حقوق الإنسان السجين في فكر الإمام الشيرازي

جبار محمود

تعيش البشرية في هذه الحقبة الزمنية العصيبة في تاريخها، مأساة حقيقية بفعل التدخلات السياسية اللاشرعية في كل المجالات الاجتماعية، وتوطئة لمثل هذا التوجه المفروض، أضحى الناس يتقاسمون المعاناة والهموم على مضض، حيث تراجعت علاقات الروح والأخلاق بخطوات سريعة إلى الوراء فكثرت الدعوات من أجل استرجاع الشيء الممكن من حقوق الإنسان، ومن بين ركام هذه الأزمة المفتعلة التي تقف وراءها شوائن سياسات (الجاهلية الحديثة) التي تفتقد إلى قوة البيان في تبرير نهجها. لذلك بدأت الحاجة الماسة تتجه نحو الإنسان السجين، وبالذات من هو متهم باعتناق مبدأ ضمن اختياره الذي تجيزه له القوانين الوضعية الدولية، ولائحة حقوق الإنسان المقرة في توثيقات الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة منذ سنة 1948م، ناهيك عن الإسلام العظيم بنص آية قرآنه الكريم القائلة: (لا إكراه في الدين) قد نوهت أن بلورة الثقافة الإنسانية في كل خطوط معتنقاتها ينبغي أن تكون ركيزة أولى بأي عمل واعٍ، والإمام محمد الشيرازي قد تفقه في معرفة أبعاد مشاعر السجين وهو داخل زنزانته، فكرامته كإنسان في فكر الإمام الشيرازي إذا ما استجمعت فيه خصال الشخصية الخيرة، ولم يكن قد اقترف عملاً يضر بمصالح المجتمع الذي يعيش بين جنبات ناسه، فلا يوجد أي مسوغ لاضطهاده وإيداعه السجن. ولكن امتلاك مثل هذا النفس الطيب أين نجده في عالم السياسة القاسي الذي يحيط بالبشرية من كل جانب؟!.

* الحقوق الثابتة للسجين

في كتيب (كيف ينظر الإسلام إلى السجين) لمؤلفه الإمام السيد محمد الشيرازي الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1420هـ - 1999م عن مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر – بيروت – لبنان، تفرض العبارة التالية نفسها الواردة في الصفحة (7) حيث استهل بها الكتيب مقدمته: (السجين إنسان له كرامته وحريته المقررة من قبل الله سبحانه وتعالى.. فمن الضروري على الدولة الإسلامية وغير الإسلامية مراعاة السجين مراعاة تناسب كرامته).

ومما تجيزه القوانين العقلانية من حقوق ثابتة للسجين إن معالجة الكثير من طموحاته أمر ممكن التحقيق، فالسجن في المفهوم القانوني الإصلاحي ليس زنزانة مغلقة يكبل فيها السجين بالأصفاد، ولا يرى النور إلا لماماً عند مرات استدعاءاته إلى مكاتب لجان التحقيق، ففي بعض الدول المتقدمة والنامية أيضاً يمنح السجين بين فترة وأخرى إجازة لأيام معدودة، يقضيها بين ظهراني أفراد عائلته ومحبيه، حتى إذا ما أطلق سراحه بعد انقضاء مدة محكوميته لا يكون شعور الاغتراب عن مجتمعه قد سيطر عليه. والإسلام يتسم بفيض من التعامل الإنساني مع المخالفين لشريعته السمحاء، ويكفي الدولة الإسلامية فخراً وهي في عز مجدها وعدلها أثناء فترة حكم الإمام علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) أن سجيناً واحداً لم يكن ماكثاً في أي سجن، فرصانة العدالة كانت سارية والناس كانوا حريصين أن لا يقترفوا المخالفات حياءً من عدل إمامهم وزهده وتواضعه معهم، حيث لم تفصله عنهم مقتضيات إدارة الحكم وأبهة القيادة.

وما يعنيه الإسلام من غاية إبقاء ردهات السجن مفتوحة، لا تُطبق إلا في آخر مطاف التعامل مع المخالفين لطباع الإنسانية المطلوبة في كل عهد، فحل مشاكل السجين ليست بتلك الصعوبة التي قد يتصور البعض أن التشديد الفائق فيها على حرية السجين، تعطي احتراماً للدولة، بقدر ما تعطي غطة التحسب عند الطلقاء من أهوال السجون، فإذا كان (الدين هو المعاملة) بحسبما حدد تعريفه رسول الإنسانية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن السجين أولى بالمعاملة الحسنة كونه الطرف الضعيف في معادلة تطبيق الحق خصوصاً في الفترة التي تسبق إصدار الحكم عليه.

ولعل من إقرار الإسلام لحقوق السجين أن أجاز له إدارة أعماله (إن وجدت) وهو داخل السجن، وبهذا المعنى العام يقول الإمام الشيرازي كما ورد في حقل (حرية المعاملات) الوارد نصه على الصفحة (9) من كتيبه الآنف، أن هناك صيانة إسلامية لـ (حرية السجين في إجراء جميع المعاملات من البيع والشراء والرهن والإجازة والمضاربة والمزارعة والمساقاة والحوالة وحتى الكفالة في صورها الممكنة، وغيرها، سواء في داخل السجن أو خارجه، بواسطة الهاتف أو عبر الوكيل أو ما أشبه..).

* تطبيق القوانين دون تمييز

يشكل الالتزام بتطبيق القوانين دون أي تمييز بين الناس، مدعاة للاعتداد بأن العدالة مطبقة على الجميع لا تستثني أحداً، بسبب تمتعه بجاه أو مال، أو موقع اجتماعي رفيع، وفعلاً فحين لا يكون هناك مكان للمحسوبيات والمنسوبيات في أي مجتمع فالبناء فيه سيكون سارٍ ابتداء من بناء النفوس قبل تشييد المدن.

والسجين حين يكون في محنته وهو خلف القضبان قد انتبه لها الإسلام عبر خطوطه الإنسانية التي تستهدف صلاح السجين، بعد فترة سجنه، لا أن تمهد للإبقاء على تعقيداته النفسية والشخصية، التي ربما كان عليها قبل دخوله حياة السجن، فالمطالعة وممارسة الهواية، والإلتقاء الدوري بالعائلة، وممارسة المهن، وتعلم الصنعة، مع المراعاة التامة لصحة ومأكل ومشرب السجين ونظافة المكان، فالمهم أن تبذل للسجين كل المساعي الخيرة، التي تضمن له الارتياح النفسي، وبهذا الصدد يذكر الإمام الشيرازي في نص من مؤلفه المذكور ورد في مستهل الصفحة (15) إذ يقول: (إذا كان السجين في أزمة نفسية لزم السماح له بمراجعة الطبيب النفسي، وإذا لم يكن يشعر هو بذلك أحضرت له إدارة السجن الطبيب النفسي، وإذا احتاج النقل إلى المستشفى للعلاج نقل إليه، كما يلزم في السجن توفير ما يوجب الارتياح النفسي للسجين وعدم ما يسبب الانزعاج وما أشبه).

ولا يخفي الإمام الشيرازي شيء مما يجول في الخاطر لنصرة السجين، وضمان حقه بعد أن يصبح في قبضة السجانين، فالمرأة السجينة لها حقوق ممارسة رعاية أطفالها، وذلك بإتاحة فرص الارتباط الدائم لها معهم بعد أن يخصص لها مكان خاص للنساء يكون في منأى عن السجناء الرجال من باب حفظ الخصوصية لهن.

ومن حقوق السجين التي ينبغي أن تمارس لصالحه أن تهيأ له الفرص لتقديم شكاواه على ما يراه إجحافاً بحقه وهو داخل السجن بما في ذلك إحضار محام للدفاع عنه، فإذا لم يكن لديه مال لأجر المحامي، فإن إدارة السجن ملزمة أن تدفعه من مالها المخصوص، ومن فيض النظرة الإنسانية نحو السجين وحقوقه الثابتة في الإسلام تأييد الإمام الشيرازي بأن منع العقوبات القاسية الموجهة مع السجناء تحت أي ذريعة كـ (ذريعة التأديب) مثلاً فيعتبر أمر مستنكر، إذا لا يجوز وضع السجين في زنزانة إنفرادية، ولا في مكن مظلم، ولا يجوز تعذيبه جسدياً أو نفسياً تحت أي ظرف كان.

وهكذا فرغم موانع القضبان التي تفصل حياة السجين عن حياة الآخرين الذين يتمتعون بالحرية خارج أسوار السجن، يبقى السجن مدرسة لا يتعظ من دروسها إلا النبهين، والدعاء لإطلاق سراح كل السجناء المظلومين في العالم، واجب على كل مسلم ومسلمة، فعسى أن يريهم الله نور الحرية بعد أن قيدوا بظلمة الاستبداد وجهالة المستبدين.