حياة الإمام الشيرازي بين المهمة الأخطر والهم الأكبر

جعفر محمد موسى - مركز الإمام الشيرازي للبحوث والدراسات

بعد ثورة العشرين الوطنية الكبرى في العراق والتي كان من أهم نتائجها قيام الدولة العراقية الحديثة سنة (1921) وبسبب الدور القيادي الذي قامت به المرجعية الدينية التي كانت عندها تحت زعامة الإمام محمد تقي الشيرازي، لتلك الثورة؛ فقد عملت بريطانيا التي اجبرها الثوار على تغيير مخططها الذي رسمته للعراق بعد إكمال احتلالها له في عام (1918)، والذي كان يتضمن فيها إلحاق ولاية البصرة بحكومة الهند البريطانية مباشرة، وتوطين ثلاثة ملايين هندي من طائفة السيخ في جنوب العراق لتغيير الطبيعة الديمغرافية والدينية والمذهبية، بعد وقوف شيعة العراق بوجه الاحتلال ورفضهم التعاون مع المحتلين. بعد ذلك عملت بريطانيا على رسم مخطط جديد للعراق، يقوم على شقين:-

الأول: ضرب القيادة الجماهيرية لمسلمي العراق، المتمثلة بالمرجعية الدينية، وفك أواصر الارتباط ووشائج الصلة بينها وبين قاعدتها الرئيسية في بنية المجتمع والشعب العراق.

الثاني: رسم هيكل الدولة العراقية، بالشكل الذي يؤدي إلى حرمان الأغلبية الشيعية من تولّي أية مسؤولية، وإبعادهم عن لعب أي دور في رسم سياسة العراق وتقدير مستقبله كدولة وكوطن وكشعب، وإقصائهم عن القيام بأي تأثير فاعل في الحياة السياسية للدولة الجديدة، وتسليم قيادة الدولة والجيش بيد أشخاص يرتبطون بها (بريطانيا) بعلاقة التبعية ويدينون لها بالولاء المطلق والطاعة العمياء، وبما يؤمن لها تحقيق أطماعها الشريرة بثروات وخيرات العراق.

ولقد قامت بريطانيا بتنفيذ مخططها المشار إليه أعلاه، بشكل منهجي مدروس، بكل دقة، في خضم هذه الإحداث، وخلالها ولد الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي ( رحمه الله)، ولكونه من أسرة توارثت العلم والأدب والجهاد في سبيل الله والأمة الإسلامية، ومن ضمنها العراق، فقد نشأ وكبر وهو يحمل هم الوطن، ومن بعد أن صار واحداً من ابرز المراجع الدينية على الساحة العراقية و الإسلامية، أخذ على عاتقه مهمة إبقاء المرجعية الدينية كقائدة للجماهير المسلمة في العراق.

لذلك يكون الإمام الراحل قد عاصر أهم واخطر فترات تاريخ العراق السياسي الحديث، وعلى امتداد قرن من الزمن تقريباً، فولادته كانت في بداية القرن العشرين المنصرم، ووفاته صارت في بداية القرن الحادي والعشرين الحالي، وفي هذه المنطقة الملتهبة من العالم.

ولم يكن موقف الإمام الراحل ( رحمه الله ) من كل الأحداث التي شهدها وطنه العراق وعاصرها موقف المشاهد, المتفرج، أو المؤرخ المسجل فقط، بل كان موقفه هو موقف الفاعل والمحرك ايضاً.

فكان مثالاً للعالِم المسؤول الذي لا يكتفي بإصدار الفتاوى وتوجيه الإرشادات وحسب، بل ويعمل على إصلاح الأمة وإنقاذ المجتمع، ويواجه الحكام وطغيانهم وظلمهم وتعسفهم بكافة أبعاده وأشكاله وألوانه، لأنه أخذ على نفسه أن يحمل لواء التصدي للمخططات الأجنبية التي استهدفت سرقة خيرات الوطن، وتدمير قواه الفاعلة، وخاصة مرجعيته الدينية الشرعية.

فهو وفي معظم كتبه التي كتبها والتي تنوعت مواضيعها ومباحثها، تجد العراق حاضراً فيها، ونستطيع أن نقول ومن خلال دراستنا لتلك الكتب، أن منهج الإمام الراحل في تحليله لتأريخ العراق الحديث لم يكن منهجاً سردياًَ كما هو شأن معظم المؤرخين، بل كان منهجاً تحليلياً، تستطيع أن تلمس منه عمق الصلة التي تربط بين الكاتب وموضوعه (العراق) وصدى ما يحمله له من حب. كما انه منهج يبحث في الأسباب والعلل لكي يوصلك بعد ذلك إلى استخلاص الدروس والعبر، ويحدد طرق ومسالك الحل. ففي كتابه (وتلك الأيام... صفحات من تأريخ العراق السياسي) كتب سماحته شارحاً وبعلمية وموضوعية؛ الأوضاع السيئة والصعبة التي عاشها العراقيون في ظل( احتلالين)، العثماني و البريطاني. فيقول في الصفحة 13منه: مر العراق بمراحل عصيبة في تاريخه السياسي، وقد تكالبت عليه قوى الشر للنيل من مكانته المرموقة، ولنهب ثرواته وخيراته.. ثم يضيف قائلاً: فحكمه العثمانيون قرابة أربعة قرون بين مد وجزر، وعانى الشعب خلالها الضنك والحرمان السياسي و الاضطهاد العرقي والتأخر الثقافي وسوء الأحوال الاجتماعية واستمر على هذا المنوال حتى احتلال العراق من قبل البريطانيين عام1333/ هـ. وبعدها يبين (رحمة الله) حال العراق في ظل الإنكليز، فيقول: وكان الإنكليز اشد وطأة وأكثر حقداً من العثمانيين في التفرقة والتمييز الطائفي والاعتماد على سياسة ( فرق تسد)..

ثم يكتب كاشفاً وموضحاً حقيقة الأهداف والنوايا الاستعمارية والخبيثة، التي احتل الإنكليز العراق من اجلها، وما قاموا به من أعمال تعسفية تجاه الشعب العراقي، فيقول في نفس كتابه المشار إليه: وقد نهبوا ثروات العراق وفرضوا عليه أنظمة ومبادئ لا تتفقا مع معتقدات الشعب الدينية و أوضاعه الاجتماعية، ومناهجه الفكرية، وفرضوا عليه ضرائب قاسية وأوجدوا الشقاق والتناحر بين العشائر وهو بهذا قام بفضح المخططات البريطانية التي نوهنا عنها بدية مقالتنا هذه.

كما بين وبزهو وفخار تصدي العراقيين وبطولاتهم لدحر المحتلين وإفشال مخططاتهم، مبرزاً دور المرجعية الدينية في قيادة الجماهير المؤمنة، حيث قال: ولكن الحوزة العلمية بقيادتها الدينية المتمثلة بالإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي- والذي يعد رائد التحرير في العراق- تصدت لهذه المؤامرة، حيث استطاع المسلمون العراقيون وعددهم لا يزيد على الأربعة ملايين نسمة وبقيادة الإمام الشيرازي من الانتصار على أعظم إمبراطوريات العالم، الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ( بريطانيا) القوة العظمى ذلك اليوم. وفي مكان آخر أضاف سماحته مسطراً البطولة العراقية وهزيمة قوات المحتلين فقال: فانهزمت القوات البريطانية مقابل (المكوار) بعد أن تكبدت خسائر فادحة بالأرواح والمعدات.

وفي تحليله لفترة العهد الملكي، يوضح رحمه الله صلة الحكام بالمستعمرين الإنكليز كما ويكشف زيف الاستقلال الصوري الذي منحته بريطانيا للعراق سنة 1932، ثم ينتقل إلى فترة الأربعينات والخمسينات، فيبين سوء الحالة التي وصلها العراق في تلك الفترة، فيقول في كتابه نفسه: إن الحكومات التي تعاقبت على العراق في العهد الملكي أبقت العراق ضمن رابطة الشعوب البريطانية- ومن يتصفح بنود المعاهدات التي برمت خلال تلك الفترة مع بريطانيا تتجلى له هذه الحقيقة- ثم يضيف قائلاً: ثم اشتدت محنة الشعب في حقبة الأربعينيات والخمسينات، وعصفت به رياح الاستغلال وتقاذفته أمواج التبعية، وخنقت فيه الأحزاب وزيّفت الانتخابات وقيّدت الصحافة، وتردّت الأوضاع المعيشية للناس، وحظر النشاط السياسي وعلى الخصوص في فترة الاحتلال العسكري الثاني عام 1360هـ.

و لأن ما فعله ويفعله النظام الدكتاتوري الحالي لم يفعله ليس أي حكم سابق في العراق فقط بل وكذلك أي نظام مستبد مر على تاريخ البشرية كله. فقد ولاه الإمام الراحل الاهتمام الأكثر مما كتب في تاريخ العراق، ولذلك تراه ايضاً يتحدث عنه ومن مختلف الجوانب في العديد من الكتب. فقد قال عنه في كتابه (إلى المجاهدين في العراق) وتحت عنوان (ليل العراق المظلم) في صفحة (28) مايلي: خلاصة الكلام لم تمر بالعراق فترة أظلم من هذه الفترة أطلاقاً، حتى في عهد التتار والمغول الذين سودوا صفحات التاريخ.

وما نعيشه اليوم من اهتمام العالم بأسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها النظام الحاكم في بغداد، فقد اهتم بها سماحة الإمام الراحل، اهتماماً خاصاً، وأولاها أهمية كبيرة، وربط بين بناء النظام لترسانة أسلحته، وبين فقر الشعب وجوعه ومرضه وتخلفه، فقد كتب وفي الصفحة(51) من كتابه (المتخلفون مليار مسلم) حول ذلك الموضوع ما يأتي:

حزب البعث الحاكم في العراق - مع ظروف العراق الصعبة والقاسية- يعيش التخمة والبذخ ويبني ترسانته العسكرية وأسلحته الجرثومية، بينما الشعب العراقي المظلوم يئن تحت سياط الجوع والفقر والجهل والمرض، ولقد صدق إمامنا أمير المؤمنين (ع) حيث يقول في نهج البلاغة:" ما رأيت نعمة موفورة ألا و إلى جانبها حق مضيع".

وعلى الرغم من كل المحن والإحن التي تعرض لها شعب العراق، وكل ما لاقاه وعاناه من مصائب وكوارث ونكسات على أيدي المستبدين الطغاة، والتي لم يمر بها أي شعب في العالم من قبل تلك التي جعلت الكثير من العراقيين سواء كانوا من عامة الناس أو حتى من الزعماء يعيشون حالة اليأس والإحباط وفقدان الأمل بنهاية ليل الحاكمين الظالمين.

ألا أن الإمام الراحل، ولما عرف عنه من رواية ثاقبة للأمور، وكونه مؤمناً فهو يحمل في جنباته قلباً شجاعاً جسوراً، لا يعرف الهزيمة والتخاذل ولا الإحباط والقنوط، فانه ظل متفائلاً بحتمية انتصار الشعب العراقي القريب، وهو ما تؤكده الأحداث السياسية والوقائع واتجاه مسيرة الأوضاع والظروف الدولية الحالية كلها، والتي تشير وبما لا يقبل التأويل، إلى حقيقة حصول التغيير في العراق وفي المدى المنظور والقريب، إنشاء الله.

لقد سبق سماحته (رحمه الله) كل المحللين السياسيين والباحثين والاستراتيجيين إلى ذلك، فقال في كتابه (العراق... ماضيه ومستقبله) الصادر قبل أكثر من عام من الآن مايلي: تشير الظواهر إلى أن أوضاع العراق السياسية مقبلة على تغيرات سياسية جديدة وان حزب البعث لا يبقى طويلاً في السلطة.

هذه الرؤية الاستشرافية للمستقبل تعطيك دليلاً آخر على دقة التحليلات وعمق الرؤية وقوة الحدس الذي كان يتمتع بهما الإمام الراحل.

وهكذا انتهت حياة عاشها رجل، لم تعرف روحه الراحة، كما لم تهدأ نفسه ولو للحظة، ولم يكن يرضى بأن يهادن ذاته ولو لهنيهة واحدة، لكونه ضم بين جنبات تلك الروح؛ المهمة الأخطر المتمثلة في إبقاء الصلة مستمرة بين المرجعية وقاعدتها الجماهيرية، وايضاً كونه كان يحمل الهم الأكبر، وهو همّ وطنه العراق، حيث ظل يعمل لأجل تحريره من أيدي الطغاة حتى آخر لحظة من حياته الحافلة الطويلة، ومات وعيناه الدامعتان ترنوان شوقاً إلى حيث مثوى جده الحسين (ع) في مدينة كربلاء المقدسة، وحيث أرض العراق الطاهرة.
 

مركز الإمام الشيرازي للبحوث والدراسات

مؤسسة الإمام الشيرازي العالمية