ترميم شرعية النظام العربي

أحمد شهاب

نجحت الولايات المتحدة في تسويق مفهوم الإرهاب بصورة غير مسبوقة، عن طريق تشجيع الجماعات المتطرفة ودفعها نحو التصادم مع الأفكار الحديثة، وهناك في الحقيقة طريقتان للقضاء على التطرف، الطريقة الأولى استيعابه عبر ضخ المزيد من المفاهيم الحديثة وتطبيقاتها، وهو سلوك من شأنه خلق ميل عام عند الجماعات التقليدية لتبني الأنموذج الجديد نظرا لفوائده المغرية، والطريقة الثانية شعور الناس بعوائد السلم الاجتماعي والسياسي، وقدرته على تحقيق ما لا يستطيع منطق القوة وأدواته تحقيقه في الميدان.

قبل ثلاثين سنة من الآن، كان عدد التيارات الإسلامية سواء الشيعية أم السنية التي ترى الديمقراطية وتؤمن بفوائدها محدودا، لكن الوضع خلال السنوات الأخيرة تغير بصورة ملفتة، ووجدنا العديد من الأطراف الإسلامية التي توصف عادة بالتشدد والانغلاق، ترتضي الخيار الديمقراطي، أو أجزاء منه بعدما رأت محاسنه الكبيرة، ومثاله جبهة الإنقاذ في الجزائر، وحركة حماس في الأراضي المحتلة، والإخوان المسلمين في كل من مصر والأردن ونظراؤهم في دول الخليج.

وغالب هذه الجماعات كانت، إما رافضة معادية لفكرة الديمقراطية، أو متحفظة تجاهها، لكنها بدت أكثر قبولا لها في السنوات الأخيرة، ودعم ذلك نمو جيل جديد داخلها يدفع في اتجاه تبديل المفاهيم الحركية السائدة، وتحفيزها نحو القبول بالمفاهيم السياسية والفكرية الحديثة، وهو ما أطلق مرحلة جديدة في مسيرة الجماعات الإسلامية بصورة عامة، لم يعبر بالضرورة عن تغيرات شاملة وجذرية، وإنما خطوة ملحوظة في مسلك المواكبة والمعاصرة.

كان بالإمكان تعميق هذه القناعة، وتعزيز خطوات التغيير، والعمل على إزاحة كامل الانطباعات السلبية المتراكمة حول المفاهيم السياسية الحديثة، عن طريق استمرار التجربة وتبلورها، لكن قدرة الإسلاميين على الوصول إلى مواقع متقدمة في الحكم والإدارة السياسية عن طريق صناديق الاقتراع في ظروف سنوات قلائل، دفع دعاة الديمقراطية في الغرب للتراجع الى الخلف، والانقلاب على نتائج الانتخابات، مرة بدعوى أن الإسلاميين سوف ينقلبون على الديمقراطية بعد وصولهم إلى الحكم، كما حدث في الجزائر، ومرة بحجة أن الإسلاميين سيعملون على تحويل الدولة إلى قلعة من قلاع الخلافة الإسلامية على غرار جماعة الطالبان في أفغانستان، على رغم أن الأنموذج الطالباني كان محل استياء ونقد حاد من قبل معظم الأطراف الإسلامية.

وهو ما أثار مشاعر القلق عند الإسلاميين حيث تنامى لديهم الشعور بأن الدول الكبرى لا تستهدف إرساء الديمقراطية في البلدان العربية والعالم الإسلامي، وإنما تستهدف حشرها في مشروع إعادة تشكيل خارطة الشرق الأوسط، مرة من خلال حشد الضغط الشعبي على الأنظمة وتهديها من الداخل، ومرة للتأكيد على أن ثمرات الديمقراطية لن يتم قطفها إلا من خلال الدوران في فلك المشروع الغربي على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي. بكلمة أخرى ساد شعور عام بأن الدعوة إلى «نشر الديمقراطية» لم يكن سوى فزاعة لضمان سوق أكبر قدر ممكن من الدول والجماعات إلى جانب السياسات الأميركية في المنطقة.

من المؤكد أن الآخرين لن يستجيبوا للضغوط الموجهة إليهم للتنازل عن الهوية الدينية أو الثقافية، ولن ينقاد أحد خلف الصيحات المحمومة لتبديل الأثواب الوطنية، فقط أولئك المهزومون فكريا وثقافيا، والمنهارون داخليا، هم المستعدون للحاق بكل صيحة ونداء، بغض النظر عن أبعاد هذا النداء وأهدافه. أما الشعوب الحرة والمعتزة بهويتها، فمن الطبيعي أنها سوف تسلك طريق الممانعة، والتصدي لمحاولات سحق الهوية.

وهؤلاء يتم تصنيفهم بحسب المنطق الدولي الجديد، بأنهم جبهة ممانعة موسومة بالتحجر وعرقلة مشاريع السلام وتعطيل المصالحات الكبرى داخل المنطقة، ويوصفون بأنهم دعاة ورعاة للإرهاب والعنف والتطرف، وبأنهم ضد مشروع الدمقرطة والإصلاح، على رغم أن الرفض موجه للسياسات المشبوهة، وليس للمفاهيم الحديثة.

هذا التصادم المفتعل يستهدف خنق كل الجبهات التي تقف ضد السياسات الغربية في المنطقة، من أنظمة وجماعات، وضمها إلى «قائمة الإرهاب»، بغض النظر عن عدالة القضية التي يدافعون عنها، وبصرف النظر عن ممارستهم على الأرض. 

سعى العديد من القوى الغربية إلى محاصرة جميع الأطراف التي رفعت راية الممانعة، وعلقت عليها ملصق الإرهاب، والهدف الذي يقف وراء تضخيم «ظاهرة التطرف والإرهاب»، هو عزل قوى التحرير والمقاومة، وأعتقد أن الخطة قد حققت جزءا مهما من أهدافها، ونجحت إلى حد كبير في تجفيف منابع الدعم المالي والإعلامي عن المقاومة المشروعة. ولم يعد في الميزان الغربي ثمة فرق يُذكر بين نظام ديكتاتوري وعنصري مثل حزب البعث في عراق صدام حسين، وبين حركة سياسية شعبية تُدافع عن أرضها وعرضها وإنسانها مثل حماس، أو بين جماعة متطرفة فكريا وسلوكيا في مستوى القاعدة وبين مقاومة شرعية تدافع عن سيادة أرضها مثل حركة المقاومة في لبنان.

 وبعدما كان الإعلام الرسمي العربي يتحدث «عما يسمى دولة إسرائيل» تصغيرا لشأنها، وتعبيرا عن عدم استعداده للاعتراف بهذا الكيان الغاصب، بدأ يتحدث «عما يسمى حزب الله»، و«ما يسمى حركة المقاومة حماس». 

وفي اعتقادي أن كلمة السيد حسن نصرالله الناقدة لموقف وتصرفات الحكومة المصرية تحمل دلالة جديرة بالاهتمام، وهي أن الشعوب والمقاومات أصبحت اليوم في قامة الدول والأنظمة، وأن الرموز الشعبية والقيادات الوطنية لها كلمة، ويجب أن يُستمع لها جيدا. فلم يعد من المجدي تجاهلها أو الالتفاف عليها.

وهي رسالة تود أن تقول إن أبسط ما يمكن أن يقدمه النظام العربي اليوم في مواجهة الكوارث السياسية والإنسانية التي ينفذها الكيان الصهيوني، هو الاعتراف رسميا بالمقاومة وحقها في الدفاع عن أراضيها واسترجاع حقوقها، وضرورة دعمها على المستويين السياسي والإعلامي، باعتبارها خطوة مهمة جدا نحو مصالحة الأمة مع ذاتها، وتعد إحدى أهم بوابات التوحد والالتقاء تحت مظلة العمل المشترك. وأن الأنظمة العربية مطالبة اليوم بالتكامل مع الإرادة العامة للشعوب، وهي فرصة طيبة لترميم العلاقة بين الشعوب والأنظمة، وبناء شرعية النظام العربي على أسس متينة.

* كاتب كويتي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 18/كانون الثاني/2009 - 20/محرم/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م