إسْلامُنَا وَ مِحْنَةُ أهْوَائِنَا

(الحلقة الثانية)

محمّد جواد سنبه

في الحلقة السابقة، استعرضنا دور السلطة المنحرفة، في تدهور بناء وضع الأمّة الإسلاميّة، على مستوى العقيدة والفكر وتوابعهما الأخلاق والسلوك، وبيّنا أيضاً محاولات العلماء الأعلام الإصلاحيّة في العصر الحديث، وأخذنا بشكل سريع ومقتضب في الحلقة السابقة، تجربة الإمام عبد الحسين شرف الدين (رحمه الله). وفي هذه الحلقة سنكمل البحث مبتدئين، بالمحاولة الثانيّة، التي قام بها الإمام محمد الموسوي الشيرازي عام 1924 م، والتي تضمّنت مجموعة من المناظرات والحوارات الحيّة (وجهاً لوجه)، مع عدد من علماء من المذاهب الإسلاميّة، في مدينة (بيشاور) الباكستانيّة، وجُمعت هذه المناظرات في كتاب اسمه (ليالي بيشاور).

وجدير بالذكر أنّ هناك محاولات رائدة في التقريب بين المذاهب الإسلاميّة، قاد بدايتها السيّد جمال الدين الأفغاني (1838-1897)، و سار هذا النهج تلامذته من بعده، مثل الشيخ محمد عبده (1849-1905) والشيخ عبد الرحمن الكواكبي(1854-1902) وغيرهم، الذين أسسوا أوّل عمل منظم أسموه (جماعة التقريب)، وكان الأزهر الشريف يدعم نشاط هؤلاء العلماء، حتى تطور عملهم وأسسوا (دارالتقريب) فيما بعد. ويجب أنْ نذكر في هذا المضمار، دور العلمين العالمين السيّد اسماعيل الصدر، وشقيقه الشهيد السيّد محمد باقر الصدر في العراق، والسيّد موسى الصدر في لبنان (رحم الله الماضين وحفظ الباقين).

إن تحليل أصل مشكلة الإختلاف بين المذاهب الاسلامية، يوصلنا إلى أنّ السبب وراء الإختلاف، هو ارتفاع صوت الجانب الذاتي، على حساب الأصوات الأخرى. إنّ تمكين مصلحة الذات، واعطائها أسبقيّة عالية للاستحواذ على السلطة، صار منهجاً سياسيّاً، يتميّز بترجيح جانب التعصّب لشخص أو لجماعة معيّنة، قبل التعصّب لمصلحة المجموع، ومراعاة مصالح الأمّة، والراعي الوحيد لمصالح المجموع، هو الإسلام الصحيح بلا شكّ (حسب المنظور الاسلامي للقضيّة).

 ولا بأس من ذكر الأسباب، التي تحول دون التقارب بيّن المذاهب، ومنها ما يلي :

1. عدم وجود مؤسسات علمائيّة مستقلة، تعي بدقّة حالة تداعيات الأمّة. و ندرة وجود علماء نشطاء من الفريقين، يتبنون العمل في هذا الاتجاه، بعيداً عن تأثيرات السياسة المحليّة والاقليميّة والعالميّة. والعدد المتيسر الآن من هذه الشخصيّات الجليلة، يعتبر قليل جداً، لا يكفي لرأب الصدع الكبير، الحاصل في الكيان العقائدي والفكري للأمّة الإسلاميّة.

2. الابتعاد عن المنهج العلمي الدقيق، الذي يجب أنْ يميّز مسار هذا المشروع، ومحاولة البعضّ الإصرار والعناد لمجرد التعصّب لجهتهم، فتكون الجهود في إثبات وجهة نظر الطّرف الآخر، عبارة عن ضرب من الخيال، وهذا منافياً للمنهج العلمي، الذي يقوم على تقديم البرهان والحجّة العلميّة في الطرح.

3. عدم التمييز بين النصّ المقدس، وتفسير النصّ المقدس، والتعامل معهما وكأنهما صورتان لموضوع واحد، وكذلك عدم الفصل بين الشخصيّة المقدسة، التي حدّدها نصّ مقدس، وبين تقديس الشخصيّة التي لا نصّ في تقديسها.

4.  الندرة الكبيرة في الشخصيّات التي تتبنى هذا المطلب، أمّا خشية من النتائج، أو يأساً من اقناع المقابل، أو خوفاً من تشنيع وتشهير الجهلة بهم من كلا الطرفين.

5. تدخّل الحكّام الذين يعتبرون الحكم مكسباً ذاتياً، وإرثاً تاريخياً خاصاً بهم، وكذلك الأنظمة الحاكمة المرتبطة بالمشروع الإستعماري العالمي، لإحباط مثل هذه المشاريع. وقد يتطلّب الأمر منها، زجّ منظومات مخابراتها، ومخابرات أعوانها، لتخريب كلّ جهد رام لتحقيق هذا الهدف الإستراتيجي. لأن بوحدة الأمّة ستتهاوى عروش العملاء، وبذلك تفقد الدّول الإستعماريّة مصالحها، في المنطقة العربيّة والإسلاميّة على حدّ سواء.

6. ندرة العقليّات الناضجة عند أغلب الفرق الإسلاميّة، التي تؤمن بأنّ الإسلام رسالة فوق الميول والأهواء والرغبات، وتنظر إلى الواقع الإسلامي المهتزّ، بعيّن المسؤوليّة المخلصة لله وللدّين فقط، ويجب أنْ تتحلى بأعلى درجات الوعي الرسالي، وعلى درجة كبيرة من العلم والموسوعيّة، في مجال علوم الدّين والسير والتاريخ والسياسة وغيرها.

7. ندرة خاصيّة التحلي بروح التسامح، التي تمنح كلّ طرف فرصة استيعاب طروحات الطرف المقابل، واخضاعها لمنهج النقاش العلمي. والتخلي عن المنهج التكفيري، الذي يلجأ إليه البعض، عندما يعجز عن تقديم الحجّة والدليل العلمي، أمام طروحات الطرف الآخر، وهذا سبب رئيسي يقف كالسيّف المشهور، لوأد مثل هذه المشاريع الرائدة.  

8. افتقار الكثير من الأطراف للنيّة الصادقة، التي تعتبر المحرّك الذاتي، الذي يعبئ الأشخاص والجماعات بالطاقة، لشحذ هممهم من أجل إنجاز إطروحة وحدة الأمّة الإسلاميّة المنشودة.

على ضوء ما تقدم، يصبح أمر وحدة أمّتنا الإسلاميّة، أمراً بعيد المنال، وإنّ إسلامنا  ليس ممتحناً بفرقتنا، ولكن نحن مبتلين أنفسنا، بمحنة الفرقة والتشرذم والضياع، بسبب جهلنا وعبوديّتنا لأهوائنا. ولكنْ عندما يضيع من بين أيدينا الحلّ الجذري، ولو مرحلياً (حتى نكون بعيدين عن حالة التشاؤوم)، لابدّ أنْ نضع بيّن أيدينا الحلّ البديل، الذي يوقف مهزلة انحدارنا، وتداعيات انحلالنا، حيث وصل الأمر بنا، أنْ يكون ثلث عدد المسلمين في العالم، كافراً في نظر البعض الآخر من المسلمين، وهذه كارثة إنسانيّة وعقائديّة وتاريخيّة وحضاريّة.

الحلّ البديل :

1. أنْ تلتزم جميع الأطراف الإسلاميّة، بمنهج تناسي أحداث التاريخ، التي تتضمن مسائل الإختلاف، واعتبارنا جميعاً أبناء اليوم. (على الأقل في هذه المرحلة، لحين وصول المسلمين إلى مرحلة متقدمة من النضج والوعي، وعندها يمكن تصحيح ما هو فاسد).

2. أنْ يبتعد الجميع عن منهج التشكيك بالآخر، فالنيّة لا يعرفها سوى الله تعالى، وهو كفيل بالمحاسبة على السرائر، ولا يحقّ لأحد أنْ يفوّض لنفسه هذه المسؤوليّة.

3. أنْ يحرز كلّ طرف حسن الظّن بالطرف الآخر، ويحكم عليه بناءاً على الظاهر.

4. أنْ يقوم المفكرون والمثقفون والواعون، من رجال العلم وخطباء المساجد، بتهيأة المجتمع عبر الوسائل المتاحة لكلّ منهم، ليثقفوا المجتمع الإسلامي، على ثقافة الإحترام والحوار، ونبذ العنف والتسامح مع الآخر، ونشر أخلاقيّات الإسلام الرفيعة ومثله النبيلة.     

5. أنْ يتولى العلماء، قيادة حملة إعلاميّة كبيرة، تدعو إلى احترام الآخر، وإنّ الإعتقاد والمعتقد خصوصيّة شخصيّة، لا يمكن لأحد أنْ يقدح بها، أو يتجاوز عليها بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

حسب تصوري أنّ نقاط الحلّ البديلّ، لا تمثّل شموليّة للحلّ، لكنها ستُبقي قضية الخلاف بين المسلمين هادئة لحدٍّ مّا. ولكن ستَبقى مقاليد هذه القضيّة، لعبة بيد أصحاب السياسة، وبالتأكيد ستكون هذه الحالة البديلة، مقدمة تهيئ الأمّة لاحقاً، على تحمّل مسؤوليّتها، في حلّ مشاكلها بنفسها ولوحدها، بدون مساعدة أو نجدة الآخرين. ولكن بالوقت نفسه أظنّ أنّ هذا الحلّ البديل، يتعارض كثيراً مع التوجهات السياسيّة، للكثير من الحكام العرب خصوصاً، لأنّه سيكون مقدمة لنشر الوعي في ذهنيّة الأمّة، وستنتقل الأمّة إلى مرحلة الوحدة الفكريّة والنفسيّة، وبالنتيجة ستصبح مصالح الحكام في خطر محدقّ. إذن فحتى الحلّ البديل أمسى اليوم مستحيلاً، والسلام.      

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- االاربعاء 14 أيار/2008 - 7/جماد الاول/1429