التطبيع الثقافي قبل السياسي

محمد علي جواد تقي

من الملاحظ ان ظواهر تطرأ بين فترة وأخرى على الواقع والسلوك الاجتماعين، فتترك إنطباعاً عاماً قبل ان تتحول الى ثقافة يتبناها الجميع، فهي كالبذرة التي تتلاقح مع التربة فتنمو بمساعدة العوامل المختلفة والمعروفة، ثم تعطي ناتجاً؛ فإما ان يكون ثمره حلو المذاق مفيد لجسم الانسان، وإما ان يكون ثمره بمرارة الحنضل وربما تكون ضارة وحتى سامة وقاتلة.

أتذكر الايام والاسابيع الاولى للتغيير الكبير الذي حصل بسقوط نظام صدام، ان معظم حافلات النقل الخاص الصغيرة المعروفة محلياً باسم (الكيّة) كانت تُسمع الركاب اصوات المراثي الحسينية أو الادعية المأثورة وبأصوات مقرئين مشهورين، واصحاب الحافلات وغيرهم سجلوا في هذا الموقف رفضهم الشديد لسياسات صدام التي سعت الى محور آثار التديّن من النفوس، لكن هذه المراثي والاصوات الشجيّة المليّنة للقلوب، اختفت أو خفّت صوتها بعد اقتحام ظاهرة جديدة حملها الهاتف النقال وهي النغمات المثيرة بطربها للمشاعر وتذهب بها بعيداً عن تحكيم العقل والضمير...

وفي مدينة كربلاء المقدسة لم نكن نلحظ سابقاً مظاهر التبرج لدى النساء لاسيما المتوجهات منهن صوب حرمي الامامين الحسين وأخيه أبي الفضل العباس عليهما السلام. حتى فتحت اسواقنا على مصراعيها بعرض السلع والبضائع القادمة من كل انحاء العالم.

وللطرافة نتساءل: ماالعلاقة بين جوراب صغير للاطفال وبين صور ملصقة عليه تروّج لملابس داخلية نسائية؟! وهذا الأمر طبعاً ينسحب على ملابس الرجال والشباب وأيضاً سلوكياتهم.

لكن هل يعني هذا إننا في كربلاء المقدسة وبقية مدن البلاد اصبحنا مستوردين للثقافة كما رضينا باستيراد كل شيء من السلع والبضائع من الخارج، الاجابة لدى كل انسان غيور على دينه وعقيدته وتاريخه، فكل من يقارن بين المنجز الثقافي الضخم والتراث الحضاري الذي خلفه لنا عظماؤنا وبين السلوكيات في الشارع والظواهر القائمة هنا وهناك لا يشك بان ثمة مشكلة وخلل وفراغ في المسألة وما موجود أمر غير طبيعي، بدليل إن المتقمصين للنماذح المستوردة من رجال ونساء ليسوا مستعدين للدفاع عما يحملوه إذا ما استوقفهم شخص وأثبت لهم وجود نماذج أرقى وأجمل مما هم عليه، وهم على هذه الحالة إنما يزجون بأنفسهم الى ما أبتليت به شعوب اسلامية قريبة جداً منا، فقد استفادت من التطور والحداثة في كل شيء، فشيّدت اقتصاديات ضخمة وحياة مرفهة، إلا ان كل هذا البنيان يتعرض اليوم للاهتزاز بسبب شدة المرارة التي يتذوقها المجتمع من تلك الثمرة الوافدة والدخيلة على بستانه وروضته.

حدثني أحد الاخوة الذي كان مقيماً في احدى الدول المجاورة بان مجرد وجود رجل مطلق للحيته بعض الشيء، مخفياً صدره بما لديه من أزرار القميص، يكفي لانذار المتبرجات على الرصيف بتعديل شكل الحجاب أو تحسينه أو تحسس الشعر المتطاير سهواً و.... غير ذلك، ومن دون أي كلمة تُقال وتُذكر... ونحن بحاجة الى تطبيع كهذا في الوقت الحاضر بالذات، لأن هذه الفترة بالحقيقة تعد انتقالية في مقياس التغيير الشامل للدول والمجتمعات المتحولة، وعندما يتطبع المجتمع على ثقافته وقيمه فانه دون شك يكون قادراً على التطبع على السياسة التي يفضلها وتنسجم مع تلك الثقافة.

ومن هنا يمكن تفسير عزوف معظم الناس عن الخوض في العملية الديمقراطية في تجربتها الجديدة وهي انتخابات مجالس المحافظات، لأنهم لا يجدون ثمة مايحملهم الى صناديق الاقتراع ومن ثم وضع ثقتهم في مرشح ما، وربما حالهم يكون كحال المرأة المطلقة التي وضعت ثقتها ومشاعرها في الزوج الاول ثم الثاني والثالث، حينها سيكون من الصعب عليها تصديق رجل رابع بانه محل ثقة حتى وإن أقسم بالأيمان...

ونرجو ألا يدوم وضعنا على هذه الحالة، وإن كان الرجاء وحده لا يجدي نفعاً إن لم يقترن بالعمل، "وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ".

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 16/تشرين الثاني/2008 - 16/ذي القعدة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م