بعد ان ذهبت سكرة الانتخابات

قراءات في النتائج

نـزار حيدر

اولا: هذه الانتخابات ناجحة بامتياز، والدليل على ذلك هو نسبة المشاركة، فلو كانت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، قد اعلنت بان نسبة المشاركة (99,99%) على طريقة الانظمة الشمولية في بلاد (العرب) لشككت فيها جملة وتفصيلا، الا ان نسبة (51%) معقولة جدا، وهي تنسجم مع حجم التذمر الشعبي من الاداء الحكومي بالمجمل.

ثانيا: كما ان هذه الانتخابات نزيهة بامتياز، والدليل على ذلك ان قوائم اساسية منيت بالهزيمة الساحقة في معاقلها، كما هو الحال، مثلا، بالنسبة لحزب الدعوة الاسلامية، وبكل اتجاهاته وفروعه، في كربلاء، والمجلس الاعلى الاسلامي، بكل اسمائه ومسمياته، في النجف الاشرف، وحزب الفضيلة الاسلامي، بكل اسمائه ومسمياته، في البصرة، والتيار الصدري، بكل اسمائه ومسمياته، في ميسان، والحزب الاسلامي، بكل اسمائه ومسمياته، في المثنى والانبار، وما يطلق عليه صفة التيار الليبرالي، بكل اسمائه ومسمياته في مختلف المحافظات، والقائمة الكردية، بكل اسمائها ومسمياتها في الموصل تحديدا.

ثالثا: كما ان هذه الانتخابات واقعية بامتياز، عبرت عن التنوع في المجتمع العراقي بشكل دقيق الى درجة كبيرة، والدليل على ذلك انه لم يفز في اية محافظة من المحافظات الـ (14) اي من المتنافسين، بالنسبة المطلوبة للاستفراد بالسلطة وهي نسبة الـ (51%) لدرجة ان اكبر الفائزين فيها لم يحصل على نسبة تتجاوز الـ (25%) كما هو الحال بالنسبة الى قائمة (ائتلاف دولة القانون) طبعا باستثناء الموصل والبصرة، التي فازت فيهما قائمتي الحدباء ودولة القانون على التوالي بالنسبة المطلوبة، وبغداد التي زادت فيها نسبة الفوز عن النسبة في بقية المحافظات.

كما ان النسبة العامة في المحافظات الـ (14) التي حصل عليها اكبر الفائزين، وهو قائمة (ائتلاف دولة القانون) لم تتجاوز الـ (28.64%) اذ  توزعت المقاعد على ما يقرب من (50) قائمة.

رابعا: كما ان هذه الانتخابات كانت مجدية بامتياز، على العكس مما روج له الاعلام المعادي للعراق الجديد، والذي ظل يدعي بان اية انتخابات هي غير مجدية، لان نتائجها معروفة سلفا، على حد زعمه، فلقد ثبت لكل ذي عين بصيرة، بان النتائج لم تكن معروفة سلفا، حتى بالنسبة لاكبر القوائم واكثرها نفوذا، وهي قوائم احزاب السلطة، اذا جاز التعبير، اذ هلك فيها من هلك واستخلف فيها من استخلف، ما يعني بان الانتخابات في العراق الجديد مجدية جدا، وان حالها لا يشبه ابدا حال الانتخابات في اي بلد من بلاد (العرب) والتي تكون نتائجها محسومة عادة لصالح حزب السلطة، او لـ (صاحب العظمة) الملك المعظم.

كلمة لابد منها

لقد تعمدت تاخير كتابة هذا المقال قرابة ثلاثة اسابيع، وهي المدة التي مرت على يوم اجراء الانتخابات، وذلك لسببين؛

الاول: بانتظار النتائج النهائية للانتخابات، لتكون القراءة دقيقة وعلمية، فلا اقع في اخطاء وتخمينات قراءات الاخرين الذين استعجلوا الكتابة، فاخطاوا القراءة، اذ لم تات قراءاتهم دقيقة، بل اخذهم الاعلام وتاثروا بضجيج الدعاية وحكمتهم العواطف والميول وحاكمية (الحب والبغض) اكثر من الحقائق والارقام والاحصائيات.

ثانيا: آثرت الانتظار لحين ذهاب سكرة الانتخابات لتبقى الفكرة، لتاتي القراءات متانية وبعيدة عن اهوال التضخيم الاعلامي غير الدقيق.

ثالثا: احاول في هذه القراءة ان اكون مراقبا وليس منتميا، ولذلك اسعى ان اكون فيها محايدا، اقرا الواقع بعين المراقب، وليس بعين المنتمي.

القراءات

ان تدقيقا متانيا بالنتائج النهائية للانتخابات والتي اعلنتها اليوم المفوضية العليا المستقلة، تتضح لنا الحقائق التالية:

اولا: لقد ظل الدافع المذهبي والاثني هو سيد الموقف، فهو الذي لعب الدور الاكبر والابرز في تحديد هوية واتجاهات الفائزين، ولذلك لم تفز القوائم (الشيعية) في المناطق السنية، كما ان القوائم (السنية) لم تحقق شيئا يذكر في المناطق الشيعية.

حتى قائمة (ائتلاف دولة القانون) التي لم ترفع في شعاراتها اية صيغ دينية او طائفية او اثنية، فشلت في تحقيق نتائج تذكر في المناطق السنية، لان الناخب اخذ بنظر الاعتبار الهوية المذهبية لرمز القائمة، الا وهو السيد نوري المالكي.

ثانيا: في المحافظات الشيعية، وعددها (10) ظل التيار الديني هو سيد الموقف، اذ حصد ما نسبته (71%) من مجموع المقاعد، واذا كان في المرة السابقة قد حصد الاغلبية الكبيرة جدا من المقاعد بعنوان (الائتلاف العراقي الموحد) فانه قد حقق هذه المرة ذات النتائج ولكن باسماء الاحزاب والكيانات المنظوية تحت عنوانه، بمعنى آخر، فان التيار الديني كان قد اكتسح الشارع في الانتخابات الماضية باسم واحد، اما هذه المرة، فقد اكتسح الشارع بعناوينه المتفرقة، وتبقى النتيجة واحدة.

كما ظل التيار الديني سيد الموقف في كل المحافظات الـ (14) اذ حصد ما نسبته (60%) من مجموع المقاعد الـ (440).

بالاضافة الى ذلك، فان (الائتلاف العراقي الموحد) بمكوناته المختلفة، ظل سيد الموقف في هذه المحافظات، اذ حصد ما نسبته (53%) من مجموع المقاعد.

ثالثا: لم يحصد اليسار اية ثمار تذكر، فقد خرج من الانتخابات خالي الوفاض، ما يدلل على ان العراق خال من اليسار، بعد ان حقق الحزب الشيوعي ما يساوي نسبة الـ (صفر) في الانتخابات، ربما بسبب تعنته في التمسك بـ (الثوابت) وعدم قدرته على التغيير بما يواكب روح العصر وحاجة الزمكان.

اما التيار القومي، فهو الاخر لم يحصد النتيجة التي ظل يتحدث عنها كثيرا قبل الانتخابات، باستثناء بعد النجاحات الطفيفة المتفرقة هنا وهناك، والتي يعتبرها البعض بانها حصاد لمخلفات النظام البائد، من دون ان يحسبها لصالح التيار القومي.

رابعا: النتائج تشير الى ان الناخب عاقب كل الاحزاب والتيارات، ولكن كل في موقعه، فحزب الدعوة مثلا، عاقبه الناخب في محافظة كربلاء المقدسة، وهي المحافظة الوحيدة التي كان يديرها خلال السنوات الاربع الماضية، وهكذا بالنسبة للمجلس الاعلى في محافظاته الست والتيار الصدري في محافظة العمارة، وهي الوحيدة التي كان يديرها سابقا، وحزب الفضيلة في البصرة، والقائمة الكردية في الموصل والحزب الاسلامي والمتحالفين معه في الموصل والانبار.

اذا اخذنا بنظر الاعتبار هذا التشخيص الدقيق والحقيقة الهامة، يمكن عندها معرفة السر الذي يقف وراء الفوز الكبير الذي حققته قائمة (ائتلاف دولة القانون) لان حزب الدعوة لم يكن يدير ويسيطر الا على محافظة واحدة ، وهي كربلاء، والتي عوقب بها، وربما لو كان يدير غيرها لعوقب بها كذلك، فغيابه عن الادارات المحلية تشفع له عند الناخب.

خامسا: دللت النتائج على ان الناخب لم يمنح ثقته بالحكومة المركزية، كما انه لم ياخذ بنظر الاعتبار انجازاتها التي يعتبرها الكثير بانها متعددة ومهمة، وانما الذي حدد اتجاهات الناخب امران:

الاول، هو سعيه لمعاقبة من اساء اليه خلال الدورة الانتخابة المنتهية دستوريا، ولذلك، كما اسلفت، فقد عاقب كل مسئ في موقعه الجغرافي.

الثاني، هو اخذه بنظر الاعتبار الواقع على الارض الذي تعيشه محافظته فحسب، بغض النظر عن الواقع العام.

وللتدليل على ما اذهب اليه، اسوق ما يلي:

اولا: لم تحقق قائمة رئيس الوزراء الاغلبية في اية محافظة من المحافظات التي فازت فيها، بالرغم من انه حاول توظيف كل الانجازات والنجاحات التي حققتها حكومته في حملته الانتخابية، فباستثاء البصرة والعاصمة بغداد، فان قائمة (ائتلاف دولة القانون) لم تتعد بفوزها، وفي احسن الفروض، الربع من المقاعد، وهي نسبة، كما هو معلوم، قليلة جدا، اذا ما قيست بالامكانيات المتاحة لرئيس الحكومة، والتي وظفها بالكامل ومن دون ان يوفر منها شيئا، في حملته الانتخابية.

ثانيا: لم تحقق نفس القائمة اي شئ يذكر في المحافظات السنية الاربع، فلو كان الناخب قد اخذ بنظر الاعتبار انجازات الحكومة ونجاحاتها، لمنح قائمتها نسبة يعتد بها من الاصوات، ما يدلل، مرة اخرى، على ان الناخب مدفوع بمصالحه المباشرة والتي يقراها ويجدها في محافظته، اكثر من اندفاعه باي شئ آخر.

سادسا: ولا ننسى ان نثبت هنا حقيقة في غاية الاهمية، افرزتها الانتخابات بشكل عام، الا وهي ان العملية السياسية فقدت تاييد ما لا يقل عن نصف جمهورها، وهم الذين قاطعوا الانتخابات ولم يشتركوا فيها، وهو الامر الذي يؤشر الى عدم رضى هذه النسبة عن اداء القادة والزعماء والسياسيين، الذين تسنموا سدة الحكم ومواقع المسؤولية، خلال السنوات القليلة المنصرمة، بثقة الناخب وبصوته، عبر صناديق الاقتراع.

وبرايي، فلو ان هذه النسبة من المقاطعين قد مارسوا حقهم الوطني وادوا واجبهم بالمشاركة في الانتخابات وليس بالموقف السلبي الذي تمثل بالمقاطعة، لكانت نتائج الانتخابات تختلف اختلافا كبيرا، ان لم يكن جذريا عما شاهدناه الان، اذ كان بامكان هذه النسبة ان تعبر عن سخطها وعدم رضاها بحجب الثقة عن ما هو موجود في مواقع السلطة والمسؤولية ومنحها لاخرين، ففي مثل هذه الحالة سيكون العقاب عمليا ومثمرا وليس سلبيا وغير مجدي.

سابعا: اذا قرانا ما خلف سطور النتائج، ربما تتضح لنا حقيقة في غاية الاهمية، الا وهي ان الناخب كان قد حدد خياره قبل يوم الانتخابات بفترة ليست بالقصيرة.

بمعنى آخر، فان الناخب لم يتاثر كثيرا بالدعاية الانتخابية، كما ان المال المصروف لم يلعب دورا خطيرا في تحديد خيارات الناخب، الذي ذهب الى صندوق الاقتراع بعد ان حدد اسم القائمة او الشخص الذي سيصوت له بعيدا عن ضوضاء الاعلام وحرب الدعايات الانتخابية، التي اشتد اوارها خلال الاسبوعين اللذين سبقا يوم الانتخابات والتي كادت ان تصل ذروتها بالتسقيط والتسقيط المضاد لولا لطف الله تعالى.

هذه الحقيقة تعني ما يلي:

اولا: سقوط نظرية الحشود التي اعتمدتها جل القوائم، خاصة التي تصورت انها كبيرة.

ثانيا: سقوط نظرية شراء الاصوات التي تحدث عنها الاعلام كثيرا، اذ ثبت بالدليل القاطع بان الناخب العراقي لا يبيع صوته باي ثمن، لانه يعتبره مسؤولية، وهو يتعامل به على هذا الاساس.

ثالثا: سقوط نظرية الاعتماد على الدعاية الانتخابية فقط، لكسب الاصوات، ما يعني اعتماد رفع الشعارات البراقة والوعود الخلابة لحين الفوز بثقة الناخب، ثم بعد ذلك، لكل حادث حديث.

رابعا: واخيرا، سقوط نظرية التسقيط وعد مثالب الاخرين من خلال تسخير الدعاية السوداء التي تقضي بممارسة التسقيط وتشويه الصورة والحقيقة، من اجل كسب ثقة الناخب.

لكل ذلك فازت قوائم ربما لم يسمع بها احد الا اهل المحافظة، كما ان قوائم فازت وهي لا تمتلك من المال لتوزعه على الناخبين لشراء اصواتهم، بالاضافة الى ان قوائم فازت وهي لم تتمكن من حشد تجمع كبير واحد كالذي حشدت اليه قوائم كبيرة اخرى.

في مقابل ذلك، فان قوائم صرفت من كنوز المال العام والخاص ما ان مفاتحه لتنوأ بالعصبة اولي القوة، وتمكنت من حشد الالاف المؤلفة وسخرت من وسائل الاعلام العامة والخاصة وعلى مدار الساعة، ما لم تشهده اية انتخابات اخرى في كل دول العالم بما فيها الولايات المتحدة الاميركية، وانا شاهد على ثلاث انتخابات رئاسية، ومع كل ذلك، فان النتائج التي حصدتها كانت في احسن الفروض متواضعة.

الا يدل كل ذلك على ان الناخب كان قد حسم خياره قبل موعد الانتخابات ربما بعدة اسابيع ان لم نقل اشهر؟.

و... الا يعني ذلك سقوط النظريات الثلاث الانفة الذكر؟.

ان كل ذلك لدليل قاطع على ان الناخب العراقي ارتقى بمستوى وعيه السياسي وتقديره الفعلي والعملي والواقعي للامور، بطفرات نوعية غير مسبوقة، اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار قصر مدة التجربة الديمقراطية الجديدة التي يمر بها العراق الجديد، بعد ان مر بتجربة نظام شمولي استبدادي ديكتاتوري دامت لوحدها قرابة اربعة عقود من الزمن الاسود.

ان المال والاعلام والدعاية المضادة لم تؤثر هذه المرة بخيارات الناخب، لان عقله سبق عاطفته، ومصالحه سبقت شعارات المتنافسين ومصالحهم.

ثامنا: ان من اكبر الاخطاء التي ارتكبتها بعض الكيانات، على الاقل في موقع او اكثر، هو محاولتها تحقيق الفوز بالفاشلين، بسبب عدم اكتراثها براي الناس الذي ظل يؤشر على فشل هذا المسؤول او ذاك، فكيف تنتظر قائمته ان تحقق فوزا ما وهي التي تدرج الفاشل على راس القائمة؟.

كان على كل القوائم الانتخابية ان تصغ، ولو لمرة واحدة، الى راي الشارع العراقي وتتحسس، ولو لمرة واحدة، نبض الشارع، لتعرف مكمن الفشل فتعتبر به ولا تكرر او تعتمد عليه، ما سبب لها مجزرة انتخابية رهيبة، لا يعلم الا الله تعالى كم ستكون بحاجة الى الوقت لتلملم جراحها، وتعود تقف على قدميها.

تاسعا: النتائج اكدت كذلك بان الناخب العراقي صوت بالاساس ضد الفشل على امل التغيير والاصلاح.

هذه الحقيقة ستنبه الفائزين بان صندوق الاقتراع لم يعد دعاية للنظام السياسي كما كان حاله ايام النظام البائد، وانما هو حقيقة قاسية، تهلك مسؤولين وتستخلف آخرين، ولذلك اعتقد بان الفائزين سيحرصون هذه المرة على الاستفادة من اسلافهم ليعملوا بشكل افضل وينجزوا بشكل احسن، ويتعاملوا مع الموقع بشفافية ومسؤولية اكبر، او هكذا يفترض ان كان لهم عقل او القوا السمع وهم يبصرون، فلا يمدوا ايديهم الى المال العام، ولا يحكموا المحسوبية والمنسوبية، ولا ياخذوا الرشوة، بل يعتمدون على الكفاءات والخبرات والعناصر الحريصة والنزيهة لادارة امور المحافظات، من اجل افضل الانجاز واحسن النتائج، فهم سيتذكرون بان (اليوم يوم له ما بعده) وان {غدا ناظره لقريب}.

عاشرا: واخيرا، فلقد كشفت نتائج الانتخابات عن حقائق (جانبية) هي في غاية الاهمية على صعيد الاحصاء السكاني، كما هو الحال، مثلا، بشان نسب الاغلبية والاقلية المذهبية في العراق وعدد من المحافظات المهمة، والتي كانت الى الان مثار جدل واسع بين العراقيين، فبينت النتائج، مثلا، ان نسبة الشيعة في العاصمة العراقية بغداد لا تقل عن (90 %) فيما كشفت النتائج كذلك عن ان نسبة الشيعة في العراق لا تقل عن (75%) اما محافظة البصرة فبينت النتائج انها شيعية بامتياز، اذ لم تقل نسبتهم عن (95%).

وفي محافظة نينوى، كشفت نتائج الانتخابات انها عربية بامتياز، اذ بينت ان نسبة الكرد في هذه المحافظة لا تزيد على (25%).

كما بينت نتائج الانتخابات، مدى التاثير السلبي التي خلفتها سياسات التغيير الديموغرافي التي اتبعها النظام الشمولي البائد ضد عدد من المحافظات، وكذلك عمليات التهجير القسري التي فرضها الارهاب الاعمى على عدد منها.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 22/شباط/2009 - 26/صفر/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م