حل المجلس والتعثر السياسي المتكرر

أحمد شهاب

لم يفاجئ حل مجلس الأمة الكثير من المراقبين، فخلال السنتين الماضيتين دخل المجلس والحكومة في حالة من الجدل المتواصل، بدا خلالها أن الوصول إلى نقاط اتفاق بينهما أقرب إلى المستحيل.

 وتشير أصابع الاتهام الحكومية إلى مسؤولية أعضاء مجلس الأمة عن هذه النتيجة، فرغبة الأعضاء الدائمة بخلق بؤر توتر مع الحكومة من اجل تحقيق مكاسب إضافية لتعزيز موقفهم أمام صناديق الاقتراع أفشلت كل مساعي التفاهم الممكنة، خاصة أن العديد من النواب وصل إلى ما يشبه القناعة بأن الشارع الانتخابي يتفاعل مع “نواب المعارضة” بصورة واضحة وجلية، وترسخت هذه القناعة مع نتائج انتخابات 2006، حيث حقق فريق “نبيها خمس” نتائج باهرة رغم تعدد انتماءاتهم الفكرية والسياسية، كما حاز نواب التكتلات البرلمانية المحسوبة على المعارضة وبالتحديد أعضاء التكتل الشعبي على حضور لافت نتيجة مواقفهم المعارضة والمبدئية.

وقد دعت هذه النتائج نواب الخدمات والمستقلين إلى شد حزام المعارضة، وتخلوا عن مواقفهم السابقة المؤيدة للحكومة، ودخلوا في سباق سياسي محموم لتحقيق أكبر قدر من المكاسب الشعبية عن طريق خلق بؤر توتر ضد الحكومة، حتى لم يعد الشارع يُميز بالكثير من الدقة بين نواب المعارضة ونواب الموالاة إن صح التعبير، فالجميع يطالب الإدارة السياسية بالرحيل، ويهدد باستجواب الوزراء، ويرفع صوته ناقدا وساخطا على الحكومة.

في الطرف المقابل، يُحمل أعضاء المجلس الحكومة مسؤولية التأزم المتكرر والذي أدى إلى انهيار الثقة والعلاقة بين الجانبين، فالعجز الذريع الذي أظهرته السلطة التنفيذية في قيادة البلاد سياسيا خلال المرحلة السابقة، وهو ما تأكد أخيرا في أسلوب تعاطيها مع “أزمة التأبين” و“أزمة الدواوين” و“أزمة الزيادات” و“أزمة إسقاط القروض”، أثبت بالدليل القاطع غياب الرؤية الحكومة عن أمهات المسائل، وعجزها عن إدارة البلاد في أوقات الرخاء والشدة.

وعلى الرغم من أن أغلب النواب يميلون إلى الإشادة بالنفس الإصلاحي الذي يحمله رئيس الوزراء، إلا أن الجميع يتفقون على أن هذا النفس الإصلاحي لم ترافقه خطوات إصلاحية، لا على مستوى التنمية الوطنية، ولا على مستوى طريقة انتخاب أعضاء السلطة التنفيذية، ويركزون نقدهم على أن كل رغبات الإصلاح ومها بدت صادقة ومخلصة لن تجد طريقها إلى التنفيذ في ظل غياب الكفاءات الحقيقية القادرة على تحويل الرغبات الوطنية إلى خطط عمل وبرامج فاعلة.

الحاجة إلى المزيد من الديمقراطية

ليس جديدا القول إن الأزمة الحاصلة تتحملها الحكومة والمجلس معا، فكلاهما عاجز عن اكتشاف دوره الوطني الحقيقي، وثمة معضلة حقيقية تواجه مجتمعات الخليج بصورة عامة، ملخصها عدم معرفة الكثير من المسؤولين في القيادات العليا للدولة ما هو المطلوب منهم تحديدا، وما هي أولوياتهم القادمة، وما هي القضايا والمسائل التي يجب أن يتصدوا لها بالتنمية أو العلاج، ولهذا تتحول تلك المواقع في بلادنا إلى مناصب تشريفية وخدمية لا أكثر، رغم أن مناصب بحجم العضوية في احدى السلطتين التنفيذية أو التشريعية، تقتضي وضوح الأدوار والأهداف دون لبس أو غموض، على الأقل لاعتبار أنهما تجربتان منقولتان ومستفادتان من الآخرين –جزا الله الآخرين خيرا- وليست اكتشافات محلية، فلم يعد دور ومسؤولية وبرامج تلك المناصب وأهدافها لغزا يستحيل فهمه، أو أحجية يصعب تفكيكها.

وعادة ما ينتهي غياب الأولويات وضبابية الدور المناط بالجهة التشريعية أو التنفيذية إلى الانشغال الدائم في القضايا الهامشية وتضخيم الهفوات، والرغبة المستمرة بالصراع كتعويض تلقائي عن الدور المفقود، وبدلا من أن تبادر الحكومة إلى تحويل الرغبات الوطنية إلى برامج عمل واضحة بهدف قيادة البلاد إلى مواقع جديدة في سلم النهوض، تنزلق نحو متاهة المواجهات الصاخبة مع أعضاء المجلس، بمبرر أو دون مبرر، ولو عدنا إلى محاضر الجلسات البرلمانية لوجدنا الكثير من الوقت الضائع نتيجة جدل حول قضايا هامشية، لا ترتبط بمستقبل الدولة ولا بمصلحة المجتمع.

وفي حين كان المنتظر من المجلس أن يقوم بأداء دوره البرلماني في مراقبة أداء الحكومة، واقتراح التشريعات اللازمة لدعم مسار التنمية السياسية والاقتصادية والعلمية في البلد، انخرط أعضاء المجلس خلال العامين المنصرمين في دائرة سجال سياسي هدفه إرضاء صناديق الاقتراع في الانتخابات القادمة، أكثر منه سجالا مع الحكومة لمصلحة الدولة، ولو عملنا جردة حساب على الانجازات التي حققها المجلس خلال الفترة السابقة، فلن نخرج بأكثر مما يمكن تسميته طلبات “نواب الخدمات” والتي تتلخص في إسقاط القروض وزيادة الرواتب، وأخيرا دعوة الدولة للتعدي على أملاك الدولة بوقف إزالة الدواوين المخالفة، بينما غابت أي مبادرات يمكن أن تضيف شيئا جديدا على مستوى إصلاح البلد أو تنميته.

واعتقد أن أحد أهم أسباب استمرار إهمال القضايا الوطنية الكبرى من قبل أعضاء المجلس، وانشغالهم بالقضايا الجزئية والجانبية، هو تقطع المسافات الزمنية للتجربة السياسية في البلد، فالملاحظ أن حركة مجلس الأمة لم يشهد استقرارا زمنيا طوال السنوات السابقة، فبين كل مجلس وآخر يتعرض المجلس لحل دستوري، أما المجلس الأخير فهو منذ البداية كان واقعا تحت مقصلة التهديد بالحل، وقد أسر لي أحد النواب في الشهر الأول من عمر هذا المجلس أنه يتوقع حل البرلمان في غضون ثلاثة أشهر، ولاحظ الجميع انه لم يمر شهر واحد منذ سنتين دون أن يتسرب خبر أو أكثر حول فكرة حل مجلس الأمة.

وعلى الرغم من أن الحل الدستوري لمجلس الأمة هو إجراء قانوني سليم، إلا أن نتائجه على مسيرة التنمية السياسية وخيمة، فهو من جهة يجعل من النواب أثناء توليهم مهامهم التشريعية والرقابية ضحية ضغط صناديق الاقتراع بدلا من ضغط الحاجة إلى تعزيز التنمية في البلد، كما أنه يضع العلاقة بين المجلس والحكومة في توتر دائم نتيجة الثقة المفقودة بين الجانبين، فيما لا يمكن للبلد أن يخطو نحو النهوض دون تعاون السلطتين.

ومن جهة أخرى يحرم حل مجلس الأمة المتكرر، التجربة السياسية والديمقراطية من فرص النمو والتطور، فمهما بدا الصراع محتدا بين الجانبين، فإن الديمقراطية تعالج بالمزيد من الديمقراطية، أما التوقف والعودة إلى استئناف الحركة فمن شأنه أن يخلق فجوات زمنية تُضعف من ثقة الشارع بالخيار الديمقراطي، واعتبار الديمقراطية مجرد ثوب لبسناه ويمكن أن ننزعه في اللحظات الطارئة.

كاتب كويتي

شبكة النبأ المعلوماتية-الثلاثاء 25 آذار/2008 - 17/ربيع الاول/1429