الشبه بين النظامين.. نظام القرآن ونظام الكون

 د. حسن منديل العكيلي

المقدمة:

الحمدُ لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيّنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً. وبعد.

إن المتدبر بالنظام الكوني يجده مؤسسا على المشابهة والحركة والاطراد,والكون نظام يحوي أنظمة كثيرة سواء المادية منها أو المعنوية، وكل منها يحوي أنظمة أخرى أصغر منه , متعلقة بعضها برقاب بعض , يؤدي بعضها الى بعض, ويؤثر بعضها في بعض, ويفسر بعضها بعضاً: الكون، النظام الشمسي، العالم، الدولة، المؤسسات، المجتمعات، الأيدلوجيات، السياسات، الديانات، الحكومات، اللغات، العلوم وغيرها ذلك إنّ الله تبارك وتعالى لم يخلق الإنسان سدى ولا الحياة خلقاً اعتباطياً.كل شيئ له نظام يرتبط بسائر أنظمة الكون, مؤسس على المشابهة والترابط.

 وتمتاز هذه الأنظمة بالآتي:

-   التنوع: منها المادية ومنها المعنوية والروحية،فأجهزة جسم الإنسان تشمل أنظمة عضوية ونفسية وروحية متصلة بعضها ببعض.

-   الثنائية: كل نظام يقوم على الثنائية. فأصغر خلية تتكون من نواتين سالبة وموجبة، وكل حي ذكر وانثى، واللغات لفظ ومعنى... وغير ذلك, إلا الله تعالى واحد أحد صمد لم يلد ولم يولد خالق الأنظمة كلها.

-   الاطراد: كل شيء له نظام مطرد منعكس خاص به، يحفظه من الخلل. فالخلل في إحداها يؤثر في غيرها من الأنظمة.

-   الحركة: تتصف أنظمة الكون بالحركة والتطور والتجديد والتوليد، قال تعالى: ) كلٌ في فلك يسبحون ( سورة يس 40) فحركة الشمس تولد يوماً جديداً بما يتبعه من تغيرات وتجديد وهكذا.

 والآية الكريمة تقرأ من الجهتين كأنها تدل على الأنظمة الكونية المطّردة. والقرآن الكريم صورة لتلك الأنظمة يهيمن عليها ويصفها بحركة معناه من خلال قراءته وتدبره كما أمرنا الله تعالى بذلك.

وغير ذلك من الصفات كالتشابه والاتصال بين الانظمة.

ولست معنيين بالاستطراد بذلك , ولا مختصا به , لكني مختصا باللغة العربية, ذكرت ذلك ليكون مدخلا الى النظام اللغوي الذي هو أهم تلك الأنظمة ويمتاز بالسمات المذكورة وهو انعكاس وتفسير لتلك الأنظمة مرتبط بها.

 من هنا تتضح رؤية الفلاسفة ومنهج الصوفية الذين يربطون اللغة بالوجود، ويتضح صلة علم اللغة الحديث بالعلوم الأخرى: علم النفس، علم الاجتماع، علم العلامات، علم الجمال الذي هو النظام نفسه. والفلسفة البنيوية التي ولد من رحمها علم اللغة الحديث تقوم على ربط كل شيء بالنظام الكوني او البناء العام للكون([1]).

لذلك لا يخلو تعريف من تعاريف اللغة الحديثة المختلفة على كثرتها بحسب علماء اللغة ومناهجهم من عبارة (اللغة نظام).

وقد حدّد فردناند دي سوسير مهمته في دراسة أنظمة العلامات مما يفهم بها البشر بعضهم بعضاً. وعلم اللغة جزء من علم العلامات وهو "العلم الذي يُعنى بدراسة تألف الظواهر التي تستند الى نظام علامي إبلاغي في الحياة الاجتماعية كنظام الأزياء أو المأكل".

 جوهر العلم نظامه , فالعلم بحث عن حقيقة مرتبطة بالنظام العام , وماهية الأشياء وحقيقتها: الكشف عن أنظمتها وربطها بالنظم الأخرى والنظام الكوني العام، كما ترى الفلسفة البنائية، والبحث العلمي الرصين هو تنظيم المعلومات ووضع الأشياء مواضعها من النظام العام واستقراء الشيء ثم تنظيمه يؤدي الى الحقائق العلمية الرصينة، وعلى هذا يقوم علم المنطق الذي يعصم التفكير من الخطأ، لذلك اختلط مع علم اللغة وأُفرغت بعض مباحثه وتصوراته في الموروث النحوي الذي هو أوضح نظم اللغة العربية.

واللغة العربية خير ما يمثل هذا النظام. إذ هي من صنع البارئ عزّ وجلّ ومشيئته، للتعبير عن المعنى الحقّ والحقيقة المطلقة، فأنزل بها كتابه الكريم الذي يهيمن على الكون والوجود والأنظمة كلها، مرتبط بنظام لغته العربية ارتباطاً عضوياً لا يمكن فصلهما كما اكدّ احد المستشرقين([2])

 وكلاهما يقوم على المشابهة وتعلق بعضه برقاب بعض وتفسير بعضه بعضاً من غير اختلاف ) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ( (سورة النساء:82)، وسائر أنظمة الكون مبنية على هذا التشابه والتعلق.

 لذلك لم يتلُ الرسول( صلى الله عليه وسلم) القرآن بغير لغته العربية وإن كانت دعوته عامة للعرب وغيرهم.

 وأجمع علماء القرآن الكريم على استحالة نقل القرآن الكريم الى لغة غير لغته العربية , وعدّوا ذلك النقل تفسيراً للقرآن وليس قرآناً، ذلك ان الترجمة تفقده معناه المرتبط بنظام لغته العربية, المرتبطة بنظام العقيدة الإسلامية، سواء كانت هذه الترجمة حرفية او نصية، مهما كان المترجم على دراية باللغات وأساليبها وتراكيبها.

 والأمر الغريب أن من يتصيّد بالماء العكر من المنافقين اتخذوا ذلك شبهة كونه خطاباً للناس جميعاً وليس للعرب وحدهم([3]) وفي ثنايا هذا البحث ردّ عليهم وعلى شبه أخرى طعنوا بها النص القرآني.

لكل لغة نظامها. والترجمة النصية هي نقل نظام اللغة المرتبط بنظام المجتمع وثقافته الى النظام الآخر.. فالجملة الإنجليزية:

Arab Student Aid International

ترجمتها الحرفية:

 العبارة الأولى Arab Student تدل على الطالب العربي او الطلبة العرب او تلاميذ او دارس ودراسة ودارسين. والعبارة الثانية
Aid International تدل على مساعدة (عالمية) ومعانٍ اخر مقاربه لها.

 فتكون الترجمة الحرفية من غير النظام الذي يفهمه المتكلمون بالإنجليزية في ضوء نظامهم اللغوي المرتبط بمجتمعهم وثقافتهم وتاريخهم وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم: طالب عربي مساعدة عالمية.

 والترجمة إلى النظام العربي: المؤسسة العالمية لمساعدة الطلبة العرب. لكن لا نعرف هذا المعنى إلا من خلال صياغته على وفق نظام العربية.

يتصف نظام العربية بالسعة والمرونة والتماسك ما يجعله انجح وسيلة للتعبير عن المعاني التي تتصف بالتعقيد والتغيير والتطور المستمر ليواكب حركة الحياة المستمرة وضعفه وخفائه ورقته وصلته بالنظم الاجتماعية والنفسية الأخرى وتفرعه من أصول الى فروع واختلافه من شخص الى آخر ومن مستوى لغوي الى آخر واختلاف الأساليب في التعبير عن المشاعر والمعاني المادية والروحية. وعن المعاني المطلقة العالية التي اشتمل عليها القرآن الكريم، والمعاني الثانية والأسرار البيانية والدلائل الاعجازية.

 إن الوقوف على هذا النظام واتخاذه منهجاً في الدراسات اللغوية والنحوية والاسلوبية والدلالية وغيرها يضعنا في المسار العلمي الرصين في دراسة العربية والنص القرآني.

النظام اللغوي للقرآن الكريم:   

إن في اسلوب النص القرآني نظاماً يمنحه خصوصية عن الأساليب الأخرى ويحفظه من الدخيل والاختلاف واللحن، وان ما يبدو خروجاً عن القياس العقلي والمنطق فيه هو داخل في نظامه مقصود لغايات دلالية دقيقة وأسرار فنية وجمالية وحكمة إلهية. وهو وجه إعجازي، وليس أمرا اعتباطياً.

ان النص القرآني ينساق في ضوء نظام معجز محكم، يشبه بعضه بعضاً ويتعلق بعضه برقاب بعض في كل مكونات النص القرآني نجد النظام نفسه: الصوتي والصرفي والتركيبي والبياني والدلالي، وكل هذه المكونات يحكمها النظام نفسه، وهذا سبب الترابط والتماسك والجمال والعذوبة والموسيقى الرائعة التي تحدّث عنها علماء إعجاز القرآن القدامى والمعاصرين، و لكنهم لم يتناولوا نظام القرآن تناولاً كلياً بل كان تناولهم اياه تناولاً جزئياً.

وهذا النظام المعجزهو من أسباب حفظ القرآن منذ نزوله والى يومنا هذا من غير تغيير أو تطورلفظي في نصه، فاللفظ ثابت والمعنى متحرك، ذلك ان نظام القرآن يحوي المتغيرات الزمانية والمكانية.

وهو كذلك أهم وجوه إعجاز القرآن، ذلك ان نظامه اللغوي يشبه نظام الكون المبني على التشابه والترابط أيضا، قال تعالى: {كل في فلك يسبحون} وهو دليل على أن خالق الكون هو قائل القرآن الكريم، وهذا اثبات علمي لمعجزة نبينا الكريم (محمد) صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا، ورد علمي على المعادين للاسلام ممن نسمع بهم عبر وسائل الاعلام هذه الأيام.

وقد فصّلت القول بنظام القرآن اللغوي في اطروحة الدكتوراه: (العدول عن النظام التركيبي في أسلوب القرآن الكريم – دراسة نحوية أسلوبية)([4]) وذكرت شواهد قرآنية كثيرة عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين هو حسبنا و نعم الوكيل.

* جمهورية العراق - بغداد

كلية التربية للبنات – جامعة بغداد

 [email protected]


(1) ينظر: مشكلة البنية 7.

(3) القرآن وعلم القراءة، جاك بلاك 25.

(1)  شبهات حول القرآن وتفنيدها، د. غازي عناية (موقع)، وينظر: اعجاز القرآن وترجمته، د. جعفر دك الباب (بحث) مجلة التراث العربي ع7، س2 نيسان 1982.

[4] جامعة بغداد، كلية التربية للبنات 2008.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 13/تشرين الأول/2008 - 13/شوال/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م