أفق المرجعية الشيرازية وجوهر التحوّلات الخلاقة

بمناسبة مرور أربعين يوماً على رحيل آية الله السيد محمد رضا الشيرازي

صباح جاسم/مؤسسة النبأ للثقافة والإعلام

ان اختيار المرجعية والتصدي لقيادة الامة انما هو خيار العبادة الراقية، وهي ان وقعت ضمن شروطها ومؤهلاتها فهي مهمة الأصفياء والأولياء الذين اختارهم الله أمناء لأمره، وأن دورهم في الناس هو دور الائمة، فهو دور عظيم وخطره جسيم ايضا، يُحسن اداؤه بمدى التأسي بالرسول الأعظم (ص) والائمة الاطهار (ع) وانتهاج منهجهم في امور الدين والدنيا.

وقد طبقت الآفاق سير المرجعيات الدينية الإسلامية الشيعية على امتداد القرون الخالية لما كان لها من دور فعال في نشر مفاهيم الإسلام وعلوم ومعارف وأخلاق الرسول (ص) وآل بيت النبوة الكرماء حتى وصلت تلك العلوم الى اقاصي الارض في اسيا وافريقيا واوربا وامريكا..

ولطالما تميزت المرجعيات الدينية في تنافسها على التأسي بالرسول الاكرم وسيرة اهل بيته من خلال التركيز على جانب معين دون الإغفال بالطبع عن الجوانب الاخرى، فمنها ما ركز على الجانب المعرفي ونشر الوعي الإسلامي ومحاربة الجهل والتطرف ومنها ما اضاف الى ذلك نهج الثورية والرسالية في مواجهة الطغيان والتجبر والسعي لإحقاق الحق وفضح الباطل، ومنها ما احسنَ وأجمل في اضافة صفة التصدي الشخصي المباشر من خلال الجهاد والتضحية بالنفس والمال والجهد والوقت.. في سبيل الإسلام والمسلمين.

وهنا يبرز اسم آل الشيرازي كنجم لامع في سماء المرجعيات الدينية الإسلامية على مدى مئات السنين السابقة، فهم من بين مرجعيات الإسلام التي خَلَطت حبر المعرفة بدم الشهادة وعرق الجبين وإبداع الفكر، ضمن سلسلة متوارثة من العلماء والمراجع، لتنتج من هذا الخليط وصفة التقرب الى الله تعالى ونوال الرفعة في الدنيا والآخرة..

هجرة ثورية وزرع رسالي

ليس هيناً، بل انه قد يكون مستحيلا ان تفكر اية مرجعية دينية في الإنتقال من بلد الى آخر وحتى من مدينة لأخرى، لإعتبارات اجتماعية وسياسية واقتصادية تتعلق برعاياها وأسباب اخرى تحتم عليها البقاء ومواصلة العطاء حتى في أصعب البيئات المجتمعية تعايشاً وتحت مطرقة أقسى النظم السلطوية، من اجل أداء الامانة وتبليغ الرسالة والتصدي للمسؤولية..

لقد كان غرة آل الشيرازي، المجدد الاول المرجع السيد الميرزا محمد حسن ابن السيد الميرزا محمود ابن السيد الميرزا اسماعيل الحسيني الشيرازي، المعروف بـ المجدد الاول، والمولود في سنة 1230 هجرية، والمتوفى بسامراء سنة 1312 هجرية، كان صاحب مشروع هجرة جهادية تميزت عمّا سبقها وعمّا تلاها بالثورية والإختلاف من خلال انتقاله الى سامراء ليجاور جدّيه الإمامَين المظلومَين العسكريَين (ع) ويبدأ من هناك إعادة صنع وتنظيم واحة الايمان التي أسسها وأشرف عليها في تلك البقعة الجرداء جدّيه سلام الله عليهما.

التميز والاختلاف واضح في هذه الهجرة الجهادية من خلال، ان المجدد الاول جازف متوكلاً على الله تعالى بالخروج الى منطقة غلب عليها طابع الولاء للعباسيين وحكوماتهم المتعاقبة، متحدياً بذلك، المنطق الذي يقول بضرورة توفر عناصر التلقّي والولاء والإحتضان من البيئة التي يعيشها المرجع كشرط من شروط النجاح والإبداع في ايصال الرسالة والتصدي للمسؤولية..

فكانت هجرته تلك تأسياً بهجرة الرسول المصطفى (ص) الى المدينة ملاقياً ما لاقاه حينما كانت لم ترَ بعد نور الايمان وهدي الرسالة حتى أذن الله بنصر نبيه وهداية كافة اهل المدينة على يده (ص).

لقد أثمرت جهود المجدد الاول (قده) في تلك البيئة البعيدة عن مراكز المسلمين الشيعة بما هو واضح ومؤثر من معالم الدين ومعارف اهل البيت (ع) لحد الان، ولا تزال آثار العطاء الثر والاخلاق الحميدة وعلوم الدين التي نشرها ذلك القائد والمعلّم ماثلة حتى اليوم يتداولها الأهالي في سامراء بفخر وإعتزاز، وهذا ما كان واضحا لدى زوار الإمامَين العسكريين في هذه السنة بالذات، سنة 2008 م، حيث كان محبي اهل البيت من رعايا المرجعية الشيرازية أول المبادرين لزيارة مرقدَي العسكريَين والمطالبة بإعادة إعمارهما بعد ان طالتهما أيدي شرار البشر من فلول البعث البائد وعصابات تنظيم القاعدة الموغل في الجرم والترهيب..

لقد جازى الله تعالى عبده المجدد الاول خير جزاء على زرعه الرسالي، حتى انه عندما رفعه الله سبحانه لرفقة الشهداء والصديقين، تداول حمل نعشه عامة الناس من اهل سامراء وما بينهما من المدن والقرى مشياً على الاقدام تبركاً ووفاءً له، حتى دفن في مقبرة جنب الصحن في الروضة الحيدرية المطهرة، تاركاً أبلغ الأثر وأرفعه سمواً.

بحر معرفة وداعية لاعنف عالمي

بعد أن عرفنا تميز الأداء والتوجه وعدم إتخاذ سياق ممنهج واحد في طريقة ايصال آل الشيرازي رسالتهم للناس.. ليس من قبيل الصدفة ان يكون المجدد الثاني الإمام الشيرازي (قده) عالماً خاصاً بذاته، فهو من كبار مراجع التقليد والفتيا وقائد روحي كبير وفي مقدمة الفقهاء والمناضلين، ولد في النجف الاشرف ونشأ في كربلاء المقدسة، تفقه على يد والده والعديد من العلماء والمشايخ الكبار حتى بلغ درجة عظيمة في الفقه والأصول وسائر العلوم الاسلامية..

وبعد وفاة أبيه إلتف حوله اهالي كربلاء بجميع طبقاتهم وقد تصدى للمهام الشرعية والإجتماعية وتصدر كرسي تدريس البحث الخارج فقها وأصولاً في ديوان ال الشيرازي في الصحن الحسيني المطهر. بالغاً في ذلك درجة سامية لم يصلها احد من معاصريه.

لقد أغنى المجدد الثاني الإمام الشيرازي (قده) العلوم الحوزوية والمكتبات العامة والخاصة في العديد من الدول الإسلامية بتآليف وتصانيف قيّمة ومتنوعة، بلغت اكثر الف وثلاثمائة مؤلف بين كتاب ورسالة في التفسير والحديث والفقه والأصول والعقائد والتاريخ، اشهرها موسوعته الفقهية في مائة وستين مجلداً تميزن بكثرة التفريعات والمسائل المستحدثة.

ومن جهة ثانية نذر الإمام الشيرازي (قده) نفسه في سبيل إثبات نظريات حضارية وإجتماعية وإنسانية كبرى من قبيل (شورى الفقهاء) وكذلك الدفاع عن حقوق الإنسان من خلال تبني نظرية ( اللاعنف) وهي النظرية الاكثر حساسية في عامل اليوم والأعقد في التطبيق في ظل صراع القوى الأقليمية والعالمية للإستفراد بالقوة والإستحواذ على مقدرات الاخرين من خلال العنف والترهيب والتجاوز بشتى أشكاله.

في أبهى صورة..التاريخ يعيد نفسه

بعد قرون من تلك الأحداث جدّد أهالي العراق بكافة اطيافهم من السنة والشيعة وحتى المسيحيين، جدّدوا حبهم وولائهم واحترامهم لهذه العائلة المعطاءة التي أنجبت العديد من المراجع العظام والعلماء الأجلاء من خلال إحتضانهم لجثمان الفقيه الفقيد آية الله السيد محمد رضا الشيرازي العالِم الرباني الورِع الذي توفي الشهر الماضي. وشيع جثمانه عشرات الالاف من اهل العراق من واسط الى النجف الاشرف ثم الى مثواه الاخير في صحن جدّه الإمام الحسين (ع)..

وما كان ذلك إلا برهان على عالمية الرسالة التي حملها هؤلاء الأبرار، ودليل على إتساع أفق المرجعية الشيرازية التي جعلت منهم.. جوهر التحولات الخلّاقة في مختلف المجتمعات.

* مؤسسة النبأ للثقافة والإعلام

http://annabaa.org

شبكة النبأ المعلوماتية- االخميس  10/تموز/2008 - 6/رجب/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م