تقدمية الإسلام وانفتاحه على الأديان

بحسب رؤية المفكر الشهيد الشيرازي

عبد الكريم العامري

أي مبدأ أو إنسان حاول ان يقفز بالبشرية الى الأمام ويطوي جميع المراحل والعقبات، ويقود الركب البشري الصاعد بخطوات العمالقة في طريق الاعجاز فهو تقدمي.. وأي مبدأ او إنسان حاول ان يعيد البشرية الى الوراء وحارب العلم والتقدم فإنه رجعي...

المفكر الراحل آية الله السيد حسن الشيرازي (قده).

 

شبكة النبأ: ان الدين هو النظام الذي أنزله الله على نوح وإبراهيم وعيسى وموسى ومحمد(عليهم السلام)، وهو ليس سوى بعض الحقائق الكونية، والقوانين الفردية والاجتماعية التي يوصي بها العقل، والفطرة المتبلورة الواعية أو يصدقها العقل والفطرة وعلى هذا الضوء فهو حقيقة متأصلة في طبيعة الانسان، بحيث لا يستطيع التجرد منها، فهي تلاحقه كلما أزداد شروداً وإبتعاداً، ويحكى انه يأتي يوم نفقد فيه النعم الموجودة، وحتى يفقد فيه العقل والعلم حكومته على الإنسان، ولكن من المستحيل أن يُسلب الدين من البشر، لأنه عريق في فطرته.

ففي الانسان غريزة التدين، أو عقدة الدين... ولا يوجد إنسان بلا دين، غير انه ان وَجدَ الدين الحق تمسكَ به، وإلا أضطر الى اعتناق الاديان الاثرية أو تبني المبادىء والافكار الحزبية، أو أتخاذ دين ولو مزيف، كما كان الجاهليون ينحتون بأيديهم الصخور والاخشاب ليعبدوها، أو يصوغون التمر والعجين على صورة انسان ثم يعبدونه، حتى أذا الج بهم الجوع أكلوه، وأنصرفوا الى مأربهم، وحتى لو لم تنتج قريحته إلهاً، عبد الخرافات أو الافراد، لأن الأنسان لا يستطيع العيش بلا دين، ويحاول التنفس عن غريزة التقديس والتعظيم ويريد التعبير عن ضعفه، الذي يشعر به في أعماقه، ويريد سد شواغره النفسية والفكرية، وإشباع فراغه العقائدي، فهو يبحث عن الدين ليفرج عن نفسه الضغظ الداخلي الذي يقاسيه من هيجة الغرائز.

والدين الذي أنزله الله، استجابه لغريزة التدين في الانسان، ومحاولة ناجحة لتحقيق سعادته في الحياة الدنيا والآخرة، ولذلك فهو محاولة عقائدية مؤلفة من ثلاثة عناصر هي: العقائد الفكرية، والقوانين العملية، والاخلاق الاجتماعية، وهي نظام حياة شامل دقيق... يستوحي جميع عناصره من علاقة الانسان بالله، فأن القرآن قد عبر عنا بقوله: (( ويسبّح لله ما في السموات والارض)) سورة الجمعة آية 1.

ما قبل الإسلام

ما زال الانسان منذ وضع قدميه على الارض.. حتى اليوم... يبحث عن السعادة، ويعمل لتكوين المجتمع السعيد، وقد بذل الحكماء أضواء ادمغتهم، لينيروا طريق السعادة للأنسان، فما وجدوا اليه سبيلاًُ، وعمل (أفلاطون) لأيجاد(جمهوريته المثلى) فبقيت تصاميمه حبراً على ورق.

ولأجل تحقيق هذا الهدف الانساني العام، ارسل الله الاديان التي تنظم اجتماع الانسان، وبعث الانبياء لتطبيق الاديان، وأودع في صميم كل فرد عقلاً يتجاوب مع الانبياء، ويؤيد مشاريعهم.. فبينما يكون العقل رسولاً باطناً، يكون الرسول عقلاً خارجاً، وكلاهما عقل ورسول أحدهما خارج والآخر مستقر في الصميم أيد الله كلاً منهما بالآخر، ليتعاونا على انقاذ الانسان من نزوات نفسه وتيارات الحياة.

ولما كان الانسان في بدء الخليقة، جاء غير متأهب لتلقي أبعاد الافكار، التي تبلغ به الى قمة حضارته المنشودة... كان لا بد أن تمر عليه ادوار اعدادية، تتدرج به في مراحل متعددة متطورة، فجاءت الاديان بمثابة المناهج البدائية، التي تختصر رسالتها في نقل الانسان من مرحلة الى مرحلة وجاء الانبياء تباعاً، الذين كانوا بمنزلة الاساتيذ الاعداديين للتبشير بالمرحلة النهائية، والمعلم الاخير، كما يقول القرأن الحكيم: (( وأذا اخذ الله ميثاق النبيين: لما أتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جائكم رسول مصدق لما معكم، لتؤمنن به ولتنصرنه، قال، أقررتم وأخذتم على ذلك أصري؟ قالوا: أقررنا قال: فأشهدوا وأنا معكم من الشاهدين )) أل عمران / 81.

مولد الإسلام

مرّت الاحقاب والاجيال، وتعاقبت الرسل والرسالات على الانسان، حتى أذا بلغ أوج نضوجه وتبلوره، أرسل الله الاسلام، الذي هو التخطيط النهائي للحياة، وبعث محمد بن عبد الله، شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً الى الله بأذنه، وسراجاً منيراً... ليخرج الناس من ظلمات الجاهلية والجهالات، الى نور العدل والحق، ويهديهم الى طريق الخير.

فكان الاسلام التصميم النهائي للأجتماع الانساني، وكان محمد (ص) المصلح الاخير الذي لا يتجاوزه الانسان، ولهذا كان حلال محمد حلالاً الى يوم القيامة، وحرام محمد حراماً الى يوم القيامة... حيث لا يمكن للناس أن يأتوا بأفضل مما جاء به.

ومن اجل هذا الواقع كان ميلاد الاسلام، ميلاد للحياة التي كانت مشوهة، فحدد الأسلام لها الحدود والمقاييس الابدية.. وهو ميلاداً للأنسان الذي كان تائهاً مهدور الكرامة والحقوق.. فوفر الاسلام كرامته وحقوقه، وأطلقه على الطريق والصراط المستقيم: (( صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين )) الفاتحة / 7.

فكأنما خلق الانسان على يد الاسلام خلقاً جديداًُ.. لأن الانسان كان يتدهور في الجرائم الفردية والاجتماعية، دون ان يستطيع التخلص منها، فجاء الاسلام لينور القلوب بالايمان، ويطهرها من السخائم والاحقاد، حتى تتوارى الجريمة بنفسها عن المجتمع بدون قوة.

مقياس التقدمية والرجعية.. وجهة نظر المفكر الراحل السيد حسن الشيرازي

وفي بيان مقياس التقدمية والرجعية يرى الشهيد الراحل السيد حسن الشيرازي (قده) ان بعض المسلمين يتصور ان الاسلام لفترة مؤقتة من عمر الإنسان، وقد أبدعه محمد بن عبد الله، عندم بُعث في العصر الجاهلي، وعاشوا الخرافة، فقام بدور تقليدي يقضي بتطوير الخرافة الى الدين، ليتطور هو بدوره الى العلم، الذي يسعد به الانسان.

هذا التصور خاطىء، وهو الذي جرد النشأ الجديد من الإسلام، وزج به في مناقضات المبادىء القائمة ليعتبر متطوراًً تقدمياً ومتنوراً، بينما الواقع ان الاسلام قوة محركة جريئة على التطوير، وإطلاق المواهب والطاقات، وان ما سواه من المبادىء والافكار رجعية نظرياٌ وتاريخياٌ، وجديرة بالتخلف والإفلاس.

لقد كان الانسان القديم، أذا اراد ان يكتب شيئاً رسم من قطع الحبل والغصن حول الالف باء ثم استطاع ان يكتشف الحبر والقلم، ويكتب على الاوراق العريضة وعظام الكتف رسائل الى الاخرين، ومن ثم اخترع الورق والمطبعة التى تطورت الى جهاز دقيق يطبع الإنجيل كله في سبعين ثانية على قطعة صغيرة من الورق، تقل مساحتها عن مساحة راحة اليد... وهكذا الانسان اخترع العربة الحصانية ثم انتهت الى الطائرة النفاثة ثم تطورت اختراعاته وأستطاع ان يخرج الى الفضاء الخارجي.

فوصل الانسان الى قمة التطور، وقد اهدر في طريقه مئات المليارات من الاموال والافراد والساعات، بكل سخاء وشرف واعتزاز... وهكذا يكون التطور الطبيعي للأنسان انه يخطوا خطوات السلحفاة، ويستهلك نفقات العمالقة.

فأي مبدأ أو انسان شاء ان يصد هذا التيار، ويوقف الانسان في موضع قدميه، أو حاول أن يقهقره الى منطلقه الاول، فمنع الناس من استخدام جميع المخترعات، وأمرهم أن يكتبوا بقطع الحبل وألغصن، وان يسافروا على الاقدام، وأن يتوسلوا بالمعامل اليدوية والعيون المجردة، لأكتشاف الارض والسماء... الخ.

فأي مبدأ أو انسان أمر بذلك، فهو رجعي، وأي مبدأ أو انسان حاول ان يقفز بالبشرية الى الأمام ويطوي جميع المراحل والعقبات، وقاد الركب البشري الصاعد بخطوات العمالقة في طريق الاعجاز فهو تقدمي... فقال على لسان علي بن أبي طالب (ع) ( سلوني قبل أن تفقدوني) فهو إمام التقدميين مهما تقدموا.

تقدمية الإسلام

وفي هذا يستخلص السيد حسن الشيرازي نظرته بالقول: بعد ما عرفنا مقياس التقدمية والرجعية، لا يحق لنا أن نعتبر تقدمياُ ما يكون وليد اليوم، ونعتبر رجعياًُ ما يكون تراث الامس، بل التقدمي ما يدفع الانسان الى الامام، وان كان ميلاده قبل ميلاد الإنسان، والرجعي ما يرده الى الوراء، وأن ولد بعد ألف عام من هذا اليوم.

وليس لنا ان نعتبر من مظاهر التقدمية، كل صناعة حديثة، لم ينتصر عليها أباؤنا من قبل، ما لم تكن مشاركة واقعية في سعادة الانسان، فليست أجهزة الإبادة الجماعية والخيانات الدولية، وأبتزاز الشعوب، من أدلة التقدم، ولا الصدق والوفاء والاخلاص من أيات التراجع، وأذا حقت هذه الحقائق، أستطعنا أن نقدر تقدمية الاسلام من رجعية مبادىء اليوم، بالاستجوابات التالية:

- هل كان الناس في ظل إسلام الأمس أسعد، أم اليوم؟

- هل كان القلق والتوترات والحروب الحارة والباردة، أكثر في أيام الأسلام الاولى أم اليوم؟

- هل كانت الجرائم وعمليات القتل أكثر تحت حكم الاسلام الاول أم اليوم؟

لا بد من الاعتراف بأن الناس كانوا اسعد في ظل الاسلام وأن الجرائم والمتناقضات الفردية والجماعية والحروب الدموية، لم تبلغ مبلغها اليوم، وتعزز هذا الاعتراف إحصاءات حوادث الجنون والانهيارات العصبية، وقوائم المحاكم والسجون، وميزانيات الحروب الصحفية والاذاعية والمسلحة، وهذه الشواهد تؤكد على ان الاسلام كان يوفر على شعوبه السعادة والطمأنينة والرخاء، أكثر من المبادىء المعاصرة.

كل هذا بالإضافة الى ان الجوانب الرئيسية للحياة التقدمية، تكون:

أولاً: في ازدهار الثقافة.

ثانياً: في عمق التنظيم الداخلي.

ثالثاً: في الانتصارات الخارجية.

والاسلام بلغ في هذه الجوانب ابلغ مستوى، ودفع الاسلام الناس الى الانطلاق في طلب العلم بلا حدود ونشر المعارف وربط الاسلام حكمه على نفق الكرة الارضية بقيادة رجال صاغ منهم الاسلام عباقرة يصارعون ساسة العالم فينتصرون عليهم، ويقيمون على انقاضهم حكماً يدور مع الشمس، ويخلد مع التاريخ.

رجعية الأديان

أن المبادىء والأديان الحية، تجمع ملامح الرجعية، تاريخياً ونظرياً، أما تاريخياًٍٍ فلأنها ولدت قبل ميلاد الإسلام فليس في الاديان دين بعث بعد الاسلام، ولا يوجد مبدأ إلا وتتصل جذوره بأوربا القديمة.

وأما رجعية الاديان ما سوى الاسلام، فسرعان ما تظهر لكل من يتصفح الأديان الرئيسية وسنبحث عن رجعية الديانة اليهودية بكتبهم التي رفعوها فوق الكتب المقدسة، ومنها كتاب (التلمود) الذي يقول فيه (ماري دوبنص): ( التلمود، ذلك الكتاب الذي أحله اليهود، لم يكن مجرد كتاب فلسفة وتقوى بل كان منهل الحياة القومية) ثم اضاف قائلاً: ( فالتوراة ذاتها لم تبلغ ما بلغه التلمود).

ففي هذا الكتاب يقول (هرتش): ( لولا اليهود لأرتفعت البركة من الارض، ولأحتجبت السماء، وأمتنع المطر)(ان اليهود ابناء الله وأحباؤه، وأما الباقي المخلوقات، فهم بذور حشرات، وسائمة أنعام)(ان النطفة التي خلق منها باقي الشعوب الخارجين على الديانات اليهودية هي نطفة حصان) (اليهود احب الى الله من الملائكة، وهم من عنصر الله، كالولد من عنصر ابيه، فمن يصفع اليهودي كمن يصفع الله).

هذه عقائد اليهود، أنهم حتى الآن لم يشعروا بأن الناس جميعاً لآدم، وأدم من تراب.

ولم يعرفوا: ان الله لم يلد ولم يولد، ولم يفهموا ان لا تمايز بين الناس إلا بالتقوى وبالأعمال والافكار.

أيهما أحسن للمستقبل؟

أن صلاحيات المجتمع تقدر بمدى عواطفه الاجتماعية، فالمجتمع المتحاب المتألف هو الذي يستحق البقاء والأزدهار، والمجتمع المتنافر المتباغض، هو الذي كتب عليه التقلص والانهيار... وحيث ان الفطرة تدعوا الى احترام العواطف والحقوق لا بقدم الانسان على احترامها الا لترميم نواقصه، وتلبية حاجاته، فمهما كان الفرد غني الشخصية، يكون اخضع للحق، وأبعد عن الجرائم، وكلما كان هزيل الشخصية يكون اكثر تمرداٌ على الحق، وتطوعاٌُ للأباطيل.

هبط الاسلام من عند الله، لتنظيم الانسان الذي وجد على سطح الارض، ليبلغ دورة التكامل الانساني، فكان من الطبيعي ان يكون منهج حياة واقعياُ شاملاُ، يسع الحياة البشرية من جميع جوانبها ولا يتخلى عن جانب المنهج اخر سواه... وهكذا يكون دين الله.

وبقدر ما في الاسلام من واقعية وشمول، كانت مقدرته على التوسع والانتشار، لأن البشرية المعذبة كانت تبحث عن منقذ، وتتلفت في الظلام، أذا انبثق الاسلام فتوافد الناس يدخلون في دين الله افواجاً، حتى كان الاسلام ينشر العلم والحضارة اينما حطت له قدم.

ولكن حكام اوربا تألبوا لصد الاسلام بالكبت والارهاب، ورغم التحشدات المسلحة، بقي الاسلام في قوته ومناعته الفائقتين.

وليست قوة الاسلام، مستحدثة من تلك السيوف، التي إمتشقها على المتأمرين عليه أيام الرسول (ص)، بل أن قوة الاسلام، كامنة في طبيعته وعفويته وشموليته، وفي تجاوبه مع آمال الانسان وآلامه، واستجابته لفطرة البشرية وحاجاتها، وأستعلائه من عبادة العبيد والاوهام، الى عبادة الله، ومن اجل هذا يشن الاستعمار حملات القمع والابادة، والتظليل والتشويه، لأن الاسلام يريد مطاردة الذين يريدون في الارض علواً وفساداً.

ولكن الاسلام سينتصر على جميع هذه الطاقات الفكرية والحربية، التي يرصدها الاستعمار لخنق الاسلام، ومواراته عن اعين البشرية المعذبة...المتطلعة الى النظام الصالح، الذي ينقذها من الويلات والنكبات، بعد ما خابت رحلتها وأخذت تشعر بالافلاس الروحي والقلق الدائم الذي يسيطر على النفوس، والاضطرابات النفسية والعصبية وضغظ الدم والانتحار والجنون... رغم كل الفرص التي تتيحها الحضارة الحديثة للبهجة والمتاع، والترفيه والترويج.

وأنهت البشرية تجاربها للمبادىء والافكار الحديثة، بالخيبة السوداء، فقد اعلنت عجزها عن معالجة المشاكل والازمات، بعدما استهلكت التضحيات، وأنطلقت صيحات الخطر، تهيب بالبشرية، أن تبعث عن منهج يتجاوب مع الانسان كله... عقله وجسمه وروحه، ويشبع شواغره وفراغاته وجوعاته، وحيث لا يوجد على الارض منهج بهذه السعة والشمول، سوى الاسلام: فالبشرية بحكم حاجتها الملحة ستنتهي الى الاسلام، ويتحقق تنبؤ (رناردشو) حيث قال:( ان العلم احوج ما يكون الى رجل في تفكير(محمد) الذي وضع دينه دائماً، موضع الاحترام والإجلال، وهو أقوى دين على هضم المدنيات الحديثة، خالد خلود الأبد ورأيت كثيراُ من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة).

......................................................

المصادر/

التوجيه الديني _ السيد حسن الشيرازي

شبكة النبأ المعلوماتية- االاثنين  7/تموز/2008 - 3/رجب/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م