ذكريات مع الإمام الراحل

اتصلوا بنا

سجل الزوار

المراسلات

شارك في الكتابة

الأعداد السابقة

الصفحة الرئيسية

 

وللتاريخ كلمة

 

السيد حسين الاعرجي

كنّا منشغلين بتهيئة كتاب شرح الصحيفة السجادية لسماحة الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) والذي وقع الفراغ من تأليفه في سنة 1385هـ استعداداً لإعادة طبعه لنفاد نسخه بعد طبعه ثلاث مرات في العراق والكويت وإيران. وللمتصفح لشروحات الأدعية السجادية أن يفخر بما سطره قلم الإمام المُفتقد، من كشف لجواهر اللفظ واستخراج لدرر، المعاني ومن اهتمامه قدست روحه الزكية في البحث والتدقيق والشرح.

فكان حقّاً شرحاً رائعاً عذباً له أثره الأدبي الكبير والمناسب لعظيم الأثر الذي تركه زبور آل محمد (ص) في نفوس المؤمنين التواقين لمناجات ربهم بالأسلوب العلوي والنمط السجادي.

وفي زحمة الانشغال والتفاعل مع الأوراق والتصحيح والتحقيق وإخراج المصادر وما شابهها نعي إلينا المصاب الجلل بفقد الإمام.. فللمتتبع أن يتصور عظم وقع الحدث على نفوسنا، وما شعرنا به من الآلام والأحزان والهموم التي ألّمت بنا، ونحن نغترف شربة عذبة رائعة من بحر جود الإمام وعلمه. ورغم سوء حظنا بعدم اللقاء مع جلال شخصه في حياته، إلا أننا كنا وكأننا نعيش معه، نسمع الكلمات ونستوحي المعاني من شفتيه الرطبتين بالأدب والعلم والسمو، وكأننا أيضاً وأثناء قراءة أي مقطوعة لسماحته، من كتاب أو كراس أو بحث، في حوار مباشر مع مقامه الشاخص في الأعين، لأنني كمتتبع ومكثر من قراءة مؤلفاته - وبسبب رحمة من الله ولطف منه بتوفر الكم المتدارك من هذه المؤلفات بين يدي - أجد في مؤلفاته أسلوباً فريداً في السرد، وطريقة متفردة في الطرح قد اعتادها سماحته في طرحه للفكرة أو في وصفه للمعلومة؛ بحيث يجعل القارئ وكأنه في لقاء مباشر معه، وهو يحكي أفكار القارئ ويسرد طروحاته، ويدلّه إلى ما يحاول الوصول إليه، كلاًّ حسب اختصاصه ورغباته وقابلية التلقي عنده. ومن هذه الزاوية المهمة في البحث والقراءة نجد أنفسنا بين يدي سماحته، وفي ساحته الرحبة مواجهةً؛ فنغترف ما طاب لنا وما كنا نرغبه ونتوق إليه من الموضوع المُستهدف بالبحث.

ولسنا هنا في معرض تقييم وتبيين تلك المؤلفات والكتابات التي زخرت بها المكتبة الإسلامية، والتي أشبعت أبواباً كثيرة وغاية في الأهمية من العلوم والعناوين، كانت مفتقدة قبل ذلك ومهملة لم تجد من يتصدى لها قبل الإمام الشيرازي الراحل؛ لأن مثل هذا التقييم لا يمكن أن يعطي ثمرته المرجوّة منه بهذه العجالة، ولا يمكن الوصول من خلاله لكبد الحقيقة التي يمكن أن تنصف بالأحكام، حتى لو انبرى لهذا التقييم الفطاحل من المعاصرين ليسطّروا ما يرتأونه من بنات أفكارهم.

لأنه وبحسب رأيي المتواضع لازالت هناك خبايا وأسرار ومواضيع ليست باليسيرة سيضطر المتتبع إلى الانتظار لمائة عام قادمة للاستعداد للتقبل والتلقي الهاديء والمنصف في حال توفر الأجواء المناسبة والظروف المحايدة والأنفس المنصفة لتستطيع وضع الأمور في مواضعها وتعطي كل ذي حقًَّ حقه من الإنصاف وحسن التقدير في الأحكام. فإن ذلك منوط بالزمن وهو (الانتظار) أيضاً يصبُّ أخيراً في مصلحة خدمة الفكر والعطاء والإبداع الذي توفر في فكرٍ بارع كفكر الإمام الراحل.

إن الاعتقاد جازم في أن الإنصاف وحسن التقدير بحاجة إلى هذه المدة – وربما أكثر أو أقل - لكي يتحقق، ومن خلاله يتحقق أيضاً الوفاء والعرفان لمفكر أقل ما يمكن القول حول طيوفاته الفكرية، ونتاجته الأدبية، واستنباطاته الفقهية، أنه خلق في غير زمانه؛ إذ أنه سبقه بفترة ليست بالقصيرة في غايات العلوم والأبحاث والطروحات. ولنترك البحث في هذا الموضوع لذوي الاختصاصات المتشعبة ليقولوا كلمتهم، كلُّ حسب اختصاصه واهتماماته؛ فالساحة الفكرية الإسلامية ثرّة ومتتبعة، ولا يمكن لها أن تهمل أو تغفل مثل هذه الكنوز المرتجاة بالنسبة لها، وسنرى أن الزمن كفيل بأن يضع الموازين مواضعها والتي أمر الله بها أصحاب العقول، وقرر لها أن تتعلم وتعلّم، وأن تحكم فتنصف. ثم إن فكراً ضخماً مثل فكر الإمام الراحل الشيرازي (رضوان الله عليه) وجد ليُدرس وتُستفاد منه علوم، ويُبحث فتستخرج منه كنوز، ويوثّق فيدّخر تراثاً لأجيال وأجيال. والحق أن الله القادر المقتدر الذي خلق فأبدع، وصوّر فأبهر، يتولى هذا العطاء الباهر والبحر الزاخر من علوم وتركات الراحل العظيم بعنايته وحفظه، فهو ولي المؤمنين.

وفي خضم الحدث الجلل بفقد الإمام (رحمه الله) كان بيني وبين أحد المؤمنين حديث وحوار حول الإمام الراحل ومشروعه الكبير الذي تبنى فيه إرساء دعائم النهضة الإسلامية الكبرى في العصرالحديث، وأطروحاته الفذّة التي أحدثت تغييرات أساسية في بنية المجتمعات الإسلامية بالاتجاه الفعلي والإيجابي نحو مدرسة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، ورغم حرارة الألم وشدة التأثر لفقدنا هذا الصرح العملاق، إلا أن حديثنا كان هادئاً ومدروساً، وكأنه هيئ له مسبقاً من خلال تعرضنا لفيوضات الإمام الراحل والبصمات الثابتة والمؤثرة التي تركها على ساحة العمل الإسلامي البناء.

وقبل أن ينفضُّ اجتماعنا ما كان من رفيقي المؤمن ألا أن طلب مني طلباً غريباً عليّ بعض الشيء؛ إذْ أن قال لي: لماذا لا تكتب شيئاً عن السيد الشيرازي الراحل؟ وكانت دهشتي كبيرة من هذا الطلب؛ إذ أنّي لم أكن من أصحاب الأقلام التي يجوز لها أن تسبر غور مثل هذا البحر الزاخر، وتجاري أمواجه وعبابه؛ فتوقفت برهة مذهولاً من الطلب أقلب كفا بكف.. كيف؟ وأنّى لي؟ وما هي بضاعتي؟ ومرّت أيام وإذا بين يدي (مجلة المنبر) العدد (22) السنة الثانية - ذو الحجة 1422هـ - وأنا أتصفح وأقرأ حتى وقع نظري على أحد العناوين (خط أحمر) وقرأت الموضوع كلّه، ثم أعدت قراءته، والألم يعتصرني والانفعالات أخذت مني مأخذاً؛ لما ورد في البريد الإلكتروني من البعض، ولما أمطره آخرون للموقع الرسمي للمشروع الحضاري الشيرازي على الإنترنت من الكلمات الانفعالية والشتائم والرسائل الشامتة والمتشفية، عقيب رحيل الإمام (أعلى الله مقامه) ولا نحب نقل ما ورد فيه، وإعادة ما نقلته مجلة المنبر، وإن كان ناقل الكفر ليس بكافر، كما يقولون.. إلا أنني وبعد فسحة من الزمن هدأت وعدت لرشدي تاركاً الانفعالات جانباً، وتبادر إلى ذهني طلب رفيقي مني بأن أكتب شيئاً عن السيد الراحل، فقلت والله هذه فرصة لن أضيعها في الرد على أمثال هؤلاء من باب النهي عن المنكر وتقرباً لرسول الله (ص) والنصيحة أيضاً. ولا يُظن أننا نجابه البهتان بالمثل ((فكل إناء بالذي فيه ينضح))، إلا أن مقدمة (خط أحمر) للأستاذ عبد العزيز قمر كانت بالتأكيد التحليل المنطقي والرد العملي المسكّت لألفاظ هؤلاء ولنفثات سمومهم. نعم فحين كانت الخلائق من أهل السماء والأرض تبكي لمقتل سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام قام أحفاد أولئك المارقين من الدين بإعادة الكرة، ومارسوا نفس الإثم وإن كان بأسلوب أكثر فجاجة وأكبر حجة عليهم للسخرية بهم واستهجانهم وأدعى لأن يضحك الباكي. أليس هذا العداء وهذا التجني هو من فضلات ورواسب ذلك القديم الموروث استورثه الأبناء من الآباء؛ فحق عليهم قوله تعالى: إنا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم مقتدون؟!.

فإن كان قد مورست قديماً الشماتة بزين العابدين وسيد الساجدين علي بن الحسين عليه السلام، فليس بعيداً أن تمارس على ولده وحفيده السائر على هداه في زماننا هذا؛ فالشجرة الملعونة لها في عصرنا الراهن بقايا فروع.

إن الشجرة اليانعة ذات الثمار البهية هي التي ترمى بالحجارة، وإن النجوم الزاهرة المضيئة في آفاق السماء، هي التي تستهوي الناظر، فيمعن النظر إليها ليشبع فضوله، وإن الأثر على قدر المؤثر؛ فليس لنا أن ندهش أو نستغرب مما رأينا وسمعنا وما سنسمعه أيضاً بالتأكيد! فالأتباع هم الأتباع..

والرموز المقصودة بالسهام العادية هي من نتاج تلك الرموز الخوالد والتي هي كالذهب الأبريز كلما صقل ظهر ضوءه وعلا سناه وكثر رونقه.. ثم أننا إذا عرفنا أن الولاء والحب والانصهار بآل البيت (ع) هو السبب الرئيس لهذا الشنئان والإحن والبهتان، انتفى العجب والاستغراب من ردود الأفعال تلك.. وهي بعد ذلك شهادة على أنهم أبناء أولئك، ومن رميت صوبه السهام هو ابن هذه الرموز العوالي ((وحسبكم هذا التفاوت بيننا)).

وبعد هذا وذاك، لنا أن نقول: ماذا ترك السيد الراحل العظيم لأمثالهم أن يقولوا فيه، إذا وضعنا في دفتي الميزان ما قدموه للإسلام وما قدمه الإمام من الخدمات الجليلة والأعمال الرفيعة والتي تصب في خدمة الخط النبوي وأهل بيت النبوة عليهم السلام، وهم ما ادخروا جهداً في محاربة هذا الخط وإبداء العداء له قديماً وحديثاً؟!. فخط الإمام الراحل هو خط الإسلام النبوي، وخطهم خط الإسلام الأموي، وشتان بين الإثنين.

ولماذا لا تكون ردود الأفعال تلك إلا نفثة الحاسد للمحسود يروّح بها عن نفسه المريضة ليضمن لها البقاء المزري في دنياه التي حسبها حساباً دنيوياً صرفاً، فلا تستهويه الآخرة بشيء، ولا يهمه تبعات ما اقترفه من الإثم أو العدوان بحال من الأحوال؛ فـ ((إنما متسافل الدرجات يحسد من علا))؟!.

من المؤكد أن لديهم مشروعهم الذي ورثوه عن آبائهم؛ فهم عليه عاكفون لإطفاء نور الله، وطمس ذكر آل الرسول صلوات الله عليهم، ليمرروا من خلال ذلك نواياهم الدنيوية، وللإمام الراحل مشروعه أيضاً الذي ورثه من أجداده العظام، مكرساً حياته العامرة من أجل إحيائه وإضاءة أنواره التي حاول الماضون ويحاول اللاحقون من أمثال أولئك المردة إطفاءها ويأبى الله إلا أن يتم نوره.

ثم أنهم ماثلون في الساحة ويرون رأي العين ما آلت إليه نتاجات المشروع الشيرازي في تلك الساحة من تدعيم للسيرة النبوية ومن إحياء للفكر العلوي المتسامي الذي تتضارب معه مصالحهم وتتنافر فيه أهواؤهم.

ويقيناً أن روح الإمام المقدس في عليين قد انبرت لهذا التهافت الخلقي والأسلوب المزري المصوب نحوه، ولكن بطريقة مختلفة تماماً؛ لأنها لا يمكن لها إلا أن تتناسب مع علو خلقه الرفيع وسمو ذاته وأسلوبه في الرد على مناوئيه. حتى أننا نسمع من عالم الغيب والبرزخ صوته الهاديء ونبراته البليغة وهو يرد بلغة الناصح الواعظ والمشفق الحاني لئلا يشملهم غضب الرب، وإعراض جده الرسول الأعظم (ص) عنهم.

وكأن لسان حاله (رضوان الله عليه) يخاطبهم من فناء جنانه بالنصح قائلاً بلسان جده الحسين الشهيد عليه السلام: «عباد الله اتقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر، فإن الدنيا لو بقيت على أحدٍ أو بقي عليها أحد لكان الأنبياء أحق بالبقاء وأولى بالرضا وأرضى بالقضاء، غير أن الله خلق الدنيا تلعة، والدار قلعة، فتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واتقوا الله لعلكم تفلحون، فلا تغرنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيب طمع من طمع فيها، وأراكم قد أجمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم وأعرض بوجهه الكريم عنكم... وحسبي الله ونعم الوكيل».

هذا هو منطق الحق؛ فما يتوارثه أبناء الحق لا يكون إلا حقاً.. وما ينطق به أبناء الأنبياء حريّ أن يكون بمنطوق الأنبياء؛ فبهم يجبر المهيض ويشفى المريض.

وإذا كان لنا أن نتعلم ونستوعب.. فعلينا أن نكون بمستوى المسؤولية التي أرادها لنا سيدنا الجليل الراحل، والتي ما فتأ حتى آخر عمره الشريف يرددها في كل المناسبات «أن اعملوا ولا تتوقفوا» فلا ينبغي للمسيرة التي عبّد مسالكها السيد الراحل العظيم بقلمه وعلمه وعطائه أن يصيبها الوهن أو الضعف أو الركود، خصوصاً وأن الله تبارك وتعالى قد قيّض برحمته وعنايته الكبرى من استلم راية الفداء، واستلهم من سلفه العظيم بوارق العطاء، نعني به سماحة الإمام المرجع آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي حفظه الله وأدام نفعه، رافعاً راية العلم والهداية المحمدية، وحاملاً أعباء المسؤولية الحسينية، وموقناً بصعوبة وعظم هذه الأعباء؛ ليشق عباب هذه الأمواج بنفس الروح السامية التي كانت بين جنبي الراحل الكبير، تلك هي المسؤولية التي أراد الله أن يضطلع بها أعلام هذا البيت العلوي الحسيني الشريف، البيت الشيرازي قديماً وحاضراً ومستقبلاً، بلطف الله ((والله أعلم حيث يجعل رسالته)).

أما الآخرون الذين رقصوا فرحاً ثم سجدوا سجدة الشكر والتي ما أرادوا بها إلا إرضاء الشيطان وإغضاب الرحمن، فنقول لهم «بفيك أيها القائل الكثكث والأثلب... كد كيدك وأسع سعيك وناصب جهدك، فوالله لا تمحون ذكرنا ولن تميتوا وحينا.

وسيقف من يعبث بحرمات أبناء الأوصياء أمام ربًّ حاكم عادل لا يفوته الفوت ولا يغفل علمه عن شيء.. فمن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره.. فلا يستخفنكم المهل، فإنه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثار، وإن ربَّكم لبالمرصاد.