مفاهيم حضارية في رؤى الإمام الشيرازي

 

توجهات الإسلام السامية الآيلة إلى غاية تنظيم شؤون الحياة، تتسم بكل طابع الثبات، إذ أن المنطلق الأساسي للإسلام هو بناء حضارة الإنسان في دواخل تفكيره، قبل تشييد ماديات مكانه، وهذا النفس الحضاري الكوني جدير أن يعتمد في حلحلة الأوضاع السلبية القائمة آنياً، وانتشال بني البشر مما هم عليه من استفحال أزمات، تقع في صميم علاقات الإنسان بأخيه الإنسان. والإمام السيد محمد الشيرازي قد شغلت باله ضياع حلقة الوصل بين ما يعتري المجتمعات الإنسانية اليوم من طموحات مشروعة، للظفر بحياة أفضل، وبين العوائق التي توضع أمام عجلة تطور تلك المجتمعات باسم الحضارة تارة وباسم الإنسانية في تارات أخرى.

* بناء الأسرة.. الركن الحضاري الأول في الإسلام

في كل يوم يمر والإنسان على موعد دائم مع بيته، حيث الأهل وأصر العائلة التي لا تنفصم عراها إذا ما بنيت على مساند أخلاقية متينة، والإسلام جاء بهذا النفس الحضاري ليقوي علاقة الفرد باسرته، وينميها حتى تصل إلى ما يرضي الله سبحانه وتعالى حيث المحبة والتراحم والتآزر بين الجميع، فكيان الأسرة الصغير إذا ما رصّ صفوفه الأفراد، فإن التفاهم على الخطوط العامة المشجعة لبناء المجتمع، سوف يكون سهلاً، ذلك ان لرصيد التربية الإيجابية للفرد أمر لا يمكن إلا أن يكون سبباً فاعلاً لتوحيد طموحات كل مجتمع يرنو إلى الالتزام بالعمل الخير، المحقق للطموحات الحضارية العظيمة.

وحيث أن الوعي بأمور كينونة الحياة يشكل مرتعاً سلساً في مبادئ الإسلام فإن في أسلمة الحضارة العالمية، تأتي الحلول العقلانية ناجعة لكل الأزمات. وأولوية بناء الأسرة والتأكيد على شيوع الأعراف الإيمانية في حياة أفرادها تبقى مسألة ذات مدعاة للاستئناس بمعايشة أنسب وأقرب لروح الفطرة، فالمرء مجبول على اجتماعية وشائجه، وكيفية الوصول إلى أسلوب مخاطبة أجدى لإيقاظ الروح عند الآخرين كي تكون هي الممسك الأول في حياة الفرد والمجتمع، يعني النجاح ذاته على كافة الصُعد.

إن الإسلام والحضارة يكادان أن يشكلا في المفهوم الإسلامي (مصطلحاً واحداً لا يمكن أن يناقض أحدهما الآخر. فالإسلام في خلاصة غاياته هو دين تمدن وحضارة، وكل من استقرأ تاريخ الحضارات الإنسانية القديمة، وقف مبهوراً أمام منجزات الحضارة الإسلامية، واعترف بعلو راية عالميتها، لذلك فإن النظر إلى الدين الإسلامي الذي يحاول البعض أن ينظر إليه كـ (أطلال) فقدت بريقها وتأثيرها على الحياة المعاصرة، موهوم في تطلعاته والإسلام الحقيقي عند الإمام الشيرازي مثلاً، عنوان كبير لا يعلو على اسمه أي عنوان أيديولوجي آخر، إذ هو دين إلهي يؤكد على وحدة الإخاء الإنساني، ويقدم لذلك نظاماً صافياً من شوائب ومنغصات الحياة، ويوفر منطلقات مقيدة بمبادئ الإيثار، بكل ما تحويه هذه الكلمة من معاني ومباني، لمزية العيش بروح المدنية الحقة... يقدم الإمام الشيرازي مفهومه المعمق حول النفس الحضاري في الإسلام، فيقول في مقدمة كتاب له عنوانه: (بقايا حضارة الإسلام كما رأيت) الصادر في طبعته الثانية سنة 1420هـ - 2000م عن مركز الرسول الأعظم (ص) للتحقيق والنشر وبنص على الصفحتين (9) و(10): (الإسلام له حضارة خاصة تتسم بطابع الإيمان والفضيلة والتقوى والأطمئنان والنظافة، والنظام، وقلة المرض والجهل والفقر، وكثرة التعاطف والتعاون وما أشبه، فإذا دخلت في المدنية كانت أكثر روعة..، كما أن التكنولوجيا إذا دخلت في الحضارة الإسلامية ظهر بريق الحضارة أكثر فأكثر..)

* زمام الإسلام الحضاري

إن أخذ زمام الأمور فيما يقره الإسلام إذا أتيحت فرصة العمل به في أي مجتمع، فسوف تكون الحركة الاجتماعية نحو شاطئ الفضيلة أمر في منتهى اليسر، حيث المشاركة الوجدانية والمروءة المتبادلة بين الناس، وغير ذلك مما يجب التفاني من أجل استحقاقاته على طريق تقويم مسيرة العيش والحياة، حيث معرفة الحريات المسؤولة، (البعيدة عن المباحات) فبذاك تصنع الثقة المتبادلة بين الناس، وتستحب مسألة الاتقان في تقديم العلاقات بأطباق من الود والاحترام للآخرين، فتشيع مبادئ المودة والسوية بين الناس، فالكل يعرف حدوده المشروعة التي تنتهي عند بدء الحدود المشروعة عند الغير، فتقل وتضمحل المشاكل، فيعيش الناس في حالة سلام واطمئنان وصفاء على أساس من كنز القناعة التي لا تفنى كما يقول أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) حيث يتوج كل شيء في الالتزام السمح بالدين.

إن الإسلام الذي يستمد قوة نشره من الله سبحانه وتعالى، ما زال بألف خير، رغم كل محاولات أعدائه الخارجين والداخلين، ولعل نظرة واحدة إلى تواجد امرأة محجبة يذكر بقوة بناء الإيمان في الصدور وحالة الحجاب الذي يعتبر أحد أهم مظاهر الحضارة في المجتمعات الإسلامية، لحُريّ أن تستقطب إليها بقية جمهرات النساء، ذلك أنهن شقائق الرجال في عملية البناء النفسي والاجتماعي، ولهذا يمكن الحكم أن لا حضارة في أي مجتمع، دون وجود ملموس للحجاب، فمن المرأة ينطلق تحديد نوع العلاقات الإيجابية أو السلبية في أي مجتمع، ذلك أن للحجاب الصحيح تأثير في تربية كل جيل نحو التربية المطلوبة.

وبهذا الصدد يقول الله عز وعلا في محكم كتابه العزيز القرآن ضمن الآية (30) من سورة النور، منوهاً إلى الكيفية التي يحبها سبحانه وتعالى أن تكون عند جمهرة المؤمنين، إذ تنص (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم أن الله خبير بما يصنعون).

وفعلاً إذ تعتبر المرأة حجر الأساس في عفة أي عائلة، فإن زيادة المتعففات في المجتمع، تبقى هي الطموح السائد في تسيّد أقصر طرق الحضارة، التي يتطابق فيها الادعاء مع الواقع الذي يقدم أمثلته الحية حين يكون الحكم للعقل والعقلانية في وزن الأمور، وبذاك فقط يمكن أن تساهم كل حضارة بما لديها من علاقات روح، ستجد صداها في الإسلام، الذي يخاطب المرء في صميم حمية ضميره، كي ينصف الآخرين من خلال معرفة أفضل لغاية وجوده في هذه الحياة المؤقتة التي ستعقبها حياة الخلد في جنة الآخرة إن شاء الله.

جبار محمود