مصطلحات سياسية: الصهيونية السياسية

الصهيونية السياسية: Political Zionism

شبكة النبأ: يستخدم للتفرقة بين الإرهاصات الصهيونية الأولى التي تتمثل في "جمعيات أحباء صهيون وبيلو" من جهة والحركة الصهيونية التي نظمها هرتزل من جهة أخرى. فالتنظيمات الأولى كانت عبارة عن جماعات ذات طابع محلي تهدف إلى الاستيطان في فلسطين معتمدة أساساً على المعونات التي يقدمها أثرياء اليهود، أما صهيونية هرتزل فهي تدعي أنها حولت المسألة اليهودية إلى مشكلة سياسية وأنها توجهت إلى الجماهير اليهودية متخطية الحاخامات اليهودية والمليونيرات أيضاً.

ويؤمن الصهاينة السياسيون أن المسألة اليهودية هي مشكلة الفائض السكاني اليهودي غير القادر على الاندماج، أما اليهودية ذاتها التي كانوا لا يعرفون عنها الكثير، فهي لم تكن مشكلة مطروحة بالنسبة لهم "على عكس موقف الصهيونية الدينية والصهيونية الثقافية" ولا يمكن حل المسألة اليهودية إلا بأن يصبح شعباً مثل كل الشعوب وقومية مثل كل القوميات. ولن يتأتى هذا إلا عن طريق تهجير اليهود إلى فلسطين أو أي بقعة في العالم يعيشون في وطن يهودي تحكمه دولة صهيونية تندمج في المجتمع الدولي، وتنجح في أن تحقق لليهود الشعب ما فشل الأفراد في تحقيقه.

لكن هذا البرنامج لا يمكن تنفيذه إلا تحت إشراف المجتمع الدولي، وبضمان منه. فالمسألة اليهودية مشكلة سياسية ذات طابع دولي وستقوم الدولة اليهودية باستيعاب فائض يهود العالم. أما الباقون الذين لا يرتضون الهجرة فإنهم سيندمجون في مجتمعاتهم، ومن اهم دعاة الصهيونية السياسية الكاتب الصهيوني الروسي "جاكوب كلاتزكين "1882 – 1948" و"نوردور".

متعلقات

دراسة في الصهيونية السياسية(1)

مقدمة

نعالج هنا موضوعاً "محرماً" يدور حول: الصهيونية ودولة إسرائيل.

ففي فرنسا يمكن توجيه انتقاد الكنيسة الكاثوليكية او الماركسية، كما يمكن مهاجمة الإلحاد والقومية، وشتم نظام الحكم في الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وجنوب أفريقيا، والتبشير بالفوضوية او بعودة الملكية، دون التعرض لمخاطر تتعدى الجدل او التفنيد المألوفين. اما نقد الصهيونية فانه يفضي بصاحبه الى عالم آخر، ينقله من عالم الأدب والفكر الى عالم التحقيق والقضاء…. فبموجب القانون الصادر في 29/7/1981، بشأن ذم اي شخص بسبب انتمائه لجنس او لعرق او لأمة او لديانة، يعرض كل انتقاد لسياسة دولة إسرائيل وللصهيونية السياسية التي تقوم عليها هذه الدولة، للمساءلة القضائية وهو الأساس هنا لانه لا يطال تصرفاً معيناً يدعو لتجريم صاحبه الان بتناول نقد المنطق البنيوي لدولة أرسيت أسسها على مبادىء الصهيونية السياسية ويؤدي على الفور، الى معاملتك كـ"نازي"… او معادٍ للسامية ويجر عليك تهديداً بالموت! ويستطيع كاتب هذا البحث الادلاء بشهادته حول ذلك ولطالما قد تعرض، لهذا السبب، الى ملاحقات قضائية واتهام "بالنازية" وتهديدات بالقتل. فما هو المسار الذي اتبع من اجل دراسة الصهيونية السياسية على صعيد الحروب الدينية؟ لقد قام على سلسلة من المداخلات والمتداعيات والاشتقاق في المعاني، كان بيغن قد دلل عليها في الشعار القائل "باستحالة التفريق بين المناهضة لاسرائيل، والمناهضة للصهيونية، والمناهضة للسامية". وهو شعار، بادر زعماء "المنظمة الصهيونية العالمية" الى تلقفه وترديده على مسامع الدنيا جمعاء ! وقبل اي فحص للنواحي النظرية والعملية في الصهيونية السياسية، لا بد من التدقيق في تحديد مجال نقدنا، وذلك بالتعريف بالموضوعات والتمييز بينها وهي:

- الصهيونية الدينية والصهيونية السياسية.

- الصهيونية واليهودية.

- إسرائيل التوراتية ودولة إسرائيل الصهيونية.

أ - الصهيونية الدينية والصهيونية السياسية:

يصعب الخلط بين مشروعين متمايزين تماماً هما: مشروع الصهيونية الدينية ومشروع الصهيونية السياسية. فالصهيونية الدينية، غالباً ما انطلقت من خرافات اسرائيلية، اذ تتعلق بامل اليهودية الاكبر في انتظار مجيء مسيح آخر الزمان، حينما تدعى "جميع شعوب الارض" (سفر التكوين: 12/3) الى حكم الرب، الذي سيتحقق من اجل البشرية جمعاء، متوجهاً الى المواقع المعينة في التوراة لمآثر ابراهيم وموسى. وقد اوجدت هذه الصهيونية الدينية تقليداً يقضي بالحج الى "الارض المقدسة" بل ان قيام طوائف روحانية، وخاصة في صفد في وقت اشتداد حملات الاضطهاد التي كان يقوم بها في اسبانيا "ملوكها شديدو التمسك بكاثوليكيتهم"… (بعد طول التعايش الهانىء، في ذلك البلد، بين المسلمين واليهود).. دفع بعض الاتقياء الى العيش في فلسطين طبقاً لايمانهم. وحتى عهد قريب (في القرن 19 م.) كان هدف "عشاق صهيون" استحداث مركز روحي، في ارض صهيون هذه، يشع بالايمان وبالثقافة اليهودية. والملفت للنظر هو ان هذه الصهيونية الدينية (والتي لم تنتشر الا بين مجموعات يهودية محددة) لم تصطدم بمعارضة المسلمين الذين يعتبرون انفسهم منحدرين من ذرية ابراهيم، وينتمون لعقيدته. ثم ان هذه الصهيونية الروحانية، البعيدة كل البعد عن اي برنامج سياسي يهدف الى تكوين دولة، وعن فرض اي سيطرة على فلسطين، لم تثر مطلقاً مجابهات او منازعات بين الطوائف اليهودية وبين السكان العرب.. المسلمين والمسيحيين.

أ - الصهيونية السياسية:

وهذه ابتدعها تيودور هرتزل (1860-1904) وعكف في فيينا، منذ عام 1882 على تشكيل المذهب حتى انتهى من ارساء منهجه عام 1894 في كتابه عن "الدولة اليهودية" ثم وضعه موضع التنفيذ في المؤتمر الصهيوني العالمي الأول، بمدينة (بال) في سويسرا، عام 1897. هذه الصهيونية بالذات، بمبادئها ونتائجها، تشكل دون غيرها موضوع دراستنا… ومن المناسب هنا، ومنذ البداية، التعريف بها، بصورة دقيقة. ولكن وقبل ذلك نود ان نشير الى ان تيودور هرتزل يخالف الصهيونية الدينية في كونه، اصلاً، من دعاة "اللاادرية" ومعارضاً شديداً لاولئك الذين يعرفون اليهودية على انها ديانة. فاليهود، بنظر الصهيونية السياسية، "امة" قبل اي شيء آخر وعلى كل حال وعند دراسة القوانين الاساسية لدولة إسرائيل، سنلحظ الغموض في التعريف "اليهودي" والتذبذب المستمر بين التعريف المبني على العرق، وذلك المبني على الدين .

وتيودور هرتزل، الذي لم يكن شاغله الاساسي دينياً، بل سياسي، فقد طرح قضية الصهيونية بشكل جديد. وقال بانه - نتيجة لتأثره بقضية دريغوس - استخلص منها النتائج التالية:

1) اليهود عبر العالم، وفي اي بلد يقطنون، يشكلون شعباً واحداً.

2) وقد كانوا هدفاً للاضطهاد، في كل زمان ومكان.

3) وهم غير قابلين للاندماج في الأمم التي يعيشون بين ظهرانيها.

(وهذه من مسلمات العنصريين واللاساميين).

ويمكن تلخيص النتائج العملية التي استخلصها تيودور هرتزل، والحلول التي طالب بها لوضع حد نهائي لهذا العداء والتنافر - الذي هو كما رأى، تنافر دائم وقطعي - على النحو التالي:

1 - رفض الاندماج، الذي لم يكن مسموحاً به آنذاك في دول اوروبا الشرقية (وخاصة في الامبراطورية الروسية على الاخص)، تحقق على نطاق واسع وبصورة متزايدة في اوروبا الغربية (وخاصة في فرنسا، حيث كشفت اللاسامية عن وجهها القناع المخزي بعد قضية دريفوس).

2 - إنشاء "دولة يهودية" يتجمع فيها كل يهود العالم… وهي ليست "بؤرة" روحانية او مركز اشعاع للعقيدة وللثقافة اليهوديتين. وقد عرفت اوروبا في اواخر القرن التاسع عشر، عصر القوميات، قيام افكار جديدة، بأسلوب غربي خالص، تمثل في تلك القومية التي برزت بكل زخمها في المانيا، وكان تأثيرها على هرتزل عميقاً، لا سيما وان ثقافته كانت جرمانية.

3 - هذه الدولة، ينبغي اقامتها في مكان "خال" وهذا المفهوم المميز للاستعمار الذي كان سائداً في تلك الحقبة، كان يقضي بعدم الاخذ بعين الاعتبار وجود مواطنين اصليين. وقد اعتمد هرتزل وقادة الصهيونية السياسية من بعده، على هذه المسلمة الاستعمارية التي سوف تتحكم بمستقبل المشروع الصهيوني كله، ودولة إسرائيل التي انبثقت عنه. اما المكان فلم يكن له اية اهمية في نظر تيودور هرتزل، الذي كان، كما سنتبين فيما بعد، امام ان يختار مقراً لشركته الاستعمارية ذات الامتياز وجنين الدولة المقبلة، بين الارجنتين وفقاً لاقتراح البارون هيرش وبين اوغندا، التي اقترحتها بريطانيا. وانه لأمر ذو مغزى ان يقوم هرتزل باستشارة "سيسيل رودس" الذي كان ينفذ مشروعه طابعاً استعمارياً، على حد تعبير هرتزل نفسه. غير ان هرتزل فكر بإيلاء فلسطين الافضلية بين الاراضي المرشحة لغرس الدولة اليهودية فيها، من منطلق اهتمامه باجتذاب تيار "عشاق صهيون" وتقوية الحركة الناشئة عنه، واضعاً في خدمة اغراضه تراثاً دينياً لم يكن هو شخصياً ليؤمن به. وكان من صالحه، ولفائدة مخططاته، ان يظل الالتباس قائماً، وابلغ مثال على مدى استغلال هذا الغموض، فقد ظهر بعد وفاة هرتزل في "تصريح بلفور" عام 1917، حينما اعلنت الحكومة البريطانية انها تؤيد اقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين، لا يلحق الضرر بالسكان الاصليين، بينما استغل زعماء الصهيونية هذا التصريح في اتجاه انشاء "دولة فلسطين اليهودية" بإلغاء كل وجود للسكان الاصليين، تأميناً لبسط سيادة الدولة الصهيونية على فلسطين كلها. هذا الطابع الاستعماري للصهيونية السياسية، بالاضافة الى "اسسه الوهمية" وعواقبه الوخيمة المضرة بالشعب الذي قيده نير الاستعمار، المضرة ايضاً بالسلام العالمي، هو ما سيكون الموضوع الاساسي لتحليلنا الانتقادي.

ب - الصهيونية الدينية:

يتم الانتقال من ميدان الكتابة الى ساحة القضاء، ومن الجدل السياسي الى المحاربة بالدين، انطلاقاً من بلبلة ثانية ومزج آخر، لا يكتفي معهما بالتسلل خفية من الصهيونية السياسية (تسلل يسخر الدين لخدمة السياسة، ويتيح اضفاء القداسة على سياسة معينة بقصد اعتبارها من المحرمات التي لا يجوز المساس بها) بل تستغل القرابة القائمة بين الصهيونية السياسية وبين الديانة اليهودية، من اجل توجيه تهمة مناهضة السامية الى كل من ينتقد السياسة الصهيونية التي يتبعها القادة الاسرائيليون. وقد برزت افكار اساسية حول اللاسامية في كتاب برنار لازار "اللاسامية، تاريخها واسبابها" المنشور عام 1894 ، في اجواء مشبعة بأحداث قضية دريغوس، ونشوء الصهيونية السياسية على يد تيودور هرتزل. وكان كتاب "برنار لازار" هذا رداً على اوسع المؤلفات عن اللاسامية انتشاراً "فرنسا اليهودية" لكاتبه درومون (1886).

وخلافاً لرسالة الهجاء المقذع الجاهل من (درومون)، تبدو دراسة (برنار لازار) حتى بنظر من لا يشاطره الرأي (وما يطرحه من فرضيات على البحث) قائمة على تحليلات تاريخية متأنية داعية للتأمل، تأخذ بعين الاعتبار مدى مسؤولية الطوائف اليهودية عما كان ينزل بها من اضطهاد، من جهة واستغلال اللاساميين الدنيء لظواهر انكماش هذه الطوائف وتفردها من جهة اخرى.

ويميز "برناد لازار" النزعة المعادية لليهودية الصادرة عن المسيحية، بشكل عام، والمستمرة منذ القرن الرابع الميلادي حتى منتصف القرن التاسع عشر الاخير، عن ظاهرة مناهضة السامية، وقد ظهرت هذه التسمية لاول مرة، في كتاب صحفي من همبورغ هو "ولهلم مار" بعنوان "انتصار اليهودية على الجرمانية" عام 1873. كما ان معاداة المسيحية لليهودية هي من مخلفات الفكر القسطنطيني العقائدي والسياسي، الذي تبنته الكنيسة المنتصرة، الوارثة لتقاليد كهنة المعابد اليهودية، ولتقاليد الامبراطورية الرومانية، والتي تحولت، منذ امتلاكها للسلطة، من معاناة الاضطهاد، الى ايقاع الاضطهاد بغيرها من الديانات كالوثنية واليهودية، وقد وجدت في اليهودية - التي كان التبشير قد حقق لها سعة الانتشار - منافساً لا بد من دحره. وراحت تتهم بحماقة اليهود بانهم من ذاك الشعب الذي اصبح - برفضه الاعتراف بان يسوع هو نفسه المسيح المخلص - في عداد "قتلة" الرب… لان مجمع نيقيا اعتبر المسيح من "جوهر" الله ذاته. وبين برنار لازار كيف ان سخافة تقوقع الطوائف اليهودية وانغلاقها على اضيق وادق تفاسير الشريعة قد وفر خلال تعاقب القرون، معطيات قابلة للإتهام بيسر.. وحول هذا، يقول برنار لازا في كتابه المشار اليه اعلاه:

- "لقد انعزل اليهود وراء اسوار كان قد رفعها حول التوراة (اسدراس) والكتبة الاولون (دبر سوفريم) والفرنسيون والتلموديون.. ورثة اسدراس، ومشوهو الموسوية الاولى، واعداء الرسل" وهذا، خلافاً للموسوية الحقيقية، التي اصطفاها واكبرها ارميا، واشعيا. وحزقيال، والتي وسع اليهود اليونانيون ايضاً من نطاقها الشمولي" (ص 14 و16) ويضيف برنار لازار (ص 13) قوله بان خطورة هذه العزلة قد تفاقمت بسبب طبع فريد يتسم به اليهودي، ويدفعه الى التباهي بامتياز توراته، وبالتالي، الى اعتبار نفسه فوق البشر ومغايراً لباقي الشعوب وقد عمل على ترسيخ هذا المسلك، حدة القومية المنتشرة في اوروبا خلال القرن التاسع عشر، "اذ رأى اليهود في انفسهم الشعب المختار المتفوق على الأمم كافة. وهذه حالة الشعوب، المتطرفة في تعصبها القومي، كالألمان والفرنسيين والبريطانيين في وقتنا الحاضر" (ص 13).

هذا الانغلاق على الذات لم يكن جديداً.. فقد حارب الحاخامون، "بتلموديتهم المتصلبة" جميع محاولات الانفتاح عبر العصور المتعاقبة. وينوه برنار لازار بمسعى ابن ميمون ، اكبر فلاسفة اليهود في جميع العصور، في تبيان التوافق بين الايمان والعقل، مشيراً الى محاربة المتطرفين له بشراسة، واستنكار التلموديين والسبتيين لأهم مؤلفاته: "دلالة الحائرين" حتى ان الحاخام سليمان، من مدينة (مونبلييه) استنزل في عام 1232، التحريم ضد قراء هذا الكتاب، وحصل على الاذن بحرقه. "وعمل التلموديون على ان يحصر اليهود دراساتهم في شريعتهم دون غيرها" وفي نهاية القرن، وبإيعاز من الحاخام الالماني عشير بن يحيال، اتخذ مجمع سينودس وهو المكون من ثلاثين حاخاماً، وقد انعقد في برشلونة برئاسة بن عزرا) قراراً بتحريم كل يهودي دون الخامسة والعشرين من العمر، يقرأ كتباً غير التوراة والتلمود" (ص65). ويلخص برنار لازار، ما ادى اليه هذا التيار، فيقول: "لقد بلغوا هدفهم وعزلوا إسرائيل عن مجموع الشعوب".

وفي القرن السابع عشر، عادت النزعة نفسها، التي كانت قد حاولت خنق صوت ابن ميمون، الى الظهور مع من تصدى، من بين التلموديين، لقتل الفيلسوف سبينوزا. وكذلك مع اولئك الذين هاجموا (مندلسون) في القرن الثامن عشر، لان ترجمة هذا الاخير للتوراة الى اللغة الالمانية، جرت عليه عقاب الحاخامين الذين كانوا مصممين على احتكار التفسير التلمودي لشريعتهم، والحؤول دون افساح المجال امام الشعب للوصول الى التوراة. وسنرى ما عمدت اليه، حاخامية الاحزاب الدينية اليمينية المتطرفة اليوم في دولة إسرائيل، من حصر تلك القراءة "الانتقائية" المتعصبة للتوراة في النصوص التي تخدم غايات سياسية جديدة، ومن نجاحها في فرض توجيهاتها على الدولة. ويظهر برنار لازار صورة اخرى مزرية هي نتيجة للتقاليد الموروثة، فيقول: "من الحماقة جعل إسرائيل مركزاً للعالم وخميرة للشعوب، ومحركاً للأمم. ومع ذلك، فالى هذا يسعى اصدقاء اليهود واعداؤهم، اذ هم يسرفون ويغالون في تقدير اهمية إسرائيل، سواء كانوا من امثال (بوسويه) او (درومون) (ص 191). وفي "عرض تاريخ الكون" يشير بوسييه الى يهودا بأنها مركز العالم. لذا، فان لجميع احداث التاريخ ولقيام الممالك وسقوطها سبباً وحيداً محصوراً في ارادة رب وفيّ لأبناء إسرائيل، المكلفين بقيادة البشرية الى مبتغاه الاوحد: هو مجيء المسيح المخلص المنتظر؟!

ويكفي للحصول على "بروتوكولات حكماء صهيون" قلب هذه التطورات المزيفة التي وضعتها اجهزة البوليس الروسي السرية، عشية انعقاد المؤتمر الصهيوني العالمي في بال، عام 1897، بغية تعزيز الاعتقاد بوجود "تآمر" يهودي ماسوني، يرمي الى اقامة مملكة عالمية، تمثل انتصار الشر في دنيانا. وهذا يسير في خط مواز تماماً لمفاهيم بوسييه ونحن، حينما نتصدى مع برنار لازار للتيارات الفكرية اليهودية التي تبرز الاستثنائية اليهودية (وليس الشمولية)، وعقلية الفتح والسيطرة المستقاة من ملاحم يوشع وتمييز (اسدراس) العنصري، والميل لجعل إسرائيل مركزاً للعالم ولتاريخه… انما نقصد في تبديد الغموض الذي يعتمد اللاساميون بثه، عند محاولتهم استنتاج صدور الفساد الصهيوني عن آفة اساسية مزعومة، كامنة في صلب الديانة اليهودية. وتنطوي التقاليد الكثيرة في اليهودية كما هي الحال في المسيحية وفي الاسلام على تيارات متناقضة. وكما وجد في المسيحية "نزعة قسطنطينية" وتطرف، وفي الاسلام تطرف و"غلق باب الاجتهاد" فقد قامت عبر مسار اليهودية نزعات الى التطرف والانغلاق والاصولية يستغلها اليوم اشد الصهاينة تعصباً في يهودية لا يؤمن بها معظمهم. وما نشجبه ايضاً تلك القراءة الانتقائية للتوراة اليهودية، تلك القراءة التي تعزل اليهود عن بقية الشعوب. ولا ننسى ابداً ان هناك في الاصولية اليهودية ومساهماتها في اعلاء شأن الانسان مقابل نزعات الفناء تلك، بذور ازدهار الهي للحياة، عبر مسائل التحلف والوعد… المسائل التي يرى (سفر التكوين) ان جميع شعوب العالم مدعوة الى تبنيها، "فالتاريخ انما هو انبثاق دائم لكل جديد كل الجدة في حياة البشر، يضيئه الوعد بظهور المسيح في نهاية الزمان" . وكنت قد ذكرت في مكان آخر: "ان من كبريات مآسي الدولة الاسرائيلية الحالية خضوعها لاحكام الحاخامات المتطرفين، في وقت تحتاج فيه الى رسل" . فبذرة النبوة بقيت، طوال قرون بعد نزول الكتب السماوية على كبار الانبياء، حية في نفوس اولئك الذين يشير اليهم (جيرشون شولم) في كتابه المشهور عن: "كبرى تيارات الروحانية اليهودية" (نشر عام 1977 في باريس). كغنوصية "فيلون" اليهودي. اي نزعته الى كنه الاسرار الربانية، عرفت في الاسكندرية ملتقى افكار الشرق واليونان. وفي المانيا نحا الحاخام "يهودا" منحى معاصره القديس "فرنسوا دسيز" في الاحساس بحضور الله والمحبة. وهذا من المذاهب "الحسيدي" (نسبة الى حسيداي).

وفي اسبانيا، كان لقاء اليهودية بتصوف مسلمي الاندلس ومحاولاتهم الاتصال الذاتي والمباشر بالله… وهو ما يقربهم - كما يؤكد جيرشون شولم - من البوذية التبتية وروحانية الهندوس. وقد طرح هذا اللقاء انضر ثمار اليهودية، ممثلاً في اوسع عرض شامل للعقيدة اليهودية كتبه بالعربية ابن ميمون (ابو عمران موسى 1135-1204) صديق الفيلسوف المسلم ابن رشد وتلميذه.

- "الزهو" (كتاب الاشراق) الفه موسى الليوني في نهاية القرن الثالث عشر وجعل فيه حب الله محل الخشية من الله كما فعل معاصره قس كالبريا المسيحي يواكيم دي فلور. واخيراً آخر المذاهب "الحسيدية" الذي نشأ في بولونيا في القرن السادس عشر قريباً من روحنيات سكان نهر الرين والمعلم ايكهارت، والذي ازدهر كذلك خلال التاسع عشر عبر "رسائل الى اتباع حسيداي حول "نشوة الروح" مذكياً في كل انسان قبسه من الله" ثم شمولية الانبياء الواسعة، التي بعثت في كتاب "الاخلاق" لسبينوزا نفحة قوية رغم قيود الشكلية الرياضية الديكارتية، كما كان الوعد بانتظار المسيح "المخلص" دافعاً لكارل ماركس في شبابه، فجعل من تآليفه نواة للنزعات الثورية طوال قرن من الزمان. وحتى رسالة (مارتن بوبر) الروحانية، التي استمرت خمسة قرون من الفردية القاتلة، حثتنا على التذكير بان مركز "الانا" كائن في الآخر "في البداية تكون العلاقة، ونحن نعيش في سيل من المبادلة الشاملة" ، والروح بنظره، ليست في "الانا". بل في علاقتي بالآخر، وكذا الحال بالنسبة للحضارات فهي شبيهة بالحال لدى الافراد: فهي لا تحيا ولا تزدهر الا باخصاب متبادل بينها. ويجد الالهام الالهي محكماً له في العلاقة بالآخرين.

 

بالنسبة لهذه الاصولية الشاملة التي اتبعتها اليهودية منذ القدم، تشكل الصهيونية السياسية تعسفاً قومياً واستعمارياً يدين بالتوجيه للقومية والنزعة الاستعمارية المنتشرتين في اوروبا خلال القرن التاسع عشر، كما انها لا تستخدم القراءة الانتقائية والقبلية للتوراة، بتحول صريح عن صراط الله ، لتزوير مقاصدها السياسية وتمويهها.

ج - إسرائيل التوراتية واسرائيل الصهيونية الحالية..

يتخذ استخدام الحجج التوراتية ابعاداً جديدة في هذه المرحلة من تاريخ الدولة الصهيونية.. ويمكن تسمية هذه المرحلة بمرحلة الصهيونية العسكرية ففي الوقت الذي تنفق فيه إسرائيل ـ وفقاً لتقرير البنك الدولي ـ ثلاثين بالمئة من صافي ناتجها القومي، على جهازها العسكري (على سبيل المقارنة) فان معدل مثل هذا الانفاق لدى دولة حلف الاطلسي لا يتعدى 4 % … وفي وقت بات الهدف المعلن لهذه العسكرية الضاربة، ليس الدفاع عن إسرائيل، بل تفتيت جميع الدول العربية استناداً لتصريح آرييل شارون نفسه، وطبقاً لمشروع الحركة الصهيونية كما سنرى في الصحفات القادمة،… في هذا الوقت، يجري الاستناد الى نصوص توراتية لتبرير امرين في آن واحد:

- التوسع المستمر في الحدود.

- والطرق التي تتبعها الدولة في التقتيل والارهاب.

وهذه الواقعة في حد ذاتها، ليست جديدة . فقد سبق لبن غوريون في عام 1937.

ان رسم حدود إسرائيل مستنداً لنص "توراتي" يقضي بان تضم "ارض اسرائيل" خمس مناطق:

1 - جنوب لبنان، حتى نهر الليطاني، (او ما يسميه بالجزء الشمالي من إسرائيل الغربية).

2 - جنوب سوريا.

3 - شرقي الاردن (او ما يعرفه اليوم بالاردن).

4 - فلسطين (التي يدعوها بأرض الانتداب البريطاني).

5 - سيناء.

ووفقاً لهذا المخطط، يفترض ان تمر الحدود الشمالية بخط عرض مدينة حمص السورية، التي ماثلها بمدينة حماة، المشار اليها في (سفر الاعداد) كحد شمالي لأرض كنعان. وثمة صهاينة آخرون، "توراتيون" متحمسون ظاهرياً فقط، يطابقون بين حماه وحلب، بينما يجعلها غيرهم في تركيا.. اما الحاخام "أدين شتنسالز"، المقرب من حزب "شلي"، فقد طالب خلال ندوة كان "سارتر" قد عقدها في إسرائيل، "بحقوق تاريخية" لليهود في جزيرة قبرص - وفي عام 1956، اعلن بن غوريون، وسط تصفيق مجلس الكنيست وتهليله ان سيناء كانت تشكل جزءاً من مملكة داوود وسليمان. وبعد قيام الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفياتي، خلال الهجوم على قناة السويس، بعملية كبح الجماح، ارجىء البحث في تلك الجغرافية التوراتية الى ان طغت على سطح الاحداث عام 1967، وحيث حددت ارض الميعاد على الشكل التالي: نهر الفرات ونهر مصر (حسب سفر الاعداد) - وهو الاخير - بين ان يكون: نهر النيل (ولكن اي فرع منه؟) او وادي العريش ) وفي ظل هذا المفهوم المطاطي للحدود، يستعان دائماً بالتوراة لإضفاء الشرعية سلفاً على اي عدوان مبيت او لتبرير اي الحاق او ضم للاراضي. وفي المرحلة الراهنة من التوسع الصهيوني تم اشراك الخيال المريض المهيمن على حاخامات "الاحزاب الدينية" من غلاة المتعصبين للغزو نظراً لمساعدتهم في تبرير اشد مطالب المتطرفين تعسفاً واستبداداً. وليس من قبيل المصادفة ان يقرر بيغن خلال الحملة الدموية على لبنان، ايقاف رحلة شركة العال ايام السبت احتراماً للعطلة المقدسة. ومثل هذه الضمانات المقدمة للمتطرفين، تعوض بسخاء على صعيد المبررات الايديولوجية: فلا يكفي ما تم احتلال من لبنان كأرض "قبيلة آشور" بل اضفيت القداسة على المذابح من اجل ضرورات القضية. ولم يكن تدمير مدينتي صور وصيدا، ودك بيروت بالقنابل، ومجازر مخيمي صبرا وشاتيلا، امتداداً لمذابح دير ياسين، التي ارتكبتها عصابة السيد بيغن (ارغون) عام 1948، ولمذابح قبية، وكفر قاسم، وقتلة "الوحدة 101" بقيادة ارييل شارون، بل وجد ذلك كله نصيباً من اكاليل الغار… لان الدولة القائمة حالياً في إسرائيل برسالة إسرائيل التوراتية، انما تكرر الحركة المقدسة التي سبق لاسرائيل التوراتية ان قامت بها في استئصالها لشأفة الكنعانيين، بسلوكها اليوم مع العرب نفس السبيل الذي سلكته مع الكنعانيين وغيرهم من شاغلي هذه المنطقة السابقين: "ان مدن هذه الشعوب، الموروثة اليك من مولاك الرب، هي الوحيدة التي لن تدع مخلوقاً حياً يعيش فيها… بل ستجعلها محظورة على الحثيين، والعموريين، والكنعانيين، والفريزيين، كما امرك الرب مولاك". وفقاً لعزرا ونحميا وكما نصت عليه قوانين محكمة نورمبرغ العنصرية: يعتبر يهودياً من ولد من ام يهودية (برهان عنصري)، او من اعتنق الدين اليهودي (برهان لاهوتي) ولا يستطيع ان يفيد من "قانون العودة" ومن المزايا المترتبة عليه في دولة إسرائيل سوى من تنطبق عليه هذه المعايير. هذا اذن لا ينطبق فقط على مجرد تعريف عنصري، بل على تمييز عنصري لان الانتماء الى مجموعة عرقية معينة - كما سنرى فيما بعد - ينطوي اما على امتيازات او انتقاصات… والعنصرية لا تقوم على اي اساس علمي. فمن وجهة النظر البيولوجية، تبين عدم امكان تطبيق النظرية القديمة حول "الدليل الدماغي" وهي نظرية تميز بين ذوي الجماجم المستطيلة، وذوي الاحجام الاخرى. كما ان علم الوراثة الحديث الذي يرى ان لبعض "الجينات" او المورثات تأثيراً على خصائص الخليط الدموي، قد اظهر بطلان المدلول البيولوجي للجنس والسلالة. والاسطورة البالية في سفر التكوين (10/18/27) استخدمت، كغيرها من الاساطير العنصرية، "لتبرير" الطبقية والتسلط ايضاً: فأبناء نوح الثلاثة الذين "عمروا الارض بنسلهم"، بعد خروجهم من الفلك، كانوا اصلاً: اسيويين (من سام) واوروبيين (من يافث)، وافارقة (من حام). وجرى تكريس الاخرين للعبودية والعنف. ورأت العصور الوسطى الاقطاعية في (حام) جداً اعلى لعبيد الارض، وفي (يافت) جد الاسياد، وفي (سام) جد العلماء، وهو يقف على رأس جميع الطبقات. ويؤكد "ليون بولياكوف" في كتابه عن (الخرافة الأرية الصادر سنة 1971) انه "وتمشياً مع التقاليد العبرية (او بالأحرى الحاخامية) فان للحرب ذاتها قيمة، حتى ولو لم تقم صراحة كحرب دفاعية.. وفي مسالك "الخلاص" هذه بلغنا في لبنان مرحلة ارفع من مرحلة حرب الايام الستة بواسطة حرب لبنان هذه، كشفنا عن مدى قوتنا العسكرية… واننا مسؤولون عن النظام في الشرق الاوسط وفي العالم على السواء". وامام هذيان جنون العظمة هذا لدى قوميي إسرائيل وعسكرييها، نتبين صدق نبوءة ومخاوف احد اوائل الصهيونيين:

"مارتن بوبر" وهو احد كبار مفكري عصرنا، وصاحب مؤلفات مثل: "الايمان اليهودي" و"الديانة التوراتية" و"الانسانية العبرية" و "إسرائيل والعالم"، وقد اشار في سنة 1958، في رده على بن غوريون في القدس عام 1957، قائلاً:

- "حينما انخرطت في الحركة الصهيونية قبل ستين عاماً قال لنا بن غوريون: ان فكرة المسيح المخلص هي حية وستحيا حتى مجيء المسيح. اجبته قائلاً: كم قلباً من قلوب هذا الجيل سيحتفظ بهذه الفكرة حية ومغايرة لشكلها القومي الضيق المقتصر على "عودة المنفيين"؟… ذلك ان فكرة المخلص، عند افتقارنا للتطلع الى خلاص البشرية، والى الرغبة في المساهمة لتحقيقه، ليست اطلاقاً رؤيا الخلاص لدى انبياء اسرائيل". وبوبر لم يكف طوال حياته كداعية صهيوني وحتى وفاته في إسرائيل، عن فضح انحرافات الصهيونية الدينية في المجال السياسي والقومي ويقول:

- "نتحدث عن روح إسرائيل، ونعتقد اننا لسنا كباقي الأمم.. ولم تكن روح إسرائيل اكثر من بوتقة تنصهر فيها هويتنا القومية، ولا اكثر من تبرير جميل لأنانيتنا الجماعية فقد تحولت الى معبود لدينا نحن الذين رفضنا القبول بأي مولى غير سيد الكون، فنحن اذن كبقية الأمم نستقي معها من الكأس التي تنهل منها نشوتها".

- "الأمة ليست هي القيمة العليا. والايديولوجيا او الروح القومية، لن تكون مشروعة ما دامت تجعل من الامة غاية بذاتها. ان اليهود ابعد من ان يكونوا امة، انهم اعضاء جماعة عقيدة". وفي سعيه لتحديد السبب الجذري للانحراف في الصهيونية السياسية النابعة، بل من القومية الاوروبية في القرن التاسع عشر لا من اليهودية. والتي جعلت منها الصهيونية السياسية بديلاً للدين او مذهباً لعبادة الدولة - تلك المسماة: دولة إسرائيل. وحول هذا كتب بوبر:

- "لقد اقتلعت جذور اليهودية الدينية. وهذا هو جوهر الداء الذي ظهرت اعراضه في قيام قومية يهودية اواسط القرن التاسع عشر وهذا الشكل الجديد الذي اتخذته الرغبة في الارض، انما هو الخلفية البعيدة التي تخفي كل ما استقته اليهودية المعاصرة من قومية الغرب الحديثة. اذاً فما هو دور "اصطفاء إسرائيل في كل هذا الاصطفاء؟" اوليس هو نوعاً من الاستعلاء، بل احساساً بالقدر والمصير.. احساس لا ينشأ من مقارنة بالآخرين، بل من نداء داخلي يحثه على انجاز مهمة لم يكف الرسل عن التذكير بها: "فاذا تفاخرتم بأنكم المختارون المصطفون، بدلاً من ان تحيوا في ظل طاعة الله، فان ما تفعلونه انما هو الغدر والخيانة" ثم ختم بوبر مشيراً الى "ازمة القومية" في الصهيونية السياسية، الازمة المفسدة لروحانية اليهودية، فقال:

- "كنا نأمل ان ننقذ القومية اليهودية من خطأ تحويل الشعب الى معبود… فأخفقنا…"

و(مارتن بوبر) هو واحد ممن كان تعلقهم بأرض صهيون متقد الحماسة، وقد اوضح ذلك في رسالة كتبها عام 1939 الى غاندي، الذي كان قد تساءل عن سبب عدم شعور الصهيونيين بترابطهم من اجل محاربة الطغيان والاضطهاد مع اي شعب ينتمون اليه وفي اي موطن ولدوا فيه.. بدلاً من البحث عن "وطن قومي" آخر. اجاب (بوبر) بان العقيدة اليهودية لا تستطيع العيش الا في نطاق تجمع طائفي تطبق فيه احكامها الخاصة، فوق ارضها الخاصة: "الاساسي، بنظرنا، ليس وعداً بأرض، بل مطلباً يرتبط تحقيقه بالارض وبوجود مجتمع يهودي في هذه البلاد". كما اجاب هذا ما اجابه بوبر على غاندي القائل بان فلسطين تخص العرب، وبانه من "الظلم واللاإنسانية فرض سيطرة يهودية على العرب"، فقال: - لا نريد انتزاع ملكياتهم، بل العيش معهم". وحدد بحزم، في محاضرة في نيويورك عام 1958، موقفه الثابت من قضية العلاقات مع العرب. وحسب رأيه فان "بعث الشعب اليهودي" يجب ان يمضي بموازاة "الاندماج بعالم الشرق الادنى"، وبما يستبعد اللجوء الى القوة: "اشد النظريات خطأً وفساداً، هي تلك التي تزعم بان مسالك التاريخ انما تشقها القوة".. القوة التي هي دائماً: "تغليب لما هو دون الانساني على الانساني".. "وخيانة لعقيدة الايمان"… وافدح الاخطاء بنظر بوبر، كان اعتبار إسرائيل "قطعة من العالم الغربي". واشار في سنة 1958، الى انه قدم منذ سنة 1921 فكرة اقامة اتحاد فيديرالي في الشرق الادنى، يشارك فيه اليهود.

ولكن، "خلافاً لإقامة دولة ثنائية القومية او مشاركة اليهود في اتحاد للشرق الادنى، صدر القرار التعيس بتقسيم فلسطين.. وكانت القطيعة بين الشعبين، وبدايات الحروب". ويشير "بوبر" الى انه ليس ضد العنف، من حيث المبدأ، ولا يعارض قيام دولة إسرائيل، لكنه يشدد - بعدما شهد الحربين الاوليين بين إسرائيل والعرب - على ان السلام بين اليهود والعرب لا يمكن ان يحل بمجرد توقف الاعمال العدوانية. اذ لن يكون هناك سلام الا بتعاون فعلي بين الطرفين".. "واذا كان التفكير باشتراك إسرائيل في اتحاد فيدرالي في الشرق الادنى، يبدو اليوم للكثيرين محالاً وغير واقعي، وهناك في المستقبل امكانية لتحقيقه". واقوال كهذه كانت ستكفي اليوم لان يعتبر بيغن واعوانه مطلقو الصلاحية في المؤسسة الصهيونية صاحبها: بوبر، معادياً لاسرائيل ومعادياً للسامية.. "ومارتن بوبر" هو بحق اعظم نبي يهودي عاش في دولة إسرائيل منذ انشائها.. ومن حسن الحظ ان هذا المسلك، يثبت وجوده بين الحين والاخر، رغم نتيجة التحكم بالتوجيه الفكري لدى النشء الاسرائيلي منذ دخوله في المدرسة، ولدى الجنود بواسطة الحاخامية العسكرية، ولدى الشعب بواسطة الدعاية الرسمية. فقد امكن سماع صرخة صادقة، اثناء الهجوم الاسرائيلي الذي ارتكب المذابح في لبنان.. هي صرخة الاستاذ (بنيامين كوهين) من جامعة تل ابيب الى (فيدال ناكيه) يوم الثمن من حزيران 1982:

- اكتب اليك وانا استمع الى مذياعي الصغير يعلن باننا على وشك تحقيق هدفنا في لبنان.. الا وهو: توفير السلام لسكان الجليل.. ان هذه الاكاذيب الجديرة بغوبلز تكاد تذهب بعقلي… اذ من الواضح ان هذه الحرب الوحشية، والاشد وحشية من كل سابقاتها، لا علاقة لها البتة بمحاولة القتل في لندن، ولا بأمن الجليل. ترى، ايستطيع يهود من احفاد ابراهيم طالما كانوا ضحايا الجور الا ان يصلوا الى هذه الدرجة من الوحشية؟؟ الا يعني هذا ان اعظم انجازات الصهيونية انما هو نزع اليهودية من قلوب اليهود؟ إبذلوا ايها الاصدقاء، كل ما في وسعكم من اجل عدم تمكين البيغنيين والشارونيين من بلوغ غرضهم المزدوج: "التصفية النهائية (وهذه العبارة رائجة كثيراً هذه الايام..) للفلسطينيين كشعب. وللإسرائيليين ككائنات بشرية" .

ان هذه الادانة هي بعنف ادانات الرسل الغابرين.. كتلك التي لعن فيها (ارميا) اولئك "الذين يتحدثون زوراً باسمي لديك.. خطيئتهم انهم يجلبون العار لاسرائيل.." (ارميا: 29/21-23). او تلك التي ادان بها (ميخا) قادة إسرائيل بقوله: "اسمعوا اذن، يا قادة يعقوب، يا قضاة دار إسرائيل.. يا من تخشون الاستقامة، وتلوون كل مستقيم بتشييدكم كياناً لصهيون وسط الدماء، واشاعتكم الجرائم في وسط اورشليم.." (ميخا: 3/9-10).

ويعتبر في الوقت الحاضر، كل من يشكو من سياسة "قضاة الدار الاسرائيلية" وسياسة الدولة الصهيونية في اسرائيل معادياً للسامية. وعلى هذا القياس يصح التشهير بالرسل الكبار جميعاً: من عموس الى اشعيا، الى ميخا، الى ارميا.. كمعادين للسامية لم يصطف القادة الصهيونيون الحاليون سوى ما من شأنه تبرير سياستهم: كحكاية المذابح التي ارتكبها (اشعيا) بين الكنعانيين.. لما فيها من توقعات لما سيحدث من تقتيل للعرب في كل من فلسطين ولبنان. اما اللعنات التي استنزلها ارميا وميخا فيتم استبعادها وابراز احكام عزرا (اسدراس) في وجوب التمييز العنصري، مع تجاهل طموحات (حزقيال) و(اشعيا) نحو خلاص الكون على يد المسيح المنتظر. وبسبب اختيار "الاحبار الذين يقتلون رسل الرب" وبسبب هذا التضليل، الذي يرى في كل انتقاد لسياسة الدولة الصهيونية في إسرائيل فعلاً معادياً للسامية، يخشى ان تنطلق حملة فعلية ضد السامية. ومثلما يخشى اليوم ان يولد العداء للسامية، ولا يقتصر هذا عند شجب سياسة العدوان وسفك الدماء. بل يتعداه الى الدعم الاعمى واللامشروط لتلك السياسة. وباستطاعة مناحيم بيغن، او آرييل شارون، او اسحاق شامير، وحدهم، ابتعاث المعاداة للسامية كنتيجة لفظائعهم. علماً بانه لا يمكن، في الواقع، الجمع بين مجرمي الحرب هؤلاء ذوي التاريخ العريق في الاجرام ، وبين مجمل الشعب الاسرائيلي، بل وبين مواطنينا من معتنقي الديانة الاسرائيلية او المؤتمنين بالتراث اليهودي.. (علماً بان المذابح التي ارتكبها اولئك المجرمون في لبنان، هي النتيجة المنطقية والحتمية لمثلهم الفكرية، وميتولوجيتهم، ومخططاتهم الرامية الى التوسع الاستيطاني). ان الذين يقفون وراء خطر تغذية النزعة المعادية للسامية، هم موجهو بعض المنظمات، ذات الصفة التمثيلية، التي تتصرف كوكيل مطلق للحكومة الصهيونية في اسرائيل، وهم جاهزون لان يقر جرائمها واكاذيبها المشهورة.. وترديد شعاراتها.. وللزعم، فوق كل ذلك وخلافاً للحقيقة، بتحدثهم باسم مجموع "الطائفة اليهودية".. بينما يتبرأ الكثير من افراد هذه الطائفة على غرار مئات الآلاف من الاسرائيليين، داخل اسرائيل نفسها من تلك الجرائم وهؤلاء المجرمين.

لقد نشأت، دون ادنى شك، التباسات خطيرة، حينما عمد بيغن وزمرته - وبدعم من الحاخامات المتعصبين في "الاحزاب الدينية" الداعية "للحرب المقدسة" - الى الاقتباس القبلي من التوراة، والى الاستخدام الشاذ لفكرة "الشعب المختار" و"ارض الميعاد" لإفساد الوضع ما بين الاسرائيليين والمسيحيين، ولتبرير الاغتصاب الدموي للحقوق الانسانية، باسم حق الهي مزعوم. ان العمل في صالح اليهودية والمسيحية ينطلق من رفض الانخداع بذلك التلاعب بالمقدسات.. وعدم الخلط بين اليهودية، اي عقيدة ابراهيم وموسى وبقية الرسل، وبين تزمت الصهيونية العنصري. تماماً كإطلاق صفة "مسيحيي لبنان" على جلادي (سعد حداد) او امثالهم من منفذي الافعال المنحطة لحكومة تل ابيب. اننا نرمي الى محاربة هذه الالتباسات، والى التمييز بين دولة اسرائيل وسياستها وبين سواد الشعب الاسرائيلي الذي بدأ يعي الألاعيب التي اوقعه حكامها ضحية في براثنها. نرمي ايضاً الى التمييز بين اليهودية والميثولوجيا التي تحرفها الصهيونية من اجل اغراض سياسية. والى رفض الرضوخ للإرهاب الفكري الصادر عن عملاء التمييز العنصري الاسرائيليين، الساعين الى تقسيم العالم بين: صهاينة ومعادين للسامية.. كعنصريي الماضي الزاعمين بتقسيمه الى يهود وغير يهود! ونحن انما نحارب الصهيونية السياسية، لأننا ضد التمييز العنصري.. ومعاداة الصهيونية ليست هي السبب في نشوء العداء للسامية، بل ان السبب كامن في الصهيونية نفسها. ولهذا نحارب صهيونية تدعي بانها تستخدم الدين من اجل اضفاء هالة من القداسة على السياسة. وتجنباً للوقوع في هذه الالتباسات الخطيرة بين:

- الصهيونية الدينية والصهيونية السياسية.

- اليهودية والصهيونية.

- اسرائيل التوراتية والدولة الصهيونية في اسرائيل.

سنحاول ازالة الوهم المحيط بالصهيونية السياسية، عبر تفحص الميثولوجيا التي تقوم عليها: كالأساطير المنسوبة زوراً الى التوراة.. ثم عبر الواقع السياسي الناشىء عن الحاجة الماسة، التي تشعر بها الصهيونية السياسية، لتوفير المسلمات الميثولوجية اللازمة مثل:

- السياسة الداخلية القائمة على التمييز العنصري.

- السياسة الخارجية المتمثلة في العدوان والتوسع من اجل فتح "مجال حيوي" لهجرة محتملة.

- العمل السياسي القائم على ارهاب الدولة.

الصهيونية السياسية..إحذروا تديين الصراع (2)

  في كتابه (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) كتب روجيه جارودى قائلا ما هى الصهيونية التى أدينها فى كتابى دون أى إدانة للعقيد اليهودية؟ وأجاب أن الصهيونية هى:

أولا: مذهب سياسي فمنذ عام 1869 أصبح مصطلح الصهيونية مرادفا للحركة السياسية التي أسسها تيودر هيرتزل

ثانيا: مذهب قومي لم يولد من رحم الديانة اليهودية بل من النزعة القومية الأوربية في القرن التاسع عشر، فلم يكن مؤسس الصهيونية السياسية هيرتزل يعترف بالمرجعية الدينية حيث قال "أنني لا أخضع لأى وازع دينى"

ثالثا: مذهب استعماري حيث لا يخفى تيودر هيرتزل الواعي تماماً بحقيقة أهدافه بالمرحلة الأولى بالنسبة له وهى تأسيس شركة ذات امتيازات تحت حماية إنجلترا أو أي قوة استعمارية أخرى، وذلك إلى حين تحويلها إلى دولة صهيونية يهودية، وهذا هو السبب فى اتجاهه إلى من أثبت مهارة وحنكة في هذا النوع من الأعمال، ألا وهو التاجر البريطاني الاستعماري (سيسيل رودسى) الذي استطاع عن طريق شركته ذات الامتيازات أن يقيم دولة جنوب أفريقيا والذي تسمى أحد أجزائها باسمه وهو (روديسيا) ففي 11 يناير 1902 كتب هيرتزل لسيسيل رودسى يقول (أرجو أن تبعثوا لي بخطاب يقيد أنكم درستم مشروعي وأنكم توافقون عليه، وقد يثور لديكم تساؤل عن السبب في توجهي إليكم، والإجابة أن مشروعي مشروع استعماري) وهكذا بوضوح.

الصهيونية إذن مذهب سياسي قومي استعماري وهى الخصائص الثلاث الأساسية التى تحدد طبيعة الصهيونية السياسية.

ومنذ إنشاء دولة إسرائيل تصدت لها القوى الوطنية في المنطقة العربية، بل أن وجود إسرائيل واعتداءاتها المستمرة على الشعب الفلسطينى والدول العربية المجاورة كان الوقود الذى أشعل القومية العربية. وكان منطلق الصراع على إسرائيل منذ اليوم الأول منطلقاً قوميا أساسه أن اليهود الذين جاءوا من كل أنحاء العالم ليزرعوا دولة في قلب العالم العربي تكون رأس رمح للاستعمار العالمي، وتصفى الحركات الوطنية القومية لاستقلال شعوب دولها وتدريجيا بدأت صورة اسرائيل تتغير لدى الرأي العام خاصة مع الانتفاضة الباسلة للشعب الفلسطيني، وبدأ العالم يكتشف الوجه الحقيقي لإسرائيل كدولة مغتصبة ومعتدية، تقتل وتدمر وترفض الاعتراف بالشعب الفلسطيني وأمام هذا التحول النسبي يبدو أن تل أبيب أرادت تحويل معطيات الصراع العربي الإسرائيلي لصالحها مرة أخرى، وشهدت ثمانينات القرن الماضي مساندة الولايات المتحدة للقيادات المتطرفة التي تتشدق بالإسلام في أفغانستان بهدف الإجهاز على الاتحاد السوفيتي غريمها العنيد آنذاك، وكان من الطبيعي أن تقتدي إسرائيل بنموذج البيت الأبيض وبالفعل سعت لدق إلاسفين في صفوف المقاومة الفلسطينية، وأقتنعت بأن إضعاف ياسر عرفات والقوى الوطنية الفلسطينية لن يكون إلا بتقوية تيار لا يقوم على المنطلق القومي، منطق ثورة التحرر الوطني وإنما على أساس الدين. هدفها أن تجعل الصراع مع العرب صراعاً دينيا، وفى هذه الحالة لن يجد العرب من يقف إلى جوارهم ويتعاطف مع قضيتهم الوطنية التحريرية العادلة، فالعالم كله اليوم أصبحت له حساسية مفرطة إزاء التطرف باسم الدين واصبح ينظر للمقاومة الوطنية فى جوهرها المستندة إلى الدين (إرهاباً) وقد ساد المنطق الديني في مقاومة إسرائيل بعد سقوط المشروع الوطني القومي لجمال عبد الناصر وأمام هذا الواقع الجديد أصبحت النغمة السائدة في أمريكا اليوم هي أن إسرائيل تحمل لواء التصدى للإرهاب وأصبحت ذريعة مقاومة الإرهاب تمنح العدوان الإسرائيلي والتجبر الأمريكي نوعاً من المشروعية المزيفة في عيون قطاعات من الرأي العام العالمي الرافض للكفاح الديني، فما عاد العصر عصر صراعات دينية ولم يعد الدين هو أيديولوجيا المقاومة لتحرير الأوطان.

لقد نجحت إسرائيل إلى حد بعيد في إشاعة تديين الصراع الإسرائيلي يهود ضد مسلمين – بعد أن كان صراعاً قوميا وطنيا عرب وفلسطين ضد إسرائيل وإنزوت القوى الوطنية

أو انخرط بعضها تحت لواء القوى التي تواجه إسرائيل باسم الدين وهو تطور سلبى في غير صالح حركة المقاومة الفلسطينية والعربية، الإسرائيليون يسمون استعمارهم لفلسطين عودة إلى أرض الميعاد ونحن الآن نسمى حرب المقاومة الوطنية غزوة دينية تأسياً بغزوات المسلمين الأوائل مع أن الأخيرة كانت للتوسع وحرب المقاومة الوطنية الفلسطينية حرب وطنية لاستخلاص ما نهبه العدو. ولكن الذين يخلطون بين الدين والسياسة يمكنهم أن يخلطوا بين خيبر وقانا ودير ياسين وأن يروا ما يحدث اليوم بالعيون التي كانت لأسلافهم قبل 14 قرنا فإذا كنا سننقل صراعنا مع الصهيونية إلى الماضي ويعتبره حرباً دينيه وإذا كانت العصور الحديثة في نظر هؤلاء مجرد استمرار للعصور القديمة، فقد انطلت الأكاذيب الصهيونية علينا، وإسرائيل الحالية بهذا المنطق هي إسرائيل القديمة الممتدة منذ ما قبل الميلاد كما تزعم اليهودية والعرب بالتالي ليس لهم حق في فلسطين.

إن قوتنا في حقنا في أرضنا المغتصبة اغتصابا سياسياً استعمارياً وعودتها لابد أن تتم على النهج السياسي الوطني التحرري ابتعاداً عن أي تصورات دينية هنا أو هناك.

*المحامي وعضو اللجنة المصرية لمناهضة الاستعمار والصهيونية

هرتصل والحركة الصهيونية(3)

 ُولد تيودور (بنيامين زئيف) هرتصل مؤسس الصهيونية السياسية المعاصرة في بودابست في العام 1860, وتلقى تعليمه بروح حركة التنوير اليهودية الألمانية حيث بلور موقفه الإيجابي من الثقافة العلمانية.  في العام 1878 انتقلت عائلة هرتصل إلى فيينا. وفي العام 1884 حصل على درجة الدكتوراة في مجال القانون من جامعة فيينا. وأصبح هرتصل في ذلك الحين كاتبا روائيا وكاتبا مسرحيا وصحافيا حيث عمل مراسلا في باريس للصحيفة الليبرالية البارزة انذاك"Neue Freie Press" " 

خلال تلقيه الدراسة في جامعة فيينا عام 1882 وقف هرتصل لأول مرة عن كثب على ظاهرة اللا- سامية الأمر الذي انعكس كثيرا على سيرة حياته وعلى مصير اليهود في القرن العشرين.  وفي وقت لاحق خلال فترة إقامته في باريس تعرض هرتصل شخصيا لظاهرة معاداة السامية. وكان هرتصل في ذلك الوقت يعتبر المشكلة اليهودية قضية اجتماعية. وفي العام 1894 انتهى من كتابة مسرحية تحمل اسم : الغيتو ( حي اليهود) والتي عبر من خلالها رفضه لفكرة اندماج اليهود في الشعوب الأخرى أو اعتناقهم لديانات جديدة حلأ للقضية اليهودية. هرتصل كان يأمل في أن تؤدي مسرحية "غيتو" إلى إثارة نقاش مفتوح وبالتالي إلى حل يعتمد على التسامح والاحترام المتبادلين بين المسيحيين واليهود.

في العام 1894 وجه القضاء الفرنسي بصورة ليس لها ما يبررها  تهمة الخيانة إلى النقيب ألفريد دريفوس (Alfred Dreyfus) الضابط اليهودي في الجيش الفرنسي, وذلك على خلفية أجواء اللا- سامية التي كانت سائدة في تلك الفترة.  هرتصل الذي شاهد الجماهير في تلك الفترة وهم يصرخون: "الموت لليهود" استنتج أن الحل الوحيد او الطريقة الوحيدة لمواجهة الحملة اللا- سامية تتمثل بهجرة ضخمة لليهود إلى أرض يمكن لهم أن يعتبروها ملكا لهم. وهكذا أصبحت قضية دريفوس أحد العوامل الحاسمة في نشوء الصهيونية السياسية.

هرتصل استنتج أن معادة السامية عامل ثابت في المجتمع الإنساني لا يمكن لفكرة اندماج (اليهود) أن تحله.  على هذا الأساس كان هرتصل يدرس فكرة السيادة اليهودية,  وعلى الرغم من تعرضه لسخرية بعض القادة اليهود, نشر في العام 1896 الكتيب الذي يحمل العنوان "Der Judenstaat"  , "دولة اليهود".  هرتصل شدد على أن جوهر القضية اليهودية ليس فرديا وإنما قوميآ  وصرح بأن الطريقة الوحيدة التي تمكّن اليهود من الحصول على القبول الدولي تتمثل في عدم استمرار كونهم ظاهرة قومية استثنائية.  وقال إن اليهود شعب واحد يمكن تحويل مآزقه الى قوة إيجابية وذلك من خلال إقامة دولة يهودية بموافقة القوى العظمى. هرتصل كان ينظر الى القضية اليهودية كقضية سياسية دولية يجب التعامل معها في سياق السياسة الدولية.

وقدم هرتصل خطة عملية لجمع الأموال من اليهود في أنحاء العالم وذلك بواسطة منظمة تعمل من أجل تحقيق هذا الغرض ( وهذه المنظمة عندما تم تأسيسها سميت المنظمة الصهيونية).  وتصور هرتصل الدولة اليهودية العتيدة كدولة اجتماعية نموذجية مستندًا في أفكاره إلى النموذج الأوروبي الذي كان سائدا في تلك الفترة والذي كان أساسه مجتمعا متنورا معاصرأ.  مثل هذه الدولة ستكون محايدة ومحبة للسلام وعلمانية.

إن الأفكار التي عرضها هرتصل لاقت حماس الجماهير اليهودية في أوروبا الشرقية, رغم أن القادة اليهود كانوا أقل تحمسا إزاء تلك الأفكار.

ومع ذلك نظم هرتصل وترأس المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية بين 29 و-31 أغسطس آب 1897 والذي شكل أول اجتماع دولي لليهود ينعقد على أساس وطني وعلماني. وخلال المؤتمر تبنى الممثلون اليهود "خطة بازل" التي حددت أهداف الحركة الصهيونية. كما أعلن الممثلون في المؤتمر أن الصهيونية تستهدف إقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين على أساس القانون العام. وتم خلال المؤتمر تأسيس المنظمة الصهيونية  ذراعا سياسيا للشعب اليهودي, وتم انتخاب هرتصل اول رئيس له.

وفي العام ذاته أسّس هرتصل المجلة الأسبوعية الصهيونية Die Velt

وبدأ نشاطاته من أجل الحصول على وثيقة رسمية تسمح  بتوطين اليهود في أرض إسرائيل. 

وفي أعقاب المؤتمر الصهيوني الأول بدأت الحركة الصهيونية تلتئم سنويا في إطار المؤتمر الصهيوني الدولي.  في العام 1936 نقل مركز الحركة الصهيونية إلى أورشليم القدس. في العام 1902 نشر هرتصل كتابه "الأرض القديمة الجديدة" Altneuland الذي وصف فيه الدولة اليهودية العتيدة كالمجتمع الأمثل.  هرتصل تصور مجتمعا جديدا ينشأ في أرض إسرائيل على أساس تعاوني يستفيد من العلوم والتكنولوجيا لتطوير الدولة. وشمل هرتصل في كتابه أفكارا مفصلة حول رؤيته للدولة العتيدة من ناحية الهيكل السياسي والهجرة وجمع الأموال والعلاقات الدبلوماسية والقوانين الاجتماعية والعلاقة بين الدين ولدولة.

في كتابه  Altneuland وصف هرتصل الدولة اليهودية كمجتمع تعددي وتقدمي, "النور الذي تهتدي به جميع الشعوب".  وكان لهذا الكتاب صدى كبير جدًا لدى اليهود في تلك الفترة وأصبح رمزا للرؤية الصهيونية في أرض إسرائيل.

هرتصل شدد على ضرورة الحصول على الدعم والتشجيع من القوى العظمى للأهداف الوطنية للشعب اليهودي.  لهذا الغرض قام هرتصل في العام 1898 بجولة في إسرائيل واسطنبول للقاء القيصر الألماني فيلهلم الثاني والسلطان العثماني. وعندما باءت جهوده بالفشل توجه هرتصل إلى بريطانيا حيث التقى جوزيف تشامبرلين وزير المستعمرات البريطاني وشخصيات أخرى.  ولكن الاقتراح الحقيقي الوحيد الذي تلقاه من المسؤولين البريطانيين تمثل في فكرة إنشاء منطقة حكم ذاتي لليهود في شرق إفريقيا, في اوغندا.

زيارة هرتصل لروسيا في العام 1903 كانت فرصة له للوقوف عن كثب على مذبحة كيشينييف والظروف الصعبة التي كان يعيشها اليهود في روسيا آنذاك. وكان لتلك الزيارة تأثير كبير على هرتصل. وفي العام ذاته عرض على المؤتمر الصهيوني السادس المبادرة البريطانية لإنشاء منطقة حكم ذاتي لليهود في أوغندا ملجأً أو ملاذا ليهود روسيا الذين كانوا يتعرضون لخطر حقيقي. ورغم محاولات هرتصل لإقناع الحضور بأن المبادرة البريطانية لن تؤثر سلبًا على الهدف الرئيسي الذي حددته لها الحركة الصهيونية وهو إنشاء كيان يهودي في أرض إسرائيل, إلا أن المبادرة أثارت عاصفة في المؤتمر وكادت أن تقود إلى انقسامات وانشقاقات داخل الحركة الصهيونية. ولكن في نهاية المطاف رفضت الحركة الصهيونية خطة أوغندا في مؤتمرها السابع في العام 1905.

هرتصل توفي في العام 1904 بسبب التهاب رئوي  بالإضافة إلى الإرهاق الذي كان يعاني منه نتيجة الجهود الحثيثة التي بذلها من أجل الصهيونية.

ولكنه نجح قبل رحيله في ترسيخ مكانة الحركة الصهيونية على الخارطة السياسية العالمية.  وفي العام 1949  نُقل رفات هرتصل إلى إسرائيل حيث تم دفنه في الجبل الذي أُطلق عليه اسم " جبل هرتصل"  في أورشليم القدس.

هرتصل هو الذي ابتكر عبارة "إذا صدق عزمكم فهي ليست اسطورة" التي تحولت إلى شعار الحركة الصهيوية.  ورغم أن احدا في تلك الفترة لم يكن يتصور ذلك, غير ان الحركة الصهيونية وبعد مرور خمسين عاما فقط على المؤتمر الصهيوني الأول نجحت في إقامة دولة إسرائيل المستقلة.

المؤتمر الصهيوني : من الشتات إلى إسرائيل

الصهيونية

(تم أخذ هذا الفصل من كتاب "الصهيونية" (1995)  للبروفسور بنيامين نويبرغير)

الصهيونية هي الحركة الوطنية التي تتمسك بفكرة استرداد الشعب اليهودي لوطنه- أرض إسرائيل- وعودة الحياة اليهودية السيادية فيه.

فقد استمر التطلع إلى عودة اليهود إلى صهيون خلال الفترة الطويلة التي أقام فيها اليهود في المهاجر, في أعقاب الاحتلال الروماني وخراب الهيكل الثاني بأيدي الرومان عام 70 ميلادية.  وفي القرن التاسع عشر بدأ يأخذ التطلع الى صهيون شكلا جديدا مع ظهور الوطنية المعاصرة والليبرالية والانعتاق التي أدت باليهود إلى محاولات للتعامل مع تساؤلات ومشاكل جديدة.

كانت حركة "محبة صهيون" التي نشأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تنادي بعودة الحياة اليهودية في أرض إسرائيل وبدأت بإقامة تجمعات زراعية في إسرائيل. ولكن في فترة لاحقة بذل هرتصل جهودا لتحويل الصهيونية إلى حركة سياسية وبادر إلى انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في العام 1897.  وكان هرتصل أول من نجح في استقطاب الاهتمام الدولي بالقضية اليهودية وحول الشعب اليهودي إلى لاعب على الساحة السياسية الدولية. والحركة الصهيونية التي نشأت على أساس المبادرات التي قدمها هرتصل أقامت لها هيئات وآليات تنظيمية وسياسية واقتصادية لتنفيذ رؤيتها وإيديولوجيتها.

الحركة الصهيونية حددت وأعلنت أهدافها الرئيسية : إقامة الوطن القومي للشعب اليهودي على أرض إسرائيل- على أساس "خطة بازل".

إلى جانب الحركات التي رفضت فكرة إحياء الوطنية اليهودية, انضوت تحت مظلة الصهيونية مجموعات مختلفة مثل الصهيونية الدينية أو الصهيونية الاشتراكية. كل هذه المجموعات كانت تسعى إلى تحقيق الهدف ذاته وهو إقامة موطن قومي لليهود وهي المبادرة التي توّجت بإقامة دولة إسرائيل عام  1948.

ترجمة معاصرة  لفكرة قديمة

يشتق إسم "الصهيونية" من كلمة "صهيون" التوراتية وهو الاسم المرادف التقليدي لأورشليم القدس وأرض إسرائيل.  والصهيونية هي أيديولوجية تمثل التطلع المستمر لليهود في أنحاء العالم الى استرداد وطنهم القومي التاريخي- صهيون, أرض إسرائيل.

ويعود الأمل اليهودي في العودة الى الوطن القومي الى اليهود الذين هجروا إلى بابل قبل حوالي 2500 سنة- وهو الأمل الذي تحول إلى حقيقة في نهاية المطاف.  ("على أنهار بابل هناك جلسنا، فبكينا عندما تذكرنا صهيون".  مزامير دؤود 137:1 ).   هكذا لم تخترع الصهيونية التي نشأت في القرن التاسع عشر فكرة العودة ولا كيفية تطبيقها وإنما جمعت بين فكرة قديمة وحركة ناشطة وجعلتهما مؤهلتين معا لتلبية حاجات العهد وروحه.

إن جوهر فكرة الصهيونية يتمثل في "إعلان إقامة دولة إسرائيل" ("وثيقة الاسقلال")  ( 14أيار/ مايو 1948 ) والتي تبدأ بهذه الكلمات :

" نشأ الشعب اليهودي في أرض إسرائيل, وفيها اكتملت هويته الروحانية والدينية والسياسية , وفيها عاش لأول مرة في دولة ذات سيادة , وفيها أنتج

قيمه الثقافية والقومية والانسانية وأورث العالم أجمع كتاب الكتب الخالد. وعندما أجلي الشعب اليهودي عن بلاده بالقوة, حافظ على عهده لها وهو في بلاد مهاجره بأسره ولم ينقطع عن الصلاة والتعلق بأمل العودة إلى بلاده واستئناف حريته السياسية فيها".

تقوم فكرة الصهيونية على أساس الرابطة الطويلة والمستمرة بين الشعب اليهودي وأرضه وهي العلاقة التي بدأت قبل 4000 عام تقريبا, عندما توطن إبراهيم الخليل في كنعان التي أصبحت معروفة في فترة لاحقة باسم أرض إسرائيل.

يتمثل جوهر التفكير الصهيوني في مبدأ كون أرض إسرائيل المنشأ التاريخي للشعب اليهودي والإيمان بأن تواجد الشعب اليهودي في أي مكان آخر يعني العيش في المنفى. وقد عبر عن هذه الفكرة موشيه هيس في كتابه : "روما وأورشليم القدس" (1884 )  :

" لقد تبلورت الحضارة اليهودية خلال عهدين رئيسيين : الأول, بعد التحرر وخروج الشعب اليهودي من مصر الفرعونية, والثاني, عودة اليهود من بابل.

وسيأتي العهد الثالث مع عودة اليهود إلى أرض إسرائيل من المهاجر".

خلال عقود من الزمن في المهاجر, حافظ اليهود على روابط فريدة من نوعها مع وطنهم التاريخي معبرين  عن تطلعهم الى صهيون بالطقوس والشعائر والأدب.

 معادة السامية : عامل في نشوء الصهيونية

رغم أن الصهيونية تعبر عن الرابطة التاريخية بين الشعب اليهودي وأرض إسرائيل, غير أن ظهور الصهيونية المعاصرة كحركة وطنية ناشطة في القرن التاسع عشر ليس من الواضح إن كان يتم دون ظاهرة معادة السامية المعاصرة وحالة الاضطهاد المستمر طوال قرون التي تعرض لها اليهود في المهاجر.

هُجر اليهود خلال قرون من معظم الدول الأوروبية - ألمانيا  وفرنسا وبريطانيا وويلس وإسبانيا والبترتغال. والحديث عن تجربة متراكمة كان لها صدى كبير خاصة في القرن التاسع عشر, تلك الفترة التي فقد فيها اليهود الآمال في احتمال حدوث تغيير جذري في حياتهم. هذه الأجواء كانت مصدر ظهور القادة اليهود الذين تبنوا الصهيونية نتيجة لخطورة ظاهرة معاداة السامية التي كانت سائدة في المجتمعات المحيطة بهم.

هكذا أصبح موشيه هيس الذي أصيب بصدمة من فرية الدم التي كانت تلفق ضد اليهود في دمشق (1844 ) أصبح مؤسس الصهيونية الاشتراكية.  وليؤون بينسكير الذي هزته المجازر ضد اليهود (1881-1882) التي أعقبت اغتيال القيصر اسكندر الثاني, تولى قيادة حركة "محبة صهيون".  وتيودور هرتصل كصحافي في باريس والذي تعرض بنفسه لحملة اللا - سامية التي نُظمت على خلفية قضية درايفوس هو الذي حوّل الصهيونية إلى حركة سياسية.

وسعت الحركة الصهيونية إلى حل "القضية اليهودية", مشكلة الأقلية الدائمة, مشكلة الشعب الذي يتعرض مرارا وتكرارا للمجازر والاضطهادات, ومشكلة المجتمع المشرد الذي تعزز شعوره بالاغتراب بسبب التمييز بمعاملة اليهود كلما هاجروا إلى مكان آخر. لقد سعت الصهيونية إلى مواجهة هذه الأوضاع من خلال تحريك عملية عودة اليهود إلى وطنهم التاريخي - أرض إسرائيل.

بالحقيقة, غالبية موجات هجرة اليهود الضخمة إلى إسرائيل في العهد المعاصر كانت بمثابة رد مباشر على أعمال القتل والتمييز التي استهدفت اليهود.  كانت الهجرة الأولى ردأ على المجازر في روسيا خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر. فجاءت الهجرة الثانية ردا على مجزرة كيشينييف وموجة من المذابح ضد اليهود في أوكرانيا وروسيا البيضاء في مطلع القرن العشرين. أما بالنسبة للهجرة الثالثة فجاءت عقب المذابح التي استهدفت اليهود خلال الحرب الأهلية في روسيا.  الهجرة الرابعة ومصدرها بولندا تمت خلال العشرينيات من القرن الماضي على خلفية القوانين التي بادر إليها غروسكي للحد من النشاطات الاقتصادية لليهود في بولندا.  والهجرة الخامسة كانت خلفيتها فرار اليهود من النازية في ألمانيا والنمسا.

ولكن حتى بعد إقامة دولة إسرائيل في العام 1948 كانت الموجات الضخمة من الهجرة إلى إسرائيل مربوطة بظاهرة التمييز والقمع التي تعرض لها اليهود:  الناجون من الكارثة التي حلت باليهود في أوروبا ولاجئون من الدول العربية فارين من الاضطهادات التي كانوا يتعرضون لها عقب إقامة دولة إسرائيل, وبقايا اليهود في بولندا الذين فروا من حملة المعادة للسامية في عهد غومولكا وموزكار, واليهود في روسيا ودول أخرى في الاتحاد السوفياتي سابقا الذين كانوا يخشون من حدوث موجات جديدة من اللا- سامية عقب انهيار الاتحاد السوفياتي.

إن تاريخ موجات الهجرة اليهودية إلى إسرائيل يوفر التأكيد الاقوى للموقف الصهيوني القائل بأن إقامة دولة يهودية في أرض إسرائيل يتمتع فيها اليهود بالأغلبية هو الحل الوحيد "للقضية اليهودية".

نشوء الصهيونية السياسية

نشأت الصهيونية السياسية, الحركة الليبرالية القومية للشعب اليهودي في القرن التاسع عشر وسط موجة القومية الليبرالية التي اجتاحت أوروبا في تلك الفترة.

الصهيونية دمجت بين ركني القومية الليبرالية - التحرير والوحدة - وذلك من خلال سعيها الى تحرير اليهود من قبضة الأنظمة الأجنبية القمعية والمعادية من جهة ومن جهة أخرى إعادة الوحدة اليهودية  من خلال تنظيم عملية قدوم اليهود في المهاجر, من أنحاء العالم الأربع, إلى الوطن اليهودي.

كان ظهور الصهيونية كحركة سياسية يشكل أيضًا ردًا على فشل حركة التنوير اليهودية في حل "القضية اليهودية".  حسب مبادئ الصهيونية يعود هذا الفشل إلى كون الانعتاق الفردي والمساواة مستحيلا بالنسبة لليهود دون الانعتاق والمساوة على المستوى القومي, ذلك لأن القضايا القومية تتطلب حلولا قومية.

والحل القومي الصهيوني تمثل في  إقامة دولة قومية يهودية يتمتع فيها اليهود بالاغلبية في وطنهم التاريخي, مُنجزا بذلك حق الشعب اليهود في تقرير مصيره.

الصهيونية لم تعبتر "تطبيع" الظروف اليهيودية مخالفا للأهداف والقيم الإنسانية.  كما تؤيد الصهيونية حق أي شعب في العالم بأسره في الحصول على وطنه قائلة إن الشعوب التي تتمتع بالسيادة والاستقلال فقط هي التي يمكن لها أن تتحول إلى عضو كباقي الأعضاء في الأسرة الدولية.

 الصهيونية : حركة تعددية

رغم أن الصهيونية كانت في الأساس حركة سياسية تسعى إلى تحقيق عودة اليهود إلى وطنهم متمتعين بالحرية والاستقلال والأمن وإقامة الدولة, غير أنها سعت أيضأ إلى تطوير الثقافة اليهودية.  وكان أحد العوامل الهامة في هذا السياق إحياء اللغة العبرية التي كان استخدامها يقتصر خلال سنوات طويلة على الطقوس  والأدب. وقد سعت الصهيونية إلى تحويل اللغة العبرية إلى لغة قومية فعالة ليتم استخدامها في المحافل الحكومية والجيش والتربية والعلوم والأسواق وفي الشارع.

ومثلما كان الوضع بالنسبة إلى قوميات أخرى كانت للصهيونية علاقات متبادلة مع أيديولوجيات أخرى مما أدى إلى نشوء تيارات ومجموعات صهيونية مختلفة.

فعلى سبيل المثال خلق الاندماج بين القومية والليبرالية تيار الصهيونية الليبرالية. فيما كانت نتيجة دمج الاشتراكية نشوء الصهيونية الاشتراكية. كما أن لقاء الصهيونية بالتيارات الدينية ولد الصهيونية الدينية.  وتأثير القومية الأوروبية كان مصدر الإيحاء للمجموعات القومية اليمينية. في هذا السياق لم تختلف الصهيونية عن سائر القوميات التي تبنت هي الأخرى ميولا مختلفة, ليبرالية وتقليدية واشتراكية (يسارية) ومحافظة (يمينية).

 الصهيونية والقومية العربية

كان معظم مؤسسي الصهيونية يعلمون حقيقة تواجد سكان عرب في فلسطين (أرض إسرائيل) (رغم أن بعضهم تحدثوا بسذاجة عن "أرض بلا شعب" او عن "شعب بلا أرض").  على أية حال القلائل منهم اعتبروا التواجد العربي عقبة أمام تحقيق أهداف الصهيونية.  في تلك الفترة في نهاية القرن التاسع عشر لم تكن القومية العربية قائمة في أي شكل وكان عدد السكان العرب في فلسطين ضئيلا ولم يكونوا مهتمين بالسياسة. لذلك كان العديد من القادة الصهاينة يميلون إلى الاعتقاد بأن حقيقة تواجد عدد قليل نسبيا من السكان العرب في فلسطين قد تمنع مشاكل بينهم وبين اليهود العائدين إلى أرض إسرائيل.

وكان القادة اليهود مقتنعين أيضا بأن التطورات المستقبلية بعد إقامة دولة إسرائيل قد يستفيد منها الشعبان مما يقنع العرب بالتعاون. على أية حال هذه الآمال لم تتحقق.

في مقابل المواقف والتوقعات المعلنة التي أبداها المفكرون الصهاينة والذين كانوا يسعون إلى تحقيق أهدافهم بالطرق السلمية وبالتعاون مع العرب, اصطدم التواجد اليهودي المتجدد في أرض إسرائيل بمعارضة عربية مناضلة.  لفترة ما وجد العديد من الصهاينة صعوبة في لإدراك وقبول عمق الخلاف, الذي تحول بالفعل إلى مواجهة بين شعبين يعتبر كل منهما الأرض ملكا له - اليهود على خلفية روابطهم التاريخية والروحية, والعرب بسبب التواجد المستمر للدول العربية في الأرض.

بين الأعوام 1936-1947 تصاعد الصراع بين الجانبين على أرض إسرائيل. فقد أصبحت المعارضة العربية اكثر تطرفا بالتزامن مع زيادة عدد السكان اليهود وتطور المجتمع اليهودي في البلاد. وفي الوقت ذاته رأت الحركة الصهيونية انه بات من الضروري زيادة الهجرة اليهودية إلى إسرائيل وتطوير البنى التحتية الاقتصادية للبلاد وذلك من أجل إنقاذ اكبر عدد ممكن من اليهود من الجحيم النازي في أوروبا.

وأدت المواجهة بين اليهود والعرب التي كان يبدو انه لا يمكن تجنبها , أدت بالأمم المتحدة إلى إصدار القرار في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 الذي ينص على إقامة دولتين في المناطق الواقعة غربي نهر الأردن- إحداهما يهودية والثانية عربية. وقبل اليهود القرار في حين رفضه العرب.

في 14 أيار/ مايو, 1948, بموجب قرار الأمم المتحدة الصادر في نوفمبر 1947, أُعلن رسميا عن إقامة دولة إسرائيل.

الصهيونية في القرن الحادي والعشرين

شكلت إقامة دولة إسرائيل تحقق الهدف الصهيوني المتمثل في الحصول على وطن معترف به دوليا وقانونيا للشعب اليهودي في أرضه التاريخية, حيث يعيش اليهود دون اضطهاد وحيث يستطيعون تطوير حياتهم وهويتهم.

منذ العام 1948 حددت الصهيونية مهمتها الأولى بالاستمرار في دفع عملية "جمع الشتات" التي دعت في حينه إلى بذل جهود حثيثة لإنقاذ الجاليات اليهودية التي كانت تتعرض جسديا وروحيا للخطر.  كما سعت الصهيونية بعد 1948 إلى الحفاظ على وحدة الشعب اليهودي واستمراريته وركزت على مركزية إسرائيل في حياة اليهودية في كل مكان.

خلال القرون الماضية شكل التطلع إلى استرداد الشعب اليهودي لأرض إسرائيل الرابطة التي وحّدت الشعب اليهودي في الشتات.  اليهود في أنحاء العالم قبلوا الصهيونية عقيدة يهودية ويدعمون دولة إسرائيل معتبرين إياها تطبيقا أساسيا للصهيونية ومقدرين مساهمة دولة إسرائيل ثقافيا واجتماعيا وروحيا بصفتها عضوا في الأسرى الدولية وتطبيقا حيويا وإبداعيا للروح اليهودية.

انواع الحركـــــــــــــة الصهيونية(4)

بدأت الصهيوينة كحركة رؤيوية في أوروبا الشرقية الصهيونيين الأوائل كانوا من أبناء الجيل الناشئ في الستينات والسبعينات للقرن التاسع عشر, تأثروا إلى حد عميق بالتفكير الراديكالي للعصر. وهذا الجيل شكل حركة المسكالا "التنوير اليهودي" والتي كانت تنتظر حلول عصر عادل تنال فيه جميع الاقليات مكانًا متساويًا وتحقيق الحكم الذاتي لكن فريقا آخر من أمثال سمولنسكي (1842-1885) وليلينبلوم (1843-1910) دعا إلى قيام قومية يهودية علمانية في فلسطين كشرط لتطور اليهود في العصر الحديث ومن رحم هذا الاتجاه اليهودي ولدت حركة "أحباء صهيون" التي تزعمها ليونبسكر (1821-1891) وإعتمدوا على فكرة "التحرر الذاتي" عن طريق الهجرة إلى فلسطين وتأسيس المستعمرات الزراعية هناك, وبالفعل فقد أنشأوا المستوطنة الصهيونية الأولى "بتاح تكفا 1881"

1. الصهيونية العملية : طورت تقليد أحباء صهيون، اقامة تعاونيات زراعية في فلسطين حيث أصبح غوردون (1856-1922) القائد الفعلي لها، وقد نادى بضرورة العمل في أرض إسرائيل.

2. الصهيونية السياسية : التشديد على قيام الدولة اليهودية المستقلة سياسيا، تزعمها بنسكر وهرتزل (1860-1904).

3. الصهيونية الثقافية : علمانية الاتجاه , اتخذت مضمونا أكثر ميتافيزيقية للفكرة الصهيونية عملت على إنهاض ثقافة يهودية والبحث عن معنى جديد للهوية اليهودية.

ترأس هذا الجناح أحدها عام (1856-1927) قام أيضا كما فعل من قبله بنسكر بتكييف الحركة على أساس هيغلي ففي مقالة عنوانها "اليهودية ونيتشه" أكد فيه آحادها عام على أن اليهود شعب متفوق في جوهره واتفق مع رأي نيتشه القائل بان "الغاية الأخلاقية الأسمى ليست في تقدم الجنس البشري ككل, بل في تحقيق إنسان أكثر كمالا بين النخبة المختارة "

كما أنه يؤكد في فقرة أخرى من المقال المذكور بأن اليهود "إعتبروا إختيارهم بمثابة غاية تعلو على كل ما عداها , وليس كوسيلة لإسعاد باقي البشرية ".

الإيديولوجية الصهيونية :

تعريف الأيديولوجية :

مجرد تزيف أو تعميه للواقع , إنها نسق من الآراء والأفكار السياسية والقانونية , والأخلاقية والجمالية والدينية والفلسفية ( ).

وهي مجموعة متماسكة من المبادئ والمثل والمعايير التي تعبر عن نظرة جماعة معينة إلى الغرض أو الأغراض الأخيرة للحياة الاجتماعية والسياسية والروحية، ومن مجموعة متماثلة من المعتقدات التي تعبر عن موقف هذه الجماعة عن طبيعة الواقع الاجتماعي والاتجاهات التاريخية( ).

والأيديولوجية باعتبارها منظومة متماسكة من المعتقدات والأفكار تتكون من :

1- العنصر المعياري : المبادئ والمثل والمعايير التي تعبر عن نظرة الجماعة الى الحياة السياسية والاجتماعية.

2- عنصر نظري : معتقدات الجماعة المعبرة عن موقفها من طبيعة الواقع الذي تحيا في كنفه.

3- فلسفة الجماعة : في نظرتها للحياة ومركز الانسان فيه.

تعريف الأيديولوجية الصهيونية:

هي مجموعة من المعتقدات الزائفة والتي لا تتطابق مع الواقع، وهي نسق كاذب وغير منطقي وبعيدًا عن الحقيقة , اعتمدت على الفلسفة للبرهنة على نتائج سياسية، وهي تحقيق لرؤية سياسية اعتمادا على الأساس الديني , وقوى ذرائعية .

أسس الأيديولوجية الصهيونية

تعتمد الايديولوجيا الصهيونية على مقولات زمانية أهمها:

1- لليهود جسد واحد متناسق , ممتد في الزمان والمكان , والمشكلة اليهودية ولدت من رحم الدياسبورا.

2- ضرورة تجميع اليهود في مكان واحد "العودة لأرض الميعاد".

3- حفاظ اليهود على تمايزهم عبر التاريخ.

المقولات الفلسفية الصهيونية ودحضها :

1. اعتبرت الحركة الصهيونية أن الفكر يخلق الواقع الاجتماعي وينتجه، وهذه المقولة خالية من الصحة ولا أساس علمي لها، لأن العلم ومناهجه المختلفة يؤكدان أن الواقع الاجتماعي هو الذي يخلق الفكر، وهو إفراز له، الصهيونية رفضت ذلك وإدعت أنها كفكرة هي القوة الخالقة للواقع الاجتماعي الذي عملت على تجسيده فوق أرض فلسطين "تجميع اليهود".

2. رفضها لفكرة الرابط المنطقي للظواهر، وإنكارها للتأثير المتبادل فيما بينها "الظواهر" وهذا ما يتعارض كليا مع منطق وأسس المنهج العلمي الذي يقول أنه يستحيل معرفة وفهم الظاهرة بشكل صحيح بعد عزلها عما يحيطها أو تجريدها من ظروفها العضوية واقتلاعها من بيئتها التاريخية لأنه لا يوجد جوهر ثابت للصهيونية التي لا يمكن إسقاطها على مجرى التاريخ، فلا وجود لجوهر ثابت للصهيونية يبقى ولا يتغير عبر التحولات التاريخية التي تؤثر على الظواهر والأعراض فقط وليس على الجوهر الدائم نفسه، فهذه رؤية نقدية للتاريخ، فالصهيونية بقولها أن اليهود جوهر ثابث لا يتغير ولا يتأثر بالظواهر الاجتماعية التي تحيط به كلام خال من الصحة، ولو كان ذلك صحيحا، فلماذا تأثر وجودهم في أروبا بعد تحولها من النظام الاقطاعي إلى النظام الرأسمالي فلو كان اليهود جوهر لا يتأثر فلماذا برزت المسألة اليهودية ولماذا تغير وضعهم في النظام الرأسمالي ولماذا غادروا أروبا باتجاه أماكن متعددة من العالم" أمريكا مثلا" ؟.

3- رفض التغير والانتقال من حالة إلى أخرى والأدعاء بالاستقرار, علما أن الكون بكافة ظواهره الاجتماعية والمادية في حالة تغير مستمر فحسب هراقليطس فإن كل شيئ في تغير مستمر, والمرء لا يستطيع ان ينزل إلى النهر مرتين ( ).

4- إزالة فكرة التناقض من الدائرة اليهودية "لا تناقض بين ذات يهودية وذات يهودية أخرى لا في الزمان أو المكان وبالتالي فلا يوجد تناقض بين اليهود والصهيونية.

 

الأغيـار

الـعالـم

الـيهـود

 

تناقض جدلي منعكس في الفكر

 و بالطبع فإن ذلك يعتبر منهجا ميتافيزيقيا.

وكأن المقولات الصهيونية لا تدركها الحواس ولا يستوعبها العقل المفكر العقل الإنساني وهذا خال من الصحة لأن تلك المقولات ما هي إلا مقولات وضعية تم فهمها فلسطينيا بل وتم تجاوزها وعلى هذا الاساس نخوض الصراع بكافة الوسائل ومختلف السبل.

و مهما حاول الصهاينة الوقوف في وجه الحقيقة الفلسطينية ومحاربتها , فإنهم لن ينجحوا في استمرار تبريرهم لاغتصابهم للحق الفلسطيني النقيض الرئيسي لهم ولمقولاتهم. 

دراسة في الصهيونية السياسية(5)

مقدمة

في فرنسا يمكن توجيه انتقاد الكنيسة الكاثوليكية او الماركسية، كما يمكن مهاجمة الإلحاد والقومية، وشتم نظام الحكم في الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وجنوب أفريقيا، والتبشير بالفوضوية او بعودة الملكية، دون التعرض لمخاطر تتعدى الجدل او التفنيد المألوفين. اما نقد الصهيونية فانه يفضي بصاحبه الى عالم آخر، ينقله من عالم الأدب والفكر الى عالم التحقيق والقضاء…. فبموجب القانون الصادر في 29/7/1981، بشأن ذم اي شخص بسبب انتمائه لجنس او لعرق او لأمة او لديانة، يعرض كل انتقاد لسياسة دولة إسرائيل وللصهيونية السياسية التي تقوم عليها هذه الدولة، للمساءلة القضائية وهو الأساس هنا لانه لا يطال تصرفاً معيناً يدعو لتجريم صاحبه الان بتناول نقد المنطق البنيوي لدولة أرسيت أسسها على مبادىء الصهيونية السياسية ويؤدي على الفور، الى معاملتك كـ"نازي"… او معادٍ للسامية ويجر عليك تهديداً بالموت! ويستطيع كاتب هذا البحث الادلاء بشهادته حول ذلك ولطالما قد تعرض، لهذا السبب، الى ملاحقات قضائية واتهام "بالنازية" وتهديدات بالقتل. فما هو المسار الذي اتبع من اجل دراسة الصهيونية السياسية على صعيد الحروب الدينية؟ لقد قام على سلسلة من المداخلات والمتداعيات والاشتقاق في المعاني، كان بيغن قد دلل عليها في الشعار القائل "باستحالة التفريق بين المناهضة لاسرائيل، والمناهضة للصهيونية، والمناهضة للسامية". وهو شعار، بادر زعماء "المنظمة الصهيونية العالمية" الى تلقفه وترديده على مسامع الدنيا جمعاء ! وقبل اي فحص للنواحي النظرية والعملية في الصهيونية السياسية، لا بد من التدقيق في تحديد مجال نقدنا، وذلك بالتعريف بالموضوعات والتمييز بينها وهي:

- الصهيونية الدينية والصهيونية السياسية.

- الصهيونية واليهودية.

- إسرائيل التوراتية ودولة إسرائيل الصهيونية.

أ - الصهيونية الدينية والصهيونية السياسية:

يصعب الخلط بين مشروعين متمايزين تماماً هما: مشروع الصهيونية الدينية ومشروع الصهيونية السياسية. فالصهيونية الدينية، غالباً ما انطلقت من خرافات اسرائيلية، اذ تتعلق بامل اليهودية الاكبر في انتظار مجيء مسيح آخر الزمان، حينما تدعى "جميع شعوب الارض" (سفر التكوين: 12/3) الى حكم الرب، الذي سيتحقق من اجل البشرية جمعاء، متوجهاً الى المواقع المعينة في التوراة لمآثر ابراهيم وموسى. وقد اوجدت هذه الصهيونية الدينية تقليداً يقضي بالحج الى "الارض المقدسة" بل ان قيام طوائف روحانية، وخاصة في صفد في وقت اشتداد حملات الاضطهاد التي كان يقوم بها في اسبانيا "ملوكها شديدو التمسك بكاثوليكيتهم"… (بعد طول التعايش الهانىء، في ذلك البلد، بين المسلمين واليهود).. دفع بعض الاتقياء الى العيش في فلسطين طبقاً لايمانهم. وحتى عهد قريب (في القرن 19 م.) كان هدف "عشاق صهيون" استحداث مركز روحي، في ارض صهيون هذه، يشع بالايمان وبالثقافة اليهودية. والملفت للنظر هو ان هذه الصهيونية الدينية (والتي لم تنتشر الا بين مجموعات يهودية محددة) لم تصطدم بمعارضة المسلمين الذين يعتبرون انفسهم منحدرين من ذرية ابراهيم، وينتمون لعقيدته. ثم ان هذه الصهيونية الروحانية، البعيدة كل البعد عن اي برنامج سياسي يهدف الى تكوين دولة، وعن فرض اي سيطرة على فلسطين، لم تثر مطلقاً مجابهات او منازعات بين الطوائف اليهودية وبين السكان العرب.. المسلمين والمسيحيين.

أ - الصهيونية السياسية:

وهذه ابتدعها تيودور هرتزل (1860-1904) وعكف في فيينا، منذ عام 1882 على تشكيل المذهب حتى انتهى من ارساء منهجه عام 1894 في كتابه عن "الدولة اليهودية" ثم وضعه موضع التنفيذ في المؤتمر الصهيوني العالمي الأول، بمدينة (بال) في سويسرا، عام 1897. هذه الصهيونية بالذات، بمبادئها ونتائجها، تشكل دون غيرها موضوع دراستنا… ومن المناسب هنا، ومنذ البداية، التعريف بها، بصورة دقيقة. ولكن وقبل ذلك نود ان نشير الى ان تيودور هرتزل يخالف الصهيونية الدينية في كونه، اصلاً، من دعاة "اللاادرية" ومعارضاً شديداً لاولئك الذين يعرفون اليهودية على انها ديانة. فاليهود، بنظر الصهيونية السياسية، "امة" قبل اي شيء آخر وعلى كل حال وعند دراسة القوانين الاساسية لدولة إسرائيل، سنلحظ الغموض في التعريف "اليهودي" والتذبذب المستمر بين التعريف المبني على العرق، وذلك المبني على الدين .

وتيودور هرتزل، الذي لم يكن شاغله الاساسي دينياً، بل سياسي، فقد طرح قضية الصهيونية بشكل جديد. وقال بانه - نتيجة لتأثره بقضية دريغوس - استخلص منها النتائج التالية:

1) اليهود عبر العالم، وفي اي بلد يقطنون، يشكلون شعباً واحداً.

2) وقد كانوا هدفاً للاضطهاد، في كل زمان ومكان.

3) وهم غير قابلين للاندماج في الأمم التي يعيشون بين ظهرانيها.

(وهذه من مسلمات العنصريين واللاساميين).

ويمكن تلخيص النتائج العملية التي استخلصها تيودور هرتزل، والحلول التي طالب بها لوضع حد نهائي لهذا العداء والتنافر - الذي هو كما رأى، تنافر دائم وقطعي - على النحو التالي:

1 - رفض الاندماج، الذي لم يكن مسموحاً به آنذاك في دول اوروبا الشرقية (وخاصة في الامبراطورية الروسية على الاخص)، تحقق على نطاق واسع وبصورة متزايدة في اوروبا الغربية (وخاصة في فرنسا، حيث كشفت اللاسامية عن وجهها القناع المخزي بعد قضية دريفوس).

2 - إنشاء "دولة يهودية" يتجمع فيها كل يهود العالم… وهي ليست "بؤرة" روحانية او مركز اشعاع للعقيدة وللثقافة اليهوديتين. وقد عرفت اوروبا في اواخر القرن التاسع عشر، عصر القوميات، قيام افكار جديدة، بأسلوب غربي خالص، تمثل في تلك القومية التي برزت بكل زخمها في المانيا، وكان تأثيرها على هرتزل عميقاً، لا سيما وان ثقافته كانت جرمانية.

3 - هذه الدولة، ينبغي اقامتها في مكان "خال" وهذا المفهوم المميز للاستعمار الذي كان سائداً في تلك الحقبة، كان يقضي بعدم الاخذ بعين الاعتبار وجود مواطنين اصليين. وقد اعتمد هرتزل وقادة الصهيونية السياسية من بعده، على هذه المسلمة الاستعمارية التي سوف تتحكم بمستقبل المشروع الصهيوني كله، ودولة إسرائيل التي انبثقت عنه. اما المكان فلم يكن له اية اهمية في نظر تيودور هرتزل، الذي كان، كما سنتبين فيما بعد، امام ان يختار مقراً لشركته الاستعمارية ذات الامتياز وجنين الدولة المقبلة، بين الارجنتين وفقاً لاقتراح البارون هيرش وبين اوغندا، التي اقترحتها بريطانيا. وانه لأمر ذو مغزى ان يقوم هرتزل باستشارة "سيسيل رودس" الذي كان ينفذ مشروعه طابعاً استعمارياً، على حد تعبير هرتزل نفسه. غير ان هرتزل فكر بإيلاء فلسطين الافضلية بين الاراضي المرشحة لغرس الدولة اليهودية فيها، من منطلق اهتمامه باجتذاب تيار "عشاق صهيون" وتقوية الحركة الناشئة عنه، واضعاً في خدمة اغراضه تراثاً دينياً لم يكن هو شخصياً ليؤمن به. وكان من صالحه، ولفائدة مخططاته، ان يظل الالتباس قائماً، وابلغ مثال على مدى استغلال هذا الغموض، فقد ظهر بعد وفاة هرتزل في "تصريح بلفور" عام 1917، حينما اعلنت الحكومة البريطانية انها تؤيد اقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين، لا يلحق الضرر بالسكان الاصليين، بينما استغل زعماء الصهيونية هذا التصريح في اتجاه انشاء "دولة فلسطين اليهودية" بإلغاء كل وجود للسكان الاصليين، تأميناً لبسط سيادة الدولة الصهيونية على فلسطين كلها. هذا الطابع الاستعماري للصهيونية السياسية، بالاضافة الى "اسسه الوهمية" وعواقبه الوخيمة المضرة بالشعب الذي قيده نير الاستعمار، المضرة ايضاً بالسلام العالمي، هو ما سيكون الموضوع الاساسي لتحليلنا الانتقادي.

ب - الصهيونية الدينية:

يتم الانتقال من ميدان الكتابة الى ساحة القضاء، ومن الجدل السياسي الى المحاربة بالدين، انطلاقاً من بلبلة ثانية ومزج آخر، لا يكتفي معهما بالتسلل خفية من الصهيونية السياسية (تسلل يسخر الدين لخدمة السياسة، ويتيح اضفاء القداسة على سياسة معينة بقصد اعتبارها من المحرمات التي لا يجوز المساس بها) بل تستغل القرابة القائمة بين الصهيونية السياسية وبين الديانة اليهودية، من اجل توجيه تهمة مناهضة السامية الى كل من ينتقد السياسة الصهيونية التي يتبعها القادة الاسرائيليون. وقد برزت افكار اساسية حول اللاسامية في كتاب برنار لازار "اللاسامية، تاريخها واسبابها" المنشور عام 1894 ، في اجواء مشبعة بأحداث قضية دريغوس، ونشوء الصهيونية السياسية على يد تيودور هرتزل. وكان كتاب "برنار لازار" هذا رداً على اوسع المؤلفات عن اللاسامية انتشاراً "فرنسا اليهودية" لكاتبه درومون (1886).

وخلافاً لرسالة الهجاء المقذع الجاهل من (درومون)، تبدو دراسة (برنار لازار) حتى بنظر من لا يشاطره الرأي (وما يطرحه من فرضيات على البحث) قائمة على تحليلات تاريخية متأنية داعية للتأمل، تأخذ بعين الاعتبار مدى مسؤولية الطوائف اليهودية عما كان ينزل بها من اضطهاد، من جهة واستغلال اللاساميين الدنيء لظواهر انكماش هذه الطوائف وتفردها من جهة اخرى.

ويميز "برناد لازار" النزعة المعادية لليهودية الصادرة عن المسيحية، بشكل عام، والمستمرة منذ القرن الرابع الميلادي حتى منتصف القرن التاسع عشر الاخير، عن ظاهرة مناهضة السامية، وقد ظهرت هذه التسمية لاول مرة، في كتاب صحفي من همبورغ هو "ولهلم مار" بعنوان "انتصار اليهودية على الجرمانية" عام 1873. كما ان معاداة المسيحية لليهودية هي من مخلفات الفكر القسطنطيني العقائدي والسياسي، الذي تبنته الكنيسة المنتصرة، الوارثة لتقاليد كهنة المعابد اليهودية، ولتقاليد الامبراطورية الرومانية، والتي تحولت، منذ امتلاكها للسلطة، من معاناة الاضطهاد، الى ايقاع الاضطهاد بغيرها من الديانات كالوثنية واليهودية، وقد وجدت في اليهودية - التي كان التبشير قد حقق لها سعة الانتشار - منافساً لا بد من دحره. وراحت تتهم بحماقة اليهود بانهم من ذاك الشعب الذي اصبح - برفضه الاعتراف بان يسوع هو نفسه المسيح المخلص - في عداد "قتلة" الرب… لان مجمع نيقيا اعتبر المسيح من "جوهر" الله ذاته. وبين برنار لازار كيف ان سخافة تقوقع الطوائف اليهودية وانغلاقها على اضيق وادق تفاسير الشريعة قد وفر خلال تعاقب القرون، معطيات قابلة للإتهام بيسر.. وحول هذا، يقول برنار لازا في كتابه المشار اليه اعلاه:

- "لقد انعزل اليهود وراء اسوار كان قد رفعها حول التوراة (اسدراس) والكتبة الاولون (دبر سوفريم) والفرنسيون والتلموديون.. ورثة اسدراس، ومشوهو الموسوية الاولى، واعداء الرسل" وهذا، خلافاً للموسوية الحقيقية، التي اصطفاها واكبرها ارميا، واشعيا. وحزقيال، والتي وسع اليهود اليونانيون ايضاً من نطاقها الشمولي" (ص 14 و16) ويضيف برنار لازار (ص 13) قوله بان خطورة هذه العزلة قد تفاقمت بسبب طبع فريد يتسم به اليهودي، ويدفعه الى التباهي بامتياز توراته، وبالتالي، الى اعتبار نفسه فوق البشر ومغايراً لباقي الشعوب وقد عمل على ترسيخ هذا المسلك، حدة القومية المنتشرة في اوروبا خلال القرن التاسع عشر، "اذ رأى اليهود في انفسهم الشعب المختار المتفوق على الأمم كافة. وهذه حالة الشعوب، المتطرفة في تعصبها القومي، كالألمان والفرنسيين والبريطانيين في وقتنا الحاضر" (ص 13).

هذا الانغلاق على الذات لم يكن جديداً.. فقد حارب الحاخامون، "بتلموديتهم المتصلبة" جميع محاولات الانفتاح عبر العصور المتعاقبة. وينوه برنار لازار بمسعى ابن ميمون ، اكبر فلاسفة اليهود في جميع العصور، في تبيان التوافق بين الايمان والعقل، مشيراً الى محاربة المتطرفين له بشراسة، واستنكار التلموديين والسبتيين لأهم مؤلفاته: "دلالة الحائرين" حتى ان الحاخام سليمان، من مدينة (مونبلييه) استنزل في عام 1232، التحريم ضد قراء هذا الكتاب، وحصل على الاذن بحرقه. "وعمل التلموديون على ان يحصر اليهود دراساتهم في شريعتهم دون غيرها" وفي نهاية القرن، وبإيعاز من الحاخام الالماني عشير بن يحيال، اتخذ مجمع سينودس وهو المكون من ثلاثين حاخاماً، وقد انعقد في برشلونة برئاسة بن عزرا) قراراً بتحريم كل يهودي دون الخامسة والعشرين من العمر، يقرأ كتباً غير التوراة والتلمود" (ص65). ويلخص برنار لازار، ما ادى اليه هذا التيار، فيقول: "لقد بلغوا هدفهم وعزلوا إسرائيل عن مجموع الشعوب".

وفي القرن السابع عشر، عادت النزعة نفسها، التي كانت قد حاولت خنق صوت ابن ميمون، الى الظهور مع من تصدى، من بين التلموديين، لقتل الفيلسوف سبينوزا. وكذلك مع اولئك الذين هاجموا (مندلسون) في القرن الثامن عشر، لان ترجمة هذا الاخير للتوراة الى اللغة الالمانية، جرت عليه عقاب الحاخامين الذين كانوا مصممين على احتكار التفسير التلمودي لشريعتهم، والحؤول دون افساح المجال امام الشعب للوصول الى التوراة. وسنرى ما عمدت اليه، حاخامية الاحزاب الدينية اليمينية المتطرفة اليوم في دولة إسرائيل، من حصر تلك القراءة "الانتقائية" المتعصبة للتوراة في النصوص التي تخدم غايات سياسية جديدة، ومن نجاحها في فرض توجيهاتها على الدولة. ويظهر برنار لازار صورة اخرى مزرية هي نتيجة للتقاليد الموروثة، فيقول: "من الحماقة جعل إسرائيل مركزاً للعالم وخميرة للشعوب، ومحركاً للأمم. ومع ذلك، فالى هذا يسعى اصدقاء اليهود واعداؤهم، اذ هم يسرفون ويغالون في تقدير اهمية إسرائيل، سواء كانوا من امثال (بوسويه) او (درومون) (ص 191). وفي "عرض تاريخ الكون" يشير بوسييه الى يهودا بأنها مركز العالم. لذا، فان لجميع احداث التاريخ ولقيام الممالك وسقوطها سبباً وحيداً محصوراً في ارادة رب وفيّ لأبناء إسرائيل، المكلفين بقيادة البشرية الى مبتغاه الاوحد: هو مجيء المسيح المخلص المنتظر؟!

ويكفي للحصول على "بروتوكولات حكماء صهيون" قلب هذه التطورات المزيفة التي وضعتها اجهزة البوليس الروسي السرية، عشية انعقاد المؤتمر الصهيوني العالمي في بال، عام 1897، بغية تعزيز الاعتقاد بوجود "تآمر" يهودي ماسوني، يرمي الى اقامة مملكة عالمية، تمثل انتصار الشر في دنيانا. وهذا يسير في خط مواز تماماً لمفاهيم بوسييه ونحن، حينما نتصدى مع برنار لازار للتيارات الفكرية اليهودية التي تبرز الاستثنائية اليهودية (وليس الشمولية)، وعقلية الفتح والسيطرة المستقاة من ملاحم يوشع وتمييز (اسدراس) العنصري، والميل لجعل إسرائيل مركزاً للعالم ولتاريخه… انما نقصد في تبديد الغموض الذي يعتمد اللاساميون بثه، عند محاولتهم استنتاج صدور الفساد الصهيوني عن آفة اساسية مزعومة، كامنة في صلب الديانة اليهودية. وتنطوي التقاليد الكثيرة في اليهودية كما هي الحال في المسيحية وفي الاسلام على تيارات متناقضة. وكما وجد في المسيحية "نزعة قسطنطينية" وتطرف، وفي الاسلام تطرف و"غلق باب الاجتهاد" فقد قامت عبر مسار اليهودية نزعات الى التطرف والانغلاق والاصولية يستغلها اليوم اشد الصهاينة تعصباً في يهودية لا يؤمن بها معظمهم. وما نشجبه ايضاً تلك القراءة الانتقائية للتوراة اليهودية، تلك القراءة التي تعزل اليهود عن بقية الشعوب. ولا ننسى ابداً ان هناك في الاصولية اليهودية ومساهماتها في اعلاء شأن الانسان مقابل نزعات الفناء تلك، بذور ازدهار الهي للحياة، عبر مسائل التحلف والوعد… المسائل التي يرى (سفر التكوين) ان جميع شعوب العالم مدعوة الى تبنيها، "فالتاريخ انما هو انبثاق دائم لكل جديد كل الجدة في حياة البشر، يضيئه الوعد بظهور المسيح في نهاية الزمان" . وكنت قد ذكرت في مكان آخر: "ان من كبريات مآسي الدولة الاسرائيلية الحالية خضوعها لاحكام الحاخامات المتطرفين، في وقت تحتاج فيه الى رسل" . فبذرة النبوة بقيت، طوال قرون بعد نزول الكتب السماوية على كبار الانبياء، حية في نفوس اولئك الذين يشير اليهم (جيرشون شولم) في كتابه المشهور عن: "كبرى تيارات الروحانية اليهودية" (نشر عام 1977 في باريس). كغنوصية "فيلون" اليهودي. اي نزعته الى كنه الاسرار الربانية، عرفت في الاسكندرية ملتقى افكار الشرق واليونان. وفي المانيا نحا الحاخام "يهودا" منحى معاصره القديس "فرنسوا دسيز" في الاحساس بحضور الله والمحبة. وهذا من المذاهب "الحسيدي" (نسبة الى حسيداي).

وفي اسبانيا، كان لقاء اليهودية بتصوف مسلمي الاندلس ومحاولاتهم الاتصال الذاتي والمباشر بالله… وهو ما يقربهم - كما يؤكد جيرشون شولم - من البوذية التبتية وروحانية الهندوس. وقد طرح هذا اللقاء انضر ثمار اليهودية، ممثلاً في اوسع عرض شامل للعقيدة اليهودية كتبه بالعربية ابن ميمون (ابو عمران موسى 1135-1204) صديق الفيلسوف المسلم ابن رشد وتلميذه.

- "الزهو" (كتاب الاشراق) الفه موسى الليوني في نهاية القرن الثالث عشر وجعل فيه حب الله محل الخشية من الله كما فعل معاصره قس كالبريا المسيحي يواكيم دي فلور. واخيراً آخر المذاهب "الحسيدية" الذي نشأ في بولونيا في القرن السادس عشر قريباً من روحنيات سكان نهر الرين والمعلم ايكهارت، والذي ازدهر كذلك خلال التاسع عشر عبر "رسائل الى اتباع حسيداي حول "نشوة الروح" مذكياً في كل انسان قبسه من الله" ثم شمولية الانبياء الواسعة، التي بعثت في كتاب "الاخلاق" لسبينوزا نفحة قوية رغم قيود الشكلية الرياضية الديكارتية، كما كان الوعد بانتظار المسيح "المخلص" دافعاً لكارل ماركس في شبابه، فجعل من تآليفه نواة للنزعات الثورية طوال قرن من الزمان. وحتى رسالة (مارتن بوبر) الروحانية، التي استمرت خمسة قرون من الفردية القاتلة، حثتنا على التذكير بان مركز "الانا" كائن في الآخر "في البداية تكون العلاقة، ونحن نعيش في سيل من المبادلة الشاملة" ، والروح بنظره، ليست في "الانا". بل في علاقتي بالآخر، وكذا الحال بالنسبة للحضارات فهي شبيهة بالحال لدى الافراد: فهي لا تحيا ولا تزدهر الا باخصاب متبادل بينها. ويجد الالهام الالهي محكماً له في العلاقة بالآخرين.

بالنسبة لهذه الاصولية الشاملة التي اتبعتها اليهودية منذ القدم، تشكل الصهيونية السياسية تعسفاً قومياً واستعمارياً يدين بالتوجيه للقومية والنزعة الاستعمارية المنتشرتين في اوروبا خلال القرن التاسع عشر، كما انها لا تستخدم القراءة الانتقائية والقبلية للتوراة، بتحول صريح عن صراط الله ، لتزوير مقاصدها السياسية وتمويهها.

ج - إسرائيل التوراتية واسرائيل الصهيونية الحالية..

يتخذ استخدام الحجج التوراتية ابعاداً جديدة في هذه المرحلة من تاريخ الدولة الصهيونية.. ويمكن تسمية هذه المرحلة بمرحلة الصهيونية العسكرية ففي الوقت الذي تنفق فيه إسرائيل ـ وفقاً لتقرير البنك الدولي ـ ثلاثين بالمئة من صافي ناتجها القومي، على جهازها العسكري (على سبيل المقارنة) فان معدل مثل هذا الانفاق لدى دولة حلف الاطلسي لا يتعدى 4 % … وفي وقت بات الهدف المعلن لهذه العسكرية الضاربة، ليس الدفاع عن إسرائيل، بل تفتيت جميع الدول العربية استناداً لتصريح آرييل شارون نفسه، وطبقاً لمشروع الحركة الصهيونية كما سنرى في الصحفات القادمة،… في هذا الوقت، يجري الاستناد الى نصوص توراتية لتبرير امرين في آن واحد:

- التوسع المستمر في الحدود.

- والطرق التي تتبعها الدولة في التقتيل والارهاب.

وهذه الواقعة في حد ذاتها، ليست جديدة . فقد سبق لبن غوريون في عام 1937  ان رسم حدود إسرائيل مستنداً لنص "توراتي" يقضي بان تضم "ارض اسرائيل" خمس مناطق:

1 - جنوب لبنان، حتى نهر الليطاني، (او ما يسميه بالجزء الشمالي من إسرائيل الغربية).

2 - جنوب سوريا.

3 - شرقي الاردن (او ما يعرفه اليوم بالاردن).

4 - فلسطين (التي يدعوها بأرض الانتداب البريطاني).

5 - سيناء.

ووفقاً لهذا المخطط، يفترض ان تمر الحدود الشمالية بخط عرض مدينة حمص السورية، التي ماثلها بمدينة حماة، المشار اليها في (سفر الاعداد) كحد شمالي لأرض كنعان. وثمة صهاينة آخرون، "توراتيون" متحمسون ظاهرياً فقط، يطابقون بين حماه وحلب، بينما يجعلها غيرهم في تركيا.. اما الحاخام "أدين شتنسالز"، المقرب من حزب "شلي"، فقد طالب خلال ندوة كان "سارتر" قد عقدها في إسرائيل، "بحقوق تاريخية" لليهود في جزيرة قبرص - وفي عام 1956، اعلن بن غوريون، وسط تصفيق مجلس الكنيست وتهليله ان سيناء كانت تشكل جزءاً من مملكة داوود وسليمان. وبعد قيام الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفياتي، خلال الهجوم على قناة السويس، بعملية كبح الجماح، ارجىء البحث في تلك الجغرافية التوراتية الى ان طغت على سطح الاحداث عام 1967، وحيث حددت ارض الميعاد على الشكل التالي: نهر الفرات ونهر مصر (حسب سفر الاعداد) - وهو الاخير - بين ان يكون: نهر النيل (ولكن اي فرع منه؟) او وادي العريش ) وفي ظل هذا المفهوم المطاطي للحدود، يستعان دائماً بالتوراة لإضفاء الشرعية سلفاً على اي عدوان مبيت او لتبرير اي الحاق او ضم للاراضي. وفي المرحلة الراهنة من التوسع الصهيوني تم اشراك الخيال المريض المهيمن على حاخامات "الاحزاب الدينية" من غلاة المتعصبين للغزو نظراً لمساعدتهم في تبرير اشد مطالب المتطرفين تعسفاً واستبداداً. وليس من قبيل المصادفة ان يقرر بيغن خلال الحملة الدموية على لبنان، ايقاف رحلة شركة العال ايام السبت احتراماً للعطلة المقدسة. ومثل هذه الضمانات المقدمة للمتطرفين، تعوض بسخاء على صعيد المبررات الايديولوجية: فلا يكفي ما تم احتلال من لبنان كأرض "قبيلة آشور" بل اضفيت القداسة على المذابح من اجل ضرورات القضية. ولم يكن تدمير مدينتي صور وصيدا، ودك بيروت بالقنابل، ومجازر مخيمي صبرا وشاتيلا، امتداداً لمذابح دير ياسين، التي ارتكبتها عصابة السيد بيغن (ارغون) عام 1948، ولمذابح قبية، وكفر قاسم، وقتلة "الوحدة 101" بقيادة ارييل شارون، بل وجد ذلك كله نصيباً من اكاليل الغار… لان الدولة القائمة حالياً في إسرائيل برسالة إسرائيل التوراتية، انما تكرر الحركة المقدسة التي سبق لاسرائيل التوراتية ان قامت بها في استئصالها لشأفة الكنعانيين، بسلوكها اليوم مع العرب نفس السبيل الذي سلكته مع الكنعانيين وغيرهم من شاغلي هذه المنطقة السابقين: "ان مدن هذه الشعوب، الموروثة اليك من مولاك الرب، هي الوحيدة التي لن تدع مخلوقاً حياً يعيش فيها… بل ستجعلها محظورة على الحثيين، والعموريين، والكنعانيين، والفريزيين، كما امرك الرب مولاك". وفقاً لعزرا ونحميا وكما نصت عليه قوانين محكمة نورمبرغ العنصرية: يعتبر يهودياً من ولد من ام يهودية (برهان عنصري)، او من اعتنق الدين اليهودي (برهان لاهوتي) ولا يستطيع ان يفيد من "قانون العودة" ومن المزايا المترتبة عليه في دولة إسرائيل سوى من تنطبق عليه هذه المعايير. هذا اذن لا ينطبق فقط على مجرد تعريف عنصري، بل على تمييز عنصري لان الانتماء الى مجموعة عرقية معينة - كما سنرى فيما بعد - ينطوي اما على امتيازات او انتقاصات… والعنصرية لا تقوم على اي اساس علمي. فمن وجهة النظر البيولوجية، تبين عدم امكان تطبيق النظرية القديمة حول "الدليل الدماغي" وهي نظرية تميز بين ذوي الجماجم المستطيلة، وذوي الاحجام الاخرى. كما ان علم الوراثة الحديث الذي يرى ان لبعض "الجينات" او المورثات تأثيراً على خصائص الخليط الدموي، قد اظهر بطلان المدلول البيولوجي للجنس والسلالة. والاسطورة البالية في سفر التكوين (10/18/27) استخدمت، كغيرها من الاساطير العنصرية، "لتبرير" الطبقية والتسلط ايضاً: فأبناء نوح الثلاثة الذين "عمروا الارض بنسلهم"، بعد خروجهم من الفلك، كانوا اصلاً: اسيويين (من سام) واوروبيين (من يافث)، وافارقة (من حام). وجرى تكريس الاخرين للعبودية والعنف. ورأت العصور الوسطى الاقطاعية في (حام) جداً اعلى لعبيد الارض، وفي (يافت) جد الاسياد، وفي (سام) جد العلماء، وهو يقف على رأس جميع الطبقات. ويؤكد "ليون بولياكوف" في كتابه عن (الخرافة الأرية الصادر سنة 1971) انه "وتمشياً مع التقاليد العبرية (او بالأحرى الحاخامية) فان للحرب ذاتها قيمة، حتى ولو لم تقم صراحة كحرب دفاعية.. وفي مسالك "الخلاص" هذه بلغنا في لبنان مرحلة ارفع من مرحلة حرب الايام الستة بواسطة حرب لبنان هذه، كشفنا عن مدى قوتنا العسكرية… واننا مسؤولون عن النظام في الشرق الاوسط وفي العالم على السواء". وامام هذيان جنون العظمة هذا لدى قوميي إسرائيل وعسكرييها، نتبين صدق نبوءة ومخاوف احد اوائل الصهيونيين:

"مارتن بوبر" وهو احد كبار مفكري عصرنا، وصاحب مؤلفات مثل: "الايمان اليهودي" و"الديانة التوراتية" و"الانسانية العبرية" و "إسرائيل والعالم"، وقد اشار في سنة 1958، في رده على بن غوريون في القدس عام 1957، قائلاً:

- "حينما انخرطت في الحركة الصهيونية قبل ستين عاماً قال لنا بن غوريون: ان فكرة المسيح المخلص هي حية وستحيا حتى مجيء المسيح. اجبته قائلاً: كم قلباً من قلوب هذا الجيل سيحتفظ بهذه الفكرة حية ومغايرة لشكلها القومي الضيق المقتصر على "عودة المنفيين"؟… ذلك ان فكرة المخلص، عند افتقارنا للتطلع الى خلاص البشرية، والى الرغبة في المساهمة لتحقيقه، ليست اطلاقاً رؤيا الخلاص لدى انبياء اسرائيل". وبوبر لم يكف طوال حياته كداعية صهيوني وحتى وفاته في إسرائيل، عن فضح انحرافات الصهيونية الدينية في المجال السياسي والقومي ويقول:

- "نتحدث عن روح إسرائيل، ونعتقد اننا لسنا كباقي الأمم.. ولم تكن روح إسرائيل اكثر من بوتقة تنصهر فيها هويتنا القومية، ولا اكثر من تبرير جميل لأنانيتنا الجماعية فقد تحولت الى معبود لدينا نحن الذين رفضنا القبول بأي مولى غير سيد الكون، فنحن اذن كبقية الأمم نستقي معها من الكأس التي تنهل منها نشوتها".

- "الأمة ليست هي القيمة العليا. والايديولوجيا او الروح القومية، لن تكون مشروعة ما دامت تجعل من الامة غاية بذاتها. ان اليهود ابعد من ان يكونوا امة، انهم اعضاء جماعة عقيدة". وفي سعيه لتحديد السبب الجذري للانحراف في الصهيونية السياسية النابعة، بل من القومية الاوروبية في القرن التاسع عشر لا من اليهودية. والتي جعلت منها الصهيونية السياسية بديلاً للدين او مذهباً لعبادة الدولة - تلك المسماة: دولة إسرائيل. وحول هذا كتب بوبر:

- "لقد اقتلعت جذور اليهودية الدينية. وهذا هو جوهر الداء الذي ظهرت اعراضه في قيام قومية يهودية اواسط القرن التاسع عشر وهذا الشكل الجديد الذي اتخذته الرغبة في الارض، انما هو الخلفية البعيدة التي تخفي كل ما استقته اليهودية المعاصرة من قومية الغرب الحديثة. اذاً فما هو دور "اصطفاء إسرائيل في كل هذا الاصطفاء؟" اوليس هو نوعاً من الاستعلاء، بل احساساً بالقدر والمصير.. احساس لا ينشأ من مقارنة بالآخرين، بل من نداء داخلي يحثه على انجاز مهمة لم يكف الرسل عن التذكير بها: "فاذا تفاخرتم بأنكم المختارون المصطفون، بدلاً من ان تحيوا في ظل طاعة الله، فان ما تفعلونه انما هو الغدر والخيانة" ثم ختم بوبر مشيراً الى "ازمة القومية" في الصهيونية السياسية، الازمة المفسدة لروحانية اليهودية، فقال:

- "كنا نأمل ان ننقذ القومية اليهودية من خطأ تحويل الشعب الى معبود… فأخفقنا…"

و(مارتن بوبر) هو واحد ممن كان تعلقهم بأرض صهيون متقد الحماسة، وقد اوضح ذلك في رسالة كتبها عام 1939 الى غاندي، الذي كان قد تساءل عن سبب عدم شعور الصهيونيين بترابطهم من اجل محاربة الطغيان والاضطهاد مع اي شعب ينتمون اليه وفي اي موطن ولدوا فيه.. بدلاً من البحث عن "وطن قومي" آخر. اجاب (بوبر) بان العقيدة اليهودية لا تستطيع العيش الا في نطاق تجمع طائفي تطبق فيه احكامها الخاصة، فوق ارضها الخاصة: "الاساسي، بنظرنا، ليس وعداً بأرض، بل مطلباً يرتبط تحقيقه بالارض وبوجود مجتمع يهودي في هذه البلاد". كما اجاب هذا ما اجابه بوبر على غاندي القائل بان فلسطين تخص العرب، وبانه من "الظلم واللاإنسانية فرض سيطرة يهودية على العرب"، فقال: - لا نريد انتزاع ملكياتهم، بل العيش معهم". وحدد بحزم، في محاضرة في نيويورك عام 1958، موقفه الثابت من قضية العلاقات مع العرب. وحسب رأيه فان "بعث الشعب اليهودي" يجب ان يمضي بموازاة "الاندماج بعالم الشرق الادنى"، وبما يستبعد اللجوء الى القوة: "اشد النظريات خطأً وفساداً، هي تلك التي تزعم بان مسالك التاريخ انما تشقها القوة".. القوة التي هي دائماً: "تغليب لما هو دون الانساني على الانساني".. "وخيانة لعقيدة الايمان"… وافدح الاخطاء بنظر بوبر، كان اعتبار إسرائيل "قطعة من العالم الغربي". واشار في سنة 1958، الى انه قدم منذ سنة 1921 فكرة اقامة اتحاد فيديرالي في الشرق الادنى، يشارك فيه اليهود.

ولكن، "خلافاً لإقامة دولة ثنائية القومية او مشاركة اليهود في اتحاد للشرق الادنى، صدر القرار التعيس بتقسيم فلسطين.. وكانت القطيعة بين الشعبين، وبدايات الحروب". ويشير "بوبر" الى انه ليس ضد العنف، من حيث المبدأ، ولا يعارض قيام دولة إسرائيل، لكنه يشدد - بعدما شهد الحربين الاوليين بين إسرائيل والعرب - على ان السلام بين اليهود والعرب لا يمكن ان يحل بمجرد توقف الاعمال العدوانية. اذ لن يكون هناك سلام الا بتعاون فعلي بين الطرفين".. "واذا كان التفكير باشتراك إسرائيل في اتحاد فيدرالي في الشرق الادنى، يبدو اليوم للكثيرين محالاً وغير واقعي، وهناك في المستقبل امكانية لتحقيقه". واقوال كهذه كانت ستكفي اليوم لان يعتبر بيغن واعوانه مطلقو الصلاحية في المؤسسة الصهيونية صاحبها: بوبر، معادياً لاسرائيل ومعادياً للسامية.. "ومارتن بوبر" هو بحق اعظم نبي يهودي عاش في دولة إسرائيل منذ انشائها.. ومن حسن الحظ ان هذا المسلك، يثبت وجوده بين الحين والاخر، رغم نتيجة التحكم بالتوجيه الفكري لدى النشء الاسرائيلي منذ دخوله في المدرسة، ولدى الجنود بواسطة الحاخامية العسكرية، ولدى الشعب بواسطة الدعاية الرسمية. فقد امكن سماع صرخة صادقة، اثناء الهجوم الاسرائيلي الذي ارتكب المذابح في لبنان.. هي صرخة الاستاذ (بنيامين كوهين) من جامعة تل ابيب الى (فيدال ناكيه) يوم الثمن من حزيران 1982:

- اكتب اليك وانا استمع الى مذياعي الصغير يعلن باننا على وشك تحقيق هدفنا في لبنان.. الا وهو: توفير السلام لسكان الجليل.. ان هذه الاكاذيب الجديرة بغوبلز تكاد تذهب بعقلي… اذ من الواضح ان هذه الحرب الوحشية، والاشد وحشية من كل سابقاتها، لا علاقة لها البتة بمحاولة القتل في لندن، ولا بأمن الجليل. ترى، ايستطيع يهود من احفاد ابراهيم طالما كانوا ضحايا الجور الا ان يصلوا الى هذه الدرجة من الوحشية؟؟ الا يعني هذا ان اعظم انجازات الصهيونية انما هو نزع اليهودية من قلوب اليهود؟ إبذلوا ايها الاصدقاء، كل ما في وسعكم من اجل عدم تمكين البيغنيين والشارونيين من بلوغ غرضهم المزدوج: "التصفية النهائية (وهذه العبارة رائجة كثيراً هذه الايام..) للفلسطينيين كشعب. وللإسرائيليين ككائنات بشرية  ..

ان هذه الادانة هي بعنف ادانات الرسل الغابرين.. كتلك التي لعن فيها (ارميا) اولئك "الذين يتحدثون زوراً باسمي لديك.. خطيئتهم انهم يجلبون العار لاسرائيل.." (ارميا: 29/21-23). او تلك التي ادان بها (ميخا) قادة إسرائيل بقوله: "اسمعوا اذن، يا قادة يعقوب، يا قضاة دار إسرائيل.. يا من تخشون الاستقامة، وتلوون كل مستقيم بتشييدكم كياناً لصهيون وسط الدماء، واشاعتكم الجرائم في وسط اورشليم.." (ميخا: 3/9-10).

ويعتبر في الوقت الحاضر، كل من يشكو من سياسة "قضاة الدار الاسرائيلية" وسياسة الدولة الصهيونية في اسرائيل معادياً للسامية. وعلى هذا القياس يصح التشهير بالرسل الكبار جميعاً: من عموس الى اشعيا، الى ميخا، الى ارميا.. كمعادين للسامية لم يصطف القادة الصهيونيون الحاليون سوى ما من شأنه تبرير سياستهم: كحكاية المذابح التي ارتكبها (اشعيا) بين الكنعانيين.. لما فيها من توقعات لما سيحدث من تقتيل للعرب في كل من فلسطين ولبنان. اما اللعنات التي استنزلها ارميا وميخا فيتم استبعادها وابراز احكام عزرا (اسدراس) في وجوب التمييز العنصري، مع تجاهل طموحات (حزقيال) و(اشعيا) نحو خلاص الكون على يد المسيح المنتظر. وبسبب اختيار "الاحبار الذين يقتلون رسل الرب" وبسبب هذا التضليل، الذي يرى في كل انتقاد لسياسة الدولة الصهيونية في إسرائيل فعلاً معادياً للسامية، يخشى ان تنطلق حملة فعلية ضد السامية. ومثلما يخشى اليوم ان يولد العداء للسامية، ولا يقتصر هذا عند شجب سياسة العدوان وسفك الدماء. بل يتعداه الى الدعم الاعمى واللامشروط لتلك السياسة. وباستطاعة مناحيم بيغن، او آرييل شارون، او اسحاق شامير، وحدهم، ابتعاث المعاداة للسامية كنتيجة لفظائعهم. علماً بانه لا يمكن، في الواقع، الجمع بين مجرمي الحرب هؤلاء ذوي التاريخ العريق في الاجرام ، وبين مجمل الشعب الاسرائيلي، بل وبين مواطنينا من معتنقي الديانة الاسرائيلية او المؤتمنين بالتراث اليهودي.. (علماً بان المذابح التي ارتكبها اولئك المجرمون في لبنان، هي النتيجة المنطقية والحتمية لمثلهم الفكرية، وميتولوجيتهم، ومخططاتهم الرامية الى التوسع الاستيطاني). ان الذين يقفون وراء خطر تغذية النزعة المعادية للسامية، هم موجهو بعض المنظمات، ذات الصفة التمثيلية، التي تتصرف كوكيل مطلق للحكومة الصهيونية في اسرائيل، وهم جاهزون لان يقر جرائمها واكاذيبها المشهورة.. وترديد شعاراتها.. وللزعم، فوق كل ذلك وخلافاً للحقيقة، بتحدثهم باسم مجموع "الطائفة اليهودية".. بينما يتبرأ الكثير من افراد هذه الطائفة على غرار مئات الآلاف من الاسرائيليين، داخل اسرائيل نفسها من تلك الجرائم وهؤلاء المجرمين.

لقد نشأت، دون ادنى شك، التباسات خطيرة، حينما عمد بيغن وزمرته - وبدعم من الحاخامات المتعصبين في "الاحزاب الدينية" الداعية "للحرب المقدسة" - الى الاقتباس القبلي من التوراة، والى الاستخدام الشاذ لفكرة "الشعب المختار" و"ارض الميعاد" لإفساد الوضع ما بين الاسرائيليين والمسيحيين، ولتبرير الاغتصاب الدموي للحقوق الانسانية، باسم حق الهي مزعوم. ان العمل في صالح اليهودية والمسيحية ينطلق من رفض الانخداع بذلك التلاعب بالمقدسات.. وعدم الخلط بين اليهودية، اي عقيدة ابراهيم وموسى وبقية الرسل، وبين تزمت الصهيونية العنصري. تماماً كإطلاق صفة "مسيحيي لبنان" على جلادي (سعد حداد) او امثالهم من منفذي الافعال المنحطة لحكومة تل ابيب. اننا نرمي الى محاربة هذه الالتباسات، والى التمييز بين دولة اسرائيل وسياستها وبين سواد الشعب الاسرائيلي الذي بدأ يعي الألاعيب التي اوقعه حكامها ضحية في براثنها. نرمي ايضاً الى التمييز بين اليهودية والميثولوجيا التي تحرفها الصهيونية من اجل اغراض سياسية. والى رفض الرضوخ للإرهاب الفكري الصادر عن عملاء التمييز العنصري الاسرائيليين، الساعين الى تقسيم العالم بين: صهاينة ومعادين للسامية.. كعنصريي الماضي الزاعمين بتقسيمه الى يهود وغير يهود! ونحن انما نحارب الصهيونية السياسية، لأننا ضد التمييز العنصري.. ومعاداة الصهيونية ليست هي السبب في نشوء العداء للسامية، بل ان السبب كامن في الصهيونية نفسها. ولهذا نحارب صهيونية تدعي بانها تستخدم الدين من اجل اضفاء هالة من القداسة على السياسة. وتجنباً للوقوع في هذه الالتباسات الخطيرة بين:

- الصهيونية الدينية والصهيونية السياسية.

- اليهودية والصهيونية.

- اسرائيل التوراتية والدولة الصهيونية في اسرائيل.

سنحاول ازالة الوهم المحيط بالصهيونية السياسية، عبر تفحص الميثولوجيا التي تقوم عليها: كالأساطير المنسوبة زوراً الى التوراة.. ثم عبر الواقع السياسي الناشىء عن الحاجة الماسة، التي تشعر بها الصهيونية السياسية، لتوفير المسلمات الميثولوجية اللازمة مثل:

- السياسة الداخلية القائمة على التمييز العنصري.

- السياسة الخارجية المتمثلة في العدوان والتوسع من اجل فتح "مجال حيوي" لهجرة محتملة.

- العمل السياسي القائم على ارهاب الدولة.

دراسة في الصهيونية اليهودية(6)

1- مقدمة 

إننا نعالج هنا موضوعاً "محرما " أي: الصهيونية و "إسرائيل".

ففي فرنسا - مثلا - يمكن  انتقاد الكنيسة الكاثوليكية أو الماركسية، كما يمكن مهاجمة الإلحاد والقومية، وشتم نظام الحكم في الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وجنوب أفريقيا، والتبشير بالفوضوية أو بعودة الملكية، دون التعرض لمخاطر تتعدى الجدل أو التفنيد المألوفين ، أما نقد الصهيونية فإنه يفضي بصاحبه إلى عالم آخر، ينقله من عالم الأدب والفكر إلى عالم التحقيق والقضاء….

 فبموجب القانون الصادر في 29/7/1981، بشأن ذم أي شخص بسبب انتمائه لجنس أو لعرق أو لأمة أو لديانة، يعرض كل انتقاد لسياسة دولة إسرائيل وللصهيونية السياسية التي تقوم عليها هذه الدولة، للمساءلة القضائية ، وهو الأساس هنا لأنه لا يطال تصرفاً معيناً يدعو لتجريم صاحبه الآن بتناول نقد المنطق البنيوي لدولة أرسيت أسسها على  مبادئ الصهيونية السياسية ، ويؤدي على الفور إلى معاملتك كـ"نازي"… أو معادٍ للسامية ، ويجر عليك تهديداً بالموت! ويستطيع كاتب هذا البحث الإدلاء بشهادته حول ذلك ، ولطالما قد تعرض لهذا السبب إلى ملاحقات قضائية واتهام "بالنازية" وتهديدات بالقتل...

  فما هو المسار الذي اتبع من أجل دراسة الصهيونية السياسية على صعيد الحروب الدينية؟ لقد قام على سلسلة من المداخلات والمتداعيات والاشتقاق في المعاني، كان بيغن قد دلل عليها في الشعار القائل "باستحالة التفريق بين المناهضة لإسرائيل والمناهضة للصهيونية، المناهضة للسامية".

وهو شعار بادر زعماء "المنظمة الصهيونية العالمية" إلى تلقفه وترديده على مسامع الدنيا جمعاء ! وقبل إي فحص للنواحي النظرية والعملية في الصهيونية السياسية لا بد من التدقيق في تحديد مجال نقدنا، وذلك بالتعريف بالموضوعات والتمييز بينها وهي:

- الصهيونية الدينية والصهيونية السياسية.

- الصهيونية واليهودية.

- إسرائيل التوراتية ودولة إسرائيل الصهيونية.

2 - الصهيونية السياسية:

 ابتدعها تيودور هرتزل بناء على تعاليم  اليهودية (1860-1904) وعكف في فيينا منذ عام 1882 على تشكيل المذهب حتى انتهى من إرساء منهجه عام 1894 في كتابه عن "الدولة اليهودية" ثم وضعه موضع التنفيذ في المؤتمر الصهيوني العالمي الأول، بمدينة (بال) في سويسرا عام 1897.

 هذه الصهيونية بالذات بمبادئها ونتائجها تشكل دون غيرها موضوع دراستنا… ومن المناسب هنا ومنذ البداية التعريف بها، بصورة دقيقة ، ولكن وقبل ذلك نود أن نشير إلى أن تيودور هرتزل معارض شديد لأولئك الذين يعرفون اليهودية على أنها ديانة ، فاليهود بنظر الصهيونية السياسية، "أمة" قبل أي شيء آخر، وعلى كل حال وعند دراسة القوانين الأساسية لدولة إسرائيل سنلحظ الغموض في التعريف "اليهودي" والتذبذب المستمر بين التعريف المبني على العرق وذلك المبني على الدين .

تيودور هرتزل  لم يكن شاغله الأساسي دينياً بل سياسيا، فقد طرح الصهيونية-اليهودية بناء على الإيمان بأن اليهود عبر العالم، وفي أي بلد يقطنون يشكلون شعباً واحداً منفصلا ، وبأنهم غير قابلين للاندماج في الأمم التي يعيشون بين ظهرانيها ؛ نظرا  للعداء الذي يكنه اليهود لهم . (وهذه من مسلمات كل العنصريين واللاساميين).

ويمكن تلخيص النتائج العملية التي استخلصها تيودور هرتزل، والحلول التي طالب بها لوضع حد نهائي لهذا العداء والتنافر - بين اليهود وغير اليهود الذي هو كما رأى، تنافر دائم وقطعي - على النحو التالي:

1 - رفض الاندماج  في المجتمعات الغير اليهودية.

2 - إنشاء "دولة يهودية" يتجمع فيها كل يهود العالم.

3 - هذه الدولة ينبغي إقامتها في مكان "خال" ، وهذا المفهوم المميز للاستعمار الذي كان سائداً في تلك الحقبة كان يقضي بعدم الأخذ بعين الاعتبار وجود مواطنين أصليين ، وقد اعتمد هرتزل وقادة الصهيونية السياسية من بعده على هذه المسلمة الاستعمارية التي سوف تتحكم بمستقبل المشروع الصهيوني كله، ودولة إسرائيل التي انبثقت عنه.

 أما المكان فلم يكن له أية أهمية في نظر تيودور هرتزل الذي كان كما سنتبين فيما بعد أمام أن يختار مقرا لشركته الاستعمارية ذات الامتياز وجنين الدولة المقبلة بين الأرجنتين وفقا لاقتراح البارون اليهودي هيرش وبين أوغندا التي اقترحتها بريطانيا ، وأنه لأمر ذو مغزى أن يقوم هرتزل باستشارة "سيسيل رودس" الذي كان ينفذ مشروعه  طابعا استعماريا على حد تعبير هرتزل نفسه ، غير أن هرتزل فكر بإيلاء فلسطين الأفضلية بين الأراضي المرشحة لغرس الدولة اليهودية فيها، بناء على التعاليم اليهودية لاجتذاب "عشاق صهيون" اليهود. 

 في "تصريح بلفور" عام 1917، حينما أعلنت الحكومة البريطانية أنها أن تؤيد إقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين، لا يلحق الضرر بالسكان الأصليين بينما استغل زعماء الصهيونية هذا التصريح في اتجاه إنشاء "دولة فلسطين اليهودية" بإلغاء كل وجود للسكان الأصليين؛ تأميناً لبسط سيادة الدولة اليهودية على فلسطين كلها. 

3- الصهيونية "الدينية"

يميز "برناد لازار" النزعة المعادية لليهودية الصادرة عن المسيحية بشكل عام والمستمرة منذ القرن الرابع الميلادي حتى منتصف القرن التاسع عشر الأخير عن ظاهرة مناهضة السامية، وقد ظهرت هذه التسمية لأول مرة في كتاب صحفي من همبورغ هو "ولهلم مار" بعنوان "انتصار اليهودية على الجرمانية" عام 1873. كما إن معاداة المسيحية لليهودية هي من مخلفات الفكر القسطنطيني العقائدي والسياسي الذي تبنته الكنيسة ضد اليهود لكونهم  الشعب الذي أصبح - برفضه الاعتراف بان يسوع هو نفسه المسيح  -هو الذي قتل المسيح ، وحول هذا يقول برنار لازار:

- "لقد انعزل اليهود وراء أسوار كان قد رفعها حول "التوراة" (اسدراس) والكتبة الأولون (دبر سوفريم) والتلموديون ورثة اسدراس، ومشوهو الموسوية الأولى، وأعداء الرسل" وهذا خلافاً للموسوية الحقيقية التي اصطفاها وأكبرها أرميا، وأشعيا."

ويضيف برنار لازار  قوله بان خطورة هذه العزلة قد تفاقمت بسبب طبع فريد يتسم به اليهودي، ويدفعه إلى التباهي بامتياز توراته، وبالتالي إلى اعتبار نفسه فوق البشر ، ومغايراً لباقي الشعوب ، وقد عمل على ترسيخ هذا المسلك حدة القومية المنتشرة في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، "إذ رأى اليهود في أنفسهم الشعب المختار المتفوق على الأمم كافة ، وهذه صفة العصابات الطوائف المتطرفة في تعصبها القومي،  في وقتنا الحاضر .

 هذا الانغلاق على الذات لم يكن جديداً فقد حارب الحاخامات "بتلموديتهم المتصلبة" جميع محاولات الانفتاح عبر العصور المتعاقبة ، وعمل التلموديون على أن يحصر اليهود دراساتهم في شريعتهم دون غيرها ، وفي نهاية القرن وبإيعاز من الحاخام اليهودي الألماني عشير بن يحيال، اتخذ مجمع سينودس وهو المكون من ثلاثين حاخاما ـ وقد انعقد في برشلونة برئاسة بن عزرا  ـ قراراً بتحريم كل يهودي دون الخامسة والعشرين من العمر أن يقرأ كتباً  أخرى غير كتب اليهود "التوراة والتلمود" .

ويلخص برنار لازار ما أدى إليه هذا التيار فيقول: "لقد بلغوا هدفهم وعزلوا اليهود عن مجموع الشعوب".

 وسنرى ما عمدت إليه حاخامية الأحزاب الدينية اليهودية اليوم في دولة إسرائيل، من حصر تلك القراءة "الانتقائية" المتعصبة للتوراة في النصوص التي تخدم غايات سياسية جديدة، ومن نجاحها في فرض توجيهاتها على الدولة.

ويظهر برنار لازار صورة أخرى مزرية هي نتيجة للتقاليد الموروثة فيقول: "من الحماقة جعل إسرائيل مركزاً للعالم وخميرة للشعوب، ومحركا للأمم ، ومع ذلك فإلى هذا يسعى أصدقاء اليهود وأعداؤهم، إذ هم يسرفون ويغالون في تقدير أهمية إسرائيل، سواء كانوا من أمثال (بوسويه) أو (درومون).

وفي "عرض تاريخ الكون" يشير بوسييه إلى يهودا بأنها مركز العالم ؛ لذا فإن لجميع أحداث التاريخ ولقيام الممالك وسقوطها سبباً وحيداً محصوراً في إرادة رب اليهود لنصرة إسرائيل         واليهود المكلفين بقيادة البشرية إلى مبتغاهم الأوحد: هو انتصار اليهود على غير اليهود لإخضاع جميع شعوب العالم للهيمنة الصهيونية! .

ويكفي هذا أساسا لصحة "بروتوكولات حكماء صهيون" التي تنسب إلى المؤتمر الصهيوني العالمي في بال، عام 1897، بغية تعزيزا للاعتقاد بوجود "تآمر" يهودي  يرمي إلى إقامة سلطة يهودية عالمية، تمثل انتصار الشر في دنيانا، وهذا يسير في خط مواز تماماً لمفاهيم بوسييه ونحن، حينما نتصدى مع برنار لازار للتيارات الفكرية اليهودية التي تبرز الاستثنائية اليهودية (وليس الشمولية)، وعقلية الغزو والسيطرة المستقاة من ملاحم يوشع وتمييز (اسدراس) العنصري، والميل لجعل إسرائيل مركزاً للعالم ولتاريخه ؛ تدعيما  لاستنتاج صدور الفساد الصهيوني عن آفة أساسية  كامنة في صلب الديانة اليهودية.

 فقد قامت عبر مسار اليهودية نزعات إلى التطرف والانغلاق والأصولية يستغلها اليوم اشد الصهاينة تعصباً في يهودية لا يؤمن بها معظمهم ، وتلك القراءة الانتقائية للتوراة اليهودية، تلك القراءة التي تعزل اليهود عن بقية الشعوب ، وكنت قد ذكرت في مكان آخر: "أن من كبريات مآسي الدولة الإسرائيلية الحالية خضوعها لأحكام الحاخامات المتطرفين في وقت تحتاج فيه إلى رسل" .

وتشكل الصهيونية السياسية تعسفاً قومياً واستعمارياً يدين بالتوجيه للقومية والنزعة الاستعمارية المنتشرتين في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، كما إنها تستخدم القراءة الانتقائية والقبلية للتوراة بتحول صريح عن صراط الله ، لتزوير مقاصدها السياسية وتمويهها. 

4 - إسرائيل التوراتية وإسرائيل الحالية 

يتخذ استخدام الحجج التوراتية أبعادا جديدة في هذه المرحلة من تاريخ الدولة الصهيونية.. ويمكن تسمية هذه المرحلة بمرحلة الصهيونية العسكرية ، ففي الوقت الذي تنفق فيه إسرائيل ـ وفقاً لتقرير البنك الدولي ـ ثلاثين بالمائة من صافي ناتجها القومي على جهازها العسكري (على سبيل المقارنة) فان معدل مثل هذا الإنفاق لدى دولة حلف الأطلسي لا يتعدى 4 % …

وفي وقت بات الهدف المعلن لهذه العسكرية الضاربة ليس الدفاع عن إسرائيل بل تفتيت جميع الدول العربية استناداً لتصريح آرييل شارون نفسه، وطبقاً لمشروع الحركة الصهيونية كما سنرى في الصفحات القادمة، في هذا الوقت يجري الاستناد إلى نصوص توراتية لتبرير أمرين في آن واحد:

- التوسع المستمر في الحدود.

- والطرق التي تتبعها الدولة في التقتيل والإرهاب.

وهذه الواقعة في حد ذاتها ليست جديدة ، فقد سبق لبن غوريون في عام 1937 أن رسم حدود إسرائيل مستنداً لنص "توراتي" يقضي بان تضم "أرض إسرائيل" خمس مناطق:

 1 -  جنوب لبنان، حتى نهر الليطاني، (أو ما يسميه بالجزء الشمالي من إسرائيل الغربية).

 2 -  جنوب سوريا.

 3 -  شرقي الأردن (أو ما يعرفه اليوم بالأردن).

4 -  فلسطين (التي يدعوها بأرض الانتداب البريطاني).

 5 -  سيناء.

ووفقاً لهذا المخطط يفترض أن تمر الحدود الشمالية بخط عرض مدينة حمص السورية، التي ماثلها بمدينة حماة، المشار إليها في (سفر الأعداد) كحد شمالي لأرض كنعان ، وثمة صهاينة آخرون، "توراتيون" متحمسون ظاهرياً فقط، يطابقون بين حماه وحلب، بينما يجعلها غيرهم في تركيا..

أما الحاخام "أدين شتنسالز"، المقرب من حزب "شلي"، فقد طالب خلال ندوة كان "سارتر" قد عقدها في إسرائيل، "بحقوق تاريخية" لليهود في جزيرة قبرص - وفي عام 1956، أعلن بن غوريون وسط تصفيق مجلس الكنيست وتهليله أن سيناء كانت تشكل جزءاً من مملكة داوود وسليمان.

وبعد قيام الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي خلال الهجوم على قناة السويس بعملية كبح الجماح أرجئ البحث في تلك الجغرافية التوراتية إلى أن طغت على سطح الأحداث عام 1967، وحيث حددت أرض الميعاد على الشكل التالي:

 نهر الفرات ونهر مصر (حسب- التوراة اليهودية - سفر الأعداد) - وهذا الأخير بين أن يكون: نهر النيل (ولكن أي فرع منه؟) أو وادي العريش، وفي ظل هذا المفهوم المطاطي للحدود  يستعان دائماً بالتوراة لإضفاء الشرعية سلفاً على أي عدوان مبيت أو لتبرير أي إلحاق أو ضم للأراضي.

 وفي المرحلة الراهنة من التوسع الصهيوني تم إشراك الخيال المريض المهيمن على حاخامات "الأحزاب الدينية" من غلاة المتعصبين للغزو ؛ نظراً لمساعدتهم في تبرير أشد مطالب المتطرفين تعسفاً واستبداداً.

وليس من قبيل المصادفة أن يقرر بيغن خلال الحملة الدموية على لبنان إيقاف رحلة شركة العال أيام السبت احتراماً للعطلة المقدسة.

ومثل هذه الضمانات المقدمة للمتطرفين تعوض بسخاء على صعيد المبررات الأيديولوجية ، فلا يكفي ما تم احتلال من لبنان كأرض "قبيلة آشور" بل أضفيت القداسة على المذابح من أجل ضرورات القضية.

ولم يكن تدمير مدينتي صور وصيدا، ودك بيروت بالقنابل، ومجازر مخيمي صبرا وشاتيلا، امتدادا لمذابح دير ياسين، التي ارتكبتها عصابة  بيغن (أرغون) عام 1948، ولمذابح قبية، وكفر قاسم، وقتلة "الوحدة 101" بقيادة آرييل شارون، بل وجد ذلك كله نصيباً من أكاليل الغار…

لان الدولة القائمة حالياً في إسرائيل برسالة إسرائيل التوراتية إنما تكرر الحركة المقدسة التي سبق لإسرائيل التوراتية أن قامت بها في استئصالها لشأفة الكنعانيين، بسلوكها اليوم مع العرب نفس السبيل الذي سلكته مع الكنعانيين وغيرهم من شاغلي هذه المنطقة السابقين حيث تقول التوراة اليهودية:

"إن مدن هذه الشعوب المعطاة إليك من ربك التي لن تدع مخلوقا حياً (من غير اليهود) يعيش فيها ، بل ستجعلها محظورة على الحثيين، والعموريين، والكنعانيين، والفريزيين، الذين ستبيدهم جميعا كما أمرك الرب مولاك"

 وفقاً لعزرا ونحميا  وكما نصت عليه قوانين محكمة نورمبرغ العنصرية: يعتبر يهوديا كل من ولد من آم يهودية (برهان عنصري)، أو من اعتنق الدين اليهودي (برهان لاهوتي)  لا يستطيع أن يستفيد من "قانون العودة" ومن المزايا المترتبة عليه في دولة إسرائيل سوى من تنطبق عليه هذه المعايير.

 هذا إذن لا ينطبق فقط على مجرد تعريف عنصري، بل على تمييز عنصري ؛ لأن الانتماء إلى مجموعة عرقية معينة - كما سنرى فيما بعد - ينطوي إما على امتيازات أو انتقاصات. والعنصرية لا تقوم على أي أساس علمي ، فمن وجهة النظر البيولوجية تبين عدم إمكان تطبيق النظرية القديمة حول "الدليل الدماغي" وهي نظرية تميز بين ذوي الجماجم المستطيلة، وذوي الأحجام الأخرى.

 كما أن علم الوراثة الحديث الذي يرى أن لبعض "الجينات" أو المورثات تأثيراً على خصائص الخليط الدموي قد أظهر بطلان المدلول البيولوجي للجنس والسلالة ، والأسطورة البالية في سفر التكوين اليهودي التوراتي (10/18/27) استخدمت كغيرها من الأساطير العنصرية لتبرير الطبقية والتسلط أيضا ، فأبناء نوح الثلاثة الذين "عمروا الأرض بنسلهم" بعد خروجهم من الفلك كانوا أصلا: أسيويين (من سام) وأوروبيين (من يافث)، وأفارقة (من حام).

وجرى تكريس الآخرين للعبودية والعنف ، ورأت العصور الوسطى الإقطاعية في (حام) جدا أعلى لعبيد الأرض، وفي (يافت) جد الأسياد، وفي (سام) جد العلماء، وهو يقف على رأس جميع الطبقات. ويؤكد "ليون بولياكوف" في كتابه عن (الخرافة الآرية الصادر سنة 1971) أنه:

 "وتمشياً مع التقاليد اليهودية (أو بالأحرى الحاخامية) فان للحرب ذاتها قيمة، حتى ولو لم تقم صراحة كحرب دفاعية.. وفي مسالك "الخلاص" هذه بلغنا في لبنان مرحلة أرفع من مرحلة حرب الأيام الستة بواسطة حرب لبنان هذه، كشفنا عن مدى قوتنا العسكرية… وإننا مسئولون عن النظام في الشرق الأوسط وفي العالم على السواء".

 وأمام هذين ، جنون العظمة هذا لدى قوميي إسرائيل وعسكرييها نتبين صدق نبوءة ومخاوف أحد أوائل الصهيونيين "مارتن بوبر"  وصاحب مؤلفات مثل: "الإيمان اليهودي" و"الديانة التوراتية" و"الإنسانية العبرية" و "إسرائيل والعالم"، وقد أشار في سنة 1958 في رده على بن غوريون في القدس عام 1957، قائلاً: 

 - " لتحديد السبب الجذري لانحراف إسرائيل  التي جعلت منها الصهيونية  بديلاً للدين و مذهباً لعبادة الدولة" "لقد اقتلعت جذور اليهودية الدينية بقيام قومية يهودية في أواسط القرن التاسع عشر ، وهذا الشكل الجديد الذي اتخذته الرغبة في السيطرة على غير اليهود  إنما هو الخلفية البعيدة التي تخفي كل ما استقته اليهودية المعاصرة من قومية الغرب الحديثة.

إذا فما هو دور "اصطفاء إسرائيل في كل هذا الاصطفاء؟" أو ليس هو نوعاً من الاستعلاء، بل إحساسا بالقدر والمصير.. إحساس لا ينشأ من مقارنة بالآخرين، بل من نداء داخلي يحثه على الهيمنة و الافتخار بأنكم المختارون المصطفون، فان ما تفعلونه أنما هو الغدر والخيانة" ثم ختم بوبر مشيراً إلى "أزمة القومية" في الصهيونية السياسية، الأزمة المفسدة ، فقال:

"كنا نأمل أن ننقذ القومية اليهودية من خطأ تحويل الشعب إلى معبود… فأخفقنا…"

 و(مارتن بوبر) هو واحد ممن كان تعلقهم بأرض صهيون متقد الحماسة، وقد أوضح ذلك في رسالة كتبها عام 1939 إلى غاندي، الذي كان قد تساءل عن سبب عدم شعور الصهيونيين بترابطهم من أجل محاربة الطغيان والاضطهاد مع أي شعب ينتمون إليه وفي أي موطن ولدوا فيه.. بدلاً من البحث عن "وطن قومي" آخر.

أجاب (بوبر) بان العقيدة اليهودية لا تستطيع العيش إلا في نطاق تجمع طائفي تطبق فيه أحكامها الخاصة، فوق أرضها الخاصة: "الأساسي، بنظرنا، ليس وعدا بأرض، بل مطلباً يرتبط تحقيقه بالأرض ، وبوجود مجتمع يهودي في هذه البلاد".

كما أجاب هذا ما أجابه بوبر على غاندي القائل بان فلسطين هي للفلسطينيين العرب، وبأنه من "الظلم واللاإنسانية فرض سيطرة يهودية على العرب".

و هذه صرخة صادقة أثناء الهجوم الإسرائيلي الذي ارتكب المذابح في لبنان.. هي صرخة الأستاذ (بنيامين كوهين) من جامعة تل أبيب إلى (فيدال ناكيه) يوم الثامن من حزيران 1982:  "أكتب إليك وأنا أستمع إلى مذياعي الصغير يعلن بأننا على وشك تحقيق هدفنا في لبنان.. ألا وهو: توفير السلام لسكان الجليل اليهود ، إن هذه الأكاذيب الجديرة بغوبلز تكاد تذهب بعقلي… إذ من الواضح أن هذه الحرب الوحشية، والأشد وحشية من كل سابقاتها، لا علاقة لها البتة بمحاولة القتل في لندن، ولا بأمن الجليل ، ترى كيف يستطيع اليهود أن يصلوا إلى هذه الدرجة من الوحشية؟؟ ألا يعني هذا أن أعظم انجازات الصهيونية إنما هو بلوغ غرضهم المزدوج: "التصفية النهائية  للفلسطينيين كشعب ، وللإسرائيليين ككائنات بشرية" .

 ويعتبر في الوقت الحاضر كل من ينتقد  سياسة  الدولة الصهيونية في إسرائيل معادياً للسامية ، وعلى هذا القياس يصح اتهام جميع الرسل الكبار: من عموس إلى أشعيا، إلى ميخا، إلى أرميا.. كمعادين للسامية.

لم يصطف القادة الصهيونيون الحاليون سوى ما من شأنه تبرير سياستهم: كحكاية المذابح التي ارتكبها (أشعيا) بين الكنعانيين.. لما فيها من تحريض لما يرتكب الآن من تقتيل للعرب في كل من فلسطين ولبنان. وإبراز أحكام عزرا (اسدراس) في وجوب التمييز العنصري وبسبب اختيار "الأحبار الذين يقتلون رسل الرب" وبسبب هذا التضليل، الذي يرى في كل انتقاد لسياسة الدولة الصهيونية في إسرائيل فعلاً معادياً للسامية، يمكن أن تنطلق حملة فعلية ضد اليهود.

ومثلما يخشى اليوم أن يولد العداء الفعلي لليهود، ولا يقتصر هذا عند شجب سياسة العدوان وسفك الدماء ، وباستطاعة آرييل شارون وحده ابتعاث المعاداة لليهود نتيجة لفظائعه.

 لقد عمد شارون  وزمرته - وبدعم من الحاخامات المتعصبين في "الأحزاب الدينية" الداعية "للحرب المقدسة" - إلى الاقتباس القبلي من التوراة، وإلى الاستخدام الشاذ لفكرة "الشعب المختار" و"أرض الميعاد" لتبرير الاغتصاب الدموي للحقوق الإنسانية باسم حق إلهي مزعوم من أجل إضفاء هالة من القداسة على سياسة إجرامية .

 وتجنباً للوقوع في هذه الالتباسات الخطيرة سنحاول إزالة الوهم المحيط بالصهيونية السياسية، عبر تفحص الميثولوجيا التي تقوم عليها: كالأساطير المنسوبة زوراً إلى التوراة.. ثم عبر الواقع السياسي الناشئ عن الحاجة الماسة، التي تشعر بها الصهيونية السياسية لتوفير المسلمات الميثولوجية اللازمة مثل:

- السياسة الداخلية القائمة على التمييز العنصري.

- السياسة الخارجية المتمثلة في العدوان والتوسع من أجل فتح "مجال حيوي" لهجرة محتملة.

- العمل السياسي القائم على إرهاب الدولة.

5:أسطورة "الحقوق التاريخية"

الأسطورة التاريخية:

"هذه الأرض هي الموطن التاريخي لليهود!…" هذا ما جاء في مذكرة المنظمة الصهيونية العالمية إلى مؤتمر السلام في جنيف عام 1919 وكان إعلان قيام دولة إسرائيل في 14 مايو (ايار) 1948 قد أكد بأنه "بموجب الحق الطبيعي والتاريخي للشعب اليهودي" قد أنشئت هذه الدولة في فلسطين.

وهذا المفهوم "للحقوق التاريخية" يرتبط دائماً عبر الدعاية الصهيونية بمفهوم "الوعد" بالأرض الذي يعطي للإسرائيليين: "حقاً إلهيا" صريحاً في امتلاك فلسطين والسيطرة عليها ، مع ذلك سنتناول المسألتين كلاً على حدة ذلك لان التفريق بينهما سهل، نظراً لأنه ليس هناك خارج نصوص التوراة، أية إشارة لروايات العهد القديم قبل القرن العاشر (قبل الميلاد)، لا في مدونات شعوب الشرق الأوسط، ولا في الحفريات الأثرية ، بل إن عالماً كالأب "ديفو" حرص على إنقاذ عراقة العهد القديم التاريخية، فقد اعترف كغيره من الناس بأنه ليس هناك خارج التوراة، "أية إشارة واضحة للعبريين وإقامتهم بمصر، وخروجهم منها.. ولا حتى غزو أرض كنعان".

ومن المشكوك فيه اكتشاف نصوص جديدة تبدد هذا الصمت ، أما "الوعد" بأرض فلسطين - في صورته الراهنة - فلم يظهر إلا في كتابات المنتفعين به ، وكان مفسرون آخرون طوال قرن من الزمان قد توصلوا أيضا إلى استنتاجات أكثر حسماً ، كما نلاحظ لاحقاً بصدد أسطورة "الوعد" في التوراة لدى الكثيرين من أمثال: فون راد. ونوث، وطومبسون، وفان سيتر، والبير دي بوري، وغيرهم…

 وأول ما يلاحظ دونما تسليم أو تفحص ناقد لصحة الأجزاء التاريخية من العهد القديم أن تاريخ العبريين - بدلاً من تشكيلة "محوراً" للتاريخ، كما تزعم نظرة الاستثناء التي تنادي بها الصهيونية السياسية وتساندها بعض التعاليم المسيحية - لا يبدو في أي وقت من الأوقات متميزاً عن تاريخ ممالك بلاد ما بين النهرين، والحثيين، والمصريين.

 وعند استعراضنا للمرحلة التاريخية التي تنوه إليها الوثائق المدونة نتبين ما يلي:

- العصر البرونزي القديم في الإلف الثالث ق.م، حيث ثبت وعلى الأخص بعد اكتشاف ألواح "ايبلا" عام 1976 وجود سابق في أرض كنعان لحضارة مدينة كبرى لدى الشعوب الناطقة بلغة العرب السامية: كالآرامية، ولغة كنعان التي يدعونها بـ"العبرية".

- ثم المرحلة الممتدة ما بين 2200 و 1900 ق.م. والمتميزة بتسلل البدو الرحل.

- والسيطرة المصرية اعتباراً من منتصف القرن السادس عشر ق.م. حينما جعل فراعنة الأسرة الثامنة عشرة من فلسطين "ثغراً مصرياً".

وهذه المنطقة الواقعة في قلب الهلال الخصيب، والممتد من النيل إلى الفرات عبرت فيها وتمازجت مجموعات بشرية من كل نوع ودين… إلى أن دخلها بدو أو رعاة في سبيلهم إلى الاستقرار ؛ بحثاً عن المراعي، قادمين من بلاد ما بين النهرين أو من شرقي الأردن، ليصلوا إلى أرض كنعان في بداية الألف الثاني، في العصر البرونزي القديم، وليجدوا بين سكانها الأصليين أولئك الكنعانيين الذين شادوا حضارة مدنية، وكشفوا، في نهاية الألف الثاني عن معدن الحديد والكتابة الأبجدية.

وخلافاً للصورة التوراتية التقليدية فان "العبرانيين" لم يشكلوا عنصراً متميزاً قبل دخول البدو أرض كنعان.. بل تشكلت تجمعاتهم من وحدات عرقية مختلفة، كانت جزءاً من هجرات بدوية واسعة (من الأموريين، او الآراميين، حسب قول الأب ديفو). وبين أولئك البدو الرحل استقر في أرض كنعان، فيما تابع الآخرون سيرهم إلى أرض مصر.

هؤلاء البدو - ومنهم الذين عرفوا فيما بعد العبرانيين - أخذوا عن الكنعانيين لغتهم وكتابتهم، ومعتقداتهم… حتى حوالى (1400) ق.م. حينما سعوا إلى مراع جديدة في مصر، مقتفين على الأرجح أثر الغزاة الهكسوس.

وعندما طرد الهكسوس من مصر تأزم موقف الذين جاؤوا بحمايتهم وتمتعوا بالتالي بوضع مميز.. إذ اعتبروا أعوانا للعدو، وتم إخضاعهم لأحوال معيشية ازدادت قسوتها مع الأيام.

وهؤلاء الأخصام الهامشيون الذين لم يكونوا يشكلون عرقاً معيناً، بل مجموعة من معارضي الفراعنة، عرفت باسم "عابيرو" (ومنه اشتق بلا شك اسم "العبريين" حسب رأي الأب ديفو) لم يروا بداً من الفرار من مصر ، ولا بد أن "خروج" هؤلاء الأتباع الساخطين كان مألوفاً وتافهاً إلى حد أن الحوليات المصرية قد أغفلت كلياً ذكر هذا "الحدث الجاري" ولو في تقرير لأحد حراس الحدود (بينما تتوفر تقارير كهذه عن حالات "مرور" عديدة منذ القرن 19 ق.م.)

إن عدد "المصادر" الوحيدة المتوفرة بين أيدينا خارج نصوص "العهد القديم" لا يتعدى عدد أصابع اليد الواحدة: فأقدم إشارة إلى اسم "إسرائيل" هي المدونة على مسلة (حوالى 1225 ق.م.) تمجد انتصارات الفرعون (مرنبتا). وتذكر دون تفاصيل أخرى أنه استولى على المدن الفلسطينية وهدم إسرائيل أيضا"إسرائيل دمرت، ولم يعد لساكنيها من وجود!..".

 كما يقول الأب ديفو في كتابه: "التاريخ القديم لإسرائيل" - الجزء الأول ص 366 - "لا يمكن أن يشمل "كل إسرائيل" ذات الاثنتي عشر قبيلة، التي لم تكن قد قامت بعد ، بل إنه يتعلق حتماً بجماعة محددة العدد".

كذلك هناك (400) لوح فخاري تتابع اكتشافها منذ عام 1887 في تل العمارنة العاصمة التي أنشأها الفرعون أمينوفيس الرابع (اخناتون: بين 1375 و1385 ق.م.) وتقدم لنا سجلاً لمراسلات الفرعون مع تابعيه من أمراء فلسطين وسورية… وهي تخلو من أي ذكر لإسرائيل، رغم أنها تحفل بمعلومات هامة عن دول المدن في أرض كنعان، وعن التنافس القائم فيما بينها... 

"تهويد القفز":

اسرائيل تعيد النظر في مكوّنات "هويتها اليهودية"(7)

مثّل تهجير يهود العالم واستقدامهم إلى فلسطين حجر الرحى في المشروع الاستعماري الصهيوني، وبقي هذا الهدف يحتل سلم أولويات برامج تنظيمات وجمعيات الحركة الصهيونية في نهايات القرن التاسع عشر، واستمر ذلك في النصف الأول من القرن العشرين، إلى أن أصبح سياسة رسمية معتمدة من كل الحكومات التي تداولت الحكم في اسرائيل، عملاً بما يسمى "قانون العودة اليهودي"، الذي ضمن في منطوق "إعلان قيام دولة اسرائيل" الصادر في مساء الرابع عشر من أيار/ مايو 1948.

ومنذ البداية حاول قادة الحركة الصهيونية إضفاء طابع أيديولوجي ـ ديني على عمليات تهجير اليهود. ورغم أن تأثير هذا العامل بقي محدوداً، إلا أن الدعاية الصهيونية بقيت تركز عليه، جاعلة في سياق دعايتها مجموعة المضايقات التميزية العنصرية التي تعرّض لها اليهود في أوروبا عموماً، والشرقية منها على وجه الخصوص، مجرّد دوافع ثانوية للتهجير، بل وأكثر من ذلك اعتبارها رد فعل طبيعياً على تميّز اليهود كعرق قومي قائم بذاته، وبأن حل هذا المشكل المركب ممكن فقط من خلال الاقرار بعدم إمكانية اندماج اليهود في مجتمعاتهم الأوروبية. وهذا وفر أرضية للتلاقي بين الأفكار العنصرية الأوروبية، التي كانت متفشية آنذاك، وبين أفكار الحركة الصهيونية السياسية، التي انطلقت من ذات القاعدة الفكرية القائمة على التعصب العنصري، ببنائها على الأساطير التوراتية، مطالبة بحلول سياسة تحقق حسب زعمها هدفاً مشتركاً، يخلص يهود أوروبا من الاضطهاد، ويخلص الأوروبيين من المشكلة اليهودية، عبر إقامة وطن قومي لهم في فلسطين، وذلك أخذاً بمقولات المنظرين العنصريين الأوروبيين، التي راجت في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، والداعية إلى قيام دول أوروبية قومية جديدة، أساسها وحدة سياسية مبنية على "الوحدة القومية والنقاء العرقي".

ويجب أن نلاحظ في السياق التاريخي لنجاح المشروع الصهيوني، بأن فكرة "إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين" جاءت تتويجاً لهزيمة الحركات العلمانية اليهودية الأوروبية، على يد تحالف الأرثوذكسية الحاخامية، ومنظري الحركة الصهيونية السياسية، في مواجهة حركة الأنوار اليهودية ـ الهاسكالا ـ وإصلاح الحاخامية، ولمنعها من أن تأخذ مداها، بعد أن تحوّلت حركة الأنوار اليهودية إلى راية للكفاح العلماني، منضوية في إطار الفكر العلماني، الذي بدا يجتاح أوروبا منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وأدى في النهاية إلى فصل الدين عن الدولة.

 

وإذا كانت هزيمة الحركات العلمانية اليهودية الأوروبية قد مكنت الصهيونية السياسية من احتلال سدة القيادة في التجمعات اليهودية، ومن ثم تحويل الحركة الصهيونية السياسية إلى جزء عضوي وفاعل في المشروع الاستعماري الرأسمالي الغربي، وعلى أن تكون الدولة "الخاصة باليهود" تحقيقاً لمبدأ الشراكة مع القوى الاستعمارية، وليس المنافسة، وتحديد دورها كتابع كولونيالي للمصالح الاستعمارية الأوروبية في المنطقة، إلا أن الحركة الصهيونية السياسية في جزء كبير من عقيدتها بقيت محكومة لتحالفها مع الأرثوذكسية الحاخامية، التي أرادت من تحالفها مع الحركة الصهيونية السياسية أن تمنع تفتت النظام الاجتماعي الحاخامي، بما يحافظ على الانعزالية اليهودية، حتى بعد "قيام دولة اسرائيل". وهذا الارتهان لعقيدة الأرثوذكسية الحاخامية بعد إنشائها، وبفعل تراكماتها بدأت تمس عصب المجتمع الاسرائيلي، وتمزق هويته التي سعى لبلورتها على مدار سبعة وخمسين عاماً.

إن مقولة المحافظة على "قداسة الشعب اليهودي" كأساس لازم لاستمرار الشريعة اليهودية، بما هي مبرر لولادة القومية اليهودية، كما يقول المنظر الصهيوني موريس هيس، أعطت المؤسسة الدينية الأرثوذكسية اليهودية حصراً الحق بتعريف من هو اليهودي، الذي تنطبق عليه شروط حق الهجرة إلى اسرائيل، والتمتع بحق المواطنة فيها حسب "قانون العودة اليهودي". وتعاملت المؤسسة الدينية الأرثوذكسية اليهودية مع هذه الصلاحية بانغلاق وتزمت شديدين، فنشأت من جرّاء ذلك أزمة هوية في المجتمع الاسرائيلي، عنوانها العائلات المختلطة التي لا تنطبق عليها صفة اليهودية. وتفجرت هذه الأزمة بشكل حاد مع موجات التهجير الكبرى ليهود دول الاتحاد السوفياتي السابق، عشية انهياره في العام 1990، ورغم ذلك بقيت المؤسسة الدينية الأرثوذكسية اليهودية متشبثة بأن أي "تهويد لا يجري على يد حاخامين أرثوذكسيين يهود في المحاكم الدينية في اسرائيل، لا يعتبر تهويداً شرعياً"، كون الحاخامية الأرثوذكسية هي وحدها المؤتمنة على "نقاء وتميّز الشعب اليهودي".

لكن الوضع الناشئ بفعل طبيعة تكوين المهجرين اليهود من دول الاتحاد السوفياتي المنحل، ربطاً بأعدادهم الكبيرة، جعل صلاحيات المؤسسة الحاخامية اليهودية موضع نقاش، وفتحت العديد من المعارك، لكنها انتهت كلها لصالح المؤسسة الحاخامية. ورغم تدخل محكمة العدل الاسرائيلية العليا، أعيد التأكيد في الكنيست الاسرائيلي في العام 1995 على "منح صلاحيات متفردة للمحاكم الحاخامية في ما يخص التهويد"، إلى أن جاء القرار الأخير الصادر عن محكمة العدل الاسرائيلية العليا في الثلاثين من آذار/ مارس 2005، والذي قضى بأن "تهويدات القفز" للمتهودين ممن تعلموا في اسرائيل، وتهودوا في الخارج سيعترف بها لغرض قانون العودة". وبهذا يصبح من حق المهجرين اليهود "الذين بدأوا دراسات التهويد في اسرائيل، أن يخرجوا لأيام معدودات إلى خارج اسرائيل، وأن يتموا مراسيم تهودهم من جماعة يهودية إصلاحية أو محافظة دون المرور بإجراءات التهود الأرثوذكسي".

تنبع أهمية قانون "تهويدات القفز" من كونه يشرّع عمل وكالات الهجرة الصهيونية في تركيز جهودها على "ذوي حق الهجرة"، وهذا المصطلح أوسع نطاقاً من تعريف المؤسسة الدينية اليهودية لمن يجب استهدافهم في مخططات التهجير الى "اسرائيل"، وينقل عمليات استقدام واستيعاب المهجرين الجديد من بعدها الديني ـ الاييديولوجي السابق الى بعد جديد.

ويستهدف القانون الجديد تحقيق عدة اهداف جملة واحدة: اولها اعادة تعريف من هو اليهودي الذي يجب ان تتوجه اليه عمليات التهجير؛ وثانيها كيفية الموائمة بين استمرار العمل بعمليات التهجير العشوائية التي تركز على الكم، انطلاقا من الحاجة الاسرائيلية، وبين هدف اسهام المهجرين الجدد في بناء دولة اسرائيل، وادماجهم في المجتمع كخطوة اولى؛ والثالثة المحافظة على اغلبية ديموغرافية يهودية لا تقل عن (80%) من سكان "اسرائيل"؛ والرابعة ايجاد مخرج مقبول لصراعات تناقض الحالة الداخلية "الاسرائيلية"، ومنع تحولها الى صراعات رئيسية، تضعف من حصانة المجتمع "الاسرائيلي" في صراعه الرئيسي مع الفلسطينيين والعرب.

ولكن هناك ثة سؤال يبقى دون اجابة ناجعة. فبعد اكثر من خمسين عاما على "قيام دولة اسرائيل" يثبت اليوم اكثر من اي وقت مضى بأن مسألة الاندماج في المجتمع "الاسرائيلي" ليست تعبيرا عن تعددية ثقافية، يمكن تجاوزها مع مرور الزمن، كما قدمتها السردية التاريخية الصهيونية، بل هي احد تعبيرات محاولة جسر الهوة بين مكونات تاريخ ممزق وملفق بشكل ارادي قسري. لذلك قد يبدو قانون "تهويد القفزة" مجرد محاولة متوهمة للقفز عن الانقسام الذي يولده التعدد العرقي والقومي، ليس فقط في التقسيم "الاسرائيلي" الرسمي الذي يقسم المجتمع" الاسرائيلي الى قوميتين، عربية ويهودية، بل وداخل مجتمع اليهود المهجرين،. وما بدأ يفرزه من تحولات عميقة، ادت في السياق الى تغييرات جوهرية في بنية النخب السياسية والمجتمعية "الاسرائيلية".

وفي سياق قراءة قانون "تهويدات القفزة" يجب الانتباه الى انه لا يعني ان "اسرائيل" خطت نحو العلمانية فيما يخص قانون الجنسية، بل يعيد محاولة قولبة مفهوم "الوحدة القومية والنقاء العرقي"، بما يدمج طالبي التهود من المهجرين الجدد في بنية المجتمع "الاسرائيلي"، دون ان يمس جوهرياً بمفهوم "العرق اليهودي المتوهم"، الذي يقول عنه ايلان ها ليفي بانه صفة من صفات العنصرية المعاصرة التي "تصوغ من جديد رطانة بيولوجية مزيفة، وعلم وراثة مزيف، وانتربولوجيا ـ علم الانسان ـ مزيفة الاولويات الاكثر بدائية لعدوانية الجماعة، للتمجيد الذاتي، وتخفيض قيمة الآخرين، ولاضفاء اسطورة الأنا المشتركة، وشيطنة الآخر".

وبالتالي فان قانون "تهويدات القفزة" يمثل عمليا اعادة ادلجة لعمليات التهجير والاستيعاب في المجتمع "الاسرائيلي"، تحقيقا لما يسمى الكتلة الديموغرافية اليهودية على ارض فلسطين التاريخية، بعد ان ثبت عدم امكانية تحقيق شعار "التركيز على النوع بدل الكم" الذي رفعته منظمات التهجير الصهيونية في ستينات القرن الماضي. وكما هو معروف فان الاساس الذي يقوم عليه "النوع" هو تحقق شروط المؤسسة الدينية اليهودية الارثوذكسية في طالبي حق التهجير الى "اسرائيل". وحسب معطيات دائرة الاحصاء المركزية "الاسرائيلية" فان نسبة المهجرين الجدد من اليهود ما زالت تشكل ما يقارب 50% من اجمالي عدد سكان "اسرائيل". وحسب نفس المصدر فان عدد المهجرين الروس بلغ (1.6) مليون مهجر، علما بأن اجمالي سكان "اسرائيل"، يبلغ 6 مليون نسمة، بمن فيهم فلسطينيو مناطق 1948.

وأهمية تظهير عدد المهجرين الروس مبعثها كون اشكالية التعريف والاستيعاب تدور حولهم. فمئات الالوف منهم لا تنطبق عليهم صفة اليهودي حسب تصنيفات "الارثوذكسية الحاخامية اليهودية"، في حين ان تجمع المهجرين الروس في "اسرائيل" بات يحتل مكانة مرموقة في المجتمع "الاسرائيلي". فهو ينتج ويستهلك (20%) من المنتج الاعلامي في "اسرائيل"، ومن بين المهجرين الروس هناك (16%) من اجمالي المهندسين والمختصين في العلوم التكنولوجية المتطورة، وعلوم الذرة والفيزياء والفضاء والرياضيات، و (20%) من الاطباء، و (30%) من خبراء البرمجة، وهو ما اعتبره د. اشر كوهين من جامعة بار بلان مؤشرا خطيرا على الصعيد الاجتماعي والسياسي "الاسرائيلي" يؤشر الى "ان اسرائيل قادمة على ان تكون دولة ثنائية القومية في السنوات العشر القادمة". وغني عن القول بأنه في مقولته لا يقصد العنصر الفلسطيني (فلسطينيي 1948)، بل يتجاهله تماما. ولعل المحذور الذي يظهره كوهين هو الذي دفع محكمة العدل العليا "الاسرائيلية" الى اتخاذ قرارها "بتهويد القفز".

بعيدا عن ردود الفعل الاسرائيلية المتناقضة التي آثارها هذا القرار، والتي وصلت الى حد وصفه من قبل البعض بأنه "انتقاص شديد من قيمة مفهوم اليهودي"، وبأنه نهاية "الهوية اليهودية"، فالقرار يمثل في جوهره اعادة نظر في مكونات "الهوية اليهودية"، وليس "الاسرائيلية"، بعد سنوات من فشل ايجاد قاسم مشترك بين اليهودية الارثوذكسية واليهودية الاصلاحية حول معايير تحديد من هو "اليهودي"، ومن هو صاحب الصلاحية في هذا التحديد.

وأخيرا يبدو ان الوقت ما زال مبكرا على مد الامور الى نهاياتها بالحديث عن "التهويدات العلمانية" كما يدعو الى ذلك يوسي بيلين. والخطير في الامر ان القرار شكل جديد من "تحديد عرقي" يكرس الفصل الصارم بين يهود وأغيار. والمتضرر الرئيسي منه هم فلسطينيو مناطق 1948، لانه يضعهم مرة أخرى لوحدهم في مواجهة سياسات استلاب الهوية والاضطهاد القومي، كمواطني درجة ثانية.

ان قرار (تهويد القفز) محاولة لتصالح "اسرائيل اليهودية"، مع ذاتها استعدادا للدور الجديد المرسوم لها، دون ان تسقط نهجها العدواني الاستيطاني التوسعي.

الإحياء الصهيوني المسيحي في أوروبا(8)

 الصهيونية المسيحية.. بين رؤى الدين وتوظيف السياسة

كانت أوروبا في القرنين (14 و15م) تموج بالكثير من "القلاقل والاضطرابات، وكان ذلك علامة لبداية انحدار ثقافة العصر الوسيط"؛ حيث طال الانحدار كافة المؤسسات والكيانات آنذاك. إلا أن الظاهرة التي كانت الأبرز في هذه الفترة هي ذلك التداخل بين السياسة والدين، أو بالأحرى "تدخل رجال الدين في السياسة، أو تدخل السلطة الزمنية في الدين"، الأمر الذي كانت له تداعيات كثيرة على أرض الواقع، وعليه كان للإصلاح الديني قبوله الاجتماعي في أوروبا، وربما لاستجابته لكثير من التطورات المجتمعية.

وهو ما جعل كثيرا من الباحثين يطرح السؤال: "أيهما صنع الآخر، هل الأفكار البروتستانتية هي التي أحدثت التحولات الاقتصادية أم أن التحولات الاقتصادية هي التي أنبتت الأفكار البروتستانتية؟".

وبغض النظر عن التفسير، ومهما كانت الإجابة، فإن القطعي هو أن المذهب الجديد جاء ليكسر سطوة الكنيسة الكاثوليكية ذات الطابع المركزي، ويستجيب للطبقات البرجوازية الصاعدة التي تريد التحرر من سطوة الكنيسة والتي لم تمنع من "زيادة سلطة الملكيات ودعمها.. فنجاح الإصلاح في ألمانيا كان يتوقف على نيل مساعدة الأمراء. وفي إنجلترا نفذ الإصلاح عن طريق سلطة هنري الثامن القريبة من المطلقة...".

وقد كان المدخل الرئيسي للإصلاح هو حرية الفرد -أو الطبقة الصاعدة- الذي فك ارتباطه بالكنيسة في أن يقوم بتفسير الكتاب المقدس بنفسه. فقد "ركز الإصلاح البروتستانتي في القرن (16م) تركيزًا شديدًا على الكتاب المقدس، وعده المرجع الأول في شئون الإيمان والعمل. فكان من جراء ذلك أن ظهر فيض من التفسيرات، ونشأت مقاربات إكليسيولوجية (كنسية) شتى. وفي خضم شيوع تأويل الكتاب المقدس بين الناس وإضعاف مركزية الكنيسة انفسح المجال واسعًا أمام نشوء البدع"، غير المقبولة مسيحيًّا.

وعلى الجانب اليهودي كانت حركة الإصلاح الديني "مصدر ارتياح لليهود الذين رأوا فيها حركة انقلابية منذ تعاليم أرساها القديس بولس ومن بعده أوغسطين اللذان أكدا أن شريعة بني إسرائيل سقطت بسقوط حامليها، وأن إسرائيل أمة زالت من الوجود مرة وإلى الأبد".

ويلاحظ أنه في نفس الوقت كان لـ"مارتن لوثر" موقف مؤيد لليهود في أوروبا عبّر عنه في كتابه الصادر عام (1523م) بعنوان "المسيح ولد يهوديًّا" ويبدو أنه في هذا الكتاب كان يأمل في ضم اليهود إلى المسيحية؛ حيث عبّر عن موقفه المناهض لهم بعد عشرين عامًا؛ أي في عام (1543م) في كتاب "اليهود وأكاذيبهم"، محرضًا الأمراء الألمان على اقتلاع اليهود وعزلهم ومصادرة ثرواتهم وطردهم إلى أرض كنعان من حيث جاءوا.. ويبدو أن لوثر قد ضاق بأمرين:

1. تمسك اليهود بمعتقدهم.

2. تمسك اليهودي بممارسة الربا الذي يجعله قادرًا على امتياز جزء من الثروة الألمانية القومية. الأمر الذي جعله يطالب بمصادرة الثروة التي نهبها اليهود من الأمة.

مولد الصهيونية الدينية

بيد أن حركة "الطهريون" Puritans وهي الحركة الأكثر تشددًا في الحركات البروتستانتية قد التزمت التفسير الحرفي المقدسي؛ حيث اعتبرت التوراة كلمة الله المعصومة. كما اعتبروا الأساطير والنبوءات العبرية تاريخًا، والشريعة الموسوية قانونًا، وعَمدوا أولادهم بأسماء عبرية، وقدسوا يوم السبت، وأدخلوا اللغة والأدب العبريين إلى المدارس، وأصبحت العبرية لغة القداس في الكنائس، وأدخلت في القداس نصوصا من التوراة؛ بل إن العبرية دخلت في نسيج الحياة اليومية للأمة.

وتعد عودة البروتستانت الطهريين البريطانيين إلى العهد القديم وإعادة توظيفه سياسيا خاصة فيما يتعلق باليهود بات بمثابة حاضنة ثقافية خرجت منها الصهيونية الدينية ثم الصهيونية السياسية.

لقد تماهى الطهريون مع الإسرائيليين القدامى، فوصفت بريطانيا في عهد كرومويل (1649-1658) "بإسرائيل البريطانية وصهيون الإنجليزية، ووصف الطهريون أنفسهم بأبناء إسرائيل وطالبوا منذ 1573 بجعل الشريعة الموسوية ملزمة للأمراء المسيحيين".

إن هذا التماهي الديني قابله تلاقٍ على المستوى الاقتصادي حيث يقول "ويبر": إن كلاً من اليهودية والبروتستانتية تقفان في صف الرأسمالية، الفرق هو "أن اليهودية وقفت إلى جانب الرأسمالية المغامرة متجهة نحو السياسة والمضاربة، وكانت تقاليدها هي تقاليد الرأسمالية المنبوذة. أما البروتستانتية الطهرية فقد تبنت تقاليد المشروع البرجوازي العقلاني والتنظيم العقلاني للعمل؛ حيث كان كرومويل قد فتح بلاده لرؤوس الأموال اليهودية.

وما أن حل القرن السابع عشر حتى أخذت ظاهرة "إحياء السامية" كما أسماها المؤرخ اليهودي "سيسيل روث" تفرض نفسها وتكتسب الاعتراف في الأوساط الرسمية والشعبية، وقد اتسمت هذه الظاهرة بمظاهر ثلاثة هي:

1. التعاطف مع اليهود.

2. الخجل مما عانوه في الماضي.

3. الأمل في تحقيق نبوءة عودة اليهود إلى فلسطين.

تأثيرات واتجاهات

وأدت موجة الإحياء للسامية في أوروبا إلى إحداث التأثيرات التالية:

1. إمكانية قبول التفسير اليهودي للعهد القديم، ولا سيما التفسير المتعلق بمستقبل استعادة اليهود لفلسطين.

2. إقناع طلبة الجامعات والباحثين بأن كلمة إسرائيل الواردة في العهد القديم تعني كل الجماعات اليهودية في العالم.

3. قبول التفسير بارتباط زمن نهاية العالم بعودة المسيح الثانية، وإن هذه العودة مرتبطة بمقدمة تشير إلى عودة اليهود إلى فلسطين.

على هذه الأرضية توالت كثير من الكتابات تدعو إلى عودة اليهود إلى فلسطين، ومنها البحث الذي وضعه السير هنري فنش (Henry Finch) المستشار القانوني لملك إنجلترا ونشره عام (1621م) بعنوان "الاستعادة العظمى العالمية The World’s Great Restoration " واعتبر أولى المشروعات الإنجليزية لاستعادة فلسطين لليهود؛ حيث طالب الأمراء المسيحيون بجمع قواهم لاستعادة إمبراطورية الأمة اليهودية.

في هذه الأجواء التي راجت فيها فكرة عودة اليهود إلى فلسطين، وبرزت فكرة أخرى مكملة لها مفادها أن هذه العودة "تمهد لمجيء المسيح الثاني الذي يندرج في سياق النظرة "الألفية" إلى المستقبل، والقائلة إن العالم كما نعرفه أشرف على النهاية، وإن ألفا من السنين سيبدأ بعد هذه النهاية".

وقد ارتبطت هذه الفكرة بصياغة علاقة لاهوتية مباشرة بتصور دولة يهودية حديثة تتميما لنبوءة الكتاب المقدس حيث يعود السيد المسيح إلى الأرض كملك لمدة ألف عام "الحكم الألفي" مقيدا إبليس. وقد صارت إنجلترا مركز هذه النزعة التي تزايد نفوذها مع مطلع القرن التاسع عشر.

هذا وقد ظهرت عدة اتجاهات حول فكرة الملك / الحكم الألفي وذلك كما يلي:

اتجاه عرف باسم "سابقو الألف" . Pre-Millennialism(مذهب السابقية)

اتجاه عرف باسم (لاحقو الألف) Post-Millennialism.

اتجاه التفسير الروحي.

يمكن القول بداية إن رفض هذه الفكرة هو ما استقرت عليه الكنيسة الشرقية وأغلب الكنائس الرئيسية في الغرب: الكاثوليكية والتيار الرئيسي للكنيسة الإنجيلية. حيث الربط بين إقامة دولة يهودية والتفسير الحرفي للنصوص والتفسير التاريخي للكتاب المقدس، وتمييز اليهود الذي يعيد فكرة أنهم المختارون والمدعوون، فالمسيحية فتحت الباب للجميع، والله لا يميز شعبا بعينه.

بيد أن الأخطر في الاتجاهات السابقة هو الأول أو ما عرف باتجاه "السابقية" أو سابقو الألف: "التدبيريون" أو"الحقبيون" أو"الدهريون" Dispensational/ Pre-Millennialism حيث يرى أتباع هذا الاتجاه "المسيحية كفرقة من الفرق اليهودية، ولذلك يخلطون بين ما هو يهودي وما هو مسيحي وبين الدين والأحداث السياسية"، وحاولوا قراءة التاريخ قراءة سياسية تاريخية وهم لا تعتبرهم الكنائس المسيحية الرئيسية "مسيحيون".

الصهيونية ذات التوظيف المسيي

على الأرضية السابقة برز تعبير "الصهيونية المسيحية"، وهنا تجدر الإشارة إلى الملاحظة الهامة للدكتور عبد الوهاب المسيري والتي نوافقه عليها، وهو أن "الصهيونية المسيحية مصطلح انتشر في اللغات الأوروبية وتسلل منها إلى اللغة العربية؛ حيث تتم ترجمة كل المصطلحات بأمانة شديدة وتبعية أشد دون إدراك مضامين المصطلح، ومن ثم فإننا لا نعرف إن كان هذا المصطلح يعبر عن موقفنا بالفعل وعن رؤيتنا للظاهرة أم لا؟.

والواقع أن مصطلح "الصهيونية المسيحية" يضفي على الصهيونية صبغة عالمية تربطها بالمسيحية ككل، وهو أمر مخالف تماما للواقع؛ إذ ليس هناك صهيونية مسيحية في الشرق؛ بل إن أوائل المعادين للصهيونية بين عرب فلسطين كانوا من العرب المسيحيين.. كما أن الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية تعارضان الصهيونية على أساس ديني مسيحي أيضا. ولذا، فإن مصطلح "الصهيونية المسيحية" غير علمي؛ نظرا لعموميته ومطلقيته.

ومن هنا، فإن الحديث يجري هنا، في هذه الموسوعة "عن الصهيونية ذات الديباجة المسيحية"، فهي صهيونية غير مسيحية بأي حال؛ بل صهيونية استمدت ديباجتها (عن طريق الحذف والانتقاء) من التراث المسيحي دون الالتزام بهذا التراث بكل قيمه وأبعاده".إنها اتجاهات توظف بعض الخارجين عن المسيحية في تقديرنا.

إن هذه الأفكار الصهيونية التي استعادت المفردات المسيحية والتقت مع البعض الذين التزموا التفسير الحرفي المتشدد وأعملوا التهويد خرجوا من عباءة "بعض المذاهب الإنجيلية والهيئات الأخرى ويطلق عليهم في الغرب "الإنجيليون Evangelicals بالإضافة إلى فرق تمسحت بالمسيحية ولا يعترف بأنها تنتمي إلى المسيحية من قبل الكنائس الكبرى والتيار الرئيسي للمسيحية البروتستانتية ومن هذه المذاهب شهود يهوه والسبتيون والمورون"

المسار للصهيونية المسيحية في أوروبا القرن الـ (19)

لاقت هذه الأفكار كثيرا من القبول مع مطلع القرن (19م) الذي "شهد حركة إحيائية، تستعيد الحركة الطهرية فتأسست في لندن عام (1807م) جمعية لنشر المسيحية بين اليهود، وعمل القس لويس واي Lewis Way، الذي أصبح عام (1809م) مديرا للجمعية على ترويج فكرة عودة اليهود إلى فلسطين تحقيقا للنبوءات" ولكن سرعان ما تحولت هذه الجمعية من دعوة اليهود إلى المسيحية إلى دعم الفكرة الصهيونية.

ويذكر أيضاً في هذا المجال هنري دراموند، عضو مجلس العموم البريطاني الذي تخلى عن عمله السياسي بعد زيارة الأرض المقدسة ونذر حياته لتعليم الأصولية المسيحية وعلاقتها بضرورة عودة اليهود إلى فلسطين.

انتقل الاهتمام الأوروبي باليهود إلى فرنسا؛ حيث انطلقت من هناك لأول مرة خطة لإقامة "كومونولث يهودي في فلسطين، مقابل القروض اليهودية للحكومة الفرنسية، ومساهمة اليهود في تمويل حملة نابليون بونابرت لاحتلال المشرق العربي بما فيه فلسطين". ويعد نابليون بونابرت هو أول رئيس دولة يقترح استعادة دولة يهودية في فلسطين.

وتوالت الدعوات السياسية والدينية في القرن الـ(19م) لتشجيع توطين اليهود في فلسطين؛ الأمر الذي ساهم في تهيئة الظروف والمناخ المناسبين لولادة الصهيونية اليهودية السياسية.

ويعتبر اللورد بالمرستون (1784-1865) وزير خارجية إنجلترا، ورئيس وزرائها فيما بعد، من أشد المتحمسين لتوطين اليهود في فلسطين.

التقط اللورد شافتسبري الذي كان يعد واحدا من القوى القيادية الكامنة وراء "جمعية نشر المسيحية بين صفوف اليهود"؛ حيث كان "صهيونيا مسيحيا (تجاوزا) جاء في الطليعة على صعيد استخدام حكومة دولته المسيحية في سبيل العمل على إيجاد دولة يهودية في فلسطين".

كان اللورد شافتسبري يؤمن بضرورة التنقيب عن آثار فلسطين للتدليل على صدق الكتاب المقدس وصحة ما ورد فيه، وقد تقدم على ما سبق في أثناء انعقاد مؤتمر لندن عام 1840 بمشروع إلى بالمرستون "لتوطين اليهود في فلسطين؛ لأنها في رأيه «أرض بغير شعب لشعب بلا أرض» ولم تكن مبادرة بالمرستون ودعوات اللورد شافتسبري مجرد صدفة، فقد جمعت هذه الاتجاهات الصهيونية ما بين السياسي (السلطة والقوة)، والمنبر الإعلامي (الرأي العام)، والتوراة التي كان يمثلها اللورد..".

كان شافتسبري يطلق على اليهود دائما تعبير «شعب الله القديم». وقد عمل جاهدا لإعادة اليهود إلى فلسطين؛ لأنهم مفتاح الخطة الإلهية لمجيء المسيح ثانية، والأداة التي من خلالها تتحقق النبوءة التوراتية.

واحتل شافتسبري مكانا بارزا في تاريخ الحركة الصهيونية (ذات الديباجة) المسيحية (أو ذات التوظيف المسيحي)، ورأى في "اليهود شيئا حيويا بالنسبة إلى أمل المسيحيين في الخلاص. وتحولت عودة اليهود إلى فلسطين في الوقت الملائم سياسيا، واستيطان اليهود في فلسطين إلى أمنية سياسية بالنسبة لإنجلترا".

ولا يخفى على القارئ للإستراتيجيات البريطانية الربط بين حصار مشروع محمد علي النهضوي والتوسعي وإعادة اليهود ليكونوا عقبة أمام أي مؤامرات شريرة مستقبلية من تدبير محمد علي أو خلفه.

بين التوراة.. والأطماع

لا يمكن في هذا المقام نسيان القس "وليم هنري هتشلر" ابن المبشر الذي عمل في السفارة البريطانية بفيينا، وكان "يحترم اليهود احتراما شبه أسطوري"، وكان من المؤيدين بحماس لتيودور هرتزل، وبذل كل ما لديه من أجل القضية الصهيونية لمدة تناهز الثلاثين سنة.

وقد كان مهندس وعد بلفور؛ الأمر الذي رحب به الذين ينتمون إلى اتجاه "السابقية" ومن الصهيونيين المسيحيين.

وهكذا صار توطين اليهود في فلسطين مسألة تداخلت فيها المعتقدات التوراتية والطموحات الإمبريالية السياسية والإستراتيجية، وعلى هذه القاعدة تعددت الدعوات الأوروبية التي التقت بالمخططات الصهيونية السياسية؛ خاصة بعد عقد المؤتمر الصهيوني الأول، ولم تتوقف المجموعات المسيحية التي نراها انحرفت عن المسيحية أن تدعم توطين اليهود في فلسطين واعتبارهم شعبا مختارا، وفلسطين هي أرضهم الموعودة.

الحصيلة النهائية لما سبق هي تبلور مجموعة من المفاهيم مثلت قاعدة فكرية وسياسية ودينية لمسيرة الصهيونية المسيحية، خاصة وقد بدأت تحتضنها القارة الجديدة -أي الولايات المتحدة الأمريكية- والتي ستمثل منعطفا مؤثرا بالنسبة لها، ويمكن إيجاز هذه الحصيلة في العناصر الآتية:

1-اليهود هم شعب الله المختار، وأنهم يكونون بذلك الأمة المفضلة على الأمم.

2-هناك "ميثاق (وعد) إلهي" يربط اليهود بالأرض المقدسة في فلسطين.

3-ربط الإيمان بعودة السيد المسيح بقيام دولة صهيون؛ أي بإعادة تجميع اليهود في فلسطين حتى يظهر المسيح فيهم.

نصوص توراتية مزوّرة.. أداة الصهيونية لتطويع اليهود(9)

الأبعاد الحقيقية للصهيونية

في منعطفات تاريخية تبرز حركات وظواهر سياسية وقومية ودينية ومذهبية واجتماعية معينة مشروطة بظروفها، ومحكومة، بهذا القدر أو ذاك بعلاقات اجتماعية تتناسب مع مرحلة ما من مراحل تطور البلدان والوضع الدولي الذي يحيط بها.

تستمد بعض هذه الحركات والظواهر أسباب صيرورتها وتكتسب مستلزمات ومقدمات ديمومتها من واقع اجتماعي ملموس. وتعبر تلك الحركات والظواهر بالضرورة عن مصالح طبقات وفئات وشرائح اجتماعية معينة، وتعكس في ظروف تاريخية مصالح أمة بكاملها، وتغلف هذه الحركات والظواهر حسب مستوي تطور هذا البلد أو ذاك، بصفات دينية أو عرقية، وقومية ــ قبائلية وغيرها وتكشف عن نهجها وتطلعاتها وأغراضها وتخوض الصراع بأساليبها وحسب قدراتها لبلوغ تلك المرامي والأغراض.

وبقدر ما تكون هذه الحركات والظواهر مستوعبة لمفاهيم الحرية والعدالة الاجتماعية وسنن التطور، وكلما كانت أدق تعبيراً أو أكثر افصاحا عن مصالح الشعب الطامح الي حياة خالية من الاضطهاد والاستغلال والظلم الاجتماعي فان الظفر يكون حليفها لأنها قائمة علي أسس عادلة ومرتكزة علي حرية الشعب من دون الانتقاص من حرية الشعوب الأخري.

ان ذاكرة التاريخ غنية بالعبر والتجارب الظافرة والمريرة معا. فثمة حركات وظواهر هلكت وتوارت الي غير رجعة لأنها كانت طارئة وغريبة تتشبث بالقديم البالي وعجزت عن مقاومة رياح الزمن، بيد ان بعض تلك الحركات والظواهر لا يترك الميدان طوعا بل عبر انهر من الدماء والحروب والنزاعات، فأين موقع الصهيونية من ذلك؟

لم تكن الصهيونية السياسية في يوم ما حركة قومية أو دينية، ومع انها ما انفكت تجتر الاساطير التوراتية والتلمودية فهي معادية للدين. وكانت وستبقي حركة سياسية ضارة ولدت ونمت في ظروف تاريخية معينة في احضان المرابين اليهود ومندمجة مع البيوتات المالية الكبيرة اليهودية وغير اليهودية في العالم.

عندما تبلورت الهوية السياسية للصهيونية في المؤتمر التأسيسي الأول للمنظمة الصهيونية العالمية عام 1897 في مدينة بازل بسويسرا غدا التصاقها أكثر بالمصالح الاستعمارية آنئذ، ومع انها تواصل اجترار خرافة الحق التوراتي الفلسطيني وترطن بغيبيات تلمودية وتتغني بتراتيل كهنوتية فذلك لغرض تغطية اغراضها السياسية ومواصلة عدوانها وممارساتها الدموية.

جسدت الصهيونية السياسية منذ بدايتها اسوأ ما في تقاليد المرابين اليهود والصيارفة المعاصرين من انتهازية ميكافيلية وتعطش شيلوكي الي دماء الآخرين، وما انفكت ترنو الي ماض سحيق مشوب بالغموض وتستنشق غبار الأزمنة الماضية وتنفخ في اجساد الجاليات اليهودية بكل ما في ترسانة الكره والحقد ازاء الغير، ومكرسة عزلة اليهود العاديين ومباركة اسوأ ما في التقاليد العتيقة وفارضة عليهم قوالب جامدة من التفكير وانماط الحياة المنغلقة مجسدة فيهم خرافات شعب الله المختار واعدة اياهم بـ أرض الميعاد ومحفزة فيهم روح الازدراء والغطرسة ازاء الشعوب الأخري ومسخ عقلياتهم وجعلهم غرباء في المجتمع.

ان واحدة من أكبر جرائم الصهيونية السياسية هي تلك التي ارتكبتها بحق اليهود العاديين كونهم بشرا مثل بقية الناس في العالم. فقد عبأت بعقولهم كل ترهات الماضي السحيق وقوقعتهم في عزلتهم وينظرون الي أنفسهم كغرباء علي البشرية.

عينيات توراتية

استطاعت الصهيونية السياسية بواسطة المنظمات الصهيونية العالمية تضليل الغالبية الساحقة من يهود العالم قبل تشكيل اسرائيل واثناءه وبعده. وينقسم اليهود في العالم ثلاثة اقسام، أولاٌ: قادة وزعماء المنظمات الصهيونية العالمية والاقليمية والمحلية المزروعة في معظم بلدان العالم حيث توجد الجاليات اليهودية، ضف اليهم قادة اسرائيل وقادة البنوك الكبري في العالم واصحاب الاحتكارات الاعلامية الكبري، وهؤلاء هم الذين يؤحجون ويحفزون اليهود علي الهجرة الي فلسطين ويغزون عقول اليهود باساطير الحنين الي صهيون و نقاء العنصر اليهودي و عبقرية اليهود الفذة و حقهم التاريخي الذي لا ينازع بأرض اسرائيل الكبري من الفرات الي النيل .

والقسم الثاني هو جمهور اليهود من العاملين والطلاب والاساتذة وأصحاب الدكاكين والحرفيين، وهم الأكثرية التي يستهدفها المشروع الصهيوني لصهينتها.

أما القسم الثالث فهم الأقلية من الصهاينة المتدينين المتقوقعين في دور العبادة والذين يرفضون الصهيونية السياسية، ويمكن تسمية هؤلاء بـ أهل الكتاب . علما ان الصهيونيين السياسيين وبخاصة من القسم الأول هم غير متدينين أصلاً.

بغية الكشف عن الافتراءات الصهيونية نورد هنا عينات من الفكر التوراتي الذي وظفه الصهاينة السياسيون في خدمة أغراضهم ولاعلاء شأن اليهود و حقهم في السيادة علي الشعوب الأخري .

وسواء كان النص التوراتي الذي استندنا اليه مزوراً أو أصيلاً فهو الكتاب المقدس، أي كتب العهد القديم والعهد الجديد، جمعيات الكتاب المقدس المتحدة لعام 1965 . وقبل الدخول في متون التوراة نشير الي ان التوراة قد زوّرت خمس مرات! ويذهب علماء آخرون الي أكثر من ذلك. لكن تعالوا نري المتون التوراتية:

يقول الرب (رب اليهود) موجها كلامه الي بني اسرائيل: ويقف الأجانب ويرعون غنمكم

ويكون بني الغريب حراثيكم وكراميكم.

اما انتم فتدعون كهنة الرب، تسمون

خدام الهنا، تأكلون ثروة الأمم،

وعلي مجدهم تتآمرون .

(سفر اشعيا 6/5/61).

فنحن العرب وغيرنا من الأمم نرعي غنهم ونحرث أرضهم ونعتني بكرومهم، اما هم فلا يكتفون بأكل ثروات الأمم بل ومن حقهم أن يتآمروا عليها!

ثم تقول التوراة: قومي ودوسي يا بنت صهيون،

لأني اجعل من قرنك حديدا واظلافك

اجعلها نحاسا فتسحقين شعوبا كثيرين

(سفر ميخا 12/4).

وقد طبق الصهاينة بابداعٍ وصايا ربهم في استخدام الفانتوم ودبابات مركباه والقنابل العنقودية والفوسفورية والاسطوانية والارتجاجية في حروبهم ضد العرب.

ويوضح لنا النص التوراتي الآتي همجية من نوع آخر فيقول: متي أتي بك الرب الهك الي الأرض التي انت

داخل اليها لتمتلكها وطرد شعوباً كثيرة من

أمامك، الحثيين والجرجاثيين والأموريين

والكنعانيين والفرزينيين والحويين واليبوسيين،

سبع شعوب أكثر وأعظم منك، ودفعهم الرب

الهك امامك وضربتهم، فانك تحرمهم، لا تقطع

لهم عهدا ولا تشفق عليهم ولا تصاهرهم. بنتك

لا تعطي لابنهم وبنتهم لا تؤخذ لابنك..

تهدمون مذابحهم وتكسرون انصابهم وتقطعون

سواريهم وتحرقون تماثيلهم بالنار، لانك انت

شعب مقدس للرب الهك، اياك قد اختار

الرب الهك لتكون له شعبا اخص من جميع

الشعوب الذين علي وجه الأرض .

(سفر التثنية 1/7 و2 ــ 3 ــ 4 ــ 5 ــ 6 ــ 7).

انني اسوق هذا الكلام الي المثقفين الأوروبيين الذين يتعاطفون مع اسرائيل ويعتبرون العرب ارهابيين ودونيين، ويحتجون عندما تحرق دكان يهودي في المكسيك أو ولاية اريزونا الامريكية، ولا يكلفون انفسهم مشقة الاطلاع علي الجذور الارهابية للصهاينة المستمدة من نسخة التوراة المزورة.

يقول الرب (رب اليهود):

اسمع يا اسرائيل، انت اليوم عابر الأردن

لكي تدخل وتملك شعوبا أكبر وأعظم منك

ومدنا عظيمة ومحصنة الي المساء، قوما

عظاما وطوالا بني عناق. فاعلم اليوم

ان الرب الهك هو العابر امامك فتطردهم

وتهلكهم سريعا .

(سفر التثنية 1/9 ــ 2 ــ 3 ــ 4).

وجاء في نص آخر: كل مكان تدوسه بطون اقدامكم يكون لكم.

من البرية لبنان، من النهر، نهر الفرات الي

البحر الغربي يكون تخمكم، لا يقف انسان

في وجهكم، الرب الهكم يجعل خشيتكم ورعبكم

علي كل الأرض التي تدوسونها .

(سفر التثنية 24/11 ــ 25).

ولنستمع الي موشي دايان في حديث لصحيفة لوموند الفرنسية بتاريخ 9 تموز (يوليو) عام 1969: علي الناس ان يدركوا ان سيناء ومرتفعات الجولان ومضايق تيران والتلال الممتدة غربي نهر الاردن هي في قلب التاريخ الاسرائيلي وان استعادة اسرائيل التاريخية لم تنته بعد .

نماذج من صراخ الصهاينة

اصدر الصهيوني غوتمان في مدينة فيلنو (فيلنوس الحالية عاصمة ليتوانيا) نداء باسم المنظمة الصهيونية في ليتوانيا سنة 1906 قال فيه: نحن بحاجة الي بلاد. هيا لنقذف القنابل اليدوية علي البرلمانات الأوروبية كافة! هيا لنعكر هدوء أوروبا أوروبا بأسرها! هيا لنسمم بشتي الوسائل حياة الشعوب كافة حتي تلبي مطالبنا .

وجاء في نداء آخر اصدره الصهاينة في كراس بعنوان الي البيت :

صرخوا بأعلي أصواتكم في الندوات والاجتماعات الدولية والاقليمية والمحلية! امسكوا اذيال الرئيس الأمريكي نيكسون، جروا الي القتال رئيس وزراء بريطانيا ويلسون، تربصوا ببابا روما، اسخطوا علي قادة الدول الافريقية النامية، اغروا اليابانيين والملاويين والتشيليين، ادعوا الجميع لمساعدتكم، الراغب منهم وغير الراغب، اصرخوا بكل ما لديكم من قوة، قاتلوا بكل ما لديكم من وسائل، بدءا بالرسائل الخالية من التوقيع وانتهاء بالأعمال المكشوفة، استخدموا وسائل الضغط الاقتصادي لتحقيق مآربنا الصهيونية !

لكن الصهاينة لم يكتفوا بذلك بل اصدروا نداءا آخر نشر في صحيفة روسكوين سلوفو أي الكلفة الروسية والتي تصدر باللغة الروسية في الولايات المتحدة وفرنسا، وصدر هذا الصراخ سنة 1973 بجهود الصهاينة الذين يسيطرون علي هذه الجريدة:

من الضروري زيادة الصراخ، الصراخ الحقيقي في كل ارجاء العالم، اصرخوا، تظاهروا، احتجوا، اكتبوا التحقيقات الصحفية، تكلموا بالاذاعات، أخرجوا الافلام السينمائية، انشروا كل ما يمكن نشره، بدوي أكثر وبغزارة أشد الآن، أجل الآن، اطرقوا الحديد طالما هو حار دفاعاً عن اسرائيل .

ونتناول الآن نوعا آخر من صراخ الصهاينة، نقلا عن كتاب غزو بلا سلاح للكاتب السوفياتي اليهودي المعروف بعدائه للصهيونية، وهو بيغون.

قال ادمونت روتشيلد المليونير الصهيوني الفرنسي: لولاي لما استطاع الصهاينة السير خطوة واحدة الي امام، ولولا الصهاينة لتوقفت اعمالي عند نقطة ميتة .

أما المنظر الصهيوني لانداو الذي عاش في فرنسا أيضا فقال:

ان شعار العداء للسامية هو أمضي سلاح بأيدي الصهاينة، وان هذا الشعار انقذنا من هزائم شنيعة .

ويأتي المنظر الصهيوني الآخر فلاديمر جابوتينسكي الذي ولد في الاتحاد السوفياتي ومات في اسرائيل ليكمل الصراخ بنغمة أخري حيث قال: ان اليهود لم يعرفوا الصراع الطبقي في تاريخهم وسوف لا يعترفون بقوانين الصراع الطبقي في المستقبل أيضا، انهم شعب فوق جميع الطبقات ودينهم فوق جميع الأديان .

وحذر الزعيم الصهيوني ناحوم سوكولوف من الفكر الاشتراكي فقال: ان الفكر الاشتراكي يشكل خطراً مميتاً علي الجاليات اليهودية وينبغي ابعاد اليهود عنه قدر الامكان .

واتحفتنا غولدا مائير رئيسة وزراء اسرائيل سابقا بقولها بُعيد حرب 1967: أنا لم أسمع بشعب اسمه الشعب الفلسطيني .

لكن مناحيم بيغن رئيس وزراء اسرائيل السابق افصح عن سيادة من نوع آخر فقال بعيد محاولة اغتيال رؤساء البلديات العربية في الضفة الغربية بسام الشكعة وكريم خلف فقال: في هذه المرة قطعنا أرجلهم وفي المرة القادمة سنقطع رؤوسهم .

ونختتم صراخ الصهاينة بما قاله بن غوريون عندما كان رئيسا لوزراء اسرائيل لا أخجل من الاعتراف بأنه لو كانت لديّ الامكانات لانتقيت عددا من الشباب الموهوبين والأوفياء لقضيتنا والمتوقدين بالرغبة لقضيتنا ولتغيير اخلاق اليهود وارسلتهم الي البلدان التي غرق فيها اليهود بالرضا الآثم عن النفس وتأقلموا فيها، ليصرخوا بهم: ايها اليهود القذرون ارحلوا الي فلسطين ــ اسرائيل والا قتلناكم واحرقنا بيوتكم!

عندئذ ستتخطي الهجرة عشرات الألوف وآلاف الألوف... .

اختلاط المنطق التوراتي بالعشوائية الصهيونية

يوظف الصهاينة نصوص التوراة لأغراضهم بغية ترسيخ الكيان الصهيوني علي اشلاء ملايين الفلسطينيين. ولا يتوقفون عند حدود معينة لتحقيق مآربهم. فقد وزع الصهاينة سنة 1968 في نيويورك منشورا بعنوان مستقبل اسرائيل والعالم ومما جاء فيه ان كتاب العهد القديم المقدس لم يتنبأ بالازمة التي نشهدها في الشرق الأوسط فحسب بل تنبأ أيضا بالانتصارات الاسرائيلية واحتلال القدس وصولا الي توقيت الاحداث. وان النص الوارد في سفر التكوين (18/15) يوضح وعد اسرائيل الممتد من نهر مصر الي نهر الفرات .

وأرفقت بالمنشور خرائط عن اسرائيل اليوم من السويس الي القنيطرة واسرائيل الغد من العريش الي جبال طوروس .

وقال الحاخام الاكبر لتل ابيب: ان فصل وصايا التوراة عن قيم استيطان البلد هو بمثابة فصل الروح عن الجسد .

وأضاف هذا الحاخام شلومو غورين: ان التوراة قد رسمت حدود اسرائيل من النيل الي الفرات (راجع هاتسوفيه 21 ــ 1 ــ 1972).

وعندما زار ليفي اشكول رئيس الحكومة الاسرائيلية الاسبق الولايات المتحدة سنة 1968 طلب من الرئيس الأمريكي جونسون حماية اسرائيل وحدودها. فرد الرئيس الامريكي قائلا: انك تطلب مني ان أحمي حدودكم، فأي حدود تريد مني حمايتها؟ (نيوزويك 22 ــ 1 ــ 1968).

ان أحداً لا يطلب من اليهودي العادي ترك معتقداته واعتناق ديانة اخري، انما الغرض هو الكشف عن التخبطات الصهيونية والتزويرات التي تمارسها وفضح المنطق الصهيوني الدموي وتبيان سادية وعشوائية الافكار الصهيونية المشحونة بنصوص توراتية غيبية.

ان الصهيونية زجت اليهودي العادي في نزاع أبدي ليس مع الفلسطينيين والعرب فحسب بل ومع البشرية كلها عبر شعار معاداة السامية.

واذ يجتر الصهاينة وبلجاجة مقرفة مزاعم ان دينهم أقدم الديانات السماوية فان الاكتشافات التاريخية والأبحاث العلمية تفند هذه المزاعم من أساسها، اذ ان الأساطير التي تضمنتها التوراة المزيف مسروقة ومحورة من ديانات وتقاليد شعوب أخري سبقتهم، ولا علاقة لها بربهم يهوة . فقد اشار فيردرك انجلس بهذا الصدد قائلا: ان ما يسمي بكتاب اليهود المقدس هو مجرد تدوينات محورة لنصوص التقاليد العربية العريقية الدينية والقبلية.. .

(ماركس، انجلس، المؤلفات الكاملة المجلد 28 ص 210 باللغة الروسية).

يؤكد انجلس هنا نقطة في غاية الأهمية هي ان كتبة التوراة قد سرقوا وحوروا نصوصا عربية قديمة (حتي في نسخة التوراة التي كانت متداولة في عهد ماركس وانجلس)، وان هذا الاكتشاف الكبير الذي حققه انجلس ليفقأ عيون جميع المنظرين الصهاينة الذين ما انفكوا يزورون الحقائق التاريخية بغية انكار الحق العربي التاريخي.

ولننظر الي مصدر آخر يدحض مزاعم الصهاينة في هذا السياق.

قال العالم جون ملنر في كتابه الذي طبع في مدينة (دوربي) سنة 1842، كما رواه الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه اظهار الحق ص 133: لقد اتفق أهل العلم علي ان نسخة التوراة الأصلية، أي توارة موسي وكذلك نسخ العهد القديم قد ضاعت في أيدي عسكر نبوخذ نصر. ولما فتح انثيوكس ملك ملوك الفرنج (اوروشيلم) احرق جميع نسخ العهد القديم وأمر بقتل كل من توجد عنده نسخة منه، فوجدها اليهود فرصة لكتابة التوراة من جديد ومسخوا توراة موسي مسخا فظيعا وكتبوها بهذه الصورة المليئة بالأساطير والاكاذيب التي بدأت الاكتشافات العلمية والآثارية تفضحها يوماً بعد يوم... (راجع احمد سوسة العرب واليهود في التاريخ ).

وفضلا عن المسخ الذي عملته يد المحرفين يشير الباحث س. هوك في كتابه اصول الديانات السامية القديمة : اننا الآن في وضع أكثر ملاءمة من أي وقت مضي لتوضيح علاقة العناصر الأساسية للديانة اليهودية بشبكة الشعائر الدينية التي كانت سائدة في البيئة السامية القديمة بوجهة نظر جديدة (المصدر السابق ص 186).

وأشار البروفيسور ووترمين في هذا الصدد فقال: لقد أصبح من المسلم به الآن ان جميع الاعياد اليهودية، ما عدا عيد الفصح، كانت بالأصل طقوسا دينية في كنعان وان شرح طريقة تطبيقها مأخوذ من الشرائع الكنعانية التي سبقت عهود اليهود (المصدر السابق ص 219).

وأجمع كثير من الباحثين علي ان الشرائع اليهودية هي كنعانية وبابلية الأصل. فقد أشار أولمستيد الخبير في تاريخ فلسطين القديم الي ان الكنعانيين وضعوا أول شريعة في شيكم (نابلس حاليا) التي كانت عاصمة الكنعانيين في فلسطين في تلك العصور ومركزها الديني القدس . (المصدر السابق ص 219). أي ان اليهود وجدوا شرائع جاهزة ومعدة.

ودعم هذه الآراء الاستاذ كوجنبرت فقال: لقد ثبت الآن ان دين العبرانيين (يعني اليهود) لا يمكن اعتباره قد نما من أفكارهم انما استقيت عناصره الجوهرية من آراء كانت متراكمة ومن معتقدات كانت شائعة بين الاقوام السامية في الشرق.. وان الوثائق القديمة تبرهن بلا شك علي ان انعزال الديانة اليهودية عن غيرها في الزمن القديم لم يكن سوي خرافة (المصدر السابق ص 220).

ويصل الباحث وول ديورانت الي النتيجة ذاتها فيقول: ان اساطير جزيرة العرب كانت المعين الغزير التي أخذت منه قصص الخلق والفواية والطوفان التي يرجع عهدها في تلك البلاد الي ثلاثة آلاف سنة أو نحوها قبل الميلاد، ولعل اليهود قد أخذوا بعضا من الأدب البابلي في اثناء سبيهم، ولكن الأرجح من هذا انهم أخذوها قبل ذلك العهد بزمن طويل من مصادر سامية وسومرية قديمة كانت منتشرة في جميع بلدان الشرق الادني (قصة الحضارة، ج 2 ص 368 ــ 370).

وردا علي مزاعم اليهود بأنهم شعب عبقري أشار الدكتور اسرائيل ولغنسون، وهو يهودي كما ترون: ان يهود بلاد العرب لم يظهروا شيئا من النبوغ والعبقرية مطلقا ولم تشتهر منهم شخصية واحدة في كل عصورها بالرقي الفكري (تاريخ اليهود في بلاد العرب، ص 12).

وأكد العلامة العراقي الجليل طه باقر: ان هيكل سليمان المشهور بني بموجب تصميم معبد كنعاني وكذلك يقال في زخرفته وتزويقه. وهكذا كانت قصور ملوكهم في أورشليم، وان كلمة هيكل اخذها اليهود من كلمة هيكال الكنعانية (مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، ج 2 ـ 300 ــ 301).

يتضح من هذا العرض المكثف لآراء العاملين في تاريخ الحضارات القديمة كم هي الاضرار التي ألحقها الصهاينة بالابحاث العلمية وكم هي كبيرة التشويهات التي أحدثوها في عقول الكثير من مثقفي أوروبا وغيرهم وحشروها في أدمغة اليهود العاديين ويواصلون اجترارها حتي الآن.

أين تكمن غرابة المنطق الصهيوني في المجتمع الانساني؟

يتحدث داس والسترون وأحزابهما من منظري الصهيونية عن أمة يهودية خالدة وعن نيل استقلالها الذي غاب منذ أربعة آلاف سنة وحصلت عليه سنة 1948 .

ان هؤلاء يرطنون بمنطق غريب وينبشون قبور داوود وسليمان. أي منطق هذا الذي يبحث عن أصل القبيلة اليهودية وتسليمها مفاتيح فلسطين واستباحة شعبها؟

أمن الجائز ان ننقب عن قبور القبائل اليهودية قبل أربعة آلاف سنة ونحيي عظامها وهي رميم؟ أمن الجائز ان نعيد ترتيب المجتمع الدولي المعاصر علي الأسس التي كانت قبل أربعة آلاف سنة؟ ألم تعترف التوراة ذاتها بوجود سبعة شعوب في فلسطين قبل وجود القبيلة اليهودية؟

وهم: الحثيون والجرحاشيون والاموريون والكنعانيون والفرزيون والحويون واليبوسيون، أي تلك الشعوب التي أمر يهوه بذبحها بنسائها وأطفالها وشيوخها وحتي بهائمها أهو الحنين الي رابية صهيون التي لا تمت إليهم بصلة؟.

...........................................................................

المصادر/

1- جان الشيخ / الحوار المتمدن

 2- أحمد عبدالحليم حسين/ موقع ديمقراطية شعبية

 3- موقع وزارة الخارجية الاسرائيلية

 4- صالح الشقباوي /  جريدة الصباح الفلسطينية

 5- وديع حداد  / منتديات صوت فلسطين

 6- روجيه جارودي / موقع نصرة ارض الاسراء

 7- عامر راشد/ جريدة المستقبل اللبنانية

 8- سمير مرقس /  موقع إسلام أون لاين

 9- رشيد رشدي/ جريدة الزمان العراقية

شبكة النبأ المعلوماتية-الاربعاء 19 آذار/2008 - 11/ربيع الاول/1429