الولادة ليست بدعاً من الأُمور، وإنّما هي أمر مألوف ومكرّر بالنسبة إلى مشيئة الله وفعله الذي يتمُّ في أوقات كثيرة على هذا النحو، ولذلك فلا داعي للتعجّب من أمر هذه الولادة.

وهكذا دلّت كلمة (كذلك) في هذه الآية الكريمة على سنَّة قديمة لله سبحانه في هذا الكون لا تدع مجالاً للاستغراب من ظواهرها الجديدة.

ـ 2 ـ

يقول القرآن الكريم: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَم يابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ...}(2).

في هذه الآية: نجد القرآن الكريم يضيف إلى اسم المسيح نسبه (عيسى بن مريم) (عليه السلام).

بينما في الآية السابقة يذكر القرآن اسم موسى (عليه السلام) بشكل مجرّد فيقول: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمُ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(3).

وقد تكرّر ذلك في آيات القرآن كثيرا،ً(4) وهكذا.

والجواب: لقد تركّز الضغط القرآني على كلمة (ابن مريم) تأكيداً على الجانب البشريّ في المسيح (عليه السلام)، ونفياً مشدّداً لما ادَّعته النصارى من وجود جانب إلهي فيه.

وهكذا يجمع القرآن الكريم بين استعراض الأفكار والمفاهيم الإلهية، وبين النفي الضمني للخرافات والأباطيل.

ـ 3 ـ

{الم *غُلِبَتِ الرُّومُ *فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}(5).

هذه الآية الكريمة نزلت عندما اندحر الروم في أرض الشامات -وهي أقرب أرض إلى الجزيرة العربية- . وانتصر الفرس عليهم، وهزموهم هزيمة ساحقة.

ولكن: ما هو مغزى ورود كلمة {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} في هذه الآية؟! مع أنّ موقع المعركة كان معروفاً لدى الجميع؟!.

وحتّى لو افترضنا أنّ موقع المعركة كان مجهولاً ـ فهل القرآن كتاب جغرافي حتّى يتناول مثل هذه القضية؟ أم أنّ هنالك أمراً آخر؟!.

والجواب: قد يكون قوله سبحانه {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} من أجل توضيح حجم الهزيمة التي حلّت بـ«الروم»؛ ذلك لأنّ القضية لم تكن قضية جيشين يلتقيان في الصحراء ويمنى أحدهما بالفشل، فالقضية أكبر من ذلك، إنّها قضيّة جيش غاز ـ يغزو عدوّه في عقر داره وينتصر عليه، ومن ثُمّ يقيده بالسلاسل ويمتهن شره وكرامته(6).

إذن فحجم الهزيمة كبير، والمصاب فادح، ولكن رغم ذلك: تشاء إرادة الله أن تعكس الأمر وتعيد للروم حريّتهم واستقلالهم.

وهكذا دلّ قوله تعالى: {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} على تلك الهزيمة العظيمة التي تدخّل القدر الإلهي ليحوّلها إلى نصر عظيم!

* مقتطف من كتاب: (التدبر في القرآن) لمؤلفه آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي

...................................

(1) آل عمران: 40.

(2) الصف: 6.

(3) الصف: 5.

(4) ورد اسم المسيح في القرآن الكريم مقروناً بذكر اُمّه (ابن مريم) حوالي (20) مرة.

(5) الروم: 1-3.

(6) جاء في كتاب «الإسلام يتحدّى»: «وأغار (كسرى ابرويز) على بلاد الروم، زحفت جحافله عابرة نهر الفرات إلى الشام. ولم يتمكن «فوكاس» [ملك الروم] من مقاومة جيوش ـ الفرس التي استولت على مدينتي (انطاكية والقدس) فاتسعت حدود الأمبراطورية الفارسية إلى وادي النيل، وتقلصت الأمبراطورية الرومانية في عاصمتها، وسدّت جميع الطرق في حصار اقتصادي قاس، وعم قحط، وفشت الأمراض الوبائية، ولم يتبق من الإمبراطورية غير جذور شجرها العملاق.

وكان الشعب في العاصمة خائفاً يترقّب ضرب الفرس للعاصمة، ودخولهم فيها، وترتّب على ذلك أن أُغلقت جميع الأسواق، وكسدت التجارة وتحوّلت معاهد العلم والثقافة إلى مقابر موحشة مهجورة، وبدأ عبّاد النار يستبدون بالرعايا الروم للقضاء على المسيحية، فبدأوا يسخرون علانية من الشعائر الدينية المقدّسة، ودمّروا الكنائس، وأراقوا دماء ما يقرب من (100.000): مائة ألف إنسان من المسيحيين المسالمين، وأقاموا بيوت عبادة النار في كلّ مكان، وأرغموا الناس على عبادة الشمس والنار»... راجع: الإسلام يتحدّى: 183-184.

اضف تعليق