دراسات ومقالات

اتصلوا بنا

سجل الزوار

المراسلات

شارك في الكتابة

الأعداد السابقة

الصفحة الرئيسية

 
 

شمسنا التي غابت وتركتب أقمارا

السيد محمد أمين حسين الرجا

بسم الله الرحمن الرحيم

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم إنا لله وإنا إليه راجعون ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن متّ فهم الخالدون) قيل لي: ألا تكتب.. ما رأيك في أن تكتب.. أكتب عن فقيه أهل البيت (عليهم السلام) المرحوم الراحل المرجع الديني الأعلى السيد الشيرازي رضوان الله تعالى عليه، فقلت في نفسي: وهل من حقي أن أكون من الكاتبين عن سلطان الكاتبين، وهل أنا من المقدرة بمكان أن أكتب عن هذا العظيم.. وهل لي الحق أن أقيّم من هو دونه فضلاً عنه، وبعد غفوة انغماس في حوار طويل بيني وبين نفسي خرجت بنتيجة وهي أنه ليس من حقي أن أكتب فيه مقيّماً، ولا من حقي أن أكتب فيه ناقداً ولا من حقي أن أفعل كما يفعل المحللون فأضعه -رحمة الله عليه ورضوانه- في قالب البحث، لا بطريقة السرد التاريخي لحياته الحافلة، ولا بطريقة العرض والتحليل، بل يترك ذلك لمن هو خير مني، بل لي الحق أن أكتب حوله بذريعة واحدة أتشبث بها وأدخل من بابها.. إنما أكتب من باب رابط القداسة والإجلال والمحبة والعشق الذي استطاع السيد الراحل -رحمة الله عليه- ورضوانه أن يفرضه على محبيه، بل لعله أوصله عند البعض إلى درجة من الولع لا يمكن أن توصف.. فها آنذا يا سيدي أكتب عن سمائك وأنا على تراب أرضي، وهل يمكن أن تصف الأرض السماء؟ وكيف يصف من على هذه سكان السماء يبدو الأمر صعباً يا سيدي، ولكن لا يمكن إنكار جواز العشق والمحبة بين سكان هذه وسكان تلك، فمن ذا الذي يجرؤ على إنكار العلاقة الحميمة بين تراب هذه وغمام تلك؟.

قال الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): (قيمة كل امرئ ما يُحسن) الله أكبر سبّوح قدّوس.. هذا كلام مراميه بعيدة، وكأن الأمير عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام التفت إلى نظام الأسعار ونظرية القيمة والثمن، فأبى إلا أن يتقدم للأجيال بنظرية خالدة لا يمكن أن يثبت بطلانها إلى يوم يبعثون، فلطالما سمعنا بنظريات ومبادئ ثبت بطلانها، فيُخرج واضعوها رؤوسهم فيُتحفونا بأنها استنفذت أغراضها.. صَلُحت لزمان والآن تعالوا بنا إلى غيرها، فقد نسفتها المتغيرات التي لا يُخدعنّ أحدٌ بأنها يمكن أن تتوقف عن المسير.. وقد يظن البعض للوهلة الأولى أن نظرية الإمام (عليه السلام) هذه هي تسعيرة للرجال فقط، وأن الإمام ممن يؤمن بتحديد الأسعار، فقد يكون هذا متوفراً بنظرية الإمام، ولكن لا كما يبدو من ظاهر الكلام، بل إن الإمام (عليه السلام) أعطى الثمن حريةً عجيبة في الصعود والهبوط بدون حرج تبعاً للأهمية اللحظية المختلفة من زمان الآخر ومن مكان لآخر، وكذلك يمكن تعميم نظام الأسعار هذا على كل شيء، وليس فقط على (المُسَعَّر) في نظرية الإمام وهو (المرء).

والآن بعد مرورنا بمدينة نظرية الإمام (عليه السلام) والتقاطنا لصورة واحدة منها فقط، نصل إلى سماحة آية الله العظمى المرجع الديني الأعلى المرحوم السيد الشيرازي -رحمة الله عليه ورضوانه- وأظن أن المقصود أصبح واضحاً ولغاية بدت معروفة؛ فكل ما نريده هو أن نضع السيد -رحمة الله عليه ورضوانه- في ميزان جدّه، المتقن الصنع الذي استوردناه من الأمير (عليه السلام) بعقد توريد موقّع منذ أربعة عشر قرناً انصرمت، وقد وصل الميزان الآن مطبوعاً عليه (خاص للتصدير لكل الأمم من إحكام وصنع الأمير (عليه السلام) يفوق بدقته الصناعة اليابانية والغربية) وما أجمل أن نضع السيد الشيرازي -رحمة الله عليه ورضوانه- في ميزان جده، فها هو الجد يزن الحفيد، فما عسى أن تكون النتيجة.

الميزان يقول: (من اعتدل يوماه فهو مغبون) ومتى اعتدل للسيد الشيرازي يومان وقلمه ينزف كل يوم بالدم الأزرق؟ فإذا كان مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء فإنني أترك لك تقدير كم مرة استشهد هذا السيد؟ وهل نال الشهادة ألف مرة بعدد كتبه أم يزيد؟ وكم نزف من الدم هذا الشهيد؟.

الملاحظة الأولى للميزان تقول بأنه بدأ بالحركة والرجوح، وأظنه لن يتوقف عن الرجوح بسهولة.

الميزان يقول: (الصبر مطيّة لا تكبو) فما ظنك بصبر جليس بيته سنيناً تجاوزت الخمسة عشر عاماً صابراً محتسباً على هموم الحوزات العلمية ورجالها وطلابها وعلى هموم لا تعد ولا تقف عند حد.. الملاحظة الثانية للميزان تؤكد متابعة الرجوح والحركة.

الميزان يقول، لما رأى رجلاً من عمّاله بنى بناءً فخماً: (اطلعت الأوراق رؤوسها، أن البناء يصف لك الغنى) فما ظنك بمن ذكر الثقات أن بعض جدران بيته تم إكساؤه بالطين والتبن.

الملاحظة الثالثة للميزان تقول: الميزان في رجوح.

الميزان يقول: (هلك خزّان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر)، فمن حيث العلم أظن بل استيقن أن الرخامة التي فيها سجل العلماء استضافت اسماً جديداً، ولكن تم تسجيله فيها لا كما العادة بل حُفر الاسم فيها بخط عريض لا يفنى مدى الدهر، وبالرغم من هذا الخط على الرخام فإن الحفر الذي في القلوب لاسمه أقوى على الدوام والاستمرار. هذا من جهة العلم، أما عن تخزين المال، فلو أن نهر المال الذي كان يمر من تحت يد السيد قد وُضِع له سدٌّ لبدت بوضوح بحيرة عملاقة لا يمكن التستر عليها، ومتى خزن السيد الشيرازي -رحمة الله عليه ورضوانه- الأموال، بل كانت تمر من يده إلى مستحقيها، من دون تأشيرة عبور، إلى الطلبة والفقراء، وأصحاب الحقوق، والى بناء المساجد والحسينيات، وأعمال الخير والبر المنتشرة في أصقاع الأرض.

الملاحظة الرابعة للميزان تقول: الميزان في رجوح مستمر.

ويستمر الرجوح، وباستمراره، وفق قواعد الميزان العلوي الهاشمي، تعلم أي نوع من الرجال فيه، رجل استقام واتقى وحافظ على الثوابت ولم يفرّط في شيء من أجل شيء، بل حافظ على كل ما هو واجب ومطلوب، وما ذاك إلا ليلقى الله وهو عنه راض؛ فكل شيء في هذه هباء منثور، إن لم يكن فيه رضوان المولى جل وعلا، فما أسرع الملتقى والميزان والعرض. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): »إذا كنت في إدبار، والموت في إقبال فما أسرع الملتقى«.

هذا هو الشيرازي وهذا ما يُحسن، وإن أردت أن تعرف أهمية وثقل ما كان يحمل على ظهره، فاسأل نفسك هل استطعت أن تقود مرجعية الأمة؟ بل هل استطعت أن تبني مرجعية من هذا الطراز وبهذا الاستمرار؟ فنادراً ما تغيب الشمس وتترك من ورائها قمراً يتلوها، إن شمسنا التي غابت استطاعت أن تترك وراءها أقماراً  مجتمعة.

هذا هو الشيرازي الذي لا يمكن توضيحه بأوضح منه، إنه السيد الشيرازي الذي هو بحر لا تمثله قطرة، وكتابٌ بل ألف كتاب لا يختصرها سطر، ولكن العلم يمكن اختصاره بالسيد الشيرازي.

نسأل المولى جل وعلا أن يحشرنا معه في روضات الجنة مع زمرة محمد وآل محمد والحمد لله رب العالمين.