إشكاليات المناهج التربوية والثقافية

الدكتور وليد سعيد البياتي

مقدمة:

 تأثرت المناهج الثقافية والتربوية في العراق خاصة والعالم الثالث بل وحتى في الغرب، بالنظم السياسية والاتجاهات التي تفرضها السلطة، ففي العهد الملكي (وما اذكره في الجيل الذي عاصرته) كنا نشاهد صورة الملك فيصل على معظم الدفاتر المدرسية التي توزعها (وزارة المعارف) كما كانت تعرف في وقتها، ثم احتلت صور عبد الكريم قاسم اغلفة الدفاتر والكتب في بداية العصر الجمهوري، وفي عصر البعث، كانت صور (البكر) وشعارات البعث تحتل الاغلفة والصفحات الداخلية، كما احتلت صور (صدام) باشكال مختلفة الاغلفة والصفحات الداخلية بل وصارت جزأ من النظام التثقيفي والتربوي مما فرض انتكاسة في الثقافة التربوية وشارك في تشكيل جيل محدود الثقافة هو أقرب إلى الجهل منه إلى العلم.

 لم يقتصر الامر على الاغلفة بل تعدى ذلك إلى المناهج الثقافية والتربوية والتعليمية، ، والقصائد التي تقدم للمدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية كلها تمجد تاريخ (البعث) وتزرع في العقول والاذهان الطفولية والشابة نماذج وافكار تتنافى والقيم الثقافية والتربوية العامة، فكانت الموضوعات التاريخية والادبية والسياسية والفلسفية، تتبع سياسية (حزب البعث)، وحتى في الدراسات الجامعية وخاصة في عهد الطاغية (صدام) حيث كانت رئاسة الجامعة ترفض الرسائل الجامعية التي لاتتفق والمنهج البعثي أو تتعارض معه، وقد شهدنا كم أن من الرسائل الجامعية قد رفضت وقتها سواء في دراسات الماجستير أو الدكتوراه، بل ان رسائل اقسام التاريخ والاجتماع والعلوم السياسية والقانون، كانت تناقش بحضور لجنة من (ديوان الرئاسة في عهد الطاغية) آنذاك ولا تكتسب الصفة العلمية إلا إذا حازت موافقة ديوان الرئاسة قبل اللجنة الاكاديمية المشرفة، مما ساعد على خلق جيل بعيد عن الهم الاجتماعي ولا يتعاطى مع المشاكل السياسية والاجتماعية والتاريخية والقانونية وحتى الدينية إلا من خلال منظور ضيق يمثل إتجاه حزب البعث في التفسير الفكري للاشياء.

تطوير المناهج التربوية والتعليمية والثقافية:

 هناك الكثير من الملامح التربوية والتعليمية التي أبتعدت عنها الثقافة العامة نتيجة لاضمحلال الوعي العام الذي فرضته الانظمة السياسية السابقة، ولوضع سياسة تربوية تعليمية للعراق الجديد نحتاج إلى مايلي:

أولا: إيجاد وعي عام بمفاهيم أخلاقية وتربوية تعليمية تتناسب والوضع السياسي والاجتماعي تشترك فيه الوزارات ومنظمات العمل المدني، فالعراق لايدين للولايات المتحدة بشيء ويجب ان لا تصبح قضية اسقاط نظام البعث و(صدام) من قبل القوات الامريكية والتحالف عقدة فكرية في البناء الفكري المعاصر، باعتبار ان الكفاءة العراقية والمعارضة هي التي أدت إلى سقوط النظام.

ثانيا: أن لاتخضع المناهج التربوية والتعليمية لأي إتجاهات فكرية أو سياسية أو حزبية ضيقة، فالتربية والتعليم والثقافة العامة ملك للجميع ولا تخص فئة دون أخرى، كما يجب أن لا تسيطر حتى الاتجاهات الدينية على المناهج التربوية والتعليمية و الثقافة العامة.

ثالثا: الاهتمام بالنشء منذ المراحل الاولى، فكما يحتاج العراق إلى المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية، يحتاج أيضا إلى رياض الاطفال والحضانات، وهذا يساعد الاسرة على التفرغ للعمل والانتاج، فالاسرة إذا وجدت من يرعى الاطفال قبل مراحل الدراسة فإن ذلك سيعني تشكيل اللبنات الاولى لجيل جديد، وهذه الخطوة ستعكس شكلا من اشكال التطور في المستقبل.

رابعا: يجب أن يستعيد المعلم والمدرس والاستاذ الجامعي والمثقف مكانته الاجتماعية والفكرية، وأن ينظر اليه بالكثير من الاحترام والتقدير بإعتباره قائد للاجيال وموجها لها، فالوزير يمكن ان يترك ورزارته لكن المعلم يبقى في مدرسته وعلاقة الطالب المباشرة تكون عادة بمعلمه ومدرسه واستاذه، ومن هنا يجب أن تكون هذه العلاقة مبنية على الاحترام والتقدير لعلمية المعلم والمدرس والاستاذ، كما يجب الاهتمام بالمعلم والمدري لتطوير كفائته المهنية والعلمية والتأسيس على علاقة ممتازة مع الطلبة.

خامسا: المدرسة والمعهد والجامعة، حرم تعليمي مقدس وليس موضعا للصراعات السياسية والحزبية والفكرية، ومن هنا يجب أن يتجرد الاستاذ من حزبيته أو اتجاهاته الفكرية لصالح الاتجاه التربوي العالم. أي يجب أن لا تصبح المدرسة أو المعهد أو الجامعة مكانا للصراع الفكري والسياسي مما يؤثر على مسار العملية التربوية والتعليمية بشكلها العام.

سادسا: يفترض أن يكون المعلمين في المدارس الابتدائية ينتمون إلى نفس البيئة الاجتماعية قدر الامكان، أي من نفس المحافظات لما لذلك من علاقة بالعملية التربوية، حيث المناخ الاجتماعي العام والخصوصية التي تتمع بها كل محافظة بذاتها، وهذا ينعكس على العملية التربوية في مراحلها الاولى، وقد تحتاج وزارة التربية والمديريات المحلية إلى نقل معلمين من مراكز تعليمية أخرى فيجب والحالة هذه الحفاظ على نوع من التواصل البيئي والاجتماعي بين المعلم والطلاب مما يساعد على توطيد العلاقة بينهما.

سابعا: تثقيف الطلاب بان العراق هو الاطار العام، وهي عملية تحتاج إلى الكثير من الوعي المتجدد من قبل المعلمين والمدرسين والثقافة التعليمية العامة، مع الاخذ بنظر الاعتبار بالمفاهيم التربوية والاخلاقية والاجتماعية العامة، فالحرية التعليمية لاتعني إباحية تعليمية بأي شكل من الاشكال، فالاطر الاخلاقية والضوابط الاجتماعية يجب ان تكون مسيطرة والقانون العام سيد الموقف دائما.

ثامنا: يمكن لوزارة التربية كما لوزارة التعليم العالي من الاستفادة من الخبرات التعليمية في كل مكان، فالتجارب التعليمية للمدارس البريطانية بشكل خاص والاوربية بشكل عام قد تطورت بشكل كبير، ويمكن الاستفادة من المناهج التي تتفق والمنهج العام في العراق، اي انه من غير المنطقي استنساخ التجارب التنعليمية الاخرى، بل يجب الاستفادة مما هو يناسب التفكير العراقي في التعليم.

تاسعا: التربية تسبق التعليم العام، ومن هنا نحتاج إلى التركيز على الاطر التربوية التي ضاع الكثير منها بسبب سياسات (البعث) وخاصة في مرحلة الطاغية صدام، فالمناهج التربوية يجب أن تراعي الاطر الدينية (وهنا لا اقصد الاطر الاسلامية فقط) والاجتماعية العامة.

عاشرا: يجب أعادة وضع المناهج الخاصة بدراسة التاريخ والتربية الدينية والتربية الاجتماعية، ومناهج تدريس الجغرافية العراقية بشكل يتناسب ووضع العراق الاقليمي والدولي المعاصر.

الحادي عشر: وزارة التربية والتعليم تتحمل أعباء توجيه الاجيال باعتبارها مؤسسة تربوية تعليمية تتجرد عن الاشكال الحزبية والفكرية، وهي تنفتح على الجميع ففي المدارس هناك طلبة من كل الاعراق والبيئات الاجتماعية والدينية لتصبح المدرسة شكل من أشكال المجتمعات المتعدةة الاتجاهات والمشارب وهذا النوع من التعددية يفترض استقلالية المناهج التربوية والتعليمية، ومن هنا يفترض بالوزارة أن تتمتع باستقلالية ذاتية وهذا موضوع يخدم البناء الفكري للطلاب والمعلمين على السواء.

الثاني عشر: التنسيق بين وزارتي التربية والتعليم، والتعليم العالي والبحث العلمي بشكل يساعد على انتقال الطلاب من مرحلة دراسية إلى أخرى بشكل إنسيابي مما لايشكل عبئا على الطلاب ولا المعلمين والمدرسين.

الثالث عشر: يجب الاهتمام الكامل بفتح اكبر عدد من المدارس لاستيعاب الطلاب في كل المحافظات ووضع خطة للتخلص نهائيا من فكرة الدوام لاكثر من مدرسة في بناء واحد مما لايسمح بان ياخذ الطالب كفايته العلمية لقصر الدوام المفترض.

الرابع عشر: تزويد المدارس كافة وتجهيزها بشكل نموذجي، مع الاهتمام الكبير بان تحتوي كل مدرسة على مكتبة كبيرة ووسائل ايضاح متطورة، وقاعات للكومبيوتر بحيث يصبح الكومبيوتر جزءأ اساسيا من النظام التعليمي في المدارس، بحيث لا تكون هناك فوارق بين مدرسة وأخرى مما يعكس العدالة التعليمية ويساعد على خلق جيل متكافيء في الفرص التعليمية.

الخامس عشر: يجب أن لا تكون قضية الخدمة العسكرية الالزامية عقوبة للطالب الذي لايحقق معدلات أو درجات عالية في مرحلة الاعدادية، ولهذا يجب البحث عن حلول جذرية لهذه القضية التي تعيق التعليم العالي.

السادس عشر: المدارس المهنية يجب أن لاتكون عقوبة للطلاب الذين لا يتمكنون من تحقيق معدلات أو درجات عالية في الدراسة الابتدائية أو المتوسطة، ويجب الاهتمام بها بشكل يتناسب وتطوير المرحلة التعليمية الحالية من توفير كافة المستلزمات العلمية والعمليه لها، فالمصانع والمعامل والحركة الصناعية تحتاج إلى حرفيين وعمال مهرة كحاجتها إلى المهندسين، والتعليم المهني المتطور احد ركائز الصناعة المتطورة.

الخاتمة:

هذه الورقة المقدمة بتجرد علمي تسعى إلى تقديم تصور للعملية التربوية والتعليمية بشكل مستقل عن التنظيرات الحزبية والاتجاهات الفكرية والاجتماعية الضيقة، فالتربية والتعليم مسؤوليةاجتماعية وتاريخية ودينية خطيرة تحتاج إلى الكثير من الوعي ونحن عندما قدمنا هذه الاطر توخينا النظر باعتبار استقلال العملية التربوية والتعليمية وعدم ارتباطعها او خضوعها لمناهج آنية.

* المملكة المتحدة – لندن

[email protected]

..........................................

** ورقة لتطوير المناهج في المدارس والمعاهد والجامعات العراقية مقدمة إلى وزير التربية والتعليم خلال زيارته للندن في 13/1/2009

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 18/كانون الثاني/2009 - 20/محرم/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م