من الصراع الطائفي الى الثارات والحرب الكيدية

صباح جاسم

هزَّني الشوق لزيارة منطقتي التي هُجِّرتُ منها إبان إشتداد الصراع الطائفي في العراق عامي 2006 و2007، ومنطقتي هي أحدى مناطق جنوب بغداد الساخنة، تحولت قبل فترة الى منطقة دافئة بعد ان تم إعتماد إستراتيجية الحماية المناطقية بواسطة الأهالي او ما يدعى بمجالس الصحوات من قِبل القوات الامريكية، وبعد عدة إتصالات أجريتها مع بعض الأقارب والأصدقاء هناك تأكد لي ان الاوضاع شبه مستتبة وأن اعمال الإرهاب والعنف الطائفي قد انخفضت لأدنى مستوياتها منذ الغزو الامريكي عام 2003، على أثر ذلك قررت ان استقصي الحقيقة أملاً في ان أرى ما حلَّ ببيتي الذي لا أملك غيره ملاذاً بعد أن رحلت عنه انا وعائلتي مُجبرين على خلفية قتل ثلاثة أفراد من اقاربي الذين كانوا يسكنون بالقرب مني، حيث تلقيت تهديداً خطّياً يحمل توقيع ما يسمى بـ"تنظيم قاعدة الجهاد"، يخيّرني بين إلحاقي بأقاربي المغدورين (قتلي) او رحيلي.

في البداية لم أعر أهمية كبيرة لذلك التهديد، وقد يكون ذلك الشعور نابعاً من كون فكرة الرحيل الى المجهول كانت بعيدة جداً عن دائرة تفكيري، وبقيِتُ مع جاري نتبادل نوبات الحراسة على بيوتنا وعوائلنا، وبعد عدة ايام وصلني خطاب تهديد آخر وكان هذه المرة موجهاً الى جاري ايضاً، بلهجة أقوى ووعيد شَملَ التهديد بقتل عوائلنا ان أَبينا الرحيل....

لا أريد بهذه العجالة ان أصف الاوضاع العامة او الشخصية او العائلية المأساوية التي مررت بها في حينه بقدر ما أبين بعض ما كان عليه الوضع في تلك الفترة. فقد كانت منطقة الأسكندرية، التي كنت أسكنها، تمثل قعر نصف دائرة يبدأ من شرق بغداد مروراً بأطرافها الجنوبية في الدورة والسيافية واللطيفية والاسكندرية والمسيب وجرف الصخر بما كان يدعى (مثلث الموت) ومن ثم صعوداً نحو جنوب غرب العاصمة حيث اليوسفية والرضوانية وأبو غريب، هذا الهلال اصبح فيما بعد بؤرة للتوتر الطائفي نتيجة إنجذاب فصائل تنظيم القاعدة وبقايا فرق البعثيين الناشطين والاجهزة الامنية السابقة الى العشائر السنّية في تلك المناطق، ما أدى الى تصاعد موجات الإعتداء والعنف على مراكز المدن والقرى تلك لأجل تقويض الأمن فيها، ومن ثم انتقال الصراع لمرحلة الحرب الاهلية بعد ان تحول النزاع الى هجمات متبادلة مع العشائر الشيعية المتجاورة مع السنّة..

ومع إعتماد استراتيجية زيادة القوات الامريكية نهاية العام الماضي وتجنيد الناشطين او المهتمين من الأهالي من قِبل القوات الامريكية ضِمن ما دُعي في حينه بمجالس الصحوات، تحول العنف الى مرحلة جديدة طغى عليها الصراع بين قوات الصحوة ذات الاغلبية السنّية مع فصائل القاعدة وبقايا البعثيين، حيث طَرَدَت الصحوات القاعدة وكبّدتها خسائر جسيمة أدت فيما بعد الى إحلال مستوى جيد من الأمن في تلك المناطق بالتعاون والدعم من القوات الامريكية والعراقية طبعا.. ما فتح الطريق أمام انجازات إعمار وخدمات أيضا وإن كانت متواضعة...

الشيئ المهم والجديد الذي نريد ان نطرحه وننبّه عليه هو، ان انتهاء العنف الطائفي في المناطق الساخنة وتقهقر القاعدة قد فتح أبواب حرب جديدة تتمثل في نزاعات مناطقية وأثنية وعمليات ثأر وبلاغات كاذبة (كَيدية) فيما بين العشائر المتجاورة في المناطق التي كانت ساخنة والتي شهدت معارك دموية شرسة وعمليات عنف وإرهاب يرقى بعضها لأن يكون ضرباً من الخيال من شدة الهول ووضاعة أساليب القتل والتدمير.

فعمليات الثأر الجارية الآن تحت يافطة البلاغات الكيدية والتي تتحرك على أساسها قوات الأمن الامريكية والعراقية لمعالجة الأهداف قد أخذت منحى واسعاً في تلك المناطق، وأليكم مثالَين لما رأيته وسمعته في تلك الليلة اليتيمة التي قضيتها ضيفاً في منطقتي بعد إلحاح اصدقائي وأقاربي ممّن بقوا هناك وتحمّلوا مختلف ألوان القهر والعوز والقلق والخسائر البشرية والمادية.

بدأت الحادثة عندما رُفع أذان المغرب في الجامع المقابل تماما للبيت الذي حللتُ ضيفاً فيه، فقبل انتهاء الأذان حاصَرَت قوات عسكرية عراقية وامريكية مسنودة بالعربات المدرعة الجامع من كل جهة ومن ثم ملأت المكان وأوعزت الى الناس في الشارع بالمغادرة والدخول لبيوتهم، وبعد ذلك بدأت عمليات التفتيش داخل الجامع وما حوله، من ثم عزَلَت تلك القوات الرجال المُسنّين عن الشباب وبدأت بإجراءات تحديد الهوية لكل فرد منهم، الى هنا والأمر لايعدو ان يكون واجب عسكري، ولكن أن يأتي ضابط القوة العراقية المشارِكة في الهجوم ويقول للأفراد المُحتَجَزين الذين بقوا يصارعون مشاعر الخوف والقلق على مصيرهم لأكثر من ثلاث ساعات، ان تبليغاً مجهول المصدر بإسم "فاعل خير" قد إتصل وقال ان الجامع المذكور فيه أشخاص مهمّين مطلوبين للدولة!! وإن القوة العراقية التي يقودها هذا الضابط لم يكن لها أي إرتباط بمكان العملية وإنما هو تبليغ أمريكي وصلهُ لمرافقة القوة المُغيرة دون إعلامه بأية تفاصيل!!

مع إنسحاب تلك القوات دون ان تجد أحداً من المطلوبين!! خَلّفَت سحب الدخان التي ترَكَتها عرباتهم المدرّعة ومشاعر الخوف والقلق الممزوجة بالإستياء والإستهجان لدى المصلّين ممن كانوا قيد التحقيق، العديد من الأسئلة لدي كما هو شأن أهل البيت الذي كنت وأياهم نراقب عن كثب ذلك الحدث، فهل ان قوات عسكرية كاملة تتحرك لمجرد إتصال هاتفي من شخص مجهول؟

وهل ان اعتماد هكذا آلية تعسفية يصب في صالح توجهات الحكومة العراقية التي تسعى بكل ماأوتيت من اجل كسب ود العراقيين وإعادة زرع الثقة فيما بين طوائفهم خاصة ممن يتشاركون العيش في منطقة واحدة؟

و أليس من المفروض إعتماد الآليات الإستخبارية لمثل هكذا مواقف من أجل الحصول على معلومات دقيقة تضمن تحقيق الهدف المرجو دون إثارة مشاعر الناس وتأجيج روح الإستياء والتمرد لديهم؟..

المثال الثاني الذي لايعدو، رغم هوله، ان يكون ردة فعل تجاه أفراد متهمين بالتسبُب في سجن مجموعة قد خَرجَت لاحقاً من الإعتقال، حيث قامت هذه المجموعة الخارجة تواً من السجن بقتل خمسة شُبّان من المنطقة، في مجزرة بشعة، لمجرد إتهامهم بأنهم وراء الإعتقال الذي طال تلك المجموعة.. وللقارئ ان يحكم فيما يمكن ان تجرّه هكذا حالات من زعزعة للإستقرار وإخلال في الأمن..

ان هذين المثالين هما صورة إنعكاسية لما يجري الآن في مناطق عاد الأمن اليها بما يشبه المعجزة، لذا فإن التنّبه لما يمكن ان تجره هذه الصراعات المناطقية من تداعيات سلبية على المكاسب الأمنية امر حيوي بالغ الأهمية..

كما ان مسألة قوات الصحوة هي الاخرى من اهم مقومات السلم التي يجب على الحكومة العراقية التعامل بحذر شديد معها، فمع ان الحكومة قد ضمّت لأجهزتها الأمنية ما يقارب خمسة عشر ألف عنصراً من هذه القوات إلا ان عددها البالغ 103 آلاف فرد يعدُّ رقما هائلاً في الحسابات العسكرية وكذلك السياسية والإقتصادية، لذا فإن ضرورة السعي لإيجاد بدائل وظيفية لهؤلاء امر ضروري جداً ويصب في مقومات الحفاظ على المكاسب الأمنية والسياسية التي تحققت.

فالبطالة والجهل والشعور بالغبن او التهميش والخوف من الآخر هي العناصر التي جرّت هذه القوات سابقاً لأن تكون اليد الضاربة والحواضن الآمنة لتنظيم القاعدة، او أن تكون أداة طيعة لمخابرات دول الجوار التي يسعى أغلبها لوأد الديمقراطية الوليدة في العراق...

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين   18/تموز/2008 - 16/شعبان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م