الموروث اللّغوي بين المعيارية والسماع

 أ . د. حسن منديل العكيلي

لا يخفى على المختصين في علم النحو التقاطع الكثير بين قواعد النحو والكلام العربي الفصيح ولا سيما القران الكريم.

و خلاصة المشكل في رأينا: - مبني على أساسين:

أولاً: المزج بين المنطق وواقع الاستعمال.

ثانياً: قضية السماع (الأنموذج اللغوي).

أما المشكل الأساس فثمة فارق بين الواقع والمنطق العقلي، نلحظ هذا في كثير من المواقف الحياتية، فالمنطق مثلاً يرى أن العرب كانوا أهل فصاحة وبيان وان لغتهم لا تختلف عن لغة القرآن الكريم، ذلك أن الله تحدّاهم بأن يأتوا بمثل القرآن أو بسورة مثله، ولا يصح التحدي – منطقياً- إلا إذا كانوا مبرزين فيما تحدّوا به. لكن الواقع والتحقيق العلمي اثبت غير ذلك كما سنرى.

إذا عرفنا ذلك فهمنا موقف بعض المذاهب الإسلامية بإبطال القياس وذم الفلسفة. فالدين الإسلامي يختلف عن الفلسفة اليونانية ومنطق أرسو المبني على العقل المجرد.

ينطبق هذا على اللغة العربية ونظامها المرتبط بالنظام الإسلامي والقرآني. إذ يتقاطع مع المنطق العقلي كثيراً. والشواهد على ذلك كثيرة. ونظام لغة القرآن يشبه النظام الكوني، وهذا دليل على أن خالق الكون هو القائل للقرآن الكريم ومنزله([1])

قال ابن جني: "معاذ الله أن ندّعي أن جميع اللغة تستدرك بالأدلة قياساً"([2]). وقوله في أحكام المقيس عليه: "ألاّ يكون شاذاً في الاستعمال مطرّداً في القياس فان كان كذلك، فاستعمل من هذا ما استعملت العرب واجز منه ما أجازوا"([3]) وهو رأي سيبويه أيضاً([4]).

فالمنطق يبيح عبارات لغوية كثيرة غير مستعملة ولا يبيحها الاستعمال اللغوي، قال سيبويه، ان القياس يجيز مثل: أعطاكني واعطاهوني، "إلا انه قبيح لا تكلم به العرب ولكن النحاة قاسوه، لكراهة المتكلم ان يبدأ بالأبعد قبل الأقرب"([5])

"فاللغة ليست نظاماً هندسياً محكماً ولو كانت كذلك لتوقفت عن الحياة وخَلَت من الإبداع"([6]).

وقد أشار النحاة إلى ذلك في مسائل وأبواب نحوية كثيرة مثل قولهم بـ (القياس المتروك او المهجور)([7]). قال ابن يعيش: "مما جاء في الشعر ثلاث مئات وأربع مئات ونحوهما مضافاً إلى الجمع على القياس المتروك"([8]).

وقال سيبويه: "وأما ثلثمائة إلى تسعمائة فكان ينبغي ان تكون في القياس مئين او مئات"([9]) وأقوالهم في ذلك كثيرة.

ومن ذلك باب الحمل على المعنى وهو باب واسع. قال الأخفش الأوسط: "وأما قوله تعالى: (واسْتَعينِوُا بالصَّبرِ والصّلاةِ وإنّها لَكَبيَرةٌ) (البقرة 45) فلأنه حمل الكلام على الصلاة، وهذا الكلام منه ما يحمل على الأول ومنه ما يحمل على الآخر، وقال تعالى: (والله ورَسُوله أحقُ أنْ يرضَونْ) (التوبة 62) فهذا يجوز على الأول والآخر أقيس هذا اذا ما كان بالواو ان يحمل عليهما جميعاً"([10]).

فالقياس اللغوي هو الاستعمال وليس المنطق العقلي الرياضي، المبني على نظام العربية فهو أدق وأكثر اطراداً وأشمل وأنسب في تفسير العدول الكثير الوارد في النصّ القرآني.

ثانياً: قضية السماع

تحوم الشكوك في كثير من المادة اللغوية التي جمعها رواة اللغة، فضلاً عن اختلاطها في مستويات لغوية متباينة كالشعر والنثر واللهجات والقراءات لا يمكن للباحث الاطمئنان إليها من غير تحقيق ودراسة واسعة. فقد كان ذلك السبب الرئيس في انحراف النحو واضطراب القياس فضلاً عن السبب المذكور: (الخلط بين القياسين: العقلي واللغوي).

وقد ذكرت أدلة كثيرة لاختلاف (كلام العرب) عن (كلام الله) في النصّ القرآني في بحث (العربية قبل الإسلام)([11])، إبان نزول القرآن.

إن كثرة الألفاظ الجديدة والتراكيب التي ادخلها الإسلام المتمثلة بالنصّ القرآني والحديث الشريف اكبر دليل على تغيّر العربية اختلافاً كبيراً بعد نزول القرآن الكريم، ناهيك عن الألفاظ والتراكيب التي تغيّرت دلالتها في ضوء الاستعمال القرآني والشريعة الإسلامية الجديدة.

وحسناً فعل الدكتور إبراهيم السامرائي بما اصطلح عليه بـ (كلم القرآن) التي لم يسبق إليها كـ "غاسق" في قوله تعالى: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) (الفلق:3) (الفلق:3) وهو القمر([12]).

وذكرت العوامل التي أدت إلى التشويه والخلط والوضع شعراً ونثراً،منها التعصب القبلي والعوامل السياسية والشعوبية والدينية فضلاً عن العوامل الشخصية كالتكسب وحبّ الظهور. ناهيك عن (الحلقة المفرغة) في تاريخ الدراسات اللغوية الذي استمرت أكثر من قرن ونصف القرن بعد نزول القرآن، قبل تدوين التراث الإسلامي واللغوي. وقد شهدت هذه الحلقة صراعاً سياسياً على السلطة ولاسيما بين العرب وغيرهم من المسلمين وبين المسلمين والملحدين والشعوبيين والفلاسفة والأديان الأخرى، وهجوما عنيفا وجه للقرآن الكريم (معجزة النبي محمد –ص-) ورد الطعون في لغته والشبهات.

وشهدت أيضاً هذه الحلقة تثبيت الدولة الأموية التي اتجهت سياستها إلى تعريب الدولة الإسلامية واعتمادهم على العنصر العربي في بناء الدولة. يقول الأستاذ عبد الرحيم الشريف: "كان هاجس الأمويين على الدوام يتمحور على مسألة تجسيد الروح العربية في جميع مناحي الحياة" وقال: "ان عملية التعريب هذه كانت أبعد أثراً من المعارك والفتوح في باب توطيد أركان وأسس الدولة العربية"([13]) والدولة إذا تبنّت أمراً بإمكاناتها الكبيرة ساد وانتشر وان تصدّ لذلك من يتصدى.

وشهدت هذه الحلقة الأسس العلمية التي بنيت عليها الدراسات اللغوية والقرآنية، والفرضيات العقلية والمنطقية المبنية على ردود أفعال المسلمين على المطاعن التي وجهت للغة القرآن. فنسبوا إلى العرب ما لم يقولوه، وقولهم بأن لهجة قريش أفصح لهجات العرب، وان القرآن لا يفسر إلا بلغة العرب. فان القرآن لا يكون معجزاً ولا يتحدى قوماً إلا بما يحسنون، فنسبوا اليهم ما لم يقولوه. قال ابن فارس عن سنن العرب في كلامه: " لتكون حجة لله –جلّ اسمه- عليهم أكبر ولئلا يقولوا، إنما عجزنا عن الإتيان بمثله لأنه بغير لغتنا وبغير السنن التي يسلكونها في أشعارهم ومخاطباتهم، ليكون عجزهم عن الإتيان بمثله اظهر وأشهر"([14]).

والسنن او المجازات التي ذكروها كلها تحاكي أساليب العدول في القرآن التي تخالف القياس النحوي لمخاطبة الواحد بالجمع والاثنين والعكس وغير ذلك والتي طعن بها أعداء الإسلام.

وقد نسبوا إلى ابن عباس انّه كان يفسّر لغة القرآن بالشعر العربي قبل الإسلام([15]). ولم نجد اشارة إلى ذلك في كتاب سيبويه او الشيوخ الذين نقل عنهم، وكان بهم الأولى أن يشيروا إلى هذا الأمر المهم.

اعتمد العلماء في تلك الحلقة التاريخية المفقودة التي تسرب فيها الانحراف في النموذج اللغوي الذي بني عليه النحاة دراساتهم، اعتمدوا المشافهة والرواية التي كان يتناقلها الاخباريون قبل التدوين، وقد شكّك البحث المعاصر في كثير من رواياتهم. وكثرة الرواة الذين عرفوا بالوضع والضعة والانتحال.

وقد استغرب مؤلف كتاب (الأعراب الرواة) من ان جلّ الرواة لم يكونوا من الأعراب الذي تنقل عنهم العربية، وإنهم غير صريحي العروبة وليسوا من العرب الصليبة([16]) وهذا خلاف المنطق.

فضلاً عن قضية الشك بالمروي من الشعر في العصر الجاهلي التي افتعلها بعض المتشرقين ومن تبعهم، ولا يعني استشهادنا بهم إننا نؤيدهم في إنكار الشعر قبل العصر الأموي ولكنا نشير إلى ضرورة التثبت والتحقيق من اللغة التي اتخذها النحاة سماعاً لقياسهم النحوي([17]).

قال الخليل: "ان النحارير ربما ادخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب إرادة للبس وللتعنيت"([18]).

ان النص الوحيد العربي الموثوق به هو النصّ القرآني، أما غيره فعلى الدارس التثبت منه قبل بناء الأحكام عليه. وهذا ما ندعوا إليه لتستقيم لنا الدراسة والنتائج. وان ندرس النصّ القرآني في ضوء نصّه نفسه ونظامه المرتبط بنظام العربية. وقد أشار الباحثون المعاصرون إلى ذلك وأكّدوا هذه الحقيقة([19])

* كلية التربية للبنات – جامعة بغداد

 [email protected]


[1] - ينظر تفصيل ذلك: العدول عن النظام التركيبي في النص القرآني 27.

[2] - الخصائص 2/ 44.

[3] - نفسه 1/ 39.

[4] - الكتاب 1/ 414.

[5] - نفسه 1/ 383.

[6] - اللغة والابداع 107.

[7] - الايضاح العضدي 1/ 201.

[8] - شرح المفصل 6/ 21.

[9] - الكتاب 1/ 29. وينظر: 1/ 50، 436، 2/ 21، 51، 69، 82، 404.

[10] - معاني القرآن 1/ 81، 2/ 327. وينظر: أمثلة اخرى المقتضب 2/ 193، 244، 255.

[11] - البحث مقبول للنشر، مجلة كلية التربية للبنات

[12] - من بديع لغة التنزيل 314.

[13] - ظاهرة الانتحال في الشعر العربي، موسوعة الإعجاز العلمي، شبكة المعلومات العالمية 12/2/2007.

[14] - الصاحبي 196.

[15] - الكامل 2/ 110-145 والاتقان 1/ 20 والبرهان، الزركشي 1/ 291.

[16] - الاعراب الرواة 11.

[17] - ينظر: الأدب الجاهلي في اثار الدراسين، د. عفيف عبد الرحمن حول الشك بالشعر الجاهلي. واصول الشعر العربي، وجيلوث 3، 14 والمعايير النقدية في رد شواهد النحو الشعرية 60 ولغة محمد (ص)، مجلة افق الالكترونية، وضحى الإسلام 2/ 259.

[18] - المزهر 85.

[19] - ينظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 8/ 564، وأثر القرآن في الدراسات النحوية 38 والشواهد والاستشهاد في النحو 29 والتطريز النحوي 201.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 21/تشرين الأول/2008 - 21/شوال/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م