المجاز والنظام اللغوي للقرآن الكريم

أ. د. حسن منديل العكيلي

يبنى النظام اللغوي للقرآن الكريم على (المشابهة) وتعلق بعضه برقاب بعض في المكونات اللغوية كافة: الدلالية والنحوية والصرفية والصوتية والبلاغية.

قال تعالى:

{أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراًْْ} (سورةالنساء 82).

وقال: { كتاب فصلت آياته ثم أحكمت من لدن خبير عليم} (سورةهود1).

وهذا النظام يجعل النّص القرآني نصاً مفتوحاً يحمل معنى متحركاً يوافق حركة التاريخ وتحولات الفكر الإنساني في مختلف العصور، يناسب المتغيرات الزمانية والمكانية، ينبغي على الباحث تدبره والانطلاق منه في دراسة لغة القرآن الكريم (العربية) وظواهرها المختلفة، لا من مناهج معيارية ومنطقية وغربية وغيرها.

 ان النص القرآني ينساق في ضوء نظام معجز محكم، يشبه بعضه بعضاً ويتعلق بعضه برقاب بعض في كل مكونات النص القرآني نجد النظام نفسه: الصوتي والصرفي والتركيبي والبياني والدلالي، وكل هذه المكونات يحكمها النظام نفسه، وهذا سبب الترابط والتماسك والجمال والعذوبة والموسيقى الرائعة التي تحدّث عنها علماء إعجاز القرآن القدامى والمعاصرين، ولكنهم لم يتناولوا نظام القرآن تناولاً كلياً بل كان تناولهم اياه تناولاً جزئياً.

وهذا النظام المعجز هو من أسباب حفظ القرآن منذ نزوله والى يومنا هذا من غير تغيير أو تطورلفظي في نصه، فاللفظ ثابت والمعنى متحرك، ذلك ان نظام القرآن يحوي المتغيرات الزمانية والمكانية.

وهو كذلك أهم وجوه إعجاز القرآن، ذلك ان نظامه اللغوي يشبه نظام الكون المبني على التشابه والترابط أيضا، قال تعالى: {كل في فلك يسبحون} وهو دليل على أن خالق الكون هو قائل القرآن الكريم، وهذا اثبات علمي لمعجزة نبينا الكريم (محمد) صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا، ورد علمي على المعادين للاسلام ممن نسمع بهم عبر وسائل الاعلام هذه الأيام.

وقد فصّلت القول بنظام القرآن اللغوي في اطروحة الدكتوراه : ( العدول عن النظام التركيبي في أسلوب القرآن الكريم – دراسة نحوية أسلوبية )([1]) وذكرت شواهد قرآنية كثيرة عليه.

تناول البلاغيون نظام اللغة العربية البلاغي في باب المجاز وجعلوه بديلاً منه وتوسعوا فيه وتناولوه تناولاً عقلياً في علوم البلاغة ولاسيما علم البيان الذي خصوه به فضلاً عن فروع علمي المعاني والبديع ومسائلهما. واهتموا بالجانب الدلالي او العدول الدلالي لذلك خصّوا به باب الاستعارة والكناية. خلافاً للفخر الرازي الذي أخرج الكناية منه([2]). وتناولوا فيه مسائل نحوية وصرفية وبلاغية كثيرة.

والدليل على أنهم تناولوه كما انه النظام اللغوي للعربية، اختلافهم في الحذف والتقدير والتقديم والتأخير والالتفات والتشبيه أهي من المجاز او لا؟ وهي تأويلات قال بها النحاة لا تدل على النظام اللغوي للعربية , وعدها البلاغيون عدولا عن الاصل. وقد أطلقنا عليها اصطلاح: العدول الصناعي. ودليل آخر تناولهم اياه كالتشبيه له طرفان وبينهما علاقة وملابسة ووجه شبه و لا يكون إلا لمناسبة وقرينة كالنظام المذكور.

ولا نخوض في دلالة المجاز اللغوية والاصطلاحية، والخلافات العقلية والفقهية والمنطقية، وبوقوعه في النص القرآني([3])، والعوامل الباعثة لدراسته في ردّ المطاعن في النص القرآني كطعنهم في قوله تعالى: ) فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ( (الكهف: 77) و ) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ( (البقرة:16)، فاسند الفعل إلى غير فاعله، وغير ذلك مما أخذوا على النص القرآني([4]).

وتناولوه في قسمين:

- المجاز اللغوي، او الافرادي او المجاز بالمفرد، وهو استعمال اللفظ في غير ما وضع له.

- المجاز العقلي او التركيبي و الاسنادي، وذلك ان يسند الفعل وشبهه الى غير ما وضع له أصالة لملابسة له، أو بضرب من التأويل. وهذا الذي نعني به وهو يمثل نظام العربية في مستواها البلاغي، إلا إننا نركز على العدول التركيبي لا الدلالي. نحو ) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ ( (محمد:21)، لأن الأمر هو المعزوم عليه.

 وذكروا تحتهما فروعاً كثيرة متداخلة وأقساماً دلالية ووظيفية، وخلطوا بين مستويات نظام العربية، وأنواع الاسنادي كثيرة بحسب طرفيه والمشابهة والملابسة منها، إطلاق اسم الجزء على الكل والخاص على العام والملزوم على اللازم، والمسبب على السبب وعكسها. وتسمية الشيء الى ما كان عليه، وما يؤول إليه، والحال على المحل والعكس، وإطلاق اسم الشيء باسم آلته وباسم ضدّه، وإضافة الفعل الى ما لا يصح فيه تشبيهاً، وإطلاق الفعل والمراد مشارفته ومقاربته، والقلب الاسنادي والتشبيهي. وإقامة صيغة مقام أخرى وأنواعه الكثيرة، والواحد على المثنى والجمع وتقليباتها، والتغليب والتضمين، والنيابة وغيرها.

 مما يدل على نظام العربية، وتعلق بعضها برقاب بعض، وحمل الشيء فيها على الآخر مما يسمح به نظام العربية الذي يقوم على المشابهة والتعلق.

ومنه إطلاق الأمر وإرادة التهديد، وخروج الاستفهام والنهي والأمر والنداء والنفي وغيرها الى معانٍ مجازية مما تناولوه في علم المعاني. وما تناولوه في علم البيان كالتشبيه والاستعارة والكناية([5]) وما تناولوه في ظواهر اللغة المختلفة ومستوياتها كالاتساع والضرورة والحذف والزيادة وغير ذلك.

وعلى طريقتهم ومنهجهم العقلي يمكن تحويل كثير من الحقيقة مجازاً لسعة منهجهم في التأويل وهو ما يسمح به نظام العربية والقرآن، فقد عدّ ابن جني كافة الأفعال مجازاً بالتأويل، قال: "إن أكثر اللغة مع تأمله مجاز لا حقيقة"([6]).

إن سعة نظام العربية وحيويته واطرّاده الذي تناولوه في المجاز يضيف المعاني المبتكرة والإبداع في اللغة الفنية ويسعف الأديب المبدع والمعرّب في عملية إثراء اللغة وإحيائها وتطورها.

فهو حاجة للتعبير وتوسع للغة وأساليبها الجديدة والمتطورة، ففي التعبير المجازي قد يسند الفعل الى غير فاعله الحقيقي تأكيداً على هذه الظاهرة كما في قوله تعالى: ) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ( (القمر:1)، فالساعة لا تقترب تلقائياً، والقمر لا ينشق ذاتياً، وإنما أضيف لها الفعل لتضخم الحدث وليتجه التفكير نحوه.

 فالمجاز ينقل إلى المعنى الثاني، ويحتاج إليه المبدع ولاسيما في الاستعارات الكثيرة والكنايات. قال الصغير في المجاز: انه "خصائص فنية من وجه ومؤشرات اعجازية من وجه آخر، فهو بمفهوم غير اعتباطي خصائص اسلوبية متطورة للموروث اللغوي"([7]) إلا إن البلاغيين توسّعوا في مبررات علاقات المجاز العقلي "وتفننوا بالتقسيمات المضنية، وتعللوا بالتخريجات المنطقية تارة، والكلامية أخرى والنحوية وسواها حتى بلغوا بذلك حدّ الإفراط مما ذهب برونق هذه العلاقة"([8])

واخترعوا أسامي نحو: السببية والمسببية والزمانية والمكانية والفاعلية والمفعولية والمصدرية وغيرها من علاقات المجاز وإنما هي تابعة للذوق.

 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين هو حسبنا و نعم الوكيل.

* قسم اللغة العربية – كلية التربية للبنات-جامعة بغداد

[email protected]


[1] جامعة بغداد، كلية التربية للبنات 2008.

(2) ينظر: نهاية الايجاز 103، والايضاح 203.

(1) ينظر: البرهان 2/254، والمزهر 1/ 304، 355، والاتقان 3/ 109 وتاج العروس 1/ 24 وحيوية اللغة 274.

(2) ينظر: مجاز القرآن 1/5 وتأويل مشكل القرآن 123، 175، ومعترك الاقران 1/ 246.

(1) ينظر: تأويل مشكل القرآن 275-296 والبرهان للزركشي 2/257، 273-396.

(2) الخصائص 2/ 456.

(1) ينظر: مجاز القرآن، الصغير 83، المجاز واثره في الدرس اللغوي 7.

(2) مجاز القرآن 86، 9، 128.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 1/تشرين الثاني/2008 - 2/ذي القعدة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م