حاكمية المرجع الأعلى.. وفق رؤية الشهيد السيد حسن الشيرازي(قده)

الباحث/ عبد الكريم العامري

تنويه: يتناول البحث هيكلية الحوزة الشيعية ومقارنتها برئاسة الحكومة، مستند من آراء المفكر الاسلامي الشهيد السيد حسن الشيرازي(رحمه الله).

هيكلية المرجعية

شبكة النبأ: ان صيغة هيكلية الحوزة العلمية الشيعية عادة ما تتألف من (قمّة) و(جهاز) و(قاعدة). و(القمّة) تتمثل في (المرجع الاعلى) للمسلمين، الذي يكون فقيهاً جامعاً لمؤهلات (المرجع الديني) وأذا بزغ (الأعلم) بين العلماء أو (الاورع) أو من تكاملت فيه المؤهلات الاخرى، أوفر من غيره، فهو (المرجع الأعلى) فأذا تساوى جميع الفقهاء في مؤهلاتهم وهو قليل جداً يكون المرجع الأعلى أيهم اختار الناس.

والـ(جهاز) يتألف من (ادارة عليا) يرأسها نفس المرجع الاعلى وتنعقد في مقره، وتوزع على أعضائها الاعمال الرئيسية، وهي تؤدي دور مجلس الوزراء في ايصال المعلومات الى المراجع ومناقشتها معه، وتلقى الاتجاهات والاوامر منه، ثم تعكس ذلك على الامة.

ومن (أعضاء) يعبر عنهم (الوكلاء) يوظفون في كافة المناطق، التي يعيش فيها المسلمون، وهم يقومون بدور رؤساء الوحدات الادارية، فيقومون بتنظيم شؤون المسلمين، وتنفيذ أوامر القيادة فيها، وحيالية الضرائب الاسلامية من المسلمين وتحويلها الى المرجع واستراداد كمية من الميزانية العامة، لتوزيعها على الفقراء، وتصريفها في المشاريع الاسلامية التي يوافق عليها المرجع والقيام بعمليات التوجيه والتثقيف للأمة، والاشتباك مع عناصر الشر المتطاولة على مقدسات الامة والاسلام، ورفع المعلومات الكافية عن منطقته، وأستمداد المساعدات المعنوية من المرجع.

والـ (قاعدة) هي: مجموعة الامة، التي (تقلِّد) ذلك (المَرجع) وتأخذ عنه دينها، في كافة الاحوال الشخصية والاجتماعية، وتلتزم أوامره ونواهيه.

وبعملية (التقليد) يرتبط كل مسلم بشخص المرجع الأعلى دون أيما وسيط، والوكيل لا يزاحم هذا الأرتباط المباشر، ولكنه يكون كـ (بريد) بين انسانين، لأن احاطته بـ (فتاوي) المرجع وأوسعيته وعيه الديني عن افراد قاعدته، تؤهلانه لأن تصل اليه أوامر وتوجيهات المرجع، ليذيع وينفذ، دون ان تكون له ذاتية مستقلة.

وأذا كان الواجب على كل مسلم لم يبلغ درجة الاجتهاد ان يقلد المرجع الاعلى، فأن الواجب على جميع الامة ان تنطوي تحت قيادة المرجع الاعلى. فتتوحد الامة تحت زعامة واحد هي زعامة المرجع الاعلى وتنظيم واحد هو التنظيم المرجعي واتجاه واحد هو اتجاه الفقهاء المراجع.

التنظيم المرجعي يؤدي الى:

أ- حصانة الامة من الانشقاقات الداخلية، والانفراط الى كتل منحازة تبعث على اشتباكات دائمة في صميم الامة.

ب- مناعة الامة الاسلامية من تسلل الاتجاهات الاجنبية عن واقع الاسلام الى واقع الامة في حركاتها التصاعدية التوسعية، وتوفير الايمان في النفوس باسم الايمان.

ج- صيانة الامة من تطفل القيادات الكاذبة عليها، وأستنزاف امكانتها لأرواء الرغبات الشخصية ، وتأييد السلطات المحلية والاستعمارية.

د- حفظ وحدة الاسلام، ووحدة الامة، ووحدة الكلمة الاسلامية حتى لا يتجرأ الاسلام الى ألف اسلام والكلمة الاسلامية الى ألف كلمة اسلامية.

طاقات ومؤهلات القيادة المرجعية

القيادة المرجعية: هي أجدر قيادة وُجدت في العالم، لو استثنينا قيادة الانبياء والائمة الاطهار (عليهم السلام) لقيادة أمة من الامم، فقد توفرت فيها المؤهلات والشروط الاحتياطية حتى اصبحت قيادة مثالية، متوغلة في العبقرية والنبوغ، الى حيث كان من غير المعتاد تماثلها للوجود، لولا قوة الاسلام ومعجزته في انتشال الانسان من حضيض البشر، الى فوق مستوى سبحات الملائكة، والى حيث اصبحت امينة وقوية الى ابعد الحدود.

1- فأما ان القيادة المرجعية (امينة) فلأنه لا يشغل اية وظيفة في أي واحد من مرافق هذه القيادة، الا رجل (عادل) تمرس على مواصلة الواجبات والابتعاد عن المحرمات، حتى نبعت في اعماقه (ملكة: قوة) تعصمه عن اقتراف المنكر مهما الح به الاغراء، وقد تألقت هذه الطاقة في المراجع، حتى كادت ان تحلق بهم عن المستوى البشري، وتركت للناس عبراً وأمثالاً.

2- وأما ان القيادة المرجعية (قوية) الى ابعد الحدود، لأن اقوى التنظيمات العالمية، الذي اتفق عليه الناس جميعاً، وتبنته كافة الدول، وجرب الوف السنين في جميع اقطار العالم، وعلى كافة القطاعات البشرية، فنجح في ذاته، وأثبت تفوقه على مجموع التنظيمات الاخرى، حيث استطاع هو ان يضربها ولم تستطع هي ان تضربه.

3- ان اقوى القيادات المبدئية، هي القيادة التي تتوفر فيها اوسع المؤهلات التي ابرزت مبدأها الى الوجود، ومن اهم العناصر التي ساهمت في تصميم الاسلام كدين خالد ثم في تخرجه الى الوجود، طاقتا (العلم) و(العدالة) وقد اشترط اقصى الكميات الممكنة منهما في المراجع الذين درسوا الاسلام وأتقنوا اجتماعياته بصورة تطبيقية فائقة، حتى لا يكون في حاضرتهم أفقه منهم، ويشكل المرجع (القمة) من رجل تبلغ به (طاقة العلم) الى حيث يكون أعلم الناس بالاسلام، وأوسعهم وعياً للدين والاجتماع، وتبلغ به (طاقة العدالة) الى حيث تنطبق عليه البنود التي نص عليها في تصريحه، الموشح بتوقيعه المبارك: (من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام ان يقلدوه).

4- ان اقوى القيادات المبدئية، هي القيادة التي يختارها المبدأ في رأي الخاضعين وتكون عليه (الرقابة الجماعية) الساهرة في قلوب كافة انصارها، حتى لا يتدخل فيها الـ (فرض) بل تكون ادارتها بمقدار رصيدها، وقد شاءت الفلسفة الديمقراطية تجسيد هذه القيادة، في انطلاق القيادة من أرادة الاكثرية، لكن هذه الفلسفة، لم تنته الى انها (تفرض) قيادة الاكثرية الناخبة على الاقلية الرافضة، ولم تمنع من شراء الاصوات بالاموال والوجاهات وبقية المغريات بينما اتخذ الاسلام كافة التدابير اللازمة في شأن القيادة، فترك للناس حرية النظر في توفر شروط القيادة المرجعية في هذا الرجل أو عدم توفرها، ثم ترك حرية الانطواء تحت قيادة هذا الرجل الذي اختارته الاكثرية أو الانظواء تحت قيادة رجل أخر. وترك لكل فرد حرية التسلل من تحت قيادته، في اللحظة التي يجد فيها ارتداداً عن نهج الاسلام.

إختلاف الشخصيات

التنظيم المرجعي أقوى من التنظيم الحكومي. لأنه يشترك معه في بنود التنظيم، وعضلات الجهاز ولكن يختلف عنه في (شخصية) مسؤول التنظيم بـ:

أولاً: (أن رئيس الحكومة) يفرض نفسه وقوانينه ومشاريعه على الشعب بواسطة تلك الكتلة الهرمية التي تسمى بـ (الحكومة) والمسلحة بأوسع الطاقات المالية والدعائية والتنفيذية، فرئيس الحكومة يرتبط بالشعب بهذا الوسيط ولا يرتبط الشعب برئيس الحكومة بوسيط طبيعي تلقائي. بحيث لو تخلت الحكومة عن رئيسها أو تجذ ان الرئيس الذي تنتهي مدة رئاسته تقل قيمته الشعبية عن حاكم في الوظيفة.

بينما يكون (المرجع الأعلى) للمسلمين، رجلاً رشحته مؤهلاته لهذا المقام وازدلف حوله كل فرد من المسلمين، لا كرهاً بل ايماناً وثقة بشخصه من غير مظاهر مسلحة إلا بالطاقات المعنوية والكفاءات الدينية، وان الرصد الشعبي كله لشخص المرجع، حتى ان الادارة التي تعمل مع المرجع لو تخلت بكاملها عن المرجع لا ينهار وأنما يملك ان يؤلف ادارة اخرى ومن غير ان يتأزم عليه الموقف.

ثانيا: (ان رئيس الحكومة) خادم قد استوظفه الشعب لأنجاز اعمال مرسومة لقاء راتب، فيعتبر خائناً لو حاد عن وظائفه، ما دام الشعب لم يوافق عليه بواسطة (اكثرية البرلمان) فهو مستخدم محدود، له عمل خاص، وراتب معين، ومدة معدودة، يخدم سيده المطاع الشعب الذي هو مصدر السلطة. وان الشعب قادر على تطوير نوعية الحكومة والغاءها لتأليف اخرى تناقضها في كل شيء بينما يكون (المرجع الاعلى) سيد الامة، لا خادمها. ويكون الموجه لأرادة الامة ولا يتوجه بارادتها، ولا يكون من صلاحية الامة تبديل عمل (المرجع) ولا رفضه نهائياً، ولا يعمل (المرجع) لقاء راتب دنيوي، لأن الامة في منطق الاسلام، الذي ينطق منه المرجع، ليست مصدر السلطات، بل الله سبحانه وتعالى هو مصدر السلطات والمرجع وسيط بين الله والامة، لأيصال ارادته تعالى اليها، وعل الامة طاعة الله بواسطة المرجع، وراتب المرجع تلك الجنة التي عرضها السماوات والارض، وليس المال الذي يتقاضاه من الامة بعنوان (الاخماس) و(الزكوات) وأنما الاخماس للأمام وللفقراء من ذرية رسول الله كما تفصلها الاية الكريمة: (وأعملوا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه، وللرسول ولذى القربى، واليتامى، والمساكين، وأبن السبيل) والزكوات للمشاريع العامة ولفقراء الامة كما في قوله تعالى: (أنما الصدقات للفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، والغارمين، وفي الرقاب، وفي سبيل الله). وشخص المرجع ان كان غنياً يحرم عليه استهلاك شيء من هذه الموارد في شؤونه الخاصة وان لم يكن غنياً يجوز له الانفاق منها عل نفسه بصفته مسلماً، لا بصفته مرجعاً.

ثالثاً: هناك اختلاف كبير بين طبيعة (شخصية رئيس الحكومة) في نظر القوانين الوضعية وبين طبيعة (شخصية المرجع الاعلى) في نظر الاسلام.

ان افراد الشعب لا يرتبصون بـ(رئيس الحكومة) مباشرة، وأنما يرتبطون بمصالحهم فقط، ويريدون (الحكومة) لتمكينهم من مصالحهم، فأذا عاكس رئيس الحكومة مصالحهم أو عاكست الحكومة ذاتها مصالحهم، التجئوا الى التخلص منه أو منهم بالطرق الديمقراطية أو الثورات المسلحة.

في الوقت الذي يرتبط جميع افراد الامة بشخص المرجع الاعلى، لأنه الطريق الوحيد الذي يمكنهم من اهدافهم الدينية، ولا يتمكنون منها بأنفسهم، ما داموا ليسوا بمجتهدين، فيكون وجوده رباطاً يضم جماهير المسلمين بتقليده، ويجعلهم كتلة موحدة لا تتسلل الى واقعها الانشقاقات.

رابعاً: ان شخصية رئيس الحكومة شخصية روتينية جافة، لا تستطيع الانطلاق عن حدودها الحديدية الجامدة، الى الحدود الانسانية الطرية النامية، فرئيس الحكومة لا يحكم في خارج حدودها، ولا على أي انسان من غير شعبه، أذ ليس من الممكن ان يحكم رئيس على ملايين الاميال من الاراضي وملايين الافراد من الناس، ثم لا يمتد الى الوف من الناس خارج حدود اراضيه، في حين نجد شخصية المرجع الاعلى لا تتزمت بحدود ولا قيود، وأنما تزحف متوثبة، عبر كافة النطاقات والاعتبارات التي تكبل الافراد والحركات وترفض  كل ما يحاول تجميد الانطلاقات التوسعية، وهذا يصور مدى توفر الانسانية الامتدادية لشخصية المرجع الاعلى.

وعلى هذا الضوء... لم يبزغ في الاسلام وخاصة في مدرسة التشيّع مرجع فطري، أو اقليمي، أو قومي على طراز الرئيس الحكومي وحتى لا على نوع المراجع الدينيين في الديانات الاخرى، وانما هو نوع توسعي وثاب ينسجم مع ما في الاسلام من فكرية عالمية.

....................................................................

المصادر/

كلمة الاسلام/ المفكر الاسلامي السيد حسن الشيرازي

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء   13/تموز/2008 - 11/شعبان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م