بَيّعَةُ الغَدِيْرِ... إعْلانٌ لِمَفْهُوْمِ الإمَامَةِ

محمّد جواد سنبه

عندما نتحدّث عن واقعة الغدير المباركة، يجب أنْ لا يغيب عـن تصوّراتنا، بحثها من ناحية البعد العقائديّ، وعدم التعامل معها كواقعة تاريخيّة فقط. فهي من الحوادث التي قام بالإعلان عنها الرسول(ص) شخصياً، دون أنْ يوكلها إلى أحد غيره.

 ودعوة رسول الله(ص) بجمع حشود النّاس بمكان محدّد ووقت مؤقت، وتبليغهم بأمر معيّن، له دلالاته الخاصّة، التي تعبّر عن قصد مرسل الرسالة (وهو الله تعالى)، بتبليغ الأمّة بقضيّة، تهمّ حاضرها ومستقبلها، وتأكيد عظيم منزلة الحدث، بأخذ العهد والميثاق منها بالبيّعة.

 فالأمر ليس على مستوى تبليغ الناس بأمر تشريعي، وينتهي الأمر. وإنّما على مستوى وضع كلّ الجهود الرساليّة، التي بذلها الرسول (ص)، على مدى ثلاثة وعشرين عاماً من الكفاح، والتضحيات والآلام، ومعادلتها بأمر التبليغ بقضيّة البيّعة في واقعة الغدير. فقد قال تعالى: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ).

من هنا، ندرك بأنّ حادثة غدير خمّ (غَديرُ خُمٍّ : على ثلاثة أمْيالٍ بالجُحْفَةِ بين الحَرَمَينِ / قاموس المحيط)، لها معياريّة ثقيلة، في كيان الرسالة الإسلاميّة. وإنّ قيمتها تبقى متفردة، فلا يقارن موضوعها حتى مع أعظم الغزوات، التي خاضها رسول الله (ص) وانتصر فيها. فالأمر مختلف تماماً، لأنّ النصر في الحرب أو الخسارة فيها (كما في معركة أحد)، ينتجان إفرازات مرحلتيهما التاريخيّة، وينتهى موضوعهما ويتوقف التاريخ، عن إنتاج إفرازات أخرى لهما من جديد.

لكن حادثة الغدير، لا تتماشى وفق هذا المنظور، إنّها بقتّ تعمل مع التّاريخ بتجددّ، وستبّقى تعمل حاضراً ومستقبلاً أيضاً، لأنّ بعدها العقائديّ، أعطاها ديمومة هذا الإستمرار، فأصبح أثرها مستمراً ومتجدداً مع التاريخ، فالمدى العقائدي هوالذي أمدّها، بهذا الدّفع المستمر، عبر الزمان المتعاقب على مراحل التاريخ.

ونستطيع أنْ نتوصّل إلى نتيجة مقنعة، من خلال عقد مقارنة بيّن واقعة الغدير، وأيّة واقعة عظيمة أخرى، كمعركة بدر مثلاً. فبالرغم من أنّ هذه المعركة هي التي حدّدت، قوّة الإسلام بشكّل عمليّ في الواقع، وأظهرت ملامح الإستراتيجيّة الإسـلاميّة، أمام فوضى الجاهليّة العربيّة آنذاك. وكذلك حدّدت هذه المعركة، الأبعاد الجيواستراتيجيّة، التي ستلعبها القيادة الإسلاميّة في المنطقة. لكنْ بعد انتهاء أحداث معركة بدر، ومراحل استثمار فوّزها انتهت تاريخيّاً ( لا أقصد قيمتها التاريخيّة، وإنّما فعلها وأثرها الدائم في التاريخ، بشكّل متواصل ومستمر، من حيث التأثير والتفاعل، من حيث الهدم والبناء). لقدّ انتقل تراكم المنجز التاريخي لهذه المعركة، على شكل إضافة إلى منجزات أخرى، أسّست الخطوط العامّة لدوّلة الإسلام في المدينة.

أمّا مع واقعة الغدير فالأمر مختلف تماماً، لأنّها شكّلت المرتكز العقائديّ، الذي أفرز مفهوم الإمامة العصمويّة، أيّ التأسّيس لقيادة جديدة، لما بعد عهد الرسول (ص). والتي ستنطلق بالمهام العقائديّة والتّشريعيّة والمجتمعيّة، لمنظومة دوّلة الإسلام، بعد وفاة الرسول (ص) حتى قيام الساعة. ومن ثمّ أنّ بيّعة الغدير، أوجبت في رقاب الأمّة كلّها، أبيضها وأسودها، حقّ الولاية العامّة في الأمّة، وقيادتها من قبل الإمام علي بن ابي طالب (ع). وينبغي أن نعيد إلى الذاكرة أنّ الرسول (ص)، لم يبلّغ بأمر وصيّة الغدير وانتهى الموضوع، كما كان يبلغ عن نزول آيات القرآن، ويعرّف بمقصودها ومرادها.

 وإنّما انتقل إلى تصرّف ثان فريد من نّوعه، لابلّ غير مسبوق، إلاّ عندما أمرهم بالبيّعة لنفسه(ص). فبعد تبليغ الناس بأمر الولايّة، بَلّغَ الرسول (ص) عن نزول قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلامَ دِيناً). ثمّ أمرهم (ص)، بمصافحة أمير المؤمنين(ع)، وتهنئته بالولاية الإلهيّة. فطفق الناس يهنئونه(ع)، وكان بمقدمة الصحابة المهنئين الشيخان، أبي بكر وعمر. ولما دنا عمر بن الخطاب، من  أمير المؤمنين (ع) ضرب على كتفه، غبطةً وتعظيماً لهذا الشرف العظيم، وقال كلمته الشهيرة : (بخ بخ يا ابن أبي طالب أصبحت مولانا ومولى المؤمنين).

ولو ناقشنا القيمة التّوثيقيّة، لمصدريّة هذه البيّعة الغرّاء، لنجدنّها يتيمة دهرها، في تفرّدها من حيث النّقل، لا بلّ نجزم متأكّدين بأنْ لَمْ يعرف التّدوين الإسلامي، واقعة إسلاميّة تناولتها طرق الروايّة، ومصادرها الصحيّحة كواقعة الغدير. فقد أجمع على صحتها، جميع رواة الحديث، في الصدر الأوّل من الإسلام، وتعدّدت مصادر روايتها، فانتقلت من أخبار الآحاد، إلى الإجماع المشهور. وقد أحصى وضبط العلاّمة الجليل (الشيخ عبد الحسين احمد الاميني النجفي (قدس سره)، في موسوعته الغرّاء (كتاب الغدير)، حيث ذكر مائة وعشر، من الصحابة الذين رووا حديث واقعة الغدير، بطرق مختلفة، وكذلك مثلهم من التابعين.

إنّ هكذا استفاضة وإجماع في مصادر المسلمين، في حادثة تاريخيّة معيّنة، تخرجنا من كلّ دوائر الشكّ، التي يرسمها الأفّاكون والمرجفون، في محاولاتهم لطمس الحقائق النّاصعة. لقد حدّدت بيّعة الغدير المباركة، معالم مهمّة على الواقع منها :

1. بيّعة الغدير، خصّصت خطّ الإمتداد المستقبليّ للرسالة الإسلاميّة، ووضعها بيد الوليّ المعصوم. فتحدّدت ماهيّة القلوب الواعية للرسالة، والأيادي الراعيّة لها.

2. لقد أسّست هذه البيّعة، منهجاً عقائديّاً وفكريّاً، يحصر عمليّة تفّسير النصّ التشريعي (القرآن والسُّنة)، في جهة الإمامة المعصومة.

3. بهذه البيّعة أصبحت الجهة المسؤولة، عن  استنباط الحكم الشرعي من (القرآن والسُّنة)، مناطة بالإمام المعصوم  من الخطأ، لضمان صيانة الحكم الشرعي من الخلل والاضطراب.

4. استكمال العمليّة التشريعيّة للمراحل التاريخيّة القادمة، لتسّتوعب كلّ مجالات الحياة. وإخضاع الواقع التشريعيّ لإنتاج الأحكام، لتلبية متطلبات التغيير المستقبليّة، للمراحل اللآحقة من عمر الرسالة المحمّديّة المباركة.

5. تحرير رسالة الإسلام عقائديّاً وتشريعيّاً وفكريّاً ومعرفيّاً وسلوكياًّ، (نظريّاً وعملياً)، من ثوابت الجمود، التي تفرضها حالة الإنغلاق والتقوقع على الذّات. جرّاء عدم التواصل مع التفاوت الزماني، الذي يفصل، بين مقررات الأصل في الماضي، ومتطلبات العصر في المستقبل.

6. بيّعة الغدير حدّدت مرجعيّة الأمّة وقيادتها، على الصعيدين الدّيني والدّنيوي.

7. التفويض الرّباني المبارك، الذي بشّر به الرسول الكريم (ص)، في واقعة الغدير، مدّ الإسلام المجيد، بعناصر تحميه من الخرافات والتزييفات والتحريفات والاضافات، التي أصبحت مصيراً للرسالات السماويّة السابقة.

على ضوء ما تقدّم، تصبح بيّعة الغدير، حادثة ذات شأن عظيم، في تاريخ الأمّة الإسلاميّة. وإنّ إعادة التأمّل بها ودراستها، من جميع جوانبها المختلفة، بصورة شموليّة وبطريقة علميّة دقيقة، ستكون بالتأكيد، منطلقاً جديداً لمعززات الإسلام الحنيف، وباعثاً لتوّحيد الصفّ الإسلاميّ الممزق. بشرط أنْ يقوم بهذا الجهد علماء الأمّة، ومثقفوها، لا المتطرفين من أهل الجهالة والانغلاق والظلام. وكلّ عام والبشريّة جمعاء بخير وسلام... والسلام.       

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 18/كانون الثاني/2008 - 19/ذي الحجة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م