تحديات الزمن الجديد

أحمد شهاب

دخلت الحركة الإسلامية في الكثير من الصدامات والصراعات السياسية والأمنية مع الأنظمة القائمة، بعضها أسهم في دفع الأمور إلى التحسّن النسبي للأوضاع السياسية والاجتماعية، وبعضها انتهى إلى نتائج ضعيفة لا ترقى إلى مستوى التضحيات الجسيمة التي قدمتها الحركة وكوادرها في الكثير من الدول. فغالبية الأنظمة العربية تعاملت بحذر بالغ مع طموحات أبناء وقيادات الحركة الإسلامية، وبخاصة تجاه الحركات الإسلامية المعارضة والنشطة التي استطاعت أن تحقق حضورا لافتا في الشارع العربي والإسلامي، سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي. واستحوذت على ثقة قطاعات مهمة من كفاءات وفعاليات المجتمع، وتمكنت من تمرير ثقافة المواجهة والتحدي والرفض السياسي إلى الشارع.

أما الحركات والتوجهات الإسلامية التي تبنت خط الهدنة والمصالحة مع الأنظمة الحاكمة، وتوجه نشاطها نحو الدعوة الدينية والعمل الخيري، والتهذيب الأخلاقي، ومحاربة الشبهات والبدع، فقد سعت السلطة لاستغلالها لمصلحة إسباغ المشروعية على الحكم القائم، وتسويق النظام اجتماعيا وثقافيا من خلال تصويره كنظام سياسي متوافق مع الدين وغاياته.

 لقد حظيت معظم الجماعات الدينية من خط الهدنة بالرعاية السلطوية، وحصلت منها على كل أنواع الدعم المادي والمعنوي. أما الثمن الذي دفعته تلك الجماعات، فلم يكن سوى توجيه سهام الحرب ضد الحركات الإسلامية المعارضة ومحاولة تجريد عملها من صفته الدينية، ويمكن القول إن الحكومات العربية استطاعت أن تحقق إنجازا كبيرا في هذا المضمار.

فقد لعبت التوجهات الإسلامية المهادنة للسلطة دورا رئيسا في إحباط المسار الإصلاحي الذي قادته الحركات الإسلامية المعارضة، ولم تنقشع ستينيات وسبعينيات القرن العشرين إلا والساحة الإسلامية تمتلئ بالفتاوى المضادة للحركة الإسلامية، أو بعض شخوصها من قبل مشايخ الدين المرتبطين بالسلطة، فضلا عن تكرار الصدامات المتفرقة بين الإسلاميين لأسباب فكرية، أو فقهية، أو مذهبية، وهي مواجهات مفتعلة وتقف خلفها أياد ليس لها علاقة بالإسلام والفكر الديني بقدر ما تتعلق بتنفيذ أجندات سياسية لأهل الحكم.

 لكن اللافت أن الحركة الإسلامية على اختلاف مشاربها، لم تُخضع اختيار الموقف السياسي بناء على قاعدة معرفية صلبة، وإنما اعتمادا على ردة فعل السلطة تجاهها، فهي غالبا لا تبادر إلى اختيار زمن الصراع أو مكانه، كما لا تختار زمن الهدنة أو مكانها، وإنما تترك تلك المهمة للأنظمة، فهي من يقرر ذلك، بل يمكن القول إن الحركة الإسلامية في العموم لم تكن تختار معاركها السياسية والاجتماعية داخل المجتمع، بقدر ما كانت تعيش على قرار الآخرين من حكومات وقوى وأطراف سياسية.

دليل ذلك هو التبدّل السياسي المفاجئ الذي طرأ على الحركات الإسلامية الراهنة، وتحولها غير المبرر من مرحلة المبدئية في العمل السياسي إلى مرحلة الواقعية السياسية، واستبدال شعاراتها بشعارات تمالئ الوضع القائم بسلبياته وموارد قصوره، وبدلا من أن تؤثر الحركات الإسلامية بمفاهيمها ومبادئها في الواقع، قدمت في الكثير من البلدان تنازلات عن جملة من أفكارها ومبادئها في سبيل تحقيق بعض المكاسب السياسية، أو الاقتصادية. وأبلغ دليل هو تراجعها عن أولوية تطبيق الشريعة لمصلحة أولوية الوصول أو المشاركة في السلطة، والتبدل المثير لمواقف العديد من الحركات الإسلامية من المعارضة إلى الموالاة.. أو العكس.

ويبدو لي أن الانتقالات السريعة التي رافقت نمو الحركة الإسلامية في السنوات الأخيرة، كان لها أثر بالغ في هذا الإرباك المفاهيمي والعملي، فقد وجدت معظم الحركات الإسلامية نفسها أمام وضع مختلف كليا عن السابق، فمع بداية التسعينيات، شهدت الساحة العربية والإسلامية تغيرات حادة في الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية، تحول على إثرها ما يمكن تسميته بالإدارة السرية للعمل الحركي، إلى إدارة علنية لا يمكن إخفاؤها، أو القفز عليها، نظرا للانفتاح السياسي والإعلامي الكبير الذي شهده العالم العربي والإسلامي خلال تلك الفترة.

حتى أصبحت الكثير من الأفكار الداخلية، والتي كانت تتميز بالحميمية والخصوصية الحركية، محلا للتداول والحوار العلني، وهو حوار بطبيعة الحال لا يخلو من النقد والرد. كما إن الكثير من القيادات الحركية التي كانت توجّه أوامرها لينفذها الآخرون دون نقاش، أصبحت آراؤها عرضة للنقد، ولاسيما بعد تحول معظم أولئك القادة السريين إلى كتّاب أو خطباء، أو حتى إلى مدراء لمؤسسات إعلامية، أو سياسية علنية، وفي كل الأحوال، فكلمتهم تحولت من مُمثل، أو مُعبّر عن رأي السماء إلى مجرد رأي قابل للنقاش.

لقد شكل الانفتاح السياسي والإعلامي الراهن تحديا لمسار الحركة الإسلامية ومستقبلها، لم تواكبه كوادر الحركة وقياداتها بتحليلات وقراءات علمية للواقع، وإنما تعاطت في بداية الأمر بإهمال شديد مع تلك التحولات، ورفضت الإذعان لها، واعتبرتها حالة طارئة ستزول سريعا، والحق أنها زالت، لكن إلى مزيد من الانفتاح والانفجار الإعلاميين، وانتهى المشهد القديم بمشهد جديد مختلف كليا عن السابق، عجزت كوادر الحركة الإسلامية عن تفهم هذا الواقع الجديد بشكل دقيق، وسقطوا في دائرة التسرع في القرارات، وإهمال دراسة الواقع وعناصره ومكوناته.

ويبدو لي أن الإسلاميين معنيون الآن بعمل مراجعة نقدية وجدية لتجربتهم الحركية خلال السنوات الأخيرة، ومحاولة اكتشاف مواطن الخلل وردمها، ومواطن القوة وتعزيزها، كما أنهم مطالبون بقيادة الساحة نحو الإنجازات الحقيقية، والخروج من حالة الارتهان إلى العمل السياسي ومكاسبه اللحظية، فنحن لا نختلف حول أهمية العمل السياسي، ولا حول ضرورة مشاركة الإسلاميين في الحكم، لكن ينبغي أن يسير ذلك كله في اتجاه تحقيق الغايات الفكرية للحركة، بينما الحاصل الآن أن العمل الفكري والثقافي يُسخر لخدمة السياسة ومصالحها، وربما يفسر لنا اختلال هذه المعادلة السبب الذي يقف خلف عجز الحركات الإسلامية عن اختيار زمن ومكان معاركها القادمة.

* كاتب كويتي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- االاثنين  30/حزيران/2008 - 26/جمادي الثاني/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م