الجيوش ملك الأوطان أم السلطان؟

عدنان الصالحي/ مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

لا يختلف اثنان على أن الجيوش بكافة مسمياتها وبعنوانها المهني المختص هي قاعدة أساسية وركيزة رصينة في تكوين الدولة وحفظ هيبتها وحماية كيانها الداخلي والخارجي، ولها قدرتها وقدراتها الخاصة في الساحة العسكرية والسياسية .

  في دول العالم الثالث وبالتحديد في العراق، كان عنوان الجيش ولا يزال محط أنظار الجميع وتأثيره لم يغب عن أي مرحلة سياسية عاشها البلد، فتكوين الدولة عام 1921 ارتبط ارتباطا وثيقا بتشكيل الفوج الأول ونواة تأسيسه، وهو فوج الإمام موسى الكاظم(ع) وهو ما اعتبر عيدا وطنيا يحتفل به كل عام، وتطور عديد هذه القوات البسيطة لتصبح فيما بعد قوات مسلحة ومدربة، وشاركت في الكثير من الحروب الخارجية المشتركة مع بعض الجيوش العربية الأخرى كما هو معروف في حرب أكتوبر.

   في بعض الأوقات (وللأسف) قوة هذا الجيش لم تكن للدفاع عن البلد وحمايته، بل، تسببت بانقلابات كانت بعضها ضد دكتاتورية مجحفة، والبعض الآخر لم تكن فيها من ذلك شيء سوى لتسلط جهة معينة أو دكتاتورية أخرى، سواء عسكرية كانت أو سياسية، ولذلك بقيت قضية الجيش العراقي بصورة خاصة من اعقد الأمور وأكثرها حساسية، فبعد سقوط النظام السابق كان من اخطر القرارات وأسوءها ما اتخذه الحاكم المدني (بول بريمر) آنذاك هو حل الجيش العراقي وتسريح جميع أفراده، والذي انطوى على مشاكل كبيرة مازالت آثارها باقية.

   من هذه المقدمة يتبين مدى أهمية  المنظومة العسكرية، فما هو مستقبل الجيش العراقي الجديد في العهد الجديد؟ وماذا سيصبح ؟ وملك من ؟ والمدافع عن من؟.

   التجربة الحديثة والمعاصرة التي عاشها الشعب اللبناني أعطت رسالة جديرة بالاهتمام، فعلى رأي الأغلب بان السلوك المهني والوطني للجيش اللبناني كان بمستوى الاتزان بحيث أوصل البلاد الى بر الأمان وبدون استخدام القوة، وذلك لانه وضع نفسه حاجزا بين الإخوة الفرقاء المختلفين سياسيا  والمتصارعين الى درجة الاقتتال، بدون نظرية المؤامرة أو التدخل الأجنبي، سواء كان ذلك موجودا أم لا، هذه التجربة مثلت انعطافة كبيرة في سلوك الجيوش العربية التي طالما ارتبط عنوانها بالحاكم الأعلى للبلاد.

   فالتجربة التي أوردناها هي شاهد عيان مرحلي اطلع عليه الجميع تقريبا، واليوم ونحن نعيش مرحلة فتية في عراقنا الجديد هل يمكننا الوصول الى نفس المستوى من الأداء كما في الجيش المذكور آنفا أم أن الوقت مازال مبكرا على قواتنا التي تشكلت حديثا؟

    ما نحتاجه اليوم ومستقبلا هي نظرة تصحيحه لكل المسارات السابقة والتي كانت الآلة العسكرية تتحرك بها وكأنها إنسان آلي لا يفقه من العمل شيء سوى التطبيق (بنظريات نفذ ولا تناقش أو ثم ناقش وغيرها)، بل إن متطلبات الوضع الجديد يفرض صورة مغايرة تماما، ويدخل التغيير في ثقافة الجندي والقائد على حد سواء، لان الدكتاتورية وباء ابتلي به الجميع السياسي والمواطن والعسكري، وكلا حسب نسبة تأثيره في المجتمع، وهي معضلة لا تأتي بتغيير هيكل الحكومة فقط، وإنما تحتاج الى سقف زمني لتغيير الصورة من الأصل.

   الجيش الذي يجب أن يكون نتاج الديمقراطية والتعددية الحقيقية التي نتحدث عنها اليوم وننشدها، لابد من أن يقف حاميا للبلاد بكل أجزاءها حكومة وشعبا وأرضا، وفي نفس الوقت يكون صمام آمان للمواطن العراقي بشخصه وحقوقه وان لا يمثل جهة حزبية أو فئوية أو منفذ لأجندة غير قانونية، سواء كانت داخل الحكومة أو من معارضيها.

 المهمة ليست بالهينة والأمور لا تتأتى بالتمنيات، ولكن يمكننا الجزم بان المرحلة الحالية والمستقبلية تضم في طياتها فرصة كبيرة للعمل على إنتاج جيش وطني مهني يكون آلة لتطبيق الدستور والقوانين بصورها الصحيحة غير المبطنة بأهداف ثانوية.

    هذه المهمة تكاد تقع مسؤولياتها على الجميع بدون استثناء وان اختلفت نسب مهامها من جهة الى أخرى، فالحكومة تمسك برأس القضية في البرمجة لهذا المشروع الكبير والبرلمان الحالي والمستقبلي يجب أن يكون الناظر والمهندس الأعلى للفكرة بأسرها، والأحزاب والكتل السياسية تتقاسم الأدوار الوطنية في هذا البناء بعيدا عن شيء اسمه التوافقات أو التقاسمات، وبعدها يأتي الدور المهم في المتابعة والتشخيص والمطالبة وهو دور الجماهير والمواطنين بجميع طوائفهم.

    الوقت ليس طويلا إذا ما أردنا فعل ذلك والتركيز على جانب لا يسهم في تهميش الجوانب الأخرى رغم جسامة المسؤوليات وخطرها، ولكنا يجب أن ندرك بان للموضوع تفاصيل خطيرة وكبيرة لا تكون مهمة حاليا ولكنها قد تعيدنا الى أزمان غابرة إذا لم نتقن العمل فيها، فمن يضمن  أن لا ينقلب الجيش والعسكر على حكومة منتخبة  وشرعية (الحالية أو القادمة)، والقضية ليست توجيه الاتهام الى جهة محددة او شخوص معينين بقدر ما هو احتراز لتقلبات السياسة ومفاجئاتها كما يعبرون.

    وهنا يكمن سرا الإجابة على ما طرحناه سابقا في أي اتجاه يسير أو سيسير ولاء الجيش القادم والمنظومة العسكرية والأمنية برمتها؟، فالطريقة اليتيمة التي تعامل بها جيشنا على مر السنوات هي الولاء للقائد (خوفا أو طمعا) ظنا منه بأنه ليس له ذنب يذكر في جرائم القيادات كونه أداة لتنفيذ الأوامر(حسب وجهة نظر قياداته)، ولكن النتيجة كانت مؤلمة للجميع فقد خسر الجيش  سمته الوطنية وسمعته الكبيرة بقتله للكثير من أبناء الشعب تطبيقا لسياسات الحكام ، وابتعد المواطن عنه بمساحات كبيرة نتيجة الإرث المتراكم، وبالنتيجة خسر الجميع وأولهم الحكام المستبدين.

   ما نحتاجه الآن ومستقبلا أن يعرف الجيش والعسكر بجميع رتبهم بأنهم مؤتمنون على دستور صوت له الملايين من أبناء الشعب ومنفذين لما ينصه القانون المهني غير المسيس وما ينطبق ويتماشى مع مصلحة البلاد والعباد،  بما يحفظ  حقوق الجميع سواء استقلال البلد وسيادته والحفاظ على حكومته المنتخبة وعلى شعبه، وإنهم ملك الأوطان لا الحكام أو السلاطين والرؤساء، وهم حفظة الحكومات الشرعية لا الدكتاتورية.

   وإذا ما تغيرت تلك الصفة عن الحكومات أو نزعت منها (وهذا ما لا نتمناه) فعليه (أي الجيش) أن يطبق الدستور فعلا وبدون انقياد لمرؤوس على حساب القانون ولا لمتمرد على حساب الشرعية والأولوية، وان يعيد فتح سجله الوطني المغيب عنه لقرون ويصبح عنوانه الكبير جيش العراق والعراق فقط .

   هذا الهدف ليس بالبعيد على بلد قطع آلاف الأميال من مراحل التغيير في سنوات قليلة وان أخذت منه الجهد والوقت والأحبة، ولكن هكذا هو قدر الأهداف العليا لا يمكن الوصول إليها إلا بجهد جهيد وثمنِ غال.

* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

http://shrsc.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس  26/حزيران/2008 - 22/جمادي الثاني/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م