ملف السودان: أرض التناقضات وبوادر السقوط فريسة للتقسيم

شبكة النبأ: يلقي الملف السوداني على الوسط الدولي، بظل مخيف ومرعب، وسط تكهنات وعدم مبالاة واضحة لدى البعض، فالخوف المحتمل من مجاعة كبيرة، وإنتشار الأمراض، والموت بين الاطفال والنساء، كل هذا ينذر بحسب دراسة بريطانية بقرب سقوط السودان ككيان مجتمعي دولي، حيث يعاني أغلب سكانها من أبسط الاحتياجات، وأغلبهم ضائع في متاهات من التشرد والجوع.

(شبكة النبأ) في سياق التقرير التالي تعرض عليكم الشأن الداخلي في السودان، والنداءات الدولية المتكررة لمنح هذه البلاد فرصة أكبر من المساعدات، حتى تتمكن من النهوض بواقعها المخيف:

بريطانيا تنبأ عن سقوط قريب للسودان

قال وزير الشؤون الافريقية في بريطانيا على هامش القمة الافريقية ان السودان ربما يسقط سقوطا ذريعا ما لم يساعد المجتمع الدولي في حل أزماته المتعددة.

وقال مارك مالوتش براون ان عدم احراز تقدم في حسم الصراع المستمر منذ خمسة أعوام ونصف في دارفور والقتال في منطقة أبيي الغنية بالنفط ويتنازعها شمال السودان وجنوبه والتوترات مع تشاد المجاورة هي جميعا قضايا حرجة.

وأضاف، يتعين علينا أن نجد وسيلة لمساعدة السودان وأقاليمه من أجل بدء العمل على حل هذه المشاكل والا فقد تكون هناك نقطة تحطم تسقط فيها البلاد سقوطا ذريعا.

وشدد على القول بوجوب أن تنتشر قوة حفظ السلام في دارفور بسرعة من أجل مساعدة جهود مبعوث الوساطة الجديد للامم المتحدة والاتحاد الافريقي في دارفور وزير خارجية بوركينا فاسو جبريل باسول.

ويقدر الخبراء الدوليون بأن 200 ألف شخص توفوا وشرد 2.5 مليون شخص عن ديارهم في دارفور منذ أن حمل متمردون معظمهم من غير العرب السلاح في عام 2003 متهمين الحكومة المركزية باهمالهم. بحسب رويترز.

وقال مالوتش براون: ما لم تنتشر قوة الامم المتحدة بسرعة.. فانها لن تساهم في قوة الدفع الخاصة بالسلام الذي يأتي من خلال تحسن الوضع الامني.

وتأكد رسميا تعيين باسول من جانب الامم المتحدة وأوضح وزير الخارجية السوداني دينق ألور أن الخرطوم ليست لديها اعتراضات.

وقال: هذا جيد.. نحن سعداء.. انه وزير خارجية وتقلد مناصب وزارية عديدة وهو رجل عسكري.

وعلى صعيد غير متصل قالت المسؤولة الأمريكية الاولى لشؤون أفريقيا جينداي فريزر ان من غير المرجح أن تستأنف المحادثات بشأن تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة قبل الانتخابات الأمريكية التي ستجرى في نوفمبر تشرين الثاني. والسودان مدرج على اللائحة الامريكية للدول الراعية للارهاب وتطبق واشنطن عقوبات اقتصادية ضده.

وأضافت متحدثة للصحفيين على هامش القمة: كان موقفنا واضحا للغاية منذ البداية.. التطبيع يعتمد على النتائج على الارض ومن الواضح أن الامور لم تتحسن في دارفور والامور تدهورت في أبيي.

ومن بين شروط اتفاق عام 2005 بين الشمال والجنوب اقتسام السلطة والثروة النفطية حيث ينتج السودان 500 ألف برميل يوميا.

ولكن قتل 89 شخصا على الاقل في مايو أيار في اشتباكات بين القوات الشمالية والجنوبية في أبيي القريبة من حقول نفط كبيرة يتنازع ملكيتها الجانبان. وقالت فريزر: في هذه اللحظة لا يبدو الامر محبذا لانهم لم يطبقوا هذه الاتفاقات.

أرض التناقضات والعصابات والمجاعة الأكيدة

أسواق عامرة بالخضروات والفاكهة الطازجة ومحطات وقود جديدة براقة ومنازل حديثة وطرق ممهدة ناعمة ومطعم للبيتزا.

انها صور أبعد من ان تخطر على الذهن عند التفكير في منطقة دارفور بغرب السودان حيث تشير تقديرات الى ان النزاع الدائر فيها منذ خمسة أعوام أسفر عن مقتل مئات الآلاف. ولكن هكذا الحال في الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور.

وفي الفاشر حيث مقر المهمة المشتركة بين الامم المتحدة والاتحاد الافريقي في دارفور ثمة وفرة في المواد الغذائية غير ان ضعف المحصول أدى لارتفاع حاد في الاسعار.

وتقول الامم المتحدة ان العنف والازدحام الشديد في مخيمات اللاجئين فضلا عن ضعف المحصول توفر المناخ الأمثل لحدوث أزمة غذاء في اقليم دارفور الذي يشهد أضخم عمليات إغاثة انسانية في العالم.

وعلى بعد عشرة كيلومترات فقط من اكشاك سوق الفاشر العامرة يصارع آلاف من نازحي دارفور المقيمين في مخيم زمزم للبقاء على قيد الحياة ويحاربون المرض والجوع والعصابات. بحسب رويترز.

وكان النازحون يحصلون على مساعدات غذائية تمدهم بما يزيد عن الفي سعر حراري يوميا والان يعيشون على 1400 سعر بعد ان خفضت وكالات المعونة الحصص الغذائية بسبب الهجمات على قوافل الطعام. ويبدو بعض الاطفال ببطون منتفخة وهو دليل محتمل على سوء التغذية.

ويحذر اريك ريفز وهو نشط في دارفور واستاذ الادب بجامعة سميث في ماساتشوستش من ان خفض الحصص الغذائية قد يؤدي لمجاعة خطيرة في الأشهر المقبلة. ودرس ريفز الوضع في السودان على مدار عقد تقريبا.

ويقول خبراء دوليون ان ما لا يقل عن 200 ألف قتيل سقطوا في دارفور منذ عام 2003 حين حمل متمردون من غير العرب السلاح ضد الخرطوم. وشرد 2.5 مليون نسمة آخرين. وتقدر الخرطوم عدد الضحايا بعشرة الاف.

وتضاءلت الآمال في حدوث انفراجة تتيح لسكان مخيم زمزم وبعضهم يقيم هناك منذ سنوات العودة لديارهم.

وتلقت محادثات السلام المتعثرة ضربة جديدة الشهر الماضي حين هاجمت حركة العدالة والمساواة المتمردة ضاحية في الخرطوم. وقال كبيرا مبعوثي الامم المتحدة والاتحاد الافريقي انه ينبغي الدعوة لقمة دولية للضغط على الاطراف للعودة لمائدة التفاوض.

في بعض الاماكن تبدو الارض قاحلة تتناثر فيها الأشجار. ثم فجأة تظهر أشجار خضراء ومساحات شاسعة من التربة الخصبة.

هذه أرض يقول مسؤولون أمريكيون انها تشهد إبادة جماعية بطيئة، وهو اتهام ينفيه السودان. وهي أيضا أرض يشكو فيها أفراد من قوات حفظ السلام الاجنبية من الملل.

حين زار وفد من الأمم المتحدة مخيم زمزم في يونيو حزيزان شاهد مظاهر البؤس وجها لوجه. طفل يمد يده طلبا للطعام وأرملة في الخامسة والثلاثين من عمرها تتحدث عن معاناتها لتوفير الغذاء لاطفالها الثمانية وامرأة تتلعثم وهي تتحدث عن اغتصاب جماعي.

ولكن سفير السودان لدى الامم المتحدة عبد المحمود عبد الحليم يقول ان زمزم مخيم خمسة نجوم.

وتقول اميليا كاسيلا المتحدثة باسم برنامج الاغذية العالمي في الخرطوم ان 62 الفا يعيشون في المخيم في أكواخ بدائية من الطين والقش وقطع من البلاستيك. فر هؤلاء من ديارهم هربا من القوات المسلحة السودانية وميليشيات الجنجويد الموالية للحكومة ومعظم أفرادها من العرب.

وكثيرا ما اخلفت الحكومة السودانية تعهدها بتوفير حراسة لشاحنات المعونة ويخشى دبلوماسيون في نيوريورك طلبوا عدم نشر أسمائهم ان الخرطوم لا تبالي للأمر.

وزاد ذلك من صعوبة حياة فاطمة (35 عاما) التي تقيم منذ اربعة اعوام في مخيم زمزم مع أطفالها الثمانية. وتقول للصحفيين انها لم تكن تحصل على غذاء كاف لأطفالها حتى قبل خفض الحصص.

وحين وصل وفد الأمم المتحدة رفعت المزارعة السابقة لافته رسمت عليها طائرة هليكوبتر تقصف المدنيين وكتبت لا للحرب ..نعم للسلام.

وتقول كاسيلا ان حصص الغذاء ستخفض مرة أُخرى في يوليو تموز لعجز الوكالة عن تحسين عملية التوزيع. وقالت ان ما بين 800 و1000 شاحنة تقطع طرق دارفور في كل وقت محملة بمواد إغاثة غذائية.

كما يعرقل عمل وكالات الاغاثة نقص التمويل مما اضطر برنامج الاغذية العالمي لخفض عدد طائراته الهليكوبتر ورحلات الطائرات في المنطقة حيث يصعب السير على الطرق بسبب الامطار الموسمية.

واحيانا تقوم قوات حفظ السلام التابعة للمهمة المشتركة بين الامم المتحدة والاتحاد الافريقي بحراسة القوافل ولكن نقص القوات والطائرات الهليكوبتر يجعل من المستحيل توفير الحماية لها جميعا.

وتأمل الأمم المتحدة ان تصل القوات الى 80 في المئة من قوتها الكاملة بحلول نهاية العام ولكن دبلوماسيين في نيويورك يقولون ان تحقيق ذلك صعب.

وقال أحد أفراد القوة طلب عدم نشر اسمه: لا نفعل الكثير. لست متأكدا من سبب وجودنا هنا. فهل هم مستعدون للعب دور أكبر لضمان وصول الغذاء لسكان مخيم زمزم القريب.. يقولون نعم.

نفط أبيي والصراع المميت

سقف من القش مدعوم بالعصي يوفر المأوى الوحيد من الامطار الغزيرة للام السودانية اكور تشول اكور وابنائها الثلاثة الذين نزحوا بسبب القتال في منطقة ابيي الغنية بالنفط في السودان.

واكور واحدة من عشرات الالاف الذين فروا من منازلهم قرب ابيي في مايو ايار حين تفجرت الاشتباكات بين قوات الشمال الحكومة ومتمردي جنوب السودان السابقين مما أثار المخاوف من احتمال انزلاق أكبر دولة في افريقيا مجددا الى حرب أهلية بين الشمال والجنوب.

وتقول اكور: بدأنا نركض عند الظهر تقريبا. ركضنا طوال تلك الليلة واليوم الذي تلاها. وأضافت، لا أملك شيئا. وأظهرت حقيبة بلاستيكية قذرة تحوي كل متعلقاتها.

ويرتبط مصير نازحي ابيي الذين تقدر منظمة الامم المتحدة أعدادهم بنحو 50 الفا بنجاح خارطة طريق، لانهاء التوتر واللجوء المزمع للتحكيم الدولي بشأن نزاعات مستمرة منذ فترة طويلة مثل النزاع على الحدود. بحسب رويترز.

ومحور الصراع في ابيي هو السيطرة على جزء كبير من انتاج السودان النفطي البالغ 500 الف برميل يوميا. وهذه المدينة الحدودية محاطة بحقول نفط يربط بينها خط أنابيب يمر عبر الاراضي المتنازع عليها في المنطقة الحدودية بين الشمال والجنوب.

واتفق الشمال والجنوب على مهلة مدتها شهر لتحديد أفضل هيئة دولية يمكن أن تساعدهما في تسوية الخلافات بعد أن تصاعد نزاع محلي نشب الشهر الماضي ليصل الى قتال عنيف أودى بحياة 89 على الاقل.

لكن قلة هي التي تتوقع التوصل الى حل سريع للنزاع الذي تأجج منذ اتفق الشمال والجنوب على انهاء الحرب الاهلية التي دامت 20 عاما باتفاق سلام شامل في عام 2005.

وقال جون اشوورث الخبير في الشؤون السودانية "سأندهش بشدة اذا انتهى القتال. الجميع يدركون أن ابيي واحدة من اكثر المناطق المضطربة قابلية للاشتعال بين المناطق الكثيرة المعرضة لاخراج اتفاق السلام الشامل عن مساره."

ولم يتم ترسيم حدود ابيي في اتفاق عام 2005 لانهاء الحرب الاهلية التي سقط خلالها قرابة مليوني قتيل.

ومنح اتفاق السلام ابيي الحق في اختيار الانضمام اما للشمال او الجنوب في عام 2011 حين يجري الجنوب بأسره استفتاء على الانفصال. في تلك المرحلة يمكن أن تصبح السيطرة على عائدات نفط ابيي اكثر أهمية للطرف الذي تخضع البلدة لسيطرته ايا كان.

وعقب اتفاق لانهاء الاشتباكات التي دارت الشهر الماضي من المقرر نشر قوة مشتركة من الشمال والجنوب قوامها 640 فردا هذا الاسبوع لمحاولة حفظ السلام في ابيي. لكن الامر جاء متأخرا جدا بالنسبة للاجئين.

ويقول مايين دينج (23 عاما) الذي فقد زوجته وطفله الوليد أثناء سيرهم لمسافة طويلة الى اجوك: لو كانت معي بندقية لخضت الحرب.

وأضاف وقد انتفخت عيناه من الحزن والاجهاد: كانت زوجتي تحمل جنينا في أحشائها. قالت لن أركض اكثر من هذا. وقفت الى جوارها تحت الشجرة. وخرج المولود. وأسلمت الروح.

كان الزوج وزوجته قد مشيا ليومين قبل وصولهما الى نهر كير حيث صعد جيش جنوب السودان الى جسره الوحيد. ويتهم مسؤولون جنوبيون القوات الشمالية بحشد قوات على الجانب الاخر من النهر. وتقول الخرطوم ان هذا غير صحيح.

ويتكدس الكثير من النازحين في سوق في الهواء الطلق أرضه طينية في اجوك وهي بلدة صغيرة مسطحة موفورة العشب تتناثر بها المنازل المستديرة ذات الاسقف المصنوعة من القش.

وقال الور مايين وهو شاب حمل أحد اشقائه الصغار الى خارج ابيي فيما حملت والدته الاخر: نريد العودة لكن يجب أن تصبح كل الامور على ما يرام.

ويقول عمال اغاثة انهم لا يعتقدون أن النازحين من أبيي سيستطيعون العودة الى الديار في وقت قريب. ويتوقعون أنهم سيحتاجون للغذاء والمأوى خلال الموسم المطير الحالي ان لم يكن لفترة أطول.

حملة كبيرة لنزع السلاح تطلقها حكومة جنوب السودان

قال مسؤولون ان السلطات في جنوب السودان بدأت في جمع الاف الاسلحة التي كدسها مدنيون أثناء عقود من الحرب الاهلية في محاولة لانهاء صراعات قبلية تحصد أرواح العشرات كل عام.

وأدت جهود حكومة جنوب السودان التي تتمتع بما يشبه الحكم الذاتي لجمع الاسلحة من المدنيين الى مقتل ما يقدر بحوالي 1500 شخص منذ أن أنهت اتفاقية للسلام بين الشمال والجنوب عام 2005 أطول حرب أهلية في أفريقيا لان السلطات تأخذ السلاح من بعض القبائل لتتركها معرضة لمخاطر هجمات قبائل مجاورة ما زالت مسلحة.

وقال بول مايوم وزير الشؤون الداخلية في حكومة جنوب السودان ان عددا قليلا من المدنيين قدموا أسلحتهم طواعية وان هناك حاجة لحملة جديدة يدعمها الجيش. وأضاف أنهم سينزعون أسلحة القبائل المتجاورة في نفس الوقت لتجنب اراقة الدماء.

وقال مايوم: المنهج الجديد هو نزع شامل للاسلحة بنزع كل الاسلحة غير المشروعة. وأضاف، اذا لم تسلمها سننزعها منك بالقوة. بحسب رويترز.

وكانت المجتمعات القبلية تحصل على الاسلحة أو تشتريها لحماية أراضيها وماشيتها أثناء الحرب الاهلية بين الشمال والجنوب التي ظلت تشتد حينا وتتراجع حينا منذ عام 1955. ولكن رغم اقرار السلام ظل قانون السلاح هو الغالب في كثير من مناطق الجنوب. والحملة الجديدة ستختلف عن المحاولات السابقة التي استهدفت جماعات بعينها.

وفي عام 2006 قدرت جماعة مسح الاسلحة الصغيرة وهي جماعة أبحاث مستقلة مركزها سويسرا ان ما يقدر بنحو 1200 مدني و400 جندي قتلوا في حملة لنزع أسلحة قبيلة لو نوير بينما احتفظ جيرانها بأسلحتهم.

لكن السلطات المدنية في حملة هذا العام ستخطر القبائل ثم تسجل الاسلحة وتقوم بجمعها وتخزينها بطريقة أكثر تنظيما لتجنب عدم تكرار اراقة الدماء.

وقال مسؤول انه تم بالفعل جمع 911 بندقية على الاقل في منطقة واحدة. لكن اخرين حذروا من أن مشاركة الجيش قد تأتي بنتائج عكسية.

وقال جون بالوش وهو من احدى المجتمعات القبلية التي لا تزال تحتفظ بأسلحتها قد تقع أعمال عنف.

وأشعلت الغارات للاستيلاء على الماشية والهجمات الانتقامية دورات من العنف في الجنوب الذي يعتمد سكانه أساسا على الرعي ويعاني من انقسامات قبلية وعشائرية عميقة.

وقتل 20 شخصا على الاقل في حادثة واحدة في مايو ايار الماضي لكن الارقام تكون أعلى غالبا.

وقال وليام تشان أكويل نائب المسؤول عن الشؤون الانسانية في حكومة جنوب السودان لا يمكن أن يكون هناك سلام بدون نزع الاسلحة.

وزادت قضايا الدين والنفط والايديولوجيا والانقسامات العرقية الحرب بين الشمال والجنوب تعقيدا. وسقط في هذه الحرب مليونا قتيل وفر أكثر من أربعة ملايين من منازلهم.

من كوبا إلى جوبا.. عودة الأطباء السودانيون

غادروا وهم في سن الطفولة والمراهقة.. عبروا الحدود بين جنوب السودان الجاف واثيوبيا قبل أن ينقلوا بعيدا إلى طرف آخر من العالم به خضرة غريبة في بلدة ايسلا دي لا خوبينتود بكوبا.

والان بعد مضي أكثر من عشرين عاما عاد نحو 600 من هؤلاء الاطفال الذين ارسلوا الى كوبا للتعلم خلال الصراع بين الجنوب والشمال الى الوطن يتحدثون الاسبانية ويرقصون السالسا ويعملون على اعادة بناء ارضهم بعد أطول حرب أهلية في افريقيا.

من بين العائدين الذين يطلق عليهم اسم "الكوبيون" 15 طبيبا بينهم دانيال ماديت الذي غادر السودان عام 1986 في سن الحادية عشرة. كان وهو ما زال في هذه السن الصغيرة عضوا في جيش الجنوب المتمرد.

قال في ختام دورة تلقاها قبل ان يبدأ العمل في الجنوب: لم نجبر على المغادرة ارسلنا في بعثة ولم تكتمل. بحسب رويترز.

عندما غادر ماديت كان المتمردون في الجنوب الذي تقطنه اغلبية مسيحية تساندها اثيوبيا الماركسية في ذلك الوقت يقاتلون جنود الشمال الذي تقطنه غالبية مسلمة في حرب حول الايديولوجية والموارد والعرق والدين حصدت ارواح أكثر من مليونين.

وقالت كارول بيرجر الصحفية السابقة والتي تدرس حاليا لنيل شهادة الدكتوراة في علم السلالات البشرية بجامعة اكسفورد: كدولة تابعة للكتلة السوفيتية كانت اثيوبيا ترتبط بعلاقات وثيقة مع كوبا. وقدمت كوبا بدورها دعما لحركات التمرد والانظمة الاشتراكية في افريقيا.

واضافت، الجيش الشعبي لتحرير السودان كان احدى هذه الحركات التي تلقت تعليما اساسيا وتدريبا عسكريا داخل كوبا. ورغم انه لم يعرف عن الجيش الشعبي لتحرير السودان مطلقا اتخاذه موقفا ايدلوجيا على الاقل خلال العشر سنوات الاولى من الحرب الا ان كوبا اعتبرت حليفا كريما ومخلصا.

ووقع اخيرا اتفاق للسلام بين الشمال والجنوب عام 2005 . وبدأ السودانيون الجنوبيون الذين تلقوا تعليمهم في كوبا والذين ظلوا في طي النسيان لسنوات بسبب الانهيار الاقتصادي في الدولة المضيفة وانقسام المتمردين في الوطن في العودة بعد سنوات عاش بعضهم طوالها كلاجئين في كندا.

عادت مارثا مارتن دار وهي امرأة ذات شخصية قوية ارسلت الى كوبا عام 1986 في زيارة سريعة عام 2005 قبل ان تعود نهائيا عام 2007 . وحين رأت والدها للمرة الاولى في مطار جوبا عاصمة الجنوب لم تعرفه الى ان قال لها احد الاقارب ان الرجل والدها.

وتقول دار: لقد كان صعبا علينا ان نتواصل. كان الامر اشبه بذكرياتي الاولى. كنت قد نسيته تماما.

وبرغم عودة السلام وحقول النفط الغنية في الجنوب ما تزال المنطقة التي تتمتع بما يشبه الحكم الذاتي ارضا مدمرة ينقصها حتى معظم الخدمات الاساسية. وبموجب اتفاق السلام يمكن لسكان الجنوب التصويت على الانفصال عام 2011 بعد انتخابات ديمقراطية مقررة العام المقبل.

وخاض الزعيم الكوبي فيدل كاسترو الذي تقاعد هذا العام كثيرا من صراعات الحرب الباردة في افريقيا بالوكالة في الستينيات والسبعينيات.

وفي السودان وافق كاسترو على تعليم اطفال مختارين كان كثير منهم بالفعل أصبح جزءا من الجيش الاحمر للاطفال.

وكان ينظر للاطفال باعتبارهم عاملا اساسيا في الصراع فهم سيستفيدون من التعليم لمنع ما اعتبره المتمردون النفوذ المركزي للخرطوم واستغلالها لموارد الجنوب.

ويقول باري وانجي العضو الكبير في برلمان الجنوب: قيادة المتمردين بدأت في اختيار اطفالها واقاربها واشخاص من المناطق التي تنتمي اليها.

وقالت بيرجر التي تعد كتابا عن الكوبيون ان قادة المتمردين ارادوا ابعاد اطفالهم عن معسكرات اللاجئين في اثيوبيا حيث كانت الظروف مروعة.

واردفت ان الاطفال ارسلوا في مجموعتين الاولى بحرا في سفينة سوفيتية من ميناء عصب الاثيوبي عام 1985 والثانية جوا في العام التالي.

زارهم عدة مرات جون قرنق زعيم حركة التمرد الجنوبية الراحل الذي كان يتمتع بشخصية قيادية جذابة ولقي حتفه في تحطم طائرة عام 2005.

كان افضل طالبين كل عام يقومان برحلة لاثيوبيا. وقال ماديت انهما كانا يرجعان بصور وخطابات من الاهل.

وعندما تخرج الاطباء كان الاقتصاد الكوبي في مأزق بسبب انهيار الاتحاد السوفيتي لكن لم يكن بمقدورهم العودة لديارهم. فقد انقسمت حركة التمرد الجنوبية على اساس قبلي عام 1991 مما أسفر عن سقوط الاف القتلى خلال اقتتال داخلي.

ولاول مرة طلبت كوبا من مفوضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين تسجيل السودانيين كلاجئين. وفعلت المفوضية بينما منحت كندا نحو نصف هؤلاء وطنا جديدا.

ولان الدرجات العلمية الكوبية لا تفي بالمعايير الطبية الكندية عمل ماديت في مصنع لتعبئة اللحوم بينما عملت دار في مصرف. وكانا من بين 15 طبيبا عاشوا في مدن مختلفة بكندا.

وكان الهدف من عودة الاف من المتخصصين المدربين من الشتات في الدول المتقدمة هو دعم التنمية في الجنوب بعد انتهاء الحرب. لكن عددا اقل من المتوقع عاد للوطن. وقالت دار ان كثيرين اشتروا منازل عن طريق الرهن العقاري وانجبوا اطفالا ويريدون لهم تعليما افضل من الذي يمكن ان يقدمه الجنوب.

شبكة النبأ المعلوماتية- االاربعاء  9/تموز/2008 - 5/رجب/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م