روايات غزة: جرائم حرب لاتنتهي ودمار يفوق الزلزال

عند معبر رفح بين مصر وغزة تتقاطع المصائر

شبكة النبأ: استراحَت الاسلحة في قطاع غزة، لكن المسعفين الفلسطينيين لا يعرفون الراحة،  فمنذ أيام عديدة سحبَ هؤلاء من تحت الانقاض عشرات الجثث اغلبيتهم الساحقة من المدنيين الذين يبدو ان القدرات الحالية للمسعفين تعجز عن الانتهاء من جمعهم ولم أشلائهم الممزقة في الشوارع والبيوت وتحت الانقاض..

وعند معبر رفح بين مصر وقطاع غزة تتقاطع المصائر، على وقع هول الحرب. فبينما يفر مدنيون من القطاع يدخل اليه اطباء اجانب، جاؤوا للمساعدة وسيارات اسعاف تنقل جرحى واخرى تعيد قتلى.المعبر المترامي الذي تديره مصر ويحميه سور من الاسلاك الشائكة يؤدي دورا استراتيجيا لانه نقطة العبور الوحيدة لفلسطينيي غزة التي لا تخضع لمراقبة اسرائيل.

أما الناجون من المدنيين فيروون بمرارة وغضب، كيف قتل الجنود الاسرائيليون اهلهم امام اعينهم دون رحمة، السيدة زهوة السموني لا تزال في حالة صدمة وهي تستعيد مشهد مقتل زوجها وابنها برصاص الجنود الاسرائيليين امام عينيها وتروي كيف قاموا باطلاق النار على افراد عائلتها قبل ان تهدم الجرافات منزلها في حي الزيتون شرق مدينة غزة بعد ان قصفته الطائرات بصاروخ.

وقتل عطية السموني (52 عاما) في الساعات الاولى لبدء العملية البرية الاسرائيلية في غزة فجر العاشر من كانون الثاني/يناير امام عيني زوجتيه زهوة (42 عاما) وزينات (35 عاما) وابنائه وبناته الاربعة عشر.

وتروي زهوة المصابة بشظايا في ظهرها والتي لجأت الى منزل شقيقها في وسط حي الزيتون "سمعنا الانفجارات واطلاق النار يقترب من بيتنا. اخذت مع زوجي عطية اهدئ الاولاد. اقترب الجنود من البيت وهم يطلقون النار فتح عطية لهم الباب.. طلبوا منه رفع يديه ورفع ملابسه.. جمعونا في غرفة ثم طلبوا منا الخروج.. ثم فجروا غرفة النوم واطلقوا النار على عطية.. استشهد امامنا.. اخذنا نصرخ فاستمروا في اطلاق النار.. وكتمنا البكاء".

واضافت زهوة التي كانت كلماتها متقطعة بفعل الصدمة انها فجأة رأت الدماء تسيل من صدر طفلها احمد ابن الاربعة اعوام. كان مصابا برصاصتين. حملته. طلب منهم الجنود الخروج من المنزل فاخذ الجميع يركضون.

وتقول زهوة "كان ينزف دما .. حملته فورا .. كان في البداية يصرخ ثم اخذ صوته يخفت وكنت مصابة بشظايا في ظهري وانا اركض في الشارع .. لم اشعر عندما وقع من بين ذراعي.. جاء ابني فهد وحمله".

ويروي فهد (19 عاما) وهو مصاب بشظايا في انحاء جسمه "اعتقدنا انهم لن يؤذوا المدنيين كما قالوا لذلك بقينا في بيوتنا .. لكنهم اطلقوا النار ..قتلوا ..دمروا كل شيء.. خرجنا من البيت للشارع لم يكن هناك سوى يهود غاضبين ويطلقون النار ..حملت اخي احمد لان امي تعبت بسبب الاصابة".

ويضيف "وصلنا الى منزل احد اقاربنا عند شارع صلاح الدين. بقينا الليل هناك لكن احمد استشهد واخفينا الخبر عن امي وقلنا لها انه في غيبوبة". بحسب فرانس برس.

وكان فهد ذو اللحية السوداء يجلس مع سبعة من اقاربه الناجين حول موقد نار في خيمة عزاء اقيمت بين ركام منازلهم المدمر لتلقي التعازي بتسعة وعشرين شخصا قتلوا من العائلة نفسها.

ويضيف فهد "عشنا ليلة مرعبة.. كان الجميع يصرخ كان بيننا مصابون وشهداء.. كانوا يطلقون النار علينا كلما سمعوا صوتنا .. كنا اكثر من تسعين شخصا تجمعنا داخل البيت..".

وتابع "رفعنا فانيلات بيضاء كرايات بيضاء وخرجنا مجازفين .. كنا لا نزال على بعد 10 امتار عندما قصفوا المنزل بصاروخ .. مات واصيب كثيرون ..اتصلنا بالاسعاف والصليب الاحمر قالوا انهم لا يستطيعون التحرك لان المنطقة نار وموت .. استشهد عمي طلال وزوجته وابن عمي وزوجته واولاده واولاد ابن عمي ابراهيم وعمي رشاد وزوجته وابنه توفيق ووليد .... ".

ومن تحت كومة حجارة هي ما تبقى من منزل عم فهد انتشلت جثة وليد (17 عاما) مساء الاثنين. لكن اشلاء القتلى لاتزال متناثرة في المنطقة التي هاجمتها الجرافات فدمرت فيها 21 منزلا تابعة لعائلة السموني وعددا من مزارع الدواجن وورشا صناعية اضافة الى المسجد الوحيد في المنطقة.

استراحت الاسلحة لكن المسعفين لا يستريحون

استراحت الاسلحة في قطاع غزة لكن المسعفين الفلسطينيين لا يعرفون الراحة،  فمنذ أيام عديدة سحبَ هؤلاء من تحت الانقاض عشرات الجثث.

ويقول عبد شرفي (40 عاما) الذي يعمل مسعفا منذ خمسة عشر عاما "نواصل العمل منذ السادسة صباحا". مع زميله بسام ابو عطايا (46 عاما) يتوجه في سيارة اسعاف بيضاء وحمراء الى بيت لاهيا في شمال قطاع غزة.

ويوضح "سحبنا 15 جثة تعود لاطفال ونساء من تحت انقاض المنازل". ويضيف هذا المسعف الذي لم يتردد يوما في نقل مصاب او قتيل رغم كثافة القصف الاسرائيلي "كانت الجثث في حال مزرية الى درجة لا يمكن التمييز بين طفل وطفلة. بعضها ظل تحت الانقاض طوال خمسة عشر يوما".

ويتابع "الاسرائيليون اطلقوا علي النار ثلاث مرات فيما كنت انقل مصابين. شاهدنا امورا كثيرة. واليوم نسحب الجثث التي لم نتمكن من الاقتراب منها وما اكثرها". بحسب فرانس برس.

خلال بضع ساعات سحب المسعفون في قطاع غزة 95 جثة من تحت انقاض منازل دمرت جراء الهجوم الاسرائيلي. وعثر على غالبيتها تحت ركام بيوت في جباليا وبيت لاهيا بشمال قطاع غزة وكذلك في حي الزيتون داخل مدينة غزة.

على مدى 22 يوما اسفر الهجوم الاسرائيلي على قطاع غزة عن مقتل 1300 فلسطيني على الاقل بينهم 410 اطفال و108 نساء فضلا عن اكثر من 5300 جريح بحسب اجهزة الاسعاف والطوارىء في غزة.

على طول الطريق المؤدية الى بيت لاهيا تستعيد الحياة نبضها ببطء. عاد بعض باعة الزيوت والوقود الجوالون. كذلك فتحت بعض المتاجر ابوابها فيما يستقبل حلاق اول زبون له منذ وقف اطلاق النار.

جهاز الراديو داخل سيارة الاسعاف يبث اصواتا غير واضحة. يطلب عبد من بسام التوقف امام احد الكاراجات مضيفا "سنترك السيارة هنا لان الطريق لا يمكن سلوكها".

يسلك الرجلان طريقا زرعها الجيش الاسرائيلي قنابل. في كل مكان يبحث رجال ونساء واطفال عن مقتنياتهم وسط ركام البيوت المدمرة. ثم يحملون حقائب وبطانيات واثاثا على ظهور دواب او مستعينين بعربات او حتى سيرا.

وتقول نجاة مناح وهي ام لثلاثة اطفال حاملة علبة من الارز عثرت عليها بين ركام منزلها "لم يعد لي منزل خسرت كل شيء". اما ابنتها سميرة (20 عاما) فتقول مبتسمة "نجحت في انقاذ جزء من دروسي".

بدوره ينقب نجدي سلام (53 عاما) في الركام عله يصادف شيئا ويعلق "الجنود الاسرائيليون اتوا على كل شيء ولا ادري من اجل ماذا. لقد دمروا المنازل ثم سووها بالارض بواسطة جرافاتهم. ثمة جثث كثيرة لفلسطينيين لن يتم العثور عليها".

يقف عبد على هضبة صغيرة لمعاينة مشهد مؤلم. اعداد لا تحصى من البيوت تحولت كومة حجارة وحديد بعدما كانت بالامس القريب حيا يقطنه اكثر من خمسين الف شخص.

يناديه رجل ويرشده الى انقاض. فيتبعه عبد وينحني ثم يكم انفه. "ثمة جثث هنا. سابلغ عن الامر" ويضيف "لن نعثر عليهم جميعا ويا للاسف".يغادر عبد وبسام المنطقة. هذان المسعفان يعلمان ان عملا كثيرا ينتظرهما.

معبر رفح تعبره البضائع وتتقاطع فيه المصائر

وعند معبر رفح بين مصر وقطاع غزة تتقاطع المصائر على وقع هول الحرب. هنا مدنيون يفرون من القطاع واطباء اجانب جاؤوا للمساعدة وسيارات اسعاف تنقل جرحى واخرى تعيد قتلى.

المعبر المترامي الذي تديره مصر ويحميه سور من الاسلاك الشائكة يؤدي دورا استراتيجيا لانه نقطة العبور الوحيدة لفلسطينيي غزة التي لا تخضع لمراقبة اسرائيل.

وتعلق فايزة (37 عاما) الجزائرية وهي تعبر الممر الامني للمعبر "لا اصدق انني هنا". تزوجَتْ فلسطينيا قبل عشرة اعوام ولم تخرج مذذاك من قطاع غزة.

صوتها بطيء ولغتها الفرنسية متلعثمة. لا تزال "مصدومة" بالهجوم الاسرائيلي الذي استمر ثلاثة اسابيع وتفكر في استشارة طبيب نفسي مع اولادها. بحسب فرانس برس.

وتروي "طفلتي ابنة الاعوام الاربعة تختبىء تحت الطاولة كلما سمعت هدير طائرة وطفلي ابن الاعوام الستة بات يبول مجددا في ثيابه لانه يخشى الذهاب الى الحمام. اما انا فما عدت قادرة على النوم ليلا". وتؤكد ان "الحرب في غزة جعلت الناس حيوانات".

لكن هذه الحرب دفعت الفلسطيني عبدالله كلاب (50 عاما) الى سلوك طريق معاكس في اتجاه غزة للقاء اولاده السبعة الذين لجأوا الى مدرسة تابعة للامم المتحدة في خان يونس وسط القطاع بعدما دمر منزلهم جزئيا في غارة اسرائيلية.

كلاب "ناشط سلمي" لم يعد الى القطاع منذ اذار/مارس 2006 حين سافر الى السويد بعد شهر على فوز حماس في الانتخابات التشريعية.ويقول فيما يستقل حافلة ستعبر به المنطقة الحدودية العازلة "لست خائفا اريد ان اجتمع باولادي".

من جهته جاء عمر الطويل الفلسطيني السويدي الى غزة قبل شهرين للزواج من فلسطينية لكنه علق داخل القطاع جراء الحرب. زوجته باتت تحمل الجنسية السويدية وتحضه على عدم التحدث الى الصحافيين لدخول الاراضي المصرية في اسرع وقت.

في طريقهما يلتقيان نحو عشرين طبيبا اردنيا كلفتهم المملكة التوجه الى مستشفيات غزة للمساعدة.ويؤكد الجراح علاء السعدي انه لا يعلم الى الان اسم المستشفى الذي سيعمل فيه مضيفا "اريد فقط ان اساعد الفلسطينيين. انهم يحتاجون الى كل الاختصاصات في ميدان الجراحة".

في احد مواقف المعبر ينتظر جرحى العبور بعدما تلقوا اسعافات اولية في غزة. وتستعد عشرات سيارات الاسعاف البرتقالية للانتقال الى مستشفيات القاهرة او العريش اكبر مدينة مصرية بعد الحدود مطلقة العنان لصفاراتها.

في المقابل تتهيأ اخرى "بصمت" لاعادة جثث فلسطينيين اخفقت عملية انقاذهم تمهيدا لدفنهم داخل القطاع.

على مسافة قريبة تنتظر 12 سيارة اسعاف بيضاء تحمل لوحات موقتة التوجه الى قطاع غزة. لقد اشترتها شبكة مصرية تلفزيونية بعدما وجهت نداء الى مشاهديها لجمع مساعدات.

في موقف اخر ينهمك عمال في نقل اطنان من المساعدات الانسانية والطبية من شاحنة الى اخرى. وفي الجانب المصري من الحدود ينتظر صف طويل من الشاحنات المحملة مساعدات دليلا على التضامن الدولي مع الفلسطينيين وخصوصا العربي.

في رفح حركة داخلين وخارجين. لكن التدقيق الذي تجريه السلطات المصرية يجبر معظمهم على الانتظار ساعات وربما اياما.

الدمار في شرق جباليا اسوأ من زلزال

منذ شهر تقريبا كانت المباني والمعامل ما تزال منتصبة في شرق جباليا الى جانب بساتين الزيتون لكن هذه المنطقة الواقعة شمال قطاع غزة بدت وكأن زلزال ضربها منذ انسحاب الدبابات الاسرائيلية.

المشهد كارثي ويلخصه اشرف فراج وهو مهندس في الثانية والاربعين من عمره بقوله "هذا اسوأ من عشرة زلازل".

وفي هذه المنطقة احدى اولى المناطق التي اجتاحها الجيش الاسرائيلي اختفت المباني من على مسافة طويلة عرضها مئات الامتار. بحسب فرانس برس.

ويجهد محمد حسن وهو تاجر جملة في الثانية والخمسين من عمره لكبح دموعه. لقد فقد كل ما يملك: منزله والمستودعات التي يخزن فيها بضائعه والفندق الذي شيده لايواء زبائنه. ويتساءل قائلا "لماذا دمروا كل شيء؟".

ومحمد حسن من الوجوه المعروفة في المنطقة حيث يلقبونه كذلك بابي رامي الذي يفض النزاعات ويستخدم اربعين شخصا ويتعامل مع حماس ومع السلطة الفلسطينية وبامكانه الدخول الى اسرائيل من اجل زبائنه الاسرائيليين.

بقي ابو رامي مختبئا في مستودعاته في الايام الثلاثة الاولى للاجتياح البري كانه يحاول حمايتها. وهرب في اليوم الرابع.

بدأ العاملون لدى ابو رامي الاثنين البحث بين الانقاض عما يمكن استعادته من بين اكياس الشاي والارز المنثورة على الارض والزيت المسكوب على الارض.

وقد اسفر العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة عن تدمير نحو خمسة الاف منزل تدميرا كاملا من جراء قصف المقاتلات والمدرعات كما اصيب نحو عشرين الف منزل باضرار جسيمة وفق الارقام الاولية التي كشف عنها الاثنين الناطق باسم حكومة حماس طاهر النونو.وكانت سلطات قطاع غزة قد قدرت السبت الاضرار بنحو 91 مليار دولار.

ودمر الهجوم الاسرائيلي مئات المنازل في شرق جباليا اضافة الى معمل للمعدات الاكترونية ومعمل لزيت الزيتون ومعمل لصناعة الاسمنت.

كما دمر القصف عدة مساجد وظهرت اثار جنازير الدبابات بوضوح في الحقول وعلى ما تبقى من زفت في الطرقات.

ويقول عجوز فلسطيني بلغة انكليزية صحيحة " لاافهم لماذا يستهدف الاسرائيليون في كل مرة بساتين الزيتون".

في مكان مجاور يتجمع الذباب على ما تبقى من حمار نافق فيما تتنقل الدجاجات بحرية ولا يغيب صوت طائرات الاستطلاع الاسرائيلية بدون طيار عن اجواء المنطقة.

ازدحمت الطرقات بالسيارات وبالعربات التي تجرها الحمير فيما بدات الجرافات بسحب مكعبات الاسمنت التي لا يمكن سحبها بالايدي.

في هذه الاحياء يؤكد القاطنون ان معظم الجثث تم سحبها من تحت الانقاض وان امراة واحدة في الخامسة والسبعين من عمرها ما تزال مفقودة منذ ستة ايام.

اينما نظرت ترى فلسطينيون يعكفون على فرز الانقاض فيضعون الحديد في جهة والخشب في جهة اخرى.

يركض اطفال بين الانقاض فيما يعرض اطفال اخرين بزهو ذخائر اسرائيلية لم تنفجر. وكلما ابتعدنا عن المناطق الحدودية نرى المنازل قائمة وتنخفض اثار المعارك.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 26/كانون الثاني/2009 - 28/محرم/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م