حج بيت الله.. اشتياق إنساني عتيق

مظاهرة تواصلية للتسامح والوحدة وفتح الآفاق

ميثم العتابي

شبكة النبأ: أقتضت ضرورة الحكمة الإلهية ان تجتمع في الإسلام ثوابت الأديان السابقة، والعقائد الصالحة منها، فكانت جميع الوصايا التي أوصى بها الله سبحانه وتعالى وتعالميه للبشر، والتي سبقت الإسلام، موجودة في هذا الدين العظيم، مثل الصوم والصلاة والحج وسواها.

وهي من العقائد الصحيحة الراسخة التي وان حاول البعض ممن سبق الإسلام (كاليهود والنصارى) تغيير مسارها بالجهة التي تصب في مصالحهم، وفي هذا قال الله سبحانه وتعالى مخاطبا إياهم في محكم كتابه الكريم (يحرفون الكلم عن مواضعه) او (يشترون بآيات الله ثمنا قليلا) وهذا التحريف ناتج عن المصلحة الشخصية، او ما تقتضيه مرحلة بعينها من الحكم السياسي او الاقتصادي لتلك الأمة او ذاك البلد. ولكن هذا الحال توقف نهائيا في الإسلام ومسألة القرآن الكريم ذلك مما أستودعه الله سبحانه وتعالى وأشار إليه بقوله (إنا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون).

ومن العقائد والممارسات المهمة التي احتفظت بها الاديان وصولا إلى الإسلام الحنيف هي الحج. وتعد هذه الشعيرة من الركائز المهمة، ذلك ان الحج كان ومازال معمولا به من قبل الاديان السماوية أو غيرها، فمنذ فجر التاريخ نجد ان الإنسان بطبيعة الحال قد صنع مركزا لخضوعه فيما يشبه بحثه عن القوى العليا الخارجة عن مكوناته الإنسانية البسيطة، وهذا المركز يتمحور في الطواف أيضا ليكون مركزا آخر، وجاء ذلك جليا في الاصحاح 26 من مزامير داوود: (أَغسل يدي في النقاوة فأَطوف بمذبحك يارب) وهذا دليل على وجود الطواف فيها.

والمركز القدسي للحج والطواف معروف لدى قدماء الفرس واليونانيين والهنود والبوذيين والرومان، ايضا كان الحج من الشعائر المهمة لدى الساميين، والكثير من النصوص السريانية واليونانية واللاتينية أشارت إلى الحج والطواف، وصولا إلى الحج عند العرب في الجاهلية، وهذا يوضح ان الحج كقيمة اعتبارية روحية كان معروفا وموجودا ومعتدا به لدى اغلب الحضارات والديانات القديمة.

والحج كنقطة وصول بحد ذاتها، هي للخلاص ولتجديد الولاء، فهو اللجوء إلى ما يمثل بيت الله، ومن هذا كان الاشتقاق لكلمة بيت الرب، حيث يعود تاريخ هذه الكلمة إلى السومريين، فكلمة (بت) تعني المعبد، وكلمة (آيل) تعني الإله، وينتج من جمعهما (بت آيل) أي معبد الإله، ثم وبتطور اللغة ومقتضياتها، تطورت المفردة لتاخذ نحتا جديدا فتكون (بيت) وهي سومرية أيضا، فأخذت صيغة جديدة تعرف بـ (بيت الله).

ولأن الاقوام والحضارات السابقة كانت تؤمن بأكثر من رب، وتؤمن بتعدد مفهوم الربوبية المشركة لديهم، فقد تعددت البيوت وبحسب نوع ذاك الإله. ذلك انهم يتخذون من دون الله أربابا لاينفعونهم ولايضرونهم بحسب ما جاء من العلي الأعلى على لسان الانبياء صلوات الله عليهم.

ومن هنا انتشرت في بلاد كنعان بيوت هؤلاء الأرباب، معتمدين في بناءها الشكل المكعب، فأطلقوا عليها فيما بعد بـ (كعبو) وتطورت التسمية بحسب اللغة العربية لاحقا لتكون (الكعبة).

ويختلف المؤرخون والرواة طبقا للقرآن الكريم والاحاديث الشريفة المتواترة عن النبي الأعظم (ص) وأهل بيته (ع) والمنطق التاريخي في معرفة التاريخ الفعلي لإنشاء الكعبة الشريفة في مكة المكرمة، ذلك ان الدور الذي أناطه الله سبحانه وتعالى بإبراهيم (ع) في بناء البيت الحرام، ما كان إلا تجديد لا مسألة بناء أولي، فذلك أوضحته الآية الشريفة التي تشير إلى رفع القواعد من قبل إبراهيم (ع) وولده إسماعيل (ع)، ورفع القواعد يؤكد دلالة وجود البيت مسبقاً على وجود إبراهيم (ع). ذلك ان بعض الأدلة تشير إلى ان الله عز وجل رفع البيت في وقت الطوفان ثم إعادة تثبيته في عصر إبراهيم (ع). والبيت هو ذاته على شكل البيت الموجود في السماء كما جاء في الحديث الشريف، ومن هنا انطلقت الأمم التي جاءت بعد إبراهيم (ع) في بناء معابدها وبيوت أربابها.

وقداسة البيت الحرام الموجود في مكة، هي قداسة تاريخية ذلك ان العرب تحترمه وتحج إليه وتعتمر، ومن طقوسها أيضا الطواف سبعاً، والسعي والتلبية ورمي الجمرات والهدي، وشهر الحج من الاشهر الحرم أيضا. وبسبب من تعدد الآلهة ـ كما قلنا ـ تعددت البيوت المسماة بـ (الكعبة) لدى العرب فمنها (بيت اللات) و(كعبة شداد الايادي) و(كعبة غطفان).

اما حين لاحت ولادة الرسول الاعظم (ص) وبانت بشائر رسالته الكريم، شاء الله سبحانه وتعالى ان تبقى جميع الشعائر القديمة الخاصة ببيته الحرام، ذلك ان هذه الشعائر في أصلها من سنن إبراهيم (ع)، بيد ان العرب في الجاهلية قد أدخلوا عليها ما شوهها، بإضافة أعمالهم وأفعالهم الشركية، فما كان من النبي الأكرم (ص) إلا ان يحيي السنن القديمة ويزيل العوالق المشرِكة التي أحاطت بهذه المناسك الشريفة.

فهدمَ أصنام قريش من البشر والحجارة، فمن (أساف) و(نائلة) و(هبل) و(اللات) و(العزة) إلى رؤس الكفر والشرك من قريش (أبو جهل) و(أمية) (وأبو لهب). حتى ثبتت كلمة الله العليا، فحق الحق وأعاد الصدق والنقاء، فأصبح الحج المعادلة الموضوعية والمعاهدة الصادقة ما بين العبد وربه العظيم الأعلى، حيث تعهد فيها الله سبحانه وتعالى ان يعيد العبد من لدن بيته نقيا من كل سوء ودنس، ملزما العبد ان لايلوث هذا المكان بقول وفعل، وان يتواصى العبيد فيما بينهم لدى المثول بين يدي الرحمة الإلهية في رحاب بيت الله جل في علاه، بالرحمة والمودة وحسن القول والفعل والسلوك، والتطهير الكامل من كل الأدران العالقة بالذات الإنسانية. فجاء الناس جميعا إلى خالقها بقلوب وأفئدة تواقة مشتاقة ومن كل فج عميق. 

من هذا نجد ان للحج:

1) إلى جانب كونه شعيرة مهمة في الدين الحنيف، فهو مظاهرة تواصلية بين جميع شرائح المجتمع، بإختلاف ألوانهم واشكالهم وتشكلاتهم، المعرفية والثقافية والإجتماعية، فلا فرق هناك بين أحد منهم، فالزي واحد، بلون واحد، والشعيرة واحدة، والجميع سواسية لدى باب الله.

2) التنوع المعرفي في الحج يساهم في الاطلاع على الاخر ومعرفته، وبالتالي يكون هذا التنوع والخليط والمزيج الاسلامي، محط فخر لنا جميعا، ومدعاة للتأمل فيما وصلت إليه الدعوة المحمدية الشريفة التي ظهرت آنذاك بعدة وعديد قليلين.

3) ذات الحج مظاهرة ترمز إلى الصفاء، ونبذ العنف، من خلال اللون الذي يرتديه الحاج، فهي تظهر للعالم أجمع، بإن الاسلام دين تسامح ومحبة وصفاء ونقاء.

4) يساهم في توسيع آفاق ورؤية العلماء وطلبة العلم، ذلك من خلال الاحتكاك المباشر أثناء تأدية مناسك الحج، وبالتالي الانتباه لم فقد نظريا وإمكانية تطبيقه عمليا.

5) ومن بين الاشياء المهمة والمسكوت عنها، ان الحج يساهم في تقريب وحدة المسلمين، فيمكن من خلال موسم الحج عقد اللقاءات والندوات وفتح الحوارات مع جميع المفرق والمذاهب الاسلامية، للخروج بخطاب يضمن حقوق المسلمين ويتبرأ من الأعمال التي تطال الانسانية جمعاء، والتي تنسب للإسلام والمسلمين.

6) الشعور أثناء تأدية المناسك، بالاختلاف والفرق الواضح، الذي تخلفه زيارة بيت الله الحرام، وما تقذفه في النفس من السكينة والهدوء والطمأنينة والراحة وحب الخير للجميع.

رزقنا الله وإياكم حج بيته، وزيارة قبر نبيه (ص) وقبور البقيع إنه سميع مجيب.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 8/كانون الثاني/2008 - 9/ذي الحجة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م