إعدام فرعون وإمام الدم

أحمد شهاب

مشهد آخر من مشاهد الصراع التي لا تكاد تهدأ في بلد إلا وتشتعل في آخر، وكأن يدا تُحرك الساكن في المجتمعات العربية وتعبث باستقرارها، حيث يعكف الكاتب الصحافي محمد حسن الألفي، عضو لجنة الإعلام في الحزب الوطني الحاكم في مصر على كتابة سيناريو فيلم «الخميني إمام الدم» رداً على الفيلم الإيراني «إعدام فرعون»، والذي سيعرض تفاصيل اغتيال الرئيس أنور السادات على يد خالد الإسلامبولي، وسيتناول فيلم «إمام الدم» حسب تصريح الألفي الفكر الخميني، ويتهمه بأنه كان داعية للعنف والقتل وإسالة الدماء.

من المؤكد أن هذا الفيلم لن يمس مشاعر الإيرانيين فقط، لكنه أيضا سيجرح مشاعر عشرات الألوف من أتباع المذهب الشيعي، فإن كان الإمام الخميني يعد في نظر الإيرانيين مرشد ومؤسس الثورة وباني نهضتها الحديثة، فهو في نظر الآلاف من الشيعة العرب وغيرهم، أحد أبرز علماء الدين، ومن أهم مرجعياتهم الدينية والفكرية المعاصرة. كما يسجل له قدرته على توفير شرعية دينية للدولة الإسلامية، كسر من خلالها العزلة القائمة بين الدين والدولة لا أقل داخل المدرسة الإمامية.

هذا ليس المشهد الوحيد للفتنة، فهناك مشاهد أخرى لا تقل سوءا وانحدارا عن «حرب الأفلام» المرتقبة. فخلال الأيام القليلة الماضية نشطت جهات عدة في لبنان إلى تظهير صراع سني شيعي غير مبرر، وقد أدت تلك الجهود إلى اندلاع اشتباكات عنيفة في مدينة طرابلس شمال لبنان، تم خلالها تبادل إطلاق النار بين «أخوة الأرض» بالمدافع الرشاشة والقنابل اليدوية، كانت حصيلته عشرات القتلى والجرحى، ويدعم تظهير الصراع الطائفي العديد من وسائل الإعلام العربية التي لم تتأخر عن تجنيد مراسليها لعزف لحن الفتنة، وصبغ الصراع السياسي بصراع مذهبي، ربما يحجب النظر عن إنجاز المقاومة الأخير في صراعها مع العدو الإسرائيلي، واستطراد التقليل من حجم تفاعل الشارع العربي مع الزعيم العربي الجديد الذي خرج من حي «الكرنتينا»، أحد أكثر الأحياء فقراً وحرماناً في الضاحية الشرقية لبيروت، ليزرع النصر والأمل في الحقل العربي القاحل.

أما المشهد الأكثر مرارة وتعبيرا عن مساعي الفتنة فيتجلى داخل العراق، وربما هو الوحيد الذي لا يحتاج إلى نماذج للاستعراض، فالقتل اليومي الموجه من المسلمين ضد المسلمين لأسباب مذهبية، أو ما يعرف بالقتل على الهوية، أصبح هو الشيء الوحيد المتفق عليه بين الأطراف المتصارعة. فخلال أسبوع واحد - آخر شهر يوليو الفائت- والذي صادف إحياء ذكرى وفاة الإمام موسى الكاظم قُتل 63 شخصاً على الأقل وأُصيب حوالي 300 آخرين في أعمال عنف متفرقة، من بينها هجمات انتحارية تمت بواسطة أحزمة ناسفة لخلافات وأحقاد دينية. فقد نفذت ثلاث نساء عمليات انتحارية بواسطة أحزمة ناسفة ضد مواكب من الزوار الشيعة في بغداد، ما أوقع 25 قتيلا على الأقل، بينهم عدد من النساء والأطفال، بالإضافة إلى أكثر من سبعين جريحا.

إذاً، نحن على أعتاب فتنة مذهبية حادة في المنطقة، وعلى استثارة جديدة للأحقاد، ونقترب من اندلاع سجالات حادة لن تخلو من إشهار كل طرف قائمته من الاتهامات الجاهزة مسبقا ضد الآخرين، يصفهم فيها بالانحراف عن الخط القويم، وخيانة الدين وربما العمالة لجهات أجنبية، وفي كل الأحوال، فإن الثابت الوحيد في كل هذه الإثارة أننا قبال فتنة كبرى سوف تشغلنا لفترة زمنية قادمة عن المخاطر الحقيقية التي تعترضنا جميعا كمسلمين سنة وشيعة.

لا أريد أن أكرر القول بأن هذه الفتن تقف وراءها جهات ودول أجنبية لا تريد الخير لدولنا وشعوبنا، فهذا أمر مفروغ منه على ما أعتقد، وأصبح ترديده جالبا للضجر، لكني أود التأكيد على أن استعداداتنا الداخلية للدخول في متاهات الفتنة، أصبحت أكثر جاهزية وعتوا من استعداداتنا الداخلية لرص الصفوف والوحدة. وأصبح التنابذ أسهل علينا من التقارب والتواد، فجرأة بعض المسلمين على إعلان البراءة من المخالفين، وعدم التورع عن قذفهم واتهامهم في دينهم من شأنه أن يُعزز مكانة الشخص بين قومه، بينما تبني خطاب «وحدوي-أخوي-حواري» والإصرار على اتساع مساحة المشتركات بين المسلمين، لا يُقبل من الفرد إلا بصفته خطابا سياسيا مؤقتا يستهدف غايات محددة سلفا.

لقد تحولت الإثارة الطائفية في المجتمعات الإسلامية، ومنذ زمن طويل، إلى عمل تجاري رابح، وتبين عند «تجار الدين» أن فبركة الإثارات والنزاعات المذهبية لها مردود خيالي، سواء من ناحية العوائد المادية، أم من ناحية سرعة تحقيق الشهرة لخطباء وكُتاب الفتنة، فالخطاب الطائفي يستميل رضا شريحة كبيرة من جمهور المستمعين، وكلما كان الخطيب أكثر حدة في تصريحاته ضد أتباع المذهب الآخر، كان أكثر حظوة عند أتباعه، كما أن كتب الجدل المذهبي تحظى بإقبال وطلب كبير عليها.

ومن المؤسف أن الدور السلبي للكثير من علماء الدين لا يزال يُعتبر أحد مصادر تغذية تيارات العنف الأساسية في مجتمعاتنا، وهم ينقسمون إلى فئتين، فثمة من يحرض على العنف بصورة مباشرة وبجرأة ويدفع أتباعه إلى حمل السلاح وقتل المخالفين باسم الجهاد المقدس ضد المشركين والمنافقين، ويضمن لهم الجنة. وثمة من يحرض على الكراهية والعنف، لكن بصورة غير مباشرة من خلال التحريض على الكراهية ونشر ثقافة اتهام الناس بالشرك وإخراجهم من الملة واحتكار الحقيقة المطلقة، وكلا الصنفين يتحمل شر الفتنة القائمة وتبعاتها.

من هنا فقد يكون الوقت مناسبا للدعوة إلى ضرورة أن يتصدى جيل جديد من علماء الدين للقضايا المطروحة بذهنية معاصرة، جيل يعرف كيف يحدد أولوياته وقضاياه وتحدياته، وكيف يغلق أبواب الفتنة بدلا من أن يتربح منها.

كما ينبغي أن يُفسح المجال لأصحاب الفكر المعتدل للتقدم في الساحة وتوفير الدعم لهم من قبل المجتمع وقواه الفاعلة، لأن هؤلاء سوف يواجهون بضراوة وعنف من جانب العلماء التقليديين الذين يعيشون على تأجيج الخلافات الطائفية والتحريض المستمر على الكراهية بين المذاهب.

* كاتب كويتي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين   18/تموز/2008 - 16/شعبان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م