عندما تغيب المعرفة تتوارى الديمقراطية

أحمد شهاب

المتابع للحراك الثقافي والسياسي في الكويت في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، يلفته حجم الأنشطة في المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية، وقد رصد بعض البحاثة اتجاهات الإصلاح في الكويت، ومن أبرزهم ما رصده الدكتور خليفة الوقيان في كتابه الصادر العام 2006 «الثقافة في الكويت»، والتي لخصها بالاتجاه الإصلاحي، الاتجاه الديمقراطي، الاتجاه القومي، وأخيراً الاتجاه الديني المحافظ.

اتجه العديد من الكتاب الكويتيين في مطلع العشرينيات من القرن الماضي إلى نشر إنتاجهم الثقافي، وآرائهم السياسية في المجلات العربية، خاصة في الصحف العراقية والمصرية. وبادر الأهالي إلى إنشاء المؤسسات الثقافية والعلمية، واستقبلوا مجموعة مهمة من رجال الإصلاح الديني، من أبرزهم الشيخ رشيد رضا، وداعية الإصلاح والتجديد والمقاومة الشيخ عبدالعزيز الثعالبي، والذي خصص له الشيخ عبد العزيز الرشيد في كتابه المعروف «تاريخ الكويت» فصلا خاصا ركز على زيارته للكويت، وما لقاه من حفاوة وترحيب شديدين، وعن مجالس الاستقبال التي أعدت له ليلتقي ويستفيد من علومه العدد الأكبر من أهل الكويت.  

ويدلل ذلك على أن صدر أنصار الإصلاح الديني في الكويت كان واسعا إلى حد ما. وأسماء وأفكار رجال الإصلاح، وفي مقدمتهم السيد جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده، والشيخ رشيد رضا، والعلامة الكواكبي، تُعد من الأسماء المؤثرة في ثقافة وتوجهات المجتمع، أو على نُخبة مهمة منه، ويتم تداول وتبادل كراساتهم وأفكارهم بين النُّخب الثقافية، وككل البدايات الإصلاحية والتأثيرات الثقافية، فإن الكويت اعتمدت بصورة كبيرة على تدفق أفكار وآراء زعماء الإصلاح إلى المجتمع، وكان لهذا التدفق والاحتكاك أثرا واضحا في تنشيط العوامل الساكنة داخل المجتمع.

وهو ما دفع لاحقا إلى نجاح مشروع التعليم الحديث في زمن الكتاتيب والعلوم التقليدية، على رغم أن المنهج الدراسي الحديث تضمن تعليم اللغة الإنجليزية والجغرافيا، ما أثار سخط الاتجاه الديني المتشدد واعتبروها بدعة يجب مواجهتها ووأدها في مهدها، لكنها استمرت ونمت بعد حين، وأصبحت مواد مقبولة ومطلوبة من قبل جميع التوجهات والتيارات حتى المتشددة منها، التي لم تر بدا من قبولها وتلقيها، وإلا أصبحت خارج الزمن.

وأدى الاهتمام الثقافي واللقاءات المتواصلة مع المصلحين وتداول الأفكار والقضايا معهم، إلى تدعيم مشروع الإصلاح السياسي في البلد، وأحسب أن جزءا كبيرا من الإنجازات السياسية يعود إلى حقبة ما قبل النفط، وإلى تلك اللقاءات والتلاقح الثقافي، فإن تكون الكويت من أولى دول الخليج التي تتبنى الديمقراطية وتسعى إلى ترجمة شروطها، فذلك لأن الكويتيين استطاعوا أن يضبطوا العلاقة بين السلطة والمجتمع في وقت مبكر، ضبطوها معرفيا أولا، ما سهل عليهم أن يضبطوها قانونيا تاليا، ومهد ذلك المخاض الثقافي والسياسي إلى ولادة دستور 1962 الذي نظم العلاقة بين السلطات.  

على الرغم من هذا العمق التاريخي والثقافي للتجربة السياسية الكويتية، إلا أنها لم تنتقل حتى الآن من فكر القبيلة إلى الدولة، ومن النزوع المذهبي إلى الوطني، بل مازالت أزماتها وخلافاتها تشير إليها، وكأنها تجربة وليدة لم يمض عليها سوى سنوات قلائل. كل الذين تابعوا التجربة الكويتية، والحراك الثقافي الذي دار في مختلف زوايا البلد، توقع أن تكون الكويت رائدة التجارب الثقافية والسياسية في العالم العربي، لكنها خيبت الآمال، وتراجعت إلى الخلف في اللحظة التي كان يجب عليها أن تتقدم إلى الأمام.

ويبدو لي أن المعركة الحقيقية لم تنطلق بعد، ولايزال الانشغال بالسياسية ومكاسبها يغطي على الاهتمام بالأفكار وصناعتها، لقد وُجدت عندنا تجربة ديمقراطية لكن المعنيين برصدها لم ينتبهوا إلى أنها لم تأت نتيجة مطالبات على هامش الحياة السياسية، كما لم تكن عطية وفضل من الحاكم إلى المحكومين، وإنما كانت نتيجة مباشرة للغطاء الفكري المتماسك الذي وفر حاضنا للتطور السياسي في الدولة، وعندما غاب هذا الغطاء فإن الديمقراطية أصبحت مكشوفة، ولم تعد لديها قابلية التطور، ولا القدرة على الصمود أمام الأزمات والمعضلات التي تواجهها، وتحولت بفعل الإهمال والتدني الثقافي إلى «أزمة»، على رغم أنها في كل دول العالم تعتبر «الحل».

أحد أسباب هذا الإهمال تكمن في تغير أداء الفرد الكويتي في مرحلة ما بعد اكتشاف النفط، وهو تغير مهم ينبغي دراسته بدقة، فقبل إنتاج النفط والاعتماد عليه، كان الكويتيون يسهمون في بناء الدولة والمجتمع، وشخصية الأفراد تتميز بالإيجابية والإنتاجية إلى حد ما وفق ما يمتلكونه من إمكانات، وما يتهيأ لهم من فرص. أما بعد اكتشاف النفط فإن الفرد الكويتي تحول إلى مرحلة الاستهلاك، وتحولت على إثرها ثقافته وميوله وتطلعاته إلى الاتكال على الثروة النفطية وخيراتها المخزونة.

ثمة فروق دقيقة بين كلا الفردين، فالمنتج يتميز بقدراته الإبداعية والاكتشافية، فهو يحوم في دائرة العمل والجُهد والتفكير والتخطيط، والذي يعيش في هذه الدائرة يعيش الإبداع في كل لحظات حياته، مهما بدت تلك اللحظات بسيطة ومتواضعة، لأنه يستهدف غايات بعيدة تستلزم المزيد من التفكير والجهد، سواء تعلق الأمر بزيادة الدخل الشخصي وتحسين الأوضاع المعيشية، أم تعلق ببناء المجتمع وتطوير آليات التفاهم والمشاركة الداخلية، أم اتصل بهموم تنظيم إدارة الاختلافات السياسية، فهي كلها تتطلب تفكيرا وجهدا وتنويعا في الاختيارات.

وهو عكس الفرد المستهلك، الذي لا يجد ما يدفعه إلى التفكير في هموم الحاضر، أو أحلام المستقبل، ولا يشعر بأي نوع من أنواع الضغط التي تضطره للبحث عن طرائق عمل جديدة، أو محاولة اكتشاف مصادر حديثة للدخل، فالمتوفر بيده، يُغنيه عن بذل الجهد ولا يشعره بالتحدي، والإنسان الذي لا يشعر بالتحدي بعيد في العادة عن الإبداع.

ويظهر لي أن هذا السبب يعد من الأسباب المهمة في توقف إسهاماتنا المحلية في مشروع التنمية الديمقراطية، ما أدى إلى تراجعها، فعندما تحول الأفراد من منتجين إلى مستهلكين، أضاعوا جهود المؤسسين، وعندما تضاءل شعورهم بالتحدي كدافع للعلم والمعرفة، انتفت الديمقراطية، فعندما تغيب المعرفة في بلد ما، تتوارى، دونما شك، الديمقراطية.

* كاتب كويتي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 22/كانون الثاني/2008 - 23/ذي الحجة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م