في ذكرى إستشهاده: الإمام الصادق(ع) مؤسس العلم ومنبع الاصالة

إعداد المركز الوثائقي والمعلوماتي*

شبكة النبأ: لا شك أن حياة العظماء والعلماء تزخر بكثير من المواقف التي تبتنى عليها الحياة لكل شعب أو مجتمع، ويعتبر الإمام جعفر أبن محمد الصادق (ع) واحدا من اكبر العظماء الذي أثرى الساحة العلمية والجهادية بالكثير من المعارف والعلوم، فنجده مرة يؤسس أضخم وأكبر مدرسة دينية خرَّجت الآلاف من العلماء والقيادات الإسلامية ونجده مرة أخرى يقود جموع المسلمين في عصر تكالبت فيه قوى الاستكبار وهي تنهش بجسد الأمة الإسلامية ليخلصهم من براثن الجهل والتخلف والاستعباد.

أما على الصعيد الجهادي فكان الإمام الصادق جزء لا ينفك من تلك الثورات التي شُرعت لمواجهة ماتبقى من بنية أمية من هؤلاء الذين أستخدموا أبشع الطرق للتخلص من الدين المحمدي، كما واجه الإمام الصادق عليه السلام بداية النفوذ العباسي هذا النفوذ الذي أسقط الأقنعة عن بنية أمية ليرتدي هو قناع ربما تختلف الوجوه فيه ولكن مع بقاء آلات القمع والقتل نفسها التي اتخذت من جسد الإسلام وقياداته فروة لمس دماء المسلمين.

مدرسة الإمام الصادق(ع)

المدرسة العلمية للإمام الصادق عليه السلام تركز على أهمية العلم و التدريب و التجارب العلمية و الصبر على التجربة و الاستفادة من الإخفاقات الأولى لتصحيح المسار و اختبار النظريات في أرض الواقع فالواقع العملي هو البرهان الساطع على صحة النظرية من عدمها و كلما اتسعت رقعة الاختبارات العلمية العملية التي هي الأساس الراسخ لصحة أي فرضية كلما ازدادت صوابية النتائج التي يخلص إليها الباحثون سواء كان هذا في مجال البحث العلمي أو حتى الإنساني.

إن الإمام الصادق(ع)، هو أحد أعلام المدرسة الربانية، الذي أتاح له عصره أن ينشر فيها من العلوم ما شاء الله له أن ينشر شرقاً وغرباً، ثم يضيع منها ما يضيع ويبقى منها ما يدهش علماء الغرب والشرق، ويثير هممهم لإعداد دراسات موسعة عما وصلهم من علوم الإمام الصادق(ع).

في هذه المدرسة استمع العلماء إلى اشراقات علمية لم يعهدها ولم يسمع بها أحد من هؤلاء العلماء من قبل في المدارس الأخرى.

وحيث لم يكن العصر مستعداً لا فكرياً ولا تقنياً لاستقبال تلك الكنوز والاستفادة منها، كان لابدّ من ظهور تلك العلوم على شكل رشحات خفيفة أو إلماعات مشرقة أمام آلاف العلماء بأيديهم الأقلام والقراطيس.

 (ففيما كان الإمام الصادق لا يزال في مدرسة أبيه الباقر، عاد أحد تلامذة الإمام من مصر، حاملاً معه كرة أرضية مصغّرة مصنوعة من دقيق الخشب مركبة على قاعدة مستديرة، في سمائها اثنتا عشرة مجموعة من النجوم من برج الحمل حتى برج الحوت على شكل هيئة حزام يطوق الكرة كما تصورها بطليموس في كتابه (المجسطي) في القرن الثاني الميلادي، وكانت صورة الشمس تقع خلف الكرة بحيث تشير إلى دورانها حول الأرض مرة كل سنة مارة على منطقة البروج، وكذلك صورة القمر والسيارات الأخرى وهي تدور حول الأرض.

كانت هذه الكرة أول نموذج مصغّر للكرة الأرضية والسيارات الأخرى يراه الإمام الصادق، ومع أنه آنذاك كان في الحادية عشرة من عمره، فقد انتبه بذكائه الوقّاد إلى الخطأ الكبير الذي وقع فيه بطليموس فقال: إذا كانت الشمس تدور حول الأرض وتنتقل من برج إلى آخر في ثلاثين يوماً لتتم دورتها مرة كل سنة، فما هو السر في غيابها كل ليلة لتظهر في صباح اليوم الثاني؟ إذا كانت الشمس تستقرّ في كل برج شهراً واحداً فلابدّ أن نراها بصورة مستمرة فلا تغيب عنا كل مساء).

لا ريب أن الإمام الصادق (ع) كان على معرفة أكيدة بالطب، وقد خصص فيما ألقاه على المفضل بن عمر الجعفي فصلاً تحدث فيه عن الطبائع وفوائد الأدوية ووظائف الأعضاء.

وقد جمع بعض علماء السلف شيئاً كثيراً من آراء أئمة أهل البيت (ع) في الطب وسماه (طب الأئمة)، والمجلسي يروي الكثير عن هذا الكتاب في موسوعته الكبيرة (بحار الأنوار) وكذلك الحر العاملي في (وسائل الشيعة)، إلا أن كتاب (طب الأئمة) هذا فقد بعد ذلك ولا وجود له اليوم إلا في بطون الكتب.

وقد كان الطب من أحد العلوم التي كان يقررها الإمام الصادق في مدرسته، ويفيض في الإبانة عنها وكشف أسرارها وخفاياها.

 (ومن خريجي مدرسة الإمام الصادق العلمية في مجال الطب والصيدلة جابر بن حيان، فهو بالإضافة إلى تخصصه في الكيمياء، صنف مؤلفات في الطب، أورد منها ابن النديم - في الفهرست -: (رسالة في الطب - كتاب السموم - كتاب المجسة - كتاب النبض - كتاب التشريح). وكان جابر أول من أشار إلى طبقات العين، فسبق بذلك يوحنا بن ماسويه المتوفى سنة 243هـ وسبق حنين بن إسحاق المتوفى سنة 264هـ، وهما من أعلام الطب في هذا العصر).

من الثابت أن الإمام الصادق (ع) كان على علم بخواص الأشياء منفردة ومركبة، وأنه درّس علم الكيمياء في مدرسته، وقد اشتهر من تلامذته في هذا العلم هشام بن الحكم وجابر بن حيان.

أما هشام فنظريته في جسمية الأعراض كاللون والطعم والرائحة مشهورة، وقد أخذها عن تلميذه إبراهيم بن سيار المعتزلي. ومؤدى هذه النظرية أن الضوء يتألف من جزيئات في منتهى الصغر تجتاز الفراغ والأجسام الشفافة، وأن الرائحة تتألف من جزيئات متبخرة من الأجسام تتأثر بها الغدد الأنفية، وأن المذاق جزيئات صغيرة تتأثر بها الحليمات اللسانية.

وقد أثبت العلم الحديث صحة ما ذهب إليه هشام بن الحكم الذي أخذه عن أستاذه الإمام جعفر الصادق (ع).

أما التلميذ الأكثر شهرة في مجال الكيمياء والعلوم الطبيعية - جابر بن حيان - فقد دوّن في ألف ورقة وخمسمائة رسالة من تقريرات الإمام في علمي الكيمياء والطب. وتمكن من تحقيق وتطبيق طائفة كبيرة من نظريات الإمام العلمية، أهمها: تحضير (حامض الكبريتيك) بتقطيره من الشَّبَّة وسمّاه (زيت الزاج) كما حضّر (حامض النتريك) و(ماء الذهب) و(الصودا الكاوية)، وكان أول من لاحظ ترسب (كلورود الفضة) عند إضافة محلول ملح الطعام إلى ملح (نترات الفضة)، وينسب إليه تحضير مركبات أخرى مثل (كربونات الصوديوم) و(كربونات البوتاسيوم) وغير ذلك مما له أهمية كبرى في صنع المفرقعات والأصباغ والسماد الصناعي والصابون وما إلى ذلك.

ولم تقف عبقرية جابر في الكيمياء عند تحضير هذه المواد فحسب، بل انه انبعث منها إلى ابتكار جديد في الكيمياء سماه (علم الميزان) أي معادلة ما في الأجساد والمعادن من طبائع.

وقد جعل لكل جسد من الأجساد موازين خاصة بطبائعه، وكان ذلك بداية لعلم المعادلات في طبائع كل جسم.

كما امتد نشاط جابر إلى ناحية أخرى من الكيمياء يسمونها (الصنعة) أي تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن ثمينة من ذهب وفضة بموجب توجيهات الإمام الصادق(ع). ويعد جابر رائداً لمن أتى بعده من العلماء الذي شغفوا بهذه الناحية من الكيمياء كالرازي وابن مسكويه والصغرائي والمجريطي والجلدكي).

الإمام الصادق و علماء الغرب

و في تساؤل طرحه علماء الغرب عن مصدر علوم الإمام الصادق(ع)، وأنه هل كان للإمام علم باطني (غيبي) أو لدني كما تقول الشيعة؟ وهل استنبط نظرياته بعلم الإمامة دون العلم البشري؟

وإذ يصعب عليهم الإقرار بهذا لأنه بعيد جداً عن أذهانهم ومناهجهم، فقد رأيناهم يردون علم الإمام الصادق إلى النبوغ والذكاء والعبقرية الفريدة تارة، وإلى ما تلقاه من العلوم المنقولة عن الأمم السابقة والتي كانت محل اهتمام وعناية مدرسة أبيه الإمام محمد الباقر(ع) تارة أخرى.

إنهم يقولون: (وفي رأينا أنه من العسير التوصل إلى مثل هذه الحقائق العلمية دون مختبرات علمية عصرية، ولكن هذا هو ما تناهى إليه علم الصادق قبل اثني عشر قرناً، ولا غرو، فالعباقرة أقدر من سواهم على استنباط ما تعجز عنه العقول، لأن عيونهم تخترق الظلمات وترى ما لا يراه غيرهم من المبصرين.

ويبقى السبق للإمام الصادق (ع) في كافة هذه العلوم بحيث كان المنارة التي شعت منذ النصف الأول من القرن الثاني الهجري - القرن السابع الميلادي - لتذكي فتيل النهضة العلمية في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولتلفت أنظار علماء الغرب إلى ذلك العبقري الفريد الذي تمتع بنبوغ متميز لم يسبقه سابق قبله بألف عام ولم يلحقه لاحق بعده خلال ألف عام، ذلك هو الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع).

ولذلك فالإمام الصادق الذي أعطى رسالة النبي محمد زخماً قوياً وَدَماً جديداً يسري في عروقها وشرايينها التي أتعبتها الخلافة الأموية لم يكن إماماً لطائفة محدّدة دون طائفة، ولم يكن إماماً قطّ لمذهب دون مذهب آخر، بل كان إماماً وسيّداً لكل المسلمين على حدٍّ سواء، ويكفي أن نقول إن أئمة المذاهب الأربعة، وبشكل خاص أبو حنيفة ومالك بن أنس، كانوا من تلامذته.

من جهته ذكر العلامة المحقق المرحوم السيد محمد كاظم القزويني(قدس سره) في موسوعته القيمة – الإمام الصادق (ع) – أسماء أكثر من خمسة آلاف من الرواة ممن تتلمذوا في مدرسته المباركة، وهذا إن دل فإنما يدل على أن الإمام (ع) كرس جل اهتمامه لهذا المحور و صرف نظره عن جميع القضايا الأخرى –وتحديدا الخلافة –وركز جل اهتمامه للثورة العلمية فقط، في حين كانت هناك فرص مؤاتية كثيرة لاستلام الحكومة والخلافة لم تتح لغيره من الأئمة(ع).

ترسيم معالم النظام الإسلامي..

قيل، بدل أن تعطي الجائع سمكة علّمه الصيد، والإمام الصادق (ع) بدل أن يعطينا دولة وحكومة قد لا تستمر طوال حياته الشريفة، أعطانا منهاجا متكاملا للحكومة، ورسم لنا معالم النظام السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي و...لكل دولة يراد إقامتها، ومن الطرف الأخر بيّن لنا ولاة الجور والظلمة وكيفية التعامل معهم أو مواجهتهم، وهو بعمله هذا فضح النظام العباسي القائم في ذلك الوقت واعتبره ليس شرعيا ولايمت إلى الإسلام بصلة، واعتبر أي نقطة تواصل مع الأنظمة المستبدة اشتراكاً معها في الظلم والعذاب، كما اعتبر أي نظام يأتي للحكم ولا يطبق المعالم التي رسمها (ع) وحددها، خروجاً عن الإسلام وتعدياً على الحقوق الخاصة والعامة.

وما يلاقيه شيعة أهل البيت (ع) اليوم من ظلم وتعسف، مردّه تمسكهم بالتعاليم التي نادى بها الإمام الصادق (ع)، وطالب بالأخذ بها عند الحكم على أي نظام سياسي أو التعامل مع أية حكومة.

ثم إن الإمام (ع) عندما لم يطلب الحكم لظروف يراها دون غيره فانه بيّن معالم الحكم والحكومة لغيره، عله يستطيع في وقت ما أن يأخذ بها أو يعمل على هداها، وهذا ما يشاهد جليا في بعض الدول الشيعية التي قامت في فترات مختلفة من التاريخ.

مع قلة الأعوان والأتباع وانعدام الكوادر الكفوءة والمخلصة التي تستطيع تمشية الأمور وادارة الأعمال، فان الحصول على الحكم والاستمرار به يكون بحكم المستحيل، وإذا أراد الإمام أن يقوم والحالة هذه يقع بين محذورين، إما الدخول إلى ساحة العمل بمفرده ونتيجته إلقاء النفس بالتهلكة، أو الاستعانة بالكوادر السابقة ورجالات العهد القديم، وبهذا العمل يكون الإمام قد غير رأس السلطة فقط ولم يحصل على التغيير الذي يريده ويطلبه؛ لذلك فضل (ع) الاستغناء عن السبيلين لمعرفته بنتيجتهما النهائية، والاعتماد على السبيل الأسلم والذي تكون نتائجه مضمونة وآثاره مشهودة إلى يومنا الحاضر.

ولا نبالغ إذا قلنا أن ما لدينا من علوم اليوم يرجع الفضل بها إلى الإمام الصادق (ع) لأنه المنبع الأصيل لجميع العلوم والثقافات والذي تغذت منه مختلف الخطوط والاتجاهات.

وكذلك استطاع الإمام (ع) أن يضع التفاصيل الدقيقة، والخطوط العريضة لكليات الإسلام وأساسياته، ومراجعة سريعة لكتاب الوسائل فقط تكشف لنا الكم الهائل من الأحاديث (القوانين) التي جاءت عنه (ع).

المصادر:

- مجموعة مقالات وبحوث في مجلة النبأ وشبكة النبأ المعلوماتية.

- كتاب التاريخ الإسلامي دروس وعبر(آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي)

.........................................................................................

- المركز الوثائقي والمعلوماتي في مؤسسة النبأ للثقافة والإعلام يقدم الخدمات الوثائقي والمعلوماتية للاشتراك والاتصال www.annabaa.org//[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 26/تشرين الأول/2008 - 26/شوال/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م