فِلِسْطِيْنُ يُحَرِرُهَا مَنْهَجُ الحُسَيّنْ(ع)

محمّد جواد سنبه

من معطيات التجارب الإنسانيّة، أنّ التاريخ يكتبه المنتصرون. هذه حقيقة طغت على عقليّة البشر على مدى الأزمان. لكن المعياريّة التقيميّة للإنتصار، يجب أنّ تخضع لضوابط معيّنة، ومن أهم هذه الضوابط، لا بل في مقدمتها، أنْ تكون قضيّة المنتصرين، مستندة إلى مشروعيّة الحقّ.

 وعلى أساس هذا الاعتبار، يمكن أنْ نقيّم إنتصار أوانهزام، أيّة قضيّة حدثت عبر التاريخ الإنساني في مساره الطويل . فلو اعتبرنا تقييم الإنتصار بكثرة الخسائر البشريّة، التي يمنيها الطرف المنتصر بالطرف الخاسر، فإنّ تقييمنا لم يكنْ صائباً. لأنّ الإنتصار لأي قضيّة، يجب أنْ يحسب، بدوام واستمراريّة عواقب نتائج المعركة، وبمقدار تحقيق الأهداف النهائيّة الثابتة لقضيّة حسم النزاع .

إنّ نهضة الإمام الحسيّن(ع) التي أفضت إلى فاجعة كربلاء الأليمة، لم تحقق نصراً عسكرياً كما هو معروف، إلاّ أنّها حققت انتصاراً باهراً، في ميدان التصحيح العقائدي والفكري والسلوكي، في موضع الخلل الذي أثار الصراع، لتصحيح الانحرافات الطّارئة. هذا الإنتصار هو الذي وضع حداً لانهيار مفاهيم الإسلام الأصيلة، وهو الذي حفظ قضيّة الإمام الحسيّن(ع) في ذاكرة التاريخ، وبقيَت شاخصة للأجيال المحبّة للحقّ والحريّة.

إنّ الذين يعيشون نهضة الإمام الحسيّن(ع) وجدانيّاً، تتغنى ضمائرهم بترنيمة الفداء والإباء، التي خَطّ سطورها أبو الأحرار الإمام الحسيّن(ع)، بأحرف من نور سجّلها ببهاء الحقّ. وأكبر دليل على انتصار المبادئ على السلاح، بقاء صدى الإمام الحسيّن(ع)،  يتردّد في الضمائر والأرواح، التي تبغض الظلم وتحبّ الحقّ والحريّة، ليس عنّد المسلمين فحسبّ، إنّما نجد ذلك في ضمير (المهاتما غاندي)، وبولص سلامة، وجورج جرداق، وغيرهم الكثير بحيّث لا يمكن حصره، وكذلك نجد نفس الصّدى، في ضمير كلّ حرّ يأبى الضيّم. بيّنما أعداء الإمام الحسيّن(ع)، لا يذكرهم لا الحاضر ولا المستقبل، إلاّ بالخزي والشنئان واللعنة، بالرغم من كثرتهم العدديّة، التي ناهزت الأربعة آلاف، بناءً على أقلّ عدد ذكرته الروايات، في حين لم يزدّ معكسر الإمام الحسيّن(ع)، عن نيّف وسبعين رجل وامرأة، بناءً على أكثر عدد ذكرته الروايات.

انقضت أربعون يوماً، على ذكرى فاجعة كربلاء، وكأنّ الزّمن الذي طوى الفاً وأربعمائة سنة تقريباً على تلك الحادثة، قد أوقف مسيرته في سنّة التقادم، لأنّها نهضة تستبطن التّصحيح، فهي تعيش التجدّد ذاتياً، والإنسان يحتاج إلى هذا التّجديد، الذي ينطوي على التّقويم، وكأنّ هذه الحادثة حصلت بالامس القريب. هذه الواقعة التي أعادت للإنسان الصالح، وللإسلام الصحيح، حيويّتهما في البقاء، لأنّها نصرت الحقّ. والحقّ مبعث الوجود الحقيقي للإنسان العزيز، (كطالب للحقّ)، وللإسلام المجيد، (كمدافع عن الحقّ). لنّ تبيّد واقعة عاشوراء، ولنّ تضمحلّ قضيّة الإمام الحسيّن(ع)، ولنّ يمحوها الزمن على الإطلاق، لأنّ سرّ خلودها يكمن في أحقيّتها، وفي مقارعتها للظلم والعدوان والتعسف. والصراع بين الظلم والعدل، والحق والباطل، هي أساس بقاء الوجود، وسبب استمرار ديّمومة الحياة، وهذا الصراع الأبديّ، سنّة الهيّة تكوينيّة، تُجدِّد الحياة وتنشّطها باستمرار.

عنّدما نستذّكر بيقين ووعي وقناعة، نهج أبي الأحرار الإمام الحسيّن(ع)، فإنّنا نقترب أكثر، من فكر وأخلاق وأهداف الإمام الحسيّن(ع)، بعدما أجهدنا أنفسنا بالإبتعاد عنها، وهجرانها ردحاً من الزمن. فلا ننسى بأنّنا أصحاب قضيّة مشروعة، قضيّة فلسطين التي تطبّعنا، على قبولها كما هي (كأمر واقع)، والتي تكاد أنْ تذوب وتتشكّل في قالب جديد. هذا التّشكّل الجديد الذي رسمه وصنعه، وحدّد معالمه القادة العرب، ومؤسستهم الرسميّة منظمة الجامعة العربيّة، على مدى عقود طويلة، من الفشل والتمزّق والتداعي والألم. فأصبحنا نقرأ قضيّة فلسطين برؤية مخالفة لرؤيتنا، في زمن الستينيّات والسبعينيّات من القرن المنصرم.

 كنّا نفهم قضيّة فلسطين في الماضي، أنّها قضيّة شعب اغتصبت أرضه، وشرّد شعبه، واهتضمت حقوقه. أمّا الآن فهذه القضيّة يُراد إفهامها لنا، بأنّ السلام مع إسرائيل سيصنع دّولة فلسطينيّة مستقلّة. إنّ محنة الشعب الفلسطيني، لا يمكن التغلب عليها، ما لم تؤمن الشعوب العربيّة عموماً، والشعب الفلسطيني خصوصاً، بأنّ الأعم الأغلب من الحكّام العرب، طلاّب سلطة وليسوا طلاّب حقّ. ولأجل وضع قضيّة فلسطين في إطارها السّليم، يجب على الشعبين الفلسطيني والعربي، أخذ الدّروس من المنهج الثوري الحسيّني، باعتباره يسجّل الإطار الآيديولوجي، لقضيّة التّصدي للظلم والثّورة بوجهه. وهو الطّريق الوحيد، الذي يوصل جميع الثوّار في العالم، إلى مسيرة النّهوض بوجه الإستسلام والخنوع . فوحشية الظّلمة المستبدّين التي مثلّت بالحسيّن(ع) ومن معه، تتكرّر دوماً في جرائم العصر البربريّة، التي ينفّذها الإسرائيليّون وغيّرهم، في إبادة وتدّمير الشّعب الفلسطيني.

 وكانت حرب اسرائيّل في كانون الثّاني 2009، التي شنّتها على غزّة، والتي دمّرت شعبها وأرضها، بكل وحشية وهمجية وخسّة، منافية لجميع المعايير الأخلاقيّة، وبعيدة كلّ البعد عن الضمير الإنّساني بكلّ مقاييسه. إنّ فلسطين لنْ تتحرر، ما لم يرفع وينفّذ شعار الإمام الحسيّن(ع): (هيهات منّا الذّلة).

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 22/شباط/2009 - 26/صفر/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م