مصطلحات ثقافية: الثقافة الإسلامية

الثقافة الإسلامية: Islamic culture

شبكة النبأ: يقول المفكر العلاّمة جودت سعيد: القرآن دستور، ولكنه يعطي دستوراً وثقافة بحسب ما نفهمه، ولكل جيل أن يستنبط منه دستوراً لحياته وأحكاماً تحقق العدل في كل عصر وعلى جميع المستويات، ولكن الذي حدث خلال التاريخ الإسلامي، أن الفكر الذي يعتمد الخوارق والمعجزات – والذي جاء الإسلام ليزيله ويحل محله السننية – عاد بشكل أو بآخر ليسيطر على العالم الإسلامي، إذ نجد في القرآن أن الحديث عن معجزات الأنبياء والخوارق كان سمة ما سبق. بينما كان الإسلام واضحاً في موقفه إزاء الخوارق.

وحينما كان القرشيون يسألون الرسول (ص) أن يأتيهم بالخوارق في موقفه إزاء الخوارق من قبله قائلين: (فليأتنا بآية كما أرسل الأولون) ومطالبين بإزالة الجبال أو تفجر الينابيع والأنهار في جزيرة العرب، أو يكون، معه كنز، أو ملك، كان الرسول (ص) يرد ببساطة متناهية (هل كنت إلا بشراً رسولاً)، ويبين لهم الرسول (ص) أن هذه دعوته، فإن استجابوا فإنما لأنفسهم، وإلا فإنه صابر. وإذ يلحون في الطلب، يرد القرآن عليهم: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب) فالإسلام جاء دعوة ضد الخوارق، ودعا نظام السننية لتغيير المجتمع بحوار يومي وكفاح دائب، ومواقفه معروفة لمن أراد أن يعرف، لقد استطاع الرسول (ص) أن يغير على أسس سنني، ولكننا كتبنا سيرته على أساس أنها سلسلة خوارق ومعجزات. وخطورة تصورنا هذا تكمن في أنه يثبطنا ويجعلنا عاجزين عن تجاوز أحكامنا اللاعلمية، لأنه يربط التغيير بالخوارق، وبنو البشر عاجزين عن الإتيان بالخارق، فلذلك لا يستطيعون التغيير، بينما عندما ننظر إلى التغيير على أنه سنني – كما وضح الإسلام – فيمكننا إعادة الرشد إلى الأمة.

ولما اتصل العالم الغربي بالثقافة الإسلامية، استطاع أن يفهم الثقافة الإسلامية بصرف النظر عن خوارقه ونقائصه، لم ينظر إليها في إطار القداسة أو الثبات، ولذلك كان الغربيون أحراراً في التفهم واستنباط العبر وخاصة في عدم الخضوع للاستعباد البشري، بينما هذا الخضوع عندنا نتائجه تفقأ العين، والثقافة التي تنتج شعوباً تتقبل مثل هذا الاستجداء والخضوع لرأي الفرد ثقافة ميتة مهما كانت الجذور طيبة. والغرب بعد أن كان عبداً لأباطرته وديكتاتوريته، استطاع أن يجتاز أزمته بالثورات سواء أكانت الفرنسية أو الإنجليزية أو الأمريكية، واستطاع الغربيون أن يعيدوا الرشد بالمعنى الإسلامي إلى حد مخالف لرأيه "أنظر مجلة الجديد العدد التاسع 1996".

يقول غازي التوبة: شكلت الثقافة الإسلامية عاملاً رئيسياً في استمرار وجود الأمة الإسلامية وفي تدعيم كيانها، وفي حمايتها من المخاطر الخارجية والداخلية، وفي أداء دورها الحضاري، فكيف تكونت هذه الثقافة الإسلامية؟ وماذا كان دورها في الماضي والحاضر؟

وأفرزت الثقافة الإسلامية علوماً متعددة نشأت حول عاملي بناء الأمة: القرآن والسنة من أجل تعميق فهمهما، وحفظ مبادئهما من أي اختلاط أو ضياع، وتقنين القواعد المساعدة على حسن استنباط الأحكام منهما، فمن العلوم التي أفرزتها الثقافة الإسلامية لحفظ القرآن الكريم وفهمه الفهم السليم: علم أسباب النزول، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم التفسير وعلم المكي والمدني، وعلم القراءات، وعلم الرسم العثماني... الخ، ومن العلوم التي أفرزتها لحفظ السنة الشريفة: علم الجرح والتعديل، وعلم مصطلح الحديث، وعلم الرواية والدراية، وكتب المسانيد والصحاح... الخ.

وامتد اهتمام الثقافة الإسلامية إلى اللغة العربية التي هي لغة القرآن ولغة النبي محمد (ص) فوجد علم النحو والصرف، وعلم البلاغة، وعلم فقه اللغة، وعلم البديع والبيان، ووجدت المعاجم لحفظ مفردات اللغة، كما ابتكرت الثقافة الإسلامية علم أصول الفقه الذي يعالج الخاص والعام، والمطلق والمقيد، ويحدد عناصر القياس... الخ.

ومما يؤكد رسوخ الثقافة الإسلامية في كيان المجتمع الإسلامي أن المنعطفين الكبيرين اللذين تعرض لهما كيان الأمة الثقافي وهما: دخول المنطق، ودخول التصوف، لم يمرا إلا بعد أن وضعت الثقافة الإسلامية عليهما بصمتها بصورة من الصور.

المنعطف الأول: دخول المنطق

أدخل الغزالي المنطق إلى البناء الثقافي الإسلامي بعد أن بينه بعناوين إسلامية، فأصبح يسمى القسطاس المستقيم، وأخذت البراهين أسماء إسلامية، فأصبح القياس الحملي يسمى ميزان التعادل، وأصبح القياس الشرطي المنفصل يسمى ميزان التلازم، والأهم من ذلك أن ما أخذه الغزالي من أرسطو هو الأقيسة المنطقية وليست فلسفته عن الكون والحياة والإنسان، وقد أراد أن يستبدل القياس المنطقي بالقياس الأصولي على أساس أن القياس الأصولي ظني في رأيه، في حين أن القياس المنطقي يقيني ويعطي علماً.

المنعطف الثاني: دخول التصوف

عمق المتصوفة مضمون العبادة عند المسلمين مقابل الفقهاء الذين قننوا صورة العبادة عندهم، وقد بنوا كيانهم على جوهر العبادات التي فرضها الإسلام: كالخوف والحب والرجاء والتعظيم والخضوع... الخ، وتميزت كل فرقة منهم باعتماد جانب من جوانب تلك العبادات، ففرقة تبني كيانها على الخوف من نار الله وعذابه، وأخرى تبنيه على حب الله، وثالثة يستغرقها الجوع من أجل الارتقاء في عبادة الله، ورابعة تركز على لوم الذات عند الوقوع في المعصية وتقريعها من أجل تصفية النفس... الخ.

لكن الأهم من ذلك هو أن المتصوفة أبقوا الجانب الفلسفي من التصوف والذي يقوم على اتحاد الإنسان بالله، أو حلول الله بالإنسان، أو اكتشاف الإنسان لوحدة الوجود والذي يتعارض مع التوحيد أبقوه في إطار الأسرار، وهي القاعدة التي أتبعها كل المتصوفة وتواصوا بها، وهي: "أن من يبيح السر الفلسفي يهدر دمه"، ليس من شك بأن هذا التصرف من الفرق المتصوفة أبقى جمهور المسلمين يتعاملون مع الجانب السلوكي من التصوف دون الجانب الفلسفي من جهة، وجعل التصوف يظهر وكأنه غير متعارض مع الثقافة الإسلامية عند المسلمين من جهة ثانية.

إذن لقد لعبت الثقافة الإسلامية دوراً مهماً في احتواء المنعطفات الكبرى التي تعرضت لها الأمة مما أدى إلى استمرار وجودها واستمرار فعلها الحضاري.

متعلقات

الثقافة الإسلامية وأهميتها(1)

 إذا كانت دراسة أي علم من العلوم تؤدي إلى ترقية مشاعر الفرد، وتنمي مداركه، وتفتح أحاسيسه وتصقل مواهبه ، وتزيد في حركته ونشاطه الفكري ، فيؤدي كل ذلك إلى إحداث تفاعل ذاتي داخل النفس التي تتلقى هذا العلم وتقوم بتلك الدراسة مما يجعلها تنطلق إلى آفاق جديدة، وتحصل على معارف وحقائق علمية لم تكن قد عرفتها من قبل.

إذا كان هذا كله يمكن أن يطبق على أي علم يتلقاه الإنسان، فكيف به إذا كان هذا العلم المتلقى وهذه الدراسة التي يقوم بها تتعلق بعلم وثيق الصلة بكيان الفرد وشخصيته الإسلامية، وماضيه المجيد، وتراثه التليد؟ كعلم الثقافة الإسلامية . هذه الثقافة التي هي في حقيقتها الصورة الحية للأمة المسلمة، فهي التي تحدد ملامح شخصيتها وبها قيام وجودها، وهي التي تضبط سيرها في الحياة. تلك الثقافة التي تستمد منها أسس عقيدتها وعناوين مبادئها التي تحرص على التحلي بها والمفاخرة بها بين الأمم، إن الثقافة الإسلامية هي التي تحدد نظام الحياة داخل المجتمع المسلم وتحث على التزامه وفيها تراث الأمة الذي تخشى عليه من الضياع والاندثار، وفكرها الذي تحب له الذيوع والانتشار .

من هذا كله برزت أهمية دراسة علم الثقافة الإسلامية، هذا العلم الذي هو أثير النفس المسلمة إذ به تتم الصلة بين كل جوانح الإنسان المسلم عقله وقلبه وفكره، وبه يربط المسلم بين ماضيه الزاهر وحاضره القلق، ومستقبله المنشود. إنه  في أقرب أهدافه الكثيرة يزود العقول بالحقائق الناصعة عن هذا الدين، وسط ضباب كثيف من أباطيل وشبه الخصوم، ويربى في المسلم ملكة النقد الصحيح التي تقوِّم المبادئ والنظم تقويماً صحيحاً وتجعل المسلم يميز في نزعات الفكر والسلوك بين الغث والسمين فيأخذ النافع الخير ويطرح الفاسد الضار. وعلى هذا إذا كانت سائر العلوم الأخرى يعتبر تحصيلها ضرباً من الاستزادة في المعارف، فتلك غاية تنحصر في حدود المعرفة العقلية البحتة، لكن علم الثقافة الإسلامية يتجاوز ذلك لينفذ إلى القلب فيحرك المشاعر كما تقدم ويفجر في روح المؤمن تلك الطاقة من المشاعر الفياضة التي تشده شداً قوياً إلى عقيدته، وتراث أمته، وتعمق فيه روح الولاء لأمته الرائدة التي أكرمها الله بهذه الرسالة الهادية .

وتتجلى تلك الأهمية للثقافة الإسلامية في الأمور التالية:

(1)  توضيح الأساسيات التي تقوم عليها الثقافة الإسلامية .

(2) تأثير الثقافة الإسلامية في العرب .

(3) تفاعل المسلم مع مبادئه وقيمه .

(4) بيان الازدهار الحضاري للأمة الإسلامية .

(5) بيان الأدواء التي حلت بالأمة الإسلامية .

(6) بيان دور الثقافة الإسلامية في العصر الحديث وما تقدمه للإنسان المعاصر.

وعلى ما تقدم فإننا نؤكد القول بأنه إن لم تقم دراسة الثقافة الإسلامية بشكل جاد ودقيق فسيكون ذلك سبباً في اهتزاز صورة الأمة في نظر الآخرين، بل سيمتد الأمر إلى أن تتخلى الأمة عمّا يميزها، ويزيل سماتها التي تتميز بها بين الأمم والثقافات الأخرى، فيجعلها تابعة بعد أن كانت قائدة، بل سيصل الأمر بالأمة إن لم تهتم بثقافتها وتتعلمها وتعلمها بالشكل الصحيح والدقيق إلى الاضمحلال ثم الزوال لا سمح الله، وهذه هي الكارثة التي تخشى كل أمة حية أن تحل بها.

إن الثقافة الإسلامية في حقيقتها لا تعني علماً بعينه من العلوم الإسلامية. ولكنها تعني علوم الإسلام كلها في عرض واضح وإيجاز بليغ ولذلك نقول إن الثقافة الإسلامية قد خلَّفت تراثاً ضخماً في مختلف فروع المعرفة على المسلم أن يكون ملماً بهذه المعارف التي كونتها وخلفتها الحياة الإسلامية على مدى قـرون عديدة ، والتي دبجت ضمن سلسلة من الكتب التي تتناول هذه المعارف في مجالات الدراسات الإنسانية أو العلمية عرضاً لهذه الثقافة أو إشادة بتأثيرها الحضاري.

مستقبل الثقافة الاسلامية على ارض الواقع(2) 

لا يوجد شيء ثابت في هذا العالم، كل شيء يتغير بسرعة كبيرة، والثابت الوحيد هو التغير، ففي غمرة المتغيرات في عالم اليوم لا يمكننا تحديد الثقافات بحدود ضابطة وإثبات عالميتها وتكاملها، لتيقننا أن مؤسسات كالدولة أو الأسرة وكذلك الطبقات الاجتماعية والعرقية قائمة في صيرورة إعادة تشكلها وبناء علاقاتها الجديدة، فلم تعد هذه وحدات مناسبة لتحليل العلاقة بين الثقافة والمجتمع، إذ لم تعد الثقافة السائدة اليوم تحتاج إليها، لا كمنتج لها ولا كمعبر عنها، لأنها ثقافة مندفعة نحو تجاوزه الهويات الاجتماعية.

إنها الثقافة المعولمة وهي الثقافة المفتتة، والأكثر من ذلك أنها مجال واسع للتشغيل وقابلة للتفرع بلا نهاية، إضافة إلى ذلك كله لها إمكانية إغراء الفرد - وهو مسترخ في بيته - بأن يختار من (المينيو) العالمي للثقافة ما يشاء في كل المجالات، مع إيهامه بأن ما يختاره هو ثقافة له، يمكنه أن يتميز بها، كما في برامج المسابقات والأسئلة الغبية التي من يجيب عليها يكافأ بجائزة أمام الجمهور مع تصفيق حار وبث مباشر على الفضائيات.

هكذا يجد الإنسان نفسه ومع الحركات الاجتماعية، في حضرة ثقافة سائدة بلا مثقفين، مجردة تعميماً أو تفتيتاً، تحمل أفكاراً بلا فكر دلالاتها معلقة، بلا مرجعية، ولأنها كذلك فهي يمكن أن تنشر مفاهيم مجتمع بلا بشر، ومجتمع مدني بلا مدنية، وحقوق إنسان بلا إنسانية.

هذه الثقافة التي فقدت أصولها الاجتماعية هي ثقافة العابر، هي أساساً ثقافة المتخيل، ثقافة غير الواقع الذي لم يعد فيه ربط ممكن بين الذات والموضوع.

هي ثقافة (الناس جميعاً) أي ثقافة لا أحد.

ولكن ثمة أمل في العقل الإنساني والذي يجب عليه حسم الأمور والبحث عن بديل أنسب لمركزية الثقافات ورد الاعتبار للعقل الإنساني وقدرته في الخروج من الأزمات.

والإنصاف يحملنا على الاعتراف بأن للإسلام وسطية مشهودة عل مرّ التاريخ والواقع دليل على ذلك حيث هو نظام قائم على العدل والمساواة في جميع أحكامه والثقافة الإسلامية لها مؤهلاتها العالمية للمركزية والمحورية التي تستطيع ضبط العقل والنفس والغرائز والشهوات وتحريض مواهب الإبداع في الإنسان.

والشاهد على ذلك في أرض الواقع الشعب العراقي وما جرى من الأحداث المتوالية على الشعب الصامد بل والمؤلمة في معظم الأحيان منذ ما قبل عهد صدام حسين وفي فترة صدام وما فعله بهذا الشعب من حرمانهم حتى من التعليم والتثقف وبعد ذلك الاجتياح الأمريكي البريطاني والذي كان توقعات العالم أن يحصل حروب أهلية وطائفية في العراق حيث كثرة الأحزاب والطوائف والأعراق ولكن الجذور الإسلامية والوعي الديني لذلك الشعب وقف حائلاً دون الفوضى والاضطرابات، بل وقف الشعب بجميع طوائفهم مع علمائهم وقفة عز وشموخ ونقاوة وكبرياء، ولم يلجأو للعنف مع كثرة المحرضات والأيادي الأجنبية والدسائس الاستعمارية لخلق حالة الخوف والاستهتار.

فهذه البقية من الثقافة الإسلامية لهذا الشعب العظيم قد أفادتهم في حفظ بلادهم من الطامعين وتماسك اللحمة الوطنية والأخوة الإنسانية فيما بينهم فعلى العلماء في العراق وخارجها وعلى المثقفين أن يعمقوا في دراسة هذه الثقافة وأن يواظبوا على نشرها وتنويعها واستخدام الأساليب الحديثة في سبيل عراق جديد، رائد في الثقافات وتنوعها مع احترام جميع الأطراف، ومن أهم خصائص الفكر الإسلامي: الجمع بين الثبات والتطوير.

والجمع بين المصلحتين الخاصة والعامة وكذلك الجمع بين المصالح المادية والحاجات الروحية فهذا المزيج كفيل بتغطية جميع حاجات الإنسان وحل كل مشاكله.

الثقافة الإسلامية(3)

خصائصها، تاريخها، مستقبلها..

إنه عنوان كتاب جديد صدر أخيرا عن (دار الإرشاد) اللبنانية للدكتور عبد الكريم عثمان المدرس بجامعة الرياض، ولا بأس أخي القارئ من أن تضع يدك في يدي لنسير معا  نرتاد آفاق هذا الكتاب، ونعيش مع مؤلفه لحظات هانئة، فلعلنا بذلك نعوض ما فاتنا من الاستماع إلى حديثه العذب، ونبراته القوية، ولفتاته البارعة، حيث تحدث في هذا الموضوع حديثا حيا على مدرج جامعة الرياض.

إن الحديث عن الثقافة الإسلامية حديث شيق وممتع وضروري، وذلك لما للثقافة من أثر كبير في حياتنا المعاصرة وخاصة بعد أن تعرضت ثقافتنا الإسلامية لأعنف هجوم فكري وغزو حضاري في تاريخها، ولقد صدر عدد من الكتب حول هذا الموضوع، فقد أصدر الأستاذ مالك بن نبي كتابا أسماه (مشكلة الثقافة)، كما صدر كتاب آخر عن مؤسسة فرانكلين الأمريكية بعنوان (الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة).

وهو يشتمل على عدة بحوث ألقيت في مؤتمر عقد بأمريكا في صيف سنة 1953واشتركت في الدعوة إليه جامعة برنستون ومكتبة الكونغرس. وهذا الكتاب يمثل حلقة من حلقات الغزو الفكري للثقافة الإسلامية، وهو تخطيط غير مباشر للمنحنيات والدروب التي ينبغي أن يسير فيها البحث الإسلامي والثقافة الإسلامية، وهو باختصار الشرك الذي وضعته الولايات المتحدة للفكر الإسلامي المعاصر، وهي تريد من ذلك إسلاما أمريكيا يصنع على عينها . أما كتاب الأستاذ مالك فهو ليس مقصورا على الثقافة الإسلامية، وإنما هو يبحث عن الثقافة بشكل عام وتدخل فيه الثقافة الإسلامية كما تدخل غيرها, وهو يريد دائما - على طريقته في كل بحوثه - أن يصل إلى قوانين عامة، وخطوط عريضة، وهو حين يتحدث عن الثقافة الإسلامية إنما يتحدث عنها في إطار الثقافة العالمية،  ولا شك أنه أول كتاب من نوعه في المكتبة العربية، وننصح المثقفين بالرجوع إليه، والإفادة منه.

أما كتاب الدكتور عبد الكريم عثمان (موضوع حديثنا) فهو أول كتاب من نوعه يتناول خصائص الثقافة الإسلامية، وتاريخها ومستقبلها، - وما أظن كتابا عالج هذه القضايا مجتمعة - ومن هنا تأتي أهمية الكتاب، فبالرغم من صغر حجمه، إلا أنه قد ألم بالخطوط الرئيسية لهذه القضايا الكبرى ووضعها في إطارها المناسب، وكنا نتمنى لو توسع الدكتور عبد الكريم في هذا البحث - الشاغر المكان في المكتبة الإسلامية - ولعل الله يهيئ له الوقت المناسب فيتحفنا بدراسة مستفيضة في الطبعة الثانية إن شاء الله.

يبدأ الدكتور عبد الكريم محاضرته بمقدمة يتحدث فيها عن أزمة العالم الإسلامي الناتجة من مواجهته للحضارة الغربية، وعن واجب المفكرين في هذه المرحلة التاريخية الحاسمة، "وإذا كانت المشكلة الرئيسية التي يعاني منها المسلمون تتمثل في أنهم لم يستطيعوا حتى الآن أن يضعوا أيديهم على أبعاد شخصيتهم وحقيقتها وأهدافها" فإن "واجب المفكر المسلم أن يحس هذه الأزمة ويحياها، فلا يصح أن تكون مساهمته في مجرد ذكرها والحديث عنها.. واهتمام المفكر في هذه الأزمة يجب أن يتوجه إلى المشاكل الأساسية في الكيان الفردي والاجتماعي مقدما الأهم على المهم, والمهم على الحقير التافه في السياسة والاقتصاد، في الاجتماع والثقافة. ولا شك في أن التعرف على الثقافة الإسلامية هو أول خطوة في طريقنا إلى تحديد أبعاد شخصية هذه الأمة، لوضع منهج للتفكير وخطة للعمل".

وبين يدي المحاضرة يقدم تعريفا لمصطلحات (الثقافة) و (الحضارة) و (المدنية) حيث يقصد (بالمدنية) الجانب المادي والمظهري من الحياة، ويقصد ب(الثقافة) ما يقابل المدينة من الناحية المعنوية في حياة الناس بما في ذلك ما يتصل بالروح والفكر والعقل والذوق والمشاعر وكل ما يتصل بتثقيف العقل والنفس. أما الحضارة بمفهومها الحديث فيعنى بها "الحصيلة الشاملة للمدنية والثقافة، وهي مجموع الحياة في صورها وأنماطها المادية والمعنوية".

أما خصائص الثقافة الإسلامية فهي: ربانية المصدر - عالمية الأفق والرسالة - شاملة - متوازنة - إيجابية فاعلة -.

فهي ربانية المصدر: (لأن تصورها مستمد من الله تلقاه الإنسان كاملا بخصائصه هذه ليتكيف به ويطبق مقتضياته في حياته..) وإذا كانت الثقافة المادية لا تهتم إلا بالأسباب القريبة، فإن الثقافة الإسلامية تهتم بغايات الأشياء وأصولها البعيدة، وهي تجمع بين الغايات والوسائل وبين العلم والإيمان، وكونها تستمد كيانها من مبادئ الدين، لا يعني تخليها عن العقل والعلم فاعتماد الثقافة الإسلامية عليهما واحتفاؤها بهما أمر لا يحتاج إلى بيان، فالدين أبدا ليس بديلا عن العلم والحضارة ولا عدوا لهما، وإنما هو إطار ومحور ومنهج لهما في حدود إطاره ومحوره الذي يحكم شؤون الحياة.

وهي: عالمية الأفق والرسالة، لأنها تنظر إلى الناس بمقياس واحد لا تفسده القومية أوالعنصرية، أو الجنس أو اللون، فالعقيدة هي الجنسية، والله وحده هو الغاية المثلى،  والقيمة الخالدة، والهدف الأسمى الذي يمكن أن تلتقي في رحابه الإنسانية أفرادا وجماعات.. وكان من نتيجة هذه النزعة أن الثقافة الإسلامية استطاعت أن تنتظم عباقرة الأمم جميعا، فهي تستطيع أن تفاخر بالنوابغ الذين أقاموا صرحها من جميع الشعوب والأمم.

ومن خصائص الثقافة الإسلامية الشمول والتوازن: الشمول الذي ينظر فيه إلى كل جوانب هذه الأطوار جميعا، وهذا الشمول هو الذي هيأ لها صمودا كبيرا أمام التحديات الفكرية الأخرى، والخصيصة الأخيرة للثقافة الإسلامية، وهي الإيجابية والفاعلية في علاقة الإنسان بالكون وهي في صميمها قوة دافعة إلى النمو المطرد، وانطلاق إلى الحركة، وتحقيق الذات في أسلوب نظيف. إن العمل والإيجابية صورة أخلاقية في الثقافة الإسلامية.

وبعد أن ينتهي المحاضر من حديثه عن خصائص الثقافة الإسلامية ينتقل لبيان آثار هذه الثقافة التي قدمت للفكر الإنساني كل جديد في كل جانب من جوانب نشاطه، ففي مجال المثل والقيم، دعت الثقافة الإسلامية إلى مثل جديدة تعتمد على الإيمان والحق والعدالة.. وهي تنبثق من نظرة الإسلام إلى الإنسان وتكريمه، وخلافته على الأرض، كما قدمت نظرة شاملة متوازنة إلى الكون وسننه، وإلى الإنسان وعمله ومسؤوليته.

وفي مجال العلاقات الاجتماعية، قدمت الثقافة الإسلامية فلسفة جديدة للروابط بين الفرد والأسرة والمجتمع.. فلسفة تقوم على تكافل هذه الحلقات جميعا وتوجيهها للعمل من أجل صالح الإنسانية.

وفي مفهوم الدولة وعلاقة الشعب بالحكمة وعلاقة الدول مع غيرها كان الفكر الإسلامي سابقا إلى تحديد هدف بعيد للدولة الفاضلة التي تحكم أمر الله في كل شؤونها، وتحرر الفرد من كل عبودية لغير الله.

وكان من آثار الثقافة الإسلامية أنها أعطت العرب والمسلمين عموما شخصية فكرية متميزة لم تكن لهم من قبل، حيث كانوا يفتقدون أهم ما يكون الأمة ويكمل شخصيتها شعورها بذاتها ويمنحها الثقة بنفسها ألا وهو الرسالة والعقيدة والفكر الموحد.

وكان من آثار هذه الثقافة في مجال الفكر والتقدم العلمي: أن ساهم المسلمون خلال القسم الأول من القرون الوسطي بما لم يساهم به شعب من الشعوب، وظلت اللغة العربية لغة العلوم والآداب والتقدم الفكري لمدة قرون في جميع أنحاء العالم المتمدن آنذاك، ولا شك أن لمبادئ الإسلام في الإيجابية والعمل أثرها في اصطباغ هذه المعارف بالصبغة العملية، ونستطيع أن نتصور كم تكون عليه حال العلوم والمعارف من النماء لو أن المفكرين المسلمين حافظوا على أصالة التوجيه الإسلامي ولم ينحرفوا عن النهج الصحيح إلى الاستغراق في جدل ونقاش فلسفي ومذهبي كان من نتيجته ضياع الطاقات الذهنية في غير ما جدوى.

ثم ينتقل المحاضر إلى الحديث عن التحديات التي جابهتها الثقافة الإسلامية فيبين أن الثقافة الإسلامية تعرضت مع نهاية العصر الأموي إلى حملات من الزندقة والإلحاد والتشكيك بعقيدة التوحيد، وخاض الناس فيما أمتنع عنه الصحابة والمسلمون من قبل ونشأ علم الكلام ودخل فيه شؤون كثيرة غير ضرورية، وأصبح الجدل نفسه غاية وهدفا بعد أن كان وسيلة لبيان الحق والدفاع عنه، وكان لابد من عودة الفكر الإسلامي إلى صفائه ونقائه وتميزه وكان للائمة ابن حنبل وابن تيمية الأثر الكبير في إعادة الأمور إلى نصابها، فقد تحمل الأول عنت السلطة وجبروتها، بينما جعل الثاني الاحتجاج بالقرآن الكريم والحديث النبوي أساسا للوصول إلى نفس الهدف.

ومن التحديات التي جابهتها الثقافة الإسلامية الغزو الفكري اليوناني حيث أصبحت الفلسفة اليونانية بدعة المثقفين في العصر العباسي، وبرز عدد من الذين يمثلون هذه الفلسفة ويدعون إلى الأستعاضه بها عن الفكر الأصيل، كالفارابي وابن سينا وابن رشد وابن طفيل، وكان طبيعيا أن يقف رجال الثقافة الإسلامية الأصيلة أمام هذا الغزو الجديد لإعادة النقاء إلى الفكر الإسلامي. وكان لابن تيمية وأمثاله جهاد أفضل في الدفاع عن وجه الثقافة الإسلامية الأصيل..

وبعد هذا البيان ينتقل المحاضر إلى الحديث عن تحديات الثقافة الغربية وحضارتها، فيبين أن الغزو الغربي هو أعظم تحد عرفته الثقافة الإسلامية على وجه العموم وقد أتخذ هذا الغزو شكلين: الغزو المسلح، والغزو الفكري. وكان الخطر من الغزو الفكري كامنا أولا: في طبيعة الثقافة الغربية واختلافها في معظم مبادئها عن الثقافة الإسلامية، وأنها كانت نتيجة الصراع بين العلم ورجال الدين. وقد تبنت فصل الدين عن الدولة في الحياة الاجتماعية والسياسية وتغلغلت روح الإلحاد والتحلل عن قيود الدين في أسلوب المفكرين وفي علومها وآدابها وفلسفتها.

ويمكن الخطر ثانيا في تبني الحضارة الغربية للمؤسسات التعليمية والثقافية التي تبث ثقافتها وتعمل في الوقت نفسه على إظهار الإسلام بما ليس هو على الحقيقة وطمس معالمه الصحيحة. وقد عمد المستشرقون في دراساتهم إلى إضعاف مثل الإسلام وقيمة العليا من جانب، وإثبات تفوق المثل الغربية وعظمتها من جانب آخر، وعملوا على إحياء حضارات ما قبل الإسلام، الحضارة الفرعونية ولغتها في مصر، والحضارة الآشورية ولغتها في العراق، والبربرية في أفريقيا الشمالية، والفينيقية في سواحل فلسطين وسوريا ولبنان.

ومن الوسائل العملية التي اتبعها المستشرقون ومن تأثر بهم من المسلمين والعرب في هذا الخصوص، ومن الدعوات التي مارسوا النشاط لها وترويجها:

1- القول ببشرية القرآن الكريم، وأنه ليس أكثر من تعبير عن انطباع البيئة العربية في نفس الرسول.

2- القرآن الكريم تعبير عن الحياة التي وجد الرسول فيها، وهو لا يصلح لزمن آخر. وقد تولى كبر هذه الدعوة في بلادنا طه حسين.

3- لغة القرآن الفصحى لا تساير حاجات العصر فلا بد من العامية والحروف اللاتينية.

4- الإسلام لم يطبق إلا فترة قصيرة لذا فهو لا يوافق التطور.

5- التخلف عن تنفيذ تعاليم الإسلام أمر تميله الضرورة تحت ضغط الظروف.

6- تطوير الإسلام ليتفق مع الحضارة الغربية.

7- البحث عن مواضع الضعف وإبرازها لأجل غاية دينية أو سياسية.

8- تجريد الفكر الإسلامي من كل أصالة.

وقد استطاع المستشرقون أن يحققوا كثيرا من الأهداف التي خططوا لها، وأثاروا في العالم الإسلامي شبهات حول الإسلام ونبي الإسلام والمصادر الاسلامية، وأحدثوا في نفوس بعض المسلمين يأسا من مستقبل الإسلام، ومقتا على حاضره، وسوء ظن بماضيه، ومما ساعد المستشرقين على الوصول إلى أهدافهم:

1- وجود عدد من المسلمين الذين تبنوا آراءهم ونفذوا خططهم.

2- جمود التفكير الإسلامي.

3- الضعف السياسي وفقدان الثقة.

4-         تحميل الإسلام مسؤولية التخلف.

5-         الأخذ بنظام التعليم الغربي الذي هو ظل لعقائد واضعية ونفسيتهم وغاياتهم، مع أن الثقافة الإسلامية والمدنية الغربية يقومان على فكرتين في الحياة متناقضتين تماما ولا يمكن أن يتفقا.

وإذا كان هذا هو غزو الثقافة الغربية والذي ما يزال قائما، فما هو موقف المفكرين في البلاد الإسلامية من هذا الغزو؟ هذا ما يجيب عليه المحاضر بقوله: نستطيع أن نميز عدة  اتجاهات:

1- أولها: يتخذ موقفا سلبيا من الحضارة الغربية ويرفضها شكلا وموضوعا.

2- ثانيهما: يدعو إلى التغريب وأخذها بخيرها وشرها.

3- ثالثها: يدعوا إلى التوفيق بينهما على حساب الإسلام والعمل على تطويره.

4- رابعها: يدعو إلى الاحتفاظ بالإسلام حسب القرآن والسنة والأخذ من الحضارة الغربية بما لا يتعارض مع الإسلام.

أما الاتجاه الأول فلا يستحق الوقوف عنده لأنه سوء تفسير للدين الذي يحث على استعمال العقل، والتفكير في الكون، واقتباس الصالح النافع، وإعداد القوة.

أما الاتجاه الثاني فهو موقف المستسلم للحضارة الغربية، المقلد لها، وقد مثل هذا الأتجاه مصطفى كمال في تركيا، ووجه كفاحه إلى محاربة الإسلام وإقامة المجتمع التركي على العلمانية وقطع كل صلة له بالإسلام وبالعربية. وفي الهند تحمس لاتجاه التغريب أحمد خان والمدرسة الفكرية التي أسسها والتي تدعو إلى تقليد الحضارة الغربية وأسسها المادية واقتباس العلوم العصرية بحذافيرها وعلى علاتها، وتفسير الإسلام والقرآن تفسيرا مطابقا لما وصلت إليه المدنية الحديثة في آخر القرن التاسع عشر المسيحي.

أما في مصر فقد كان الاتجاه إلى التغريب قويا ومتحمسا، ويمثل هذا الاتجاه كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) لطه حسين حيث يؤكد فيه أن صلة المصريين بأوروبا أكثر من صلتهم بالشرق، وأن الثقافة المصرية جزء من الثقافة الغربية الأوربية، وأن فترة الحكم الإسلامي كله لم تغير من الأمر شيئا. ونهضة مصر في نظرة امتداد لمصر الفرعونية "وأنا من أجل ذلك – يقول الدكتور طه – مؤمن بأن مصر الجديدة لن تبتكر ابتكارا، ولن تخترع اختراعا، ولن تقوم إلا على مصر القديمة لخالدة، ومن أجل هذا لا أحب أن نفكر في مستقبل الثقافة في مصر إلا على ضوء ما ضيها البعيد - الفرعوني - وحاضرها القريب" ثم يقول:  "فأما الآن وقد عرفنا تاريخها، وأحسسنا أنفسنا، واستشعرتا القوة والكرامة، واستيقنا أن ليس بيننا وبين الأوربيين فرق في الجوهر، ولا في الطبع، ولا في المزاج، فإني لا أخاف على المصريين أن يفنوا في الأوربيين".

أما الاتجاه الثالث وهو اتجاه تطوير الإسلام والتوفيق بينه وبين الثقافة الغربية، فإنه يرى أن صالح الثقافة والمجتمعات الإسلامية في التطوير كيما يوافق الإسلام الأمر الواقع في الحياة العصرية.. وخطر هذا الاتجاه يأتي من وجهين: فهو إفساد للإسلام يشوش قيمة ومفاهيمة الأصلية بإدخال الزيف على الصحيح وإثبات الدخيل الغريب وتأكيده، أما الوجه الآخر فهو أن هذا التطوير سينتهي بالمسلمين إلى الفرقة التي لا اجتماع بعدها، لأن كل جماعة منهم سوف تذهب مذهبا يخالف غيرها من الجماعات ومع توالي الأيام نجد ثقافة إسلامية تركية وهندية وإيرانية وعربية.. وقد استدرج الشيخ محمد عبده لهذا الاتجاه، كما كان من دعاته فيما بعد قاسم أمين الذي تبنى العمل على تطوير وضع المرأة والعلاقات الاجتماعية عموما، وعلي عبد الرزاق وسعد زغلول اللذان تبنيا الدعوة إلى الوطنية والقومية والعناية بالتاريخ الفرعوني، والأخذ بالنظام السياسي الغربي على أساس أن الإسلام دين لا حكم.

أما الاتجاه الأخير الذي اتجه إليه المسلمون في تحدي الثقافة الغربية لهم فهو ذلك الذي يواجه الحضارة الغربية مواجهة الواثق بنفسه المتمكن مما عنده من إمكانات وطاقات، فهو يميز بين الثقافة كمذهب ورأي وروح تتميز به الأمة عن غيرها، وبين شؤون الحضارة والعمران والمدنية، ويدعو إلى إيجاد تيار قوي يواجه الحضارة الغربية بشجاعة وإيمان.. هذا الاتجاه يأخذ الإسلام عقيدة وعبادة ونظام حياة، في الوقت الذي يأخذ فيه من الغرب: الآلات والوسائل الفنية - إلى أمد - ويعامل الحضارة الغربية كمادة خام يستفاد منها للخير أو الشر.

وقد ظهر هذا الاتجاه في عدد من البلاد الإسلامية: ففي الهند ندوة العلماء التي أعلنت عن أهدافها بعبارات محددة  "إحداث فكر جديد يجمع بين محاسن القديم والجديد، بين القديم الصالح والجديد النافع، بين التصلب في الأصول والغايات والمرونة في الفروع والآلات". وفي باكستان تحدد الجماعة الإسلامية أهدافها على النحو التالي: "عبادة الله وعدم الإشراك به - إخلاص الدين لله، وتزكية النفس من شوائب النفاق، والأعمال من التناقض - إحداث إصلاح عام في أصول الحكم الحاضر، وانتزاع الإمامة الفكرية من الطواغيت والكفرة والفجرة ليأخذها رجال لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا".

وفي السعودية فقد بدأت الحركة الإصلاحية الإسلامية بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وملخص ما دعا إليه ابن عبد الوهاب العودة إلى الدين الصحيح، ونبذ البدع والخرافات وكل ما هو دخيل على الإسلام والفكر الإسلامي، والاستقاء من معين الإسلام الصافي: القرآن، والسنة وعلم السلف الصالح. ومن الحركات التي نحت هذا المنحى في الدعوة إلى الاحتفاظ بالإسلام وثقافته وشخصيته الأمة الإسلامية مستقلة متميزة الحركة السنوسية في ليبيا، وجمعية العلماء الجزائريين في الجزائر وزعيمها عبد الحميد بن باديس ثم الشيخ الإبراهيمي من بعده، التي استطاعت عن طريق مدارسها المختلفة أن تحافظ على ثقافة الشعب الجزائري الأصيلة وارتباطه بالإسلام والعروبة.

أما في إندونيسيا فإن أبرز الجماعات الداعية إلى هذا الاتجاه جماعة دار الإسلام، وفي تركية نجد الحركة النورية التي أسسها الشيخ سعيد النورسي رحمه الله.

  ومن هذه الحركات أيضا جماعة الإخوان المسلمين التي تشمل البلاد العربية بلا استثناء، والتي تعد أوسع حركة إسلامية شاملة عرفها المسلمون في العصر الحديث.

ولقد اشترك الكثيرون من المفكرين المسلمين من أصحاب هذا الاتجاه في نقد الثقافة الغربية، وإعادة الثقة بالثقافة الإسلامية ومنابعها الأصلية، وقد تركت مؤلفات حسن البنا، وسيد قطب، وأبو الأعلى المودودي، ومالك بن نبي، وعلي سامي النشار، والأمير شكيب أرسلان، وأبو الحسن الندوي، ومحمد البهي، والدكتور محمد محمد حسين، ومصطفى صادق الرافعي، ومحمد الخضر حسي،ن ومصطفى السباعي أثرا كبيرا، وأوجدت تيارا قوي الثقة بالنفس بعد أن وصل فقدان المسلمين الثقة بأنفسهم ومظاهر شخصيتهم حدا مخجلا جعل الدكتور طه حسين يعتذر عن بدء محاضرة له في اللغة والأدب بحمد الله والصلاة على نبيه قائلا: "سيضحك   مني بعض الحاضرين إذا سمعني ابدأ المحاضرة بحمد الله والصلاة على نبيه لأن ذلك يخالف عادة العصر".

ثم ينتقل المحاضر للحديث عن مستقبل الثقافة الإسلامية ليقرر أن مستقبلها يتصل بأمور ثلاثة:

طبيعة الإسلام الذي يعطى هذه الثقافة طابعها المميز - طبيعة الثقافة ذاتها وقدرتها على البقاء والنمو - وجود الحاجة إليها أو فقدانها.

أما طبيعة الإسلام فنحن المسلمين نعتقد أن القرآن باق أبد الدهر، وإذن فالمعين دائم ثر لا ينضب، وقد أثبت الإسلام قدرته على البقاء في مختلف الظروف.

أما عن طبيعة الثقافة المنبثقة عنه، فقد علمنا أنها ثقافة شاملة متكاملة، وأقرب الثقافات إلى البقاء والصمود ما كان كذلك. أما عن الحاجة إلى هذه الثقافة فنحن نعتقد أنها متجددة على الدوام، وذلك في نطاق العرب والمسلمين والإنسانية جمعاء، فالعرب والمسلمون دون الإسلام مفرقون ضائعون فاقدون لكل مقومات الحياة، وهم بالإسلام أمة واحدة وكيان قوي واثق من نفسه شاعر بعظم الرسالة التي يحملها وأفضليتها، وقد يصبحون القوة الأولى في العالم إذا أدركوا قيمة رسالتهم. ولا تقل حاجة الإنسانية للإسلام عن حاجة العرب والمسلمين، لأن الحضارة الغربية تخلت عن المثل والقيم وأصبحت الآلة وسيلة إضرار وانقلب الإنسان إلى وحش كبير.  

الثقافة الإسلامية والمجتمع الفلسطيني(4)

بداية لا بدّ من التعرف على معنى الثقافة في اللغة وفي الاصطلاح كي نحدد الاتجاه الصحيح لسيرنا في البحث الذي نحن بصدده.

 الثقافة في اللغة: 

يقال: ثقف فلان ثقفا: صار حاذقا فطنا، وثقف العلم والصناعة: حَذَقهما، وثقف الشيء: أدركه وفي التنزيل العزيز: ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم )

وثقف الشيء: أقام المعوج منه وسواه .

ويقال: تثقّف على فلان، وتثقّف في مدرسة كذا بمعنى أخذ الثقافة عن فلان.

( أنظر : المعجم الوسيط مادة : ( ثَقِفَ)

فمعنى الثقافة في اللغة تدور حول: الحذق والفطنة والإدراك والتحصيل وإقامة المعوج.

أما الثقافة في الاصطلاح: فهي العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذق فيها . 

الثقافة الإسلامية:

مما سبق نستطيع تعريف الثقافة الإسلامية بأنها: الحصيلة العلمية والفكرية الناتجة عن دراسة وفهم النصوص الشّرعية المتعلقة بالعقيدة والشّريعة والأخلاق الإسلامية. 

المسلمون في فلسطين هم الأغلبية السُّكانية :

يشكل المسلمون الغالبية العظمى في المجتمع الفلسطيني وهذا بدوره يؤثر تأثيرا ايجابيا وبصورة مباشرة على الثقافة ويجعلها تنحو نحو الثقافة الإسلامية بشكل طبيعي تناغما مع الغالبية التي تدين بالإسلام. 

فلسطين ورياح التغيير: 

لفلسطين وضع خاص يجعلها أكثر عرضة من غيرها لهبوب الرياح المتقلبة فهي تعاني من ظرف استعماري استيطاني، والأطماع فيها كثيرة والصراع عليها مرير، مما يجعلها عرضة للغزو من قبل ثقافات متعددة ومتنوعة تنازع الثقافة الإسلامية الأصيلة بشكل مباشر وغير مباشر.  

بعض مرتكزات وأساسيات الثقافة الإسلامية الشائعة:

هناك مسلّمات وأمور ثقافية شائعة عند غالبية المسلمين، ومنهم المسلم الفلسطيني، قد علمت من الدين بالضرورة يحسن التذكير ببعضها لاستحالة استعراضها كاملة أو شبه كاملة فمنها على سبيل المثال لا الحصر:

1ـ احترام الغير على اختلاف الأديان والألوان والأشكال؛ لقول الله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[1]

وضرورة التعاون مع الآخر على البر والتقوى والخير وكل ما هو نافع ، والاستفادة من كل البشر في كل ما هو نافع؛ لقول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[2]، ويقول النبي r: (الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها كان أحق الناس بها)[3]

والمسلم بطبعه دائم الاستشعار بفداحة إثم الظلم والإيذاء وبخاصة ظلم الذمي والمستأمن بشكل عام ففي الحديث النبوي الشريف: ( من آذى ذمياً فقد آذاني ) 

2ـ طلب العلم فريضة شرعية في كل الأوقات وفي كل الأحوال؛ لقول النبي r: (طلب العلم فريضة على كل مسلم )[4] ، والإسلام يأبى على المسلم أن يكون كالببغاء أو كالوعاء الأجوف يوضع فيه كل شيء دون أن يعلم كل صغيرة وكبيرة عن أي شيء يعتقده أو يتلقاه ففي محكم التنزيل يقول جل وعلى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)[5]، إنه الاعتقاد المبني على العلم والقناعة لا على الجهل والإكراه . 

3ـ استشعار الرقابة الإلهية التي تقتضي الالتزام بالعمل الصالح والقول النافع البعيد عن الإثم والمخالفة الشرعية قال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[6], ومن الشائع في الثقافة العربية والإسلامية أن كل من يحيد عن الصواب سرعان ما يقال له : إتق الله . 

4ـ احترام المرأة والحذر من ظلمها أو الجناية عليها وتسميتها: (حرمة) لما لعرضها من الحرمة والصيانة، والتركيز عل أنها جنس ناعم وضعيف يحتاج إلى المناصرة والحماية والحفظ قال تعالى: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ)[7], ولقد مات النبيr وهو يوصي بالنساء خيراً وعاش طيلة حياته يدفع عن المرأة الظلم والإجحاف الذي لحق بها عبر القرون وعبر المفاهيم الجاهلية فالنساء شقائق الرجال والمرأة لها حقها الكامل في الميراث الشرعي (وحرمانها من الميراث ما هو إلا من الثقافة النفعية الطمعية الجاهلية البعيدة عن أحكام الشريعة الإسلامية )

والمرأة في الإسلام لها ذمتها المالية المستقلة ولها كيانها المحترم البعيد عن الانتقاص أو التجريح أو الحرمان، والأدلة على ذلك أكثر من أن تذكر وأعظم من أن تنكر.  

5ـ تقوم ثقافة الفرد والمجتمع على احتقار من يجاهر بالمعاصي أو يتمسك بها ويصر على اقترافها: كالزاني وشارب الخمر والكذاب والمنافق والخائن والغاش والمغتاب والنمام .. 

6ـ من الأساسيات التي تقوم عليها الثقافة الفردية والمجتمعية في العالم الإسلامي وعلى رأسه فلسطين نصرة المظلوم والوقوف معه ضد الظالم، وإجارة من يستجير، وقبول ما يعرف بالطنيب يقال: فلان أطنب على فلان كي يحميه وينصره أو أطنب على عشيرة كذا وهذا من باب العمل بحديث النبي r: (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما، قالوا: ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ؟ قال: أن ترده عن ظلمه)[8]. 

عوامل ترسيخ وتنمية الثقافة الإسلامية في المجتمع الفلسطيني :

1ـ ممارسة الشعائر الدينية الإسلامية وبخاصة سماع خطبة الجمعة بشكل دائم ؛ فمن المعلوم أنّ الصلاة والزكاة والحج تتكرر ويحتاج المسلم إلى تعلمها وإلى تطبيقها وممارستها ومعايشتها مما يتيح ثقافة عالية في هذا الجانب لدى الذين يملكون القدرة على التعلم والتفقه واستخلاص الثقافة الواعية والحاذقة والسليمة من الدخن وسوء الفهم .

أما فيما يتعلق بخطبة الجمعة فإنها تعد المنبر الأهم والرافد الأغزر للثقافة الإسلامية إذا واظب المسلم على حضورها وأنصت لها وكانت في مسجد له خطيبه المفوه والمثقف والعالم بأحكام دينه وصاحب البصيرة في الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة والمعايش للواقع الداخلي والعربي والإسلامي والدولي. 

2ـ التعليم الديني الإسلامي في المساجد وفي المراكز الإسلامية وفي المدارس الثانوية الشرعية والمعاهد والكليات الجامعية؛ فمن المعلوم أن التخصص في علوم الدين يتيح المزيد من نهل الثقافة الإسلامية من معدنها ومصدرها الأصيل عن طريق التفرغ لذلك ، مع ضرورة تعزيز هذه الثقافة ولو بالقليل من ثقافة العصر المتنوعة والمتعددة ، ومع ضرورة الأخذ بالتكنولوجية المعاصرة، ومن فضل الله أن كثيرا من المسلمين االمتخصصين في العلوم الشرعية قد استطاعوا تسخير الحاسوب والإنترنت في تسهيل الوصل إلى الآية والحديث من مصادرها وكذلك الفتوى وغيرها من العلوم التي تصب في إنجاز ما يحتاجه المسلم في دقائق معدودة ، فهناك CD في التفسير والحديث والسير والفتاوى فأصبح CD بدينار يغنيك عن مكتبة بأكملها  .

3ـ الأحزاب والحركات الدينية الإسلامية: للأحزاب والحركات الإسلامية أثرها الملموس في ثقافة أفرادها بشكل واسع في غالبية الحالات, فمن الملاحظ أنّ أيديولوجية الحزب أو الحركة وتوجه الحزب والحركة وأفكارها تصبغ الأتباع بصبغة ثقافية محدّدة تكون في غالبية الأحيان تتمتع بالديناميكية (الحركة والنمو) وفي بعض الحالات الحصول على ثقافة وأفكار معينة غير قابلة للنمو وكثيراً ما كانت تصطدم محاولات الإصلاح في الحركات أو الأحزاب بشيء من الاتهامات والرفض وذلك من المنتسبين للحركات والأحزاب وأحياناً يتم فصلهم أو يفصلون هم أنفسهم .

  وعلى أية حالة فإن لكل حزب أو حركة إسلامية الثقافة التي تميزه عن غيره حيث يمكنك التعرف على هوية الشخص في كثير من الأحيان من خلال حديثه ونقاشه والكلمات التي يردّدها وأحياناً من خلال ملابسه، ومن أراد الخروج بثقافة شرعية متكاملة فعليه أن يأخذ بمجموع الثقافات الحزبية والحركية لأن كل حركة أو حزب يغلب عليه التركيز والاهتمام بجانب محدد أكثر من غيره، فحزب التحرير مثلا يغلب عليه التركيز على موضوع الخلافة بالدرجة الأولى والتحليل السياسي والتوقعات، وحركة الأخوان يغلب عليها التركيز على الحاكمية لله تعالى والتربية، والجماعة السلفية يغلب عليها التركيز على جانب الفهم السديد للعقيدة السليمة ونبذ الخرافات والبدع والولاء والبراء، وحركة حماس والجهاد الإسلامي تركزان على جانب الجهاد في سبيل الله لطرد المحتل كأولوية مطلقة في هذا الظرف الراهن، والحركات الصوفية ليس لها ثقافة ايجابية تذكر ويغلب عليها الجانب السلبي ولا تركز إلا على جانب الدروشة والخلوة والبعد عن الجهاد وترك السياسة.  

4ـ القراءة الدائمة للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وكتب الدين بشكل عام، فالمسلم يعلم أنَّ القراءة في كتاب الله تعالى عبادة لقول النبي r: اقرءوا القرآن فإن لكم بكل حرف حسنة ..، وكذلك حفظ الأحاديث وتعلمها ونقلها للناس؛ لقول النبي r: (نضّر الله امرءا سمع مقالتي فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع) [9] حديث متواتر، والتفقه في دين الله دليل الخيرية وفي الحديث: (من يرد الله به خيرا يفقه في الدين)[10]. 

عوامل إضعاف الثقافة الإسلامية:

1ـ علمانية القانون

علمانية القانون فيها اعتداء على شرع رب العالمين الذي جاء ليكون مهيمناً وحاكماً وفاعلاً, بينما الحكم بالقانون المستورد والبعيد عن روح الشريعة ودراسة هذا القانون والعمل به يؤدي إلى اضمحلال الثقافة الإسلامية في هذا الجانب ونمو الثقافة القانونية البديلة أو التي يراد لها فعلاً أن تكون البديلة .

فعندما كان الحكم بشريعة الله والقاضي الشرعي هو الوحيد والعمل كان بشرعة الله تعالى كانت ثقافة المجتمع (الفلسطيني وغيره) هي الثقافة الغالبة والمهيمنة في جانب القانون المعمول به, وعندما غابت شمس الشريعة في هذا الجانب الهام من جوانب الحياة والذي هو كفر وظلم وفسق.

قال تعالى:

* ((إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ))[11] .

وقال جلّ في علاه :

*((وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))[12]

وفي محكم التنزيل:

*((وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ))[13]

ومتى كان الأمر كذلك وكان الجهل بالثقافة في هذا الجانب وكانت الثقافة والمعرفة في القانون الآخر: الإنجليزية, الفرنسي, الهولندي   وهذا في حد ذاته إعتداء سواء سميناه بذلك أم لا ؟ 

2 ـ علمانية التعليم

التعليم في كل المراحل ينحو نحو العلمانية ويهدف إلى إبعاد الثقافة الإسلامية كثقافة مهيمنة عميقة فالمناهج في غالبيتها يراد لها أن تكون مقطوعة العلاقة بالثقافة الإسلامية والصبغة الشرعية الإسلامية تحت ذريعة مرفوضة وهي أن يقال ما علاقة التاريخ أو الجغرافيا أو العلوم .... بالدين الإسلامي؟ يكفي مادة الثقافة الإسلامية التي تدرّس في المدارس .

 

      وفي اعتقادي أنّ هذا فيه جناية على الإسلام الذي لا يفرّق بين مادة وأخرى فالشريعة الإسلامية يجب أن تكون واضحة الأثر في كل ما يشكّل عقلية وثقافة الجيل وكيف لا والكون هو قرآن الله المفتوح، والقرآن الكريم هو قرآن الله المقروء والإنسان هو خلق الله الذي سخر له ما في السماوات والأرض والعلاقة مع الكون هي علاقة انسجام لا علاقة عداء وتصادم، فالكون مسخر والإنسان ليس هو قاهر الطبيعة كما يقولون وإنما هو المستفيد من المخلوقات الأخرى التي سخرت له . 

3 ـ علمانية الإعلام

الإعلام في غالبيته علماني وبعيد عن روح الشريعة الإسلامية ويؤدي دوراً تغريبياً ومفسداً ومضاداً للشريعة الإسلامية في غالب الحالات .

والإعلام ينهج بخطوات حثيثة نهج الغرب أحياناً بدوافع خبيثة ومقصودة وأحياناً بهدف الربح المادي غير المنضبط بضوابط دينية أو أخلاقية .

والإعلامي المسلم لا يقبل منه الحيادية لأنها غير متوفرة في غير المسلمين وخروج المسلم عن التقيد بأحكام دينه وعن الدفاع عنه بحجة التجرّد والحيادية قد يأخذ بيده ويلقيه خارج الدين فالخبر الذي فيه إساءة للمسلمين ولدينهم وفيه كذب وافتراء لا يجوز للصحفي المسلم أن ينقله كما هو وإلا كان متعاوناً على الإثم والعدوان وموال لأعداء الإسلام ومروجاً للثقافة المعادية التي تحط من قدر الدين الإسلامي وترفع من شأن الآخرين على حساب الدين .

4 ـ الأحزاب والحركات العلمانية : وما قلناه عن الحركات والأحزاب الإسلامية في تأثيرها الثقافي ينطبق على الحركات والأحزاب العلمانية والوطنية ولكن بشكل أقل  , لأن المجتمع الفلسطيني بطبيعته مجتمع يضرب بجذوره عميقاً في الفكر والتراث والثقافة الإسلامية والذي كان سبباً مباشراً في حماية المجتمع من الذوبان وضياع الهوية .

    وعلى أية حال فإن العاقل لا يستطيع أن ينكر أثر الحركات والأحزاب العلمانية (اللادينية) على ثقافة المجتمع الفلسطيني من حيث الأفكار والكلمات السلبية في غالبيتها والإيجابية في نطاق ضيّق وكذلك نمط الحياة والعادات والتقاليد.

    ومن الجدير ذكره أنّ هذه الثقافة في كثير من الأحيان تأخذ طابع العداء للثقافة الإسلامية إما علانية وإما بشكر مبطن, لأنها تحاول أن تكون هي الثقافة البديلة للثقافة الإسلامية (عند بعض الأحزاب كحزب الشعب الشيوعي سابقاً) وبعض الأحزاب والحركات الأخرى.

5ـ وجود غير المسلمين في المجتمع من يهود ونصارى. هناك نوع من تفشي الثقافة المسيحية في بعض مناحي الحياة الثقافية في المجتمع الفلسطيني فعلى سبيل المثال لا الحصر:

*خميس البيض: يصبغ البيض بعدّة ألوان ويوزع على الأطفال.

*وعيد الصليب: إذ يقال صلب الرّمان والليمون وغير ذلك ......   .

*الأربعين: على وفاة الميت والأسبوع والسنة (وبدع الجنائز) .

*الأعياد: عيد الميلاد – ورأس السنة .

*ثقافة التبرّج والعري – (الغرب والشرق)  .

*خروج المرأة بغير إذن زوجها وتسكعها في الشوارع من غير حاجة .

*ثقافة الاختلاط والخلوة وسفر المرأة بغير محرم . 

كما أنّ تقليد الصهيوني المحتل في ألفاظه وحركاته وبعض عاداته قد غزت بعض الفلسطينيين وغدت جزءاً من حياة بعضهم، وبخاصة من يجاورونهم ويعملون معهم من زمن بعيد، ولا أنفي أن بعض اليهود قد أخذوا بالثقافة الفلسطينية في بعض العادات والتقاليد والألفاظ نتيجة العشرة الطويلة إلى حد ما.  

7ـ طغيان ثقافة المحتل وتقليد المغلوب للغالب كما نقل ابن خلدون وغيره. 

8ـ تعدد أشكال ودول الاستعمار على أرض فلسطين.  

مستقبل الثقافة الإسلامية في فلسطين

لا يوجد أدنى خوف على الثقافة الإسلامية فالمستقبل لها رغم كل المعوقات والصّارفات وذلك أنَّ الله تعالى قد تكفل بحفظ القرآن (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[14], والدلائل كلها تشير إلى تنامي وازدهار الثقافة الإسلامية، ومما لا شك فيه أنّ أرض فلسطين هي أرض الخلافة القادمة؛ لقول الرسول r: (إذا نزلت الخلافة بالأرض المقدسة فانتظر الساعة).

ولا يخفى أنَّ أرض فلسطين هي أرض القداسة: (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)[15] وأرض البركة: (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)[16]، وهي الأرض التي تشد إليها الرحال: (لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى )[17], وهذه مبشرات بدوام الإسلام وببروزه الدائم على هذه الأرض وعلى غيرها: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[18] وإظهار الدين يستلزم بالضرورة ظهور الثقافة الإسلامية.

والثقافة الإسلامية:

     ثقافة متوازنة وأصيلة وتنسجم مع الفطرة السليمة ولو أتيح لها أن تُعرض على الناس دون معوقات لكانت هي الأقدر على التغلغل والتفشي بسهولة فائقة ولكن العداء التقليدي لها من قبل الغير ومحاولة تشويها بشكل متعمد هو الذي يؤدي إلى نوع من صراع الثقافات المتوهم والمزعوم مع الثقافات والذي وراءه هم المتعصبون من اليهود ومن حذا حذوهم من تلامذتهم من بعض المسيحيين وغيرهم.

    ونستطيع أن نحافظ على الثقافة الإسلامية بصورتها المشرقة من خلال القراءة في كتب العلم الشرعي, والإنفتاح المنضبط على الثقافات الأخرى, ومن خلال الاعتزاز بالشخصية العربية الإسلامية المنتمية لدين الإسلام انتماءً مبنياً على العلم والوعي لا على مجرد الوراثة لعادات وتقاليد الآباء والأجداد.

      وفي إعتقادي أن الضربة القاضية التي تقصم ظهر الأمة تأتي من خلال اهتزاز ثقتها بنفسها, ومن خلال شكها في قدراتها وبموروثاتها, ونحن على أرض فلسطين يجب أن نبقى نروّج لثقافة السلام القائم على الحق والعدل مع مواكبة البناء والإعداد النفسي والجسدي والعلمي (لشبابنا بالدرجة الأولى ولبقية أفراد المجتمع)، حتى نستطيع أن نحافظ على نوع من القوة الذاتية التي تجعل الخصم والمعتدي لا يستهين بملكاتنا وقدراتنا ويتخوف من مواصلة الصراع معنا .

      ويجب أن لا تختفي ثقافة الصبر والقوة والجهاد والنضال والبطولة تحت أية ذريعة كانت؛ لأن اختفاءها يطمس وجود الأمة بأكملها ويجعلها قطعاناً من الغنم وهذا بفضل الله لن يكون .

[1] سورة الإسراء آيه 70

[2] سورة المائدة آيه 2

[3] سنن الترمذي/ العلم

[4] إبن ماجة/المقدمة

[5] سورة محمد آية 19

[6] سورة ق آية18

[7]  سورة الزخرف 18

[8] صحيح البخاري /المظالم والغصب

[9]  الترمذي /العلم

[10]  صحيح البخاري/العلم

[11]  سورة المائدة آيه  44

[12]  سورة المائدة آيه 45

[13] سورة المائدة  آية 47

[14] سورة الحجر آيه 9

[15] سورة المائدة  آيه21

[16] سورة الإسراء آيه 1

[17] سنن النسائي/كتاب المساجد

[18] سورة التوبة آيه 33

 

مفهوم الثقافة الإسلامية(5)

مفهوم الثقافة الإسلامية[1]

نشأ مصطلح الثقافة الإسلامية في العصر الحديث، ومر بتطورات فرضت واقعها على المفهوم. هذا الواقع أنتج اتجاهات؛ كل واحد منها صاغ مفهوما يعكس تصوره للثقافة الإسلامية. ومن أوائل من كتب في هذا الموضوع د.رجب سعيد شهوان في كتاب بعنوان "دراسات في الثقافة الإسلامية"، وقد حاول هو ومن شاركه في التأليف التنظير لمفهوم الثقافة الإسلامية بطريقة أقرب إلى التجريدية منها إلى الواقعية من الناحية الإجرائية التي انطلقوا منها في تعريف الثقافة الإسلامية، فعلى سبيل المثال قاموا باستنباط ثلاثة اتجاهات لواقع الثقافة الإسلامية وهذا شيء جيد، ولكن يلحظ أن تعريف الثقافة الإسلامية لكل اتجاه لم يصدر عن أصحاب الاتجاه نفسه، بل يبدو من تشابه صياغة التعريفات في كل الاتجاهات أن واضعه واحد أو مجموعة، حاولت أن تتمثل كل اتجاه، وتضع له تعريفا، والمنهج العلمي يقتضي أن يضع التعريف المتخصص في الفن نفسه، المدرك لجوهره، والملم بأبعاده وموضوعاته...الخ؛ حتى يخرج التعريف جامعا مانعا؛ لذا أجد أن بعض التعريفات لم ترق إلى المستوى الذي يعرف بالاتجاه تعريفاً دقيقاً.

الاتجاهات في تعريف الثقافة الإسلامية[2]:

ذكر د. رجب سعيد شهوان ثلاثة اتجاهات في تعريف الثقافة الإسلامية وهي:

الاتجاه الأول: يرى أن الثقافة الإسلامية مصطلح يعبر عن حياة الأمة الإسلامية، وهويتها الدينية والحضارية، وقد عرفت الثقافة الإسلامية على هذا الأساس بأنها: "معرفة مقومات الأمة الإسلامية العامة، بتفاعلاتها في الماضي والحاضر؛ من دين، ولغة، وتاريخ، وحضارة، وقيم، وأهداف مشتركة".

الاتجاه الثاني: يرى أن الثقافة الإسلامية مصطلح يعبر عن مجموع العلوم الإسلامية الصرفة أو الشرعية، وقد عرفت الثقافة الإسلامية على هذا الأساس بأنها: "معرفة مقومات الدين الإسلامي، بتفاعلاتها في الماضي والحاضر والمصادر التي استقيت منها هذه المقومات".

الاتجاه الثالث: يرى أن الثقافة الإسلامية مصطلح يعبر عن علم جديد، يضاف إلى العلوم الإسلامية، وهو علم ظهر نتيجة التحديات المعاصرة للإسلام، والأمة الإسلامية، وقد عرفت الثقافة الإسلامية على هذا الأساس بأنها: "معرفة التحديات المعاصرة، المتعلقة بمقومات الأمة الإسلامية، ومقومات الدين الإسلامي".

بعد هذا العرض المجمل لهذه الاتجاهات وتعريفاتها لعل القارئ يوافقني- فيما أشرت إليه سابقا- من أن هذه التعريفات لم تصدر عن أصحاب الاتجاهات نفسها، وإنما حاول تمثلها من اشترك في تأليف الكتاب الذي وردت فيه.

بعد هذه الدراسة، ظهرت دراستان أكثر جدية وموضوعية، اهتمتا بمصطلح الثقافة الإسلامية، على أساس أنه يعبر عن علم جديد اسما، قديم موضوعا وتأليفا، هاتان الدراستان حاولتا جاهدين التنظير للعلم تعريفا وتقسيما على أساس أن الثقافة الإسلامية علم معياري مثله مثل علمي العقيدة والفقه. أولى الدراستين كان رائدها أ.د. عبد الرحمن الزنيدي، حيث كتب بحثا بعنوان "مدخل إلى علم الثقافة الإسلامية"، عرف فيه الثقافة الإسلامية بأنها: "علم كليات الإسلام، في نظم الحياة كلها، بترابطها[3]"، وقد حلل التعريف؛ بذكر محترزاته، بحيث خرج إلى حد كبير جامعا لموضوعات العلم، مانعا من تداخله مع التخصصات (العلوم) الأخرى.

الدراسة الثانية هي نتاج عمل جماعي، لمجموعة من الأساتذة المختصين في علم الثقافة الإسلامية، بقسم الثقافة الإسلامية، في كلية الشريعة، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، هذا العمل خرج في كتاب تنظيري لعلم الثقافة الإسلامية يحمل عنوان "الثقافة الإسلامية - تخصصا ومادة وقسما علميا"، عرفت الثقافة الإسلامية فيه بأنها: "العلم بمنهاج الإسلام الشمولي في القيم والنظم والفكر ونقد التراث الإنساني فيها"[4]، وقد قامت هذه الدراسة مثل سابقتها بتحليل التعريف من خلال ذكر محترزاته؛ فخرج المفهوم منضبطا ودقيقا، وأجمع من سابقه؛ وهذا يتضح من خلال المقارنة بين التعريفين بشأن ما أجمعت عليه كلتا الدراستين بخصوص منهج علم الثقافة الإسلامية، الذي تحدد فيه وظائف العلم؛ فالأول اقتصرت عبارته على إظهار علم الثقافة الإسلامية بأنه علم تأصيلي[5]، بينما الثاني اشتمل على الجانب التأصيلي، والنقدي للتراث الإنساني.

كما ألحظ أن الدراسة الأولى، حاولت جاهدة، في التنظير لمفهوم مصطلح الثقافة الإسلامية، أن تربط مفهوم الثقافة الإسلامية بوصفها علما، بمفهوم علم الثقافة، الذي وضع كاتب الدراسة نفسه تعريفا له بأنه: "العلم الذي يبحث كليات الدين في مختلف شئون الحياة"[6]، منطلقا من فهمه، بأن مصطلح الثقافة في الفكر الغربي يعني النظام الكلي في المعرفة، والدين، والأدب، والفن، والأخلاق، والقانون، والتقاليد؛ هذا المنهج حتما يصور للقارئ أن علم الثقافة الإسلامية منهجيا مبني على مفهوم علم الثقافة.

وبالتحقيق في الدراسة؛ أجد أن مفهوم علم الثقافة الإسلامية، وفقا لتصور أ.د. عبد الرحمن الزنيدي، إنما بني على تصور جزئي لمفهوم الثقافة في الفكر الغربي، وليس لمفهوم علم الثقافة، وأقرب تعريف للتصور الذي خرج به، وبنى عليه؛ هو تعريف إدوارد تيلور للثقافة بوصفها أسلوب حياة، وليس علما، حيث قال: الثقافة هي: "ذلك الكل المعقد الذي يتضمن المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والقانون والعرف والعادة وكل المقومات الأخرى التي يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع"[7].

أما علم الثقافة في الفكر الغربي فأول من عرفه هو فلهلم أوزفالد حيث عرفه بأنه: "الدراسة العلمية التفسيرية للظواهر الثقافية"[8]. لذا ألحظ فرقا شاسعا بين تعريف الثقافة بوصفها علما عند أ.د. عبد الرحمن الزنيدي الذي بنى عليه تعريف علم الثقافة الإسلامية، وبين تعريف علم الثقافة في الفكر الغربي؛ حيث بدا جليا، أن تصور أ.د. عبد الرحمن الزنيدي لعلم الثقافة؛ مقتصر على كليات الدين، ولم يقل بذلك أحد ممن سبقه لا في الفكر الغربي - الذي سبق في التنظير لعلم الثقافة - ولا في الفكر الإسلامي. ومن الممكن عزو هذا التصور لدى أ.د. عبد الرحمن الزنيدي إلى عدد من الأسباب؛ منها:

1- اقتصاره على مفهوم الثقافة بوصفها أسلوب حياة في الفكر الغربي بينما الأولى اعتماده على مفهوم الثقافة بوصفها علما.

2- تأثره بمفهوم الأيدولوجيا في الفكر الغربي حيث عرفت على أنها: "الأصول العامة في الوجود والإنسان ونظم الحياة المختلفة سواء كانت عقدية أو سلوك أو اجتماعية" الذي اعتبرها أ.د. عبد الرحمن الزنيدي مصطلحا على أقل تقدير يتقاطع تقاطعا كبيرا، إن لم يتماثل مع مصطلح الثقافة بوصفها علما، وفق تعريفه هو، وبالمقارنة بين مصطلح الأيدولوجيا، وبين مصطلح علم الثقافة في الفكر الغربي من حيث التعريفين السابقين نلحظ البون الشاسع بينهما.

3- واقع منهج الثقافة الإسلامية، المطبق في قسم الثقافة الإسلامية، منذ تأسيسه بكلية الشريعة، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وغيره من الأقسام المناظرة، في بعض الجامعات والكليات؛ حيث صورت الثقافة الإسلامية، من خلال مقرراتها الجامعية، على أنها تدرس الإسلام عقيدة؛ وقيما؛ ونظما؛ و فكرا؛ بصورة كلية شمولية، يركز فيها على الأصول العامة، التي تبنى عليها تلك العناصر.

إضافة إلى ذلك، فإن مفهوم علم الثقافة الإسلامية- كما عرف سابقا-؛ إنما هو انعكاس لواقع حالة عاشتها الأمة الإسلامية، في بداية صراعها مع القوميات والنزعات التحررية -وبقي هذا المفهوم مراوحا مكانه-، ولم ينطلق من تاريخ المصطلح نفسه.

وفي الحقيقة إن الثقافة هي نتاج مجتمع، من خلال فهمه، والأفهام تختلف باختلاف المجتمعات وبيئاتها، والأمة الإسلامية لم تعد مجتمعا واحدا، بل مجتمعات، تنوعت أفهمها؛ بناء على تنوع مذاهبها العقدية، والفقهية؛ وبناء على ذلك تنوعت ثقافاتها التي هي انعكاس لأساليب حياتها الفكرية والاجتماعية، فمن الصعب جمع الأمة الإسلامية على ثقافة واحدة، وإن توحدت على ثوابت معينة، فإنها تختلف فيما بينها في تفسير كثير من النصوص التي تبنى عليه أسلوب حياتها؛ لذا أرى أن التعريف المعياري لعلم الثقافة الإسلامية يبقى تجريديا.

وبناء على ما سبق؛ أقترح تطوير مفهوم علم الثقافة الإسلامية، بحيث يتحول من كونه علما معياريا-الذي أوقعه في كثير من الإشكاليات مع بعض التخصصات الشرعية والإنسانية-، إلى كونه علما تفسيريا، يستمد مفهومه من تاريخ علم الثقافة نفسه، وفق التعريف الغربي السابق، بحيث يمكن تعريفه على أنه"علم تفسير الظواهر الثقافية في المجتمع الإسلامي"، وبهذا يتحرر من إشكالية الالتباس بغيره من التخصصات المشار إليها أولا، وينطلق من تاريخ علمي للمصطلح نفسه ثاني،

وكذلك يختص بدراسة الظواهر الثقافية العامة والخاصة، الإيجابية والسلبية بخاصة، التي تعج بها المجتمعات الإسلامية في هذا العصر؛ بسبب الإفراط والتفريط (التعصب والتساهل)، ولعل من أبرزها ظاهرة التطرف أو ما يسمى بالإرهاب، وظاهرة الانهزامية، والتغريب وغيرها من الظواهر، التي تحتاج إلى دراسة علمية، متخصصة، تفسر هذه الظواهر؛ بدعا بمفهومها وأسبابها، وانتهاء بعلاجها، وقس على ذلك الظواهر الثقافية الخاصة بكل مجتمع من المجتمعات الإسلامية. وهذا الاقتراح- الذي يعتبر مشروعا- يحتاج تفعيله مؤسسة علمية، أو إلى فريق عمل، مقتنع بالفكرة، يحدد مفهوم الظاهرة الثقافية، والآليات المنهجية، التي من خلالها تتم دراسة الظاهرة وتفسيرها.

ـــــــــــــــــــــــــ

[1]  ورقة عمل مقدمة في ندوة مقررات الثقافة الإسلامية بين واقعها والمتغيرات والمنعقدة في رحاب كلية التربية بجامعة الملك فيصل في المملكة العربية السعودية.

[2]  انظر "دراسات في الثقافة الإسلامية"، د. رجب سعيد شهوان وآخرون، ص11-12.

[3]  "مدخل إلى علم الثقافة الإسلامية" مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عدد2،محرم 1410هـ ص89.

[4]  "الثقافة الإسلامية - تخصصا ومادة وقسما علميا"ص13.

[5]  بالرغم من أن الدراسة ذكرت في موضوع منهج علم الثقافة الإسلامية الجانب النقدي، ومن ضمن موضوعاته المذاهب والنظريات الحديثة، إلا أن هذا لم يظهر في التعريف. انظر"مدخل إلى علم الثقافة الإسلامية" مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية،عدد2،محرم 1410هـ ص96، 98.

[6]  المصدر السابق ص89.

[7]  "قاموس علم الاجتماع" د. محمد عاطف غيث مادة"ثقافة".

[8]  المصدر السابق، مادة "علم الثقافة".

اسم الكتاب: مبادئ الثقافة الإسلامية(6) 

      يقع الكتاب في 165 صفحة من الحجم الصغير و قد أعد لكي يدرس في السنوات الأولى الجامعية بمختلف الكليات ، و قد روعي فيه الاقتصار على المعلومات الضرورية في علوم الدين و الثقافة الإسلامية ، ونظراً لأن الطالب الجامعي قد تحصل على معلومات مفيدة في العبادات و أحكامها خلال مرحلة التعليم الأساسي ، ومن تم يكون بحاجة إلى إضاءات مركزة يستفيد منها كثقافة عامة وقد ينطلق منها في المرحة الجامعية لتكون مجالاً للبحث و المقارنة مع الأنظمة الحديثة و الواقع المعاش .

قسم الكتاب إلي أربعة عشر فصلاً يجمعها رابط واحد هو الدين الإسلامي ، ولكن مجالاتها متعددة و تسير في اتجاهات ثلاثة ، الأول فيما يتعلق بالعقيدة وهو شئ ضروري و هام لدراسة الدين ، و يضم معنى الألوهية و الدين و الرسالة و المعجزات و القضاء و القدر و البعث و الجزاء و حكمة العبادات ، و الثاني يبين مميزات الدين الإسلامي من حيث الشمول و صلاحيته للدنيا والآخرة ولك زمان و مكان ثم نظرة الإسلام للإنسان و المبادئ التي قررها مثل المساواة و العدل وتربية الأولاد و رعاية الأسرة لعقول الشباب ، و تناول الكتاب الأخلاق في القرآن و اهتمام الإسلام بها و تحريمه الخمر و المخدرات و الزنا و نظرة الإنسان إلي قتل النفس ثم التطرق إلي دراسة بعض الظواهر الأخلاقية كالصدق و الكذب و الاستقامة و إصلاح النفس و سؤ الظن .أما الاتجاه الثالث فقد تركز على تنظيم حياة المسلمين فيما بينهم و بين غيرهم من الشعوب ، فتناول الكتاب مبدأ الشورى و نطاقه و التكافل الاجتماعي و الجهاد و العلاقات الدولية في الإسلام ، و علاقة الإسلام بالعلم و الفرق بين التوكل والتواكل ، و نظرة الإسلام إلي المال ، ثم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر .

ورغم أن بحوث الكتاب كانت مختصرة إلا أنها كانت مركزة ، و تلائم عقلية و مستوى طلاب الجامعة في بداية انطلاقتهم العلمية ، و تهدف إلي طرح بعض الأفكار و تزويدهم بالمبادئ الإسلامية التي تبين لهم روح الإسلام و سماحته و المبادئ الإنسانية التي نادى بها فيما بين المسلمين أو في علاقتهم بالغير ، وتبين خطورة التطرف و الأفكار الغريبة التي من شأنها أن تفسد عقول الناشئة و تفسد عقيدتهم فينحرفون عن قواعد الإسلام الحقيقية و ينجرفون وراء أفكار بعيدة عن الهدف الذي قرره الإسلام نحو إنشاء مجتمع خال من التعصب و الحقد و الكراهية و الجرائم التي تعاني منها الإنسانية جمعاء .

بين العولمة الثقافية وثقافة الاسلام(7) 

 أختلفت الرؤى حول العولمة بين رؤية سلبية تصفها بالامتداد الاستعماري ولكن بحلية وهيئة جديدة وبطريقة حديثة أكثر دهاءاً من الطريقة التقليدية في استخدام القوة والالة العسكرية لنهب ثروات الدول واللعب بمقدراتها وتعيين مصيرها ومسخ انسانها ومصادرته لان هكذا سيطرة أصبحت مكشوفة والشعوب بشكل عام وصلت الى مرحلة من الرشد الذهني يجعلها تستنكر أي نوع من انواع الاحتلال العسكري المباشر وكان لابد من اتباع اساليب مموهة مخادعة (حسب هذه الرؤية) للسيطرة على الشعوب المغلوب على أمرها سيطرة اقتصادية وسياسية وثقافية.

ورؤية ايجابية بالمطلق تنطلق من شعورحاد بالضعف والعجز واستحالة اللحوق بالركب الحضاري الغربي الا بتقليده في كل شيء وتبني كل الافكار الغربية في مجالات الحياة كافة باعتبارها السبيل الوحيد الذي سوف تتطور به المجتمعات وتصل الى ما وصلت اليه الحضارة الغربية في عملية انقلاب سلبي على الذات والتراث واعتباره أهم اسباب التخلف والانحطاط الحضاري. 

العولمة الثقافية تعني الاجتياح والغزوواختراق الثقافات الأخرى ومحوها محواً كاملاً لكي لايبقى بعد ذلك من الثقافات الأخرى الا الفولكلور الشعبي الذي يتوقف عند جمالية الفن ومتعة المشاهدة، الذي لايقدم ولايوءخر، المفتقر الى المحتوى والعاجزعن التنمية الاجتماعية الفكرية الموءثرة الفاعلة في المجتمع. وبسبب العلاقة المباشرة والتأثيروالتأثر بين العولمات  الثقافية والسياسية و الاقتصادية  والحركة المتوازية  بين خطوط العولمة في أبعادها الثلاثة،  أصبح من الطبيعي ان تنطلق جميعها من نقطة واحدة ومبدأ واحد فلم تنفرد على سبيل المثال قوة واحدة  أومجموعة من القو! ى العالمية بعولمة الثقافة على مزاجها لكي تكون قوى اخرى مبداءاً للعولمة الاقتصادية اوالسياسية  وانما عواصف التغيير والتاثير انطلقت من مصدر واحد معروف هوالولايات المتحدة الامريكية في اطارأمركة العالم.

 أنها لم تكن وليدة طغيان طريقة فهم ونمط وثقافة معينة على الثقافات الاخرى بفضل عمق تلك الثقافة وسلامتها وارتكازها على اسس متينة بقدر ما كانت نتيجة للطغيان الاقتصادي وتحول صاحبتها الى القوة الاعظم في العالم.

العولمة الثقافية بالتحديد تختلف عن غيرها من عولمات لأنها أولاً تمس كيان الأمة وذاتها وهويتها وشخصية انسانها وثانياً امكانية مواجهتها تعد أكثر واقعية من مثيلتها الاقتصادية في مجتمع يفتقر الى الف باء الصناعة على سبيل المثال.

الاختلاف في الرؤى والمواقف  أدى الى الاختلاف في اتجاهات التعامل مع ظاهرة العولمة الثقافية بين التبني والمقاطعة. وأختلفت الاتجاهات والمنطلقات في سبل وحيثيات المواجهة ايضاً بين الرؤية الاسلامية وغيرها من اراء قومية عربية ولكن شتان بين هذه وتلك. التيار الثقافي الذي يجتاح اليوم الشعوب العربية الاسلامية لا تستطيع ايقافه الا قوه الايمان والالتزام وخطة مدروسة لصياغة الانسان صياغة اسلامية. عالمنا الاسلامي يختزن ببركة الرسالة الاسلامية طاقة عظيمة خارقة تستطيع التصدي لأكثر الموجات الثقافية الاختراقية شراسة لوأحسنا تطبيقها. لتكن مادتنا الاسلام، الثقافة الاسلامية ولا الثقافة العربية التي من غير الاسلام لاقيمة لها ولا ثقافة.

 ماذا يبقى من الثقافة العربية لواخرجنا العنصر الاسلامي منها؟ ثقافة قومية؟ وماذا جنينا من الثقافة القومية غير التبعية وفقدان الذات والتخلف والديكتاتوريات والشعارات والانظمية القمعية الدموية.

الغريب ان بعض المفكرين يتحدثون عن الثقافة العربية فقط والأخر الأكثر حيادية عن الثقافية العربية جنباً الى جنب مع الثقافة الاسلامية ولكن، هل هناك فعلاً ثقافة بناءة فاعلة هادفة لدى العرب قادرة على النهوض بواقع الأمة لوانتزعنا الجانب الاسلامي منهم؟ من كانوا العرب قبل الاسلام؟

كانوا كما وصفهم علي بن ابيطالب عليه السلام بما كانوا عليه من بوءس قبل البعثة:

" إنّ اللَّه بعث محمّداً(صلى اللّه عليه وآله وسلم) نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل. وأنتم معشر العرب على شرّ دين وفي شرّ دار. منيخون بين حجارة خُشن وحيّات صمّ، تشربون الكَدِر وتأكلون الجشب‏، وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم. الأصنام فيكم منصوبة والآثام بكم معصوبة ". (نهج البلاغة : الخطبة 26)

" أضاءت به (صلى الله عليه وآله وسلم) البلاد بعد الضلالة المظلمة، والجهالة الغالبة، والجفوة الجافية، والناس يستحلون الحريمَ،ويستذلون الحكيمَ، يحيون على فترة ويموتون على كفرة" (نهج البلاغة : الخطبة 151)

" بعثه (صلى الله عليه وآله وسلم)، والناس ضُلاّل في حيرة، وحاطبون في فتنةٍ،قد استهوتهم الاَهواءُ،واستزلّتهم الكبرياءُ، واستخفّتهم(6)الجاهلية الجهلاءُ، حَيارى في زلزالٍ من الاَمر، وبلاءٍ من الجَهل، فبالَغَ (صلى الله عليه وآله وسلم) في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحَسَنة " (نهج البلاغة : الخطبة 95)

كانوا كما وصفهم جعفر بن ابيطالب في حواره مع النجاشي:

"  أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، وبقينا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وقد أمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، وحقن الدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئًا، وأن نقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان... "  (السيرة النبوية 1| 335)

فحولهم الاسلام مما كانوا عليه من بؤس وشقاء وتخلف وعمى في بضع سنين الى صناع حضارة ورواد نهضة ورفعهم من الحضيض الى قمة الهرم الحضاري. اذاً فالثقافة الاسلامية التي تحمل فيها من المؤهلات والخصوصيات ما يمكَنها من تغيير المجتمع والتاريخ، ما يمكنها  ان تصنع الحضارة وانسانها من لاشيء من الطبيعي ان تمتلك في مادتها على المستوى النظري ما يكفي لمواجه العولمة الثقافية.

المواجهة الفاعلة للعولمة الثقافية تكمن في العودة الى ثقافة الاسلام وقيمها وترسيخها في المجتمع لان الالتزام الديني والايمان بالقيم الاسلامية بالعقل والروح والقلب والقالب  سوف يكون كفيلاً بايجاد المناعة الذاتية لكل حالة اختراق ثقافي سلبي بل سوف تتحول المسألة من حالة دفاع ورد فعل امام الثقافة الغربية الى حالة جديدة من الهجوم المعاكس أي العولمة المعاكسة، (العولمة الاسلامية اذا صح التعبير).

المنطلق في هذه المواجهة هوالعمل على مستويين:

على المدى القريب (في البعد الزمني) الذي يمتد افقياً على مساحة المجتمع لدعوته للقيم النبيلة والهوية الاسلامية والشخصية الملتزمة المسؤولة وتبيين حقيقة الثقافة الغربية التي يطغى فيها الجانب المادي وتتبلور فيها معاني الانانية والفردية والمصلحة الشخصية والنظرة النسبية للاخلاق ولابد ان تكون المواجهة هنا باسلوب للطرح يتناسب مع مقتضيات المرحلة لكي تؤتي العملية أكلها.

 فقد تكون النظرية في غاية الرقي والكمال ولكن سوف تضيع وتصبح غير مجدية عندما نخطيء في طريقة عرضها وقد تكون النظرية فارغة في محتواها ومعانيها ولكنها عندما تسوق بطرق مؤثرة تتحول الى العولمة الثقافية الأمريكية التي نعاني منها اليوم.

  العولمة الثقافية تتبع ثقافة الصوت والصورة، الثقافة السمعية البصرية فمن اللاطبيعي ان تواجه بالطريقة التقليدية من خلال الكتاب والمحاضرة ف! قط. لانك تحاول رد التأثير العاطفي بالتاثير العقلي المنطقي وشتان بين الاستجابة لهذا وذاك. التطور المدهش الذي حصل في مجال وسائل الاتصال والاعلام المرئي والمسموع والانترنيت يتطلب رداً سريعاً يتناسب مع مستوى الهجوم. رد مضمونه اسلامي ولكن بطريقة عرض عصرية.

وعلى المدى البعيد الذي يمتد عمودياً في عمق المجتمع هوالعمل على غرس الالتزام والقيم واخلاقيات الشخصية الاسلامية في قلب وعقل الجيل القادم  وبناء الهوية الاسلامية والانتماء لديه من خلال  الاسرة والمدرسة  الصالحة المربية. عملية التربية على الأسس الاسلامية سوف تولد التحصين الذاتي امام محاولات الاختراق الثقافية. المشكلة التي نعاني منها هي تحويل المواضيع الخطيرة لكثرة التكرار الى "كليشهات" نمر عليها مرور الكرام في كل مرة بحاجة فيها الى الوقوف والتأمل والنظر والتعمق ظناً منا باننا عالجنا المسألة ولكن شتان بين فهم المشكلة ومعالجتها. لابد ان ندرك بان ما بين مدرسة "المدرسة" ومدرسة "البيت" هناك متسع من الوقت يكفي لصناعة الانسان وبناء شخصيته.

 الم نقل ان الجيل في بعده الزمني يمتد الى عشرين عام؟ المدرسة الصالحة والبيت الصالح  كفيلان لترسيخ المفاهيم والقيم والثقافة الأسلامية وبناء هوية الفرد واشتراكهما في الهدف سوف يؤدي الى ملء الثغرات التي قد يحدثها احد العاملين بما يقدمه العامل الاخر لتتكامل بعد ذلك الصورة لدى الجيل المتلقي.

وأخيراً الثقافة المادية البحتة التي تمثلها العولمة اليوم ثقافة اللاعمق واللاثقافة. انها ثقافة مشوهة وان كانت كثيرة الألوان وسوف لاتستطيع ان تصمد امام الثقافة الاسلامية بعمقها وروعتها التي تلامس روح الانسان وتعانق فطرته.

"فاما الزبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض كذلك يضرب الله الأمثال" الرعد :17

مؤهلات الثقافة الإسلامية في بناء حضارة إنسانية(8)

 الحديث عن مؤهلات الثقافة الإسلامية لا يحتاج أن نبدأه بالسؤال هل هذه الثقافة قادرة على توليد بديل للحضارة المعاصرة، لأنه يكفي أن نفرق بين ثقافة نقل الازدهار المادي من قارة إلى أخرى، وثقافة توجيه الازدهار المادي لتنمية إنسانية البشر في كل قارة لنصل في النهاية إلى أن الثقافة الإسلامية قادرة على ذلك، إذ تستجمع الخصائص الآتية:

أولاً: تمتاز الثقافة الإسلامية بخاصية عدم الانتماء إلى قوم، لأنها لا تنتسب إلى أحد أو إلى جماعة من كبار المفكرين أو صغارهم انتساب الليبراليات الغربية والاقتصاديات الاشتراكية مثلاً إلى أصحابها المعينين. ولا تخلو ثقافة نسبية من عصبية قومية، وكل ثقافة كونية تحفظ بطبعها الشمولي مصالح استغراقية تعُمُّ كل الأقوام.

ثانياً: اختصت أصول العقيدة الإسلامية بالثبات الأزلي والخُلوِّ من التحريف، فامتازت بسريان جميع تعاليمها في الأديان السماوية السابقة. وبالتالي ارتفع التعارضُ بين الإسلام وما سبقه من الأديان المنزلة إلا من حيث المستحدثات اليهودية والنصرانية التي كانت السبب المباشر في تكوين الحضارة المادية المعاصرة.

ثالثاً: تشكل الثقافة الإسلامية، (بما تحتوي عليه من تراث فكري خلفه نظار من ذوي المنطلقات القرآنية)، تياراً فكرياً مستوفياً لجميع الخصائص المقومة لنقيضه المسيطر حالياً في (العلوم الوضعية) خاصة. ولكونه كذلك يستطيع أن يستوعب مفكرين كيفما كانت ثقافتهم العقدية، حتى إذا تأملوا وفكروا في إطاره أنتجوا فكراً ينتمي إلى الثقافة الإسلامية وإن لم يرغبوا في ذلك. وسوف نعود بعد حين إلى مقدمات هذا التيار الفكري وخصائصه التي تميزه عن مقابله.

اجتماع المواصفات الثلاثة في الثقافة الإسلامية أهلتها دون سواها لأن تولد، إذا توافرت شروط خارجية، حضارية مستقبلية توافق الطبيعة الإنسانية، بمعنى لا تكبتُ فطرة التعبد في الإنسان، ولا توجهها لاستعباد الأحرار، كما لا تشيئ البشر ولا تعمق أنوِيّتَهُ القائمة على اتخاذ الذات منطلقاً وتجاهل الآخر مطلقاً، بحيث لا يتحرك الفردُ في غير مصلحته، ولا يكف عن تنمية جبلة العدوان لضمان منفعته. ومن هذه الظواهر غير المرغوب فيها بالإجماع تُنتِجُ منها الحضارة المادية المعاصرة الشيء الكثير.

ـ العولمة أحد شروط تجاوزها:

بأي معنى تكون العولمة قد جمعت بين العلة المنشطة لتجاوز الليبرالية الجديدة وبين كونها شرطاً خارجياً لأن تنتج الثقافة الإسلامية نمطاً حضارياً مغايراً للنمط السائد حالياً؟ استهلال هذا المبحث بالسؤال المذكور يعني التعجيل بتحليل دلالات العولمة من أجل الكشف عن معنىً فيها يمتاز بتنشيط تجاوزها وإقامة بديل عنها.

لا شك في وجود مَن يشاطرنا استبهامَ العولمة، وأن الكثير مثلنا ما زال يتلمس الوسيلة التي تقرب من تصور دلالات هذا المصطلح الجديد المتشعب. ولعل اتساع مجالات استخدامه سبب في لبس معناه على المتخصصين قبل غيرهم. وفي مثل هذه الحالة غالباً ما يستنجد بالعبارة البلاغية لتشخيص المعان وتقريبها من الأذهان.

وفي هذا المضمار يمكن أن نستعين بالتشبيه المركب أو التمثيل، فنتصور العولمة من خلال تشبيه عالَمِ اليوم مع شعوبه التي تستوطن بلدانه برقعة شطرنج في خاناته بيادقها. وكان أوطان الأمم والشعوب مجرد أقاليم في (وطن عالمي)، وإلى هذا الوطن الشمولي يجب أن ينتسب كل مَن يعيش على الأرض. لكن مثل هذه العبارات البيانية لا تفيد شيئاً كبيراً بالنسبة إلى مَن يرغب في الكشف عما في العولمة من معنى ينشط إنشاء البدائل، ويعجل بتجاوز حضارتها المادية.

مستقبل الثقافة الاسلامية في ظل العولمة(9)

إذا جاز لنا ان نعرّف الثقافة بأنها موقف من الحياة في جوانبها المتعددة وان العولمة هي تجاوز للحدود القومية والثقافة القومية والاقتصاد القومي فإن تناولنا للاسلام في جوهره ينطلق من انه يقارب العولمة في كثير من تعريفاتها كونه ايديولوجيا في عالميته عبر الأزمان والأمكنة يتضمن ثقافة انسانية شاملة ترتكز على قيم الخير والحق والجمال والسلام.

فالخطان المتوازيان المتقاطعان احيانا للإسلام والعولمة يدفعان لتحديد عناصر العولمة الحالية التي نصفها أحيانا بالمتوحشة فماهي العولمة في أحدث تحليلاتها وماهي الثقافة المواكبة لهذا النظام المهيمن؟ ‏

هذا ماتحدث عنه الاستاذ الدكتور زهير غزاوي في الندوة الفكرية الثالثة التي أقامتها المستشارية الثقافية الايرانية بدمشق قائلاً:

 العولمة هذا النظام العالمي الذي يحكم العالم الذي هو عبارة عن قرية واحدة وهذا يؤدي الى أن يفرض الأقوى ثقافته النابعة من نمطه الحضاري كما هو حاصل في عصرنا الحالي، فالغرب قام بإلقاء القيم الأخلاقية المطلقة التي عبر عنها الدين والفلاسفة الكبار من أبنائه وفرض مفاهيم جديدة للتعامل الإنساني والثقافة الانسانية. ‏

لقد اتفق علماء الاجتماع خاصة الفرد باريو على ان التقليد هو المكون الرئيس للانتقال الثقافي فالأضعف من الأمم هو الذي يقلد النتاج الثقافي والحضاري للأقوى. ‏

ومن الواضح ان القيم الثقافية الأمريكية من خلال هيمنة الإعلام بدأت تهدد بلدان العالم كله من هويتها الثقافية وأن نشرها ثقافة القوة والإبادة واستخدام السلاح الذري والحرب العالمية الثالثة عبر وسائل الإعلام ابرز مثال على وحشية هذه العولمة. ورغم مصاعب أمريكا العالمية في ميادين اخرى إلا أن لغتها وقيمها ونتاجاتها الثقافية تتقدم فعلاً حتى أصبح الحلم الأمريكي هاجس الشباب في العالم كله. ‏

ويتساءل الدكتور غزاوي ‏

ولكن ماهي مكونات ثقافة العولمة أو القيم الاخلاقية السلبية التي تروجها في أرجاء العالم؟ ‏

وفي الإجابة يقول يمكن هنا أن نوضح بعض انماط القيم السلبية أو الجانب السلبي من القيمة مما روجته العولمة. ‏

فالقيم الأخلاقية هي جوهر عملية توجيه الثقافة وان الدين هو المنبع الرئيس للأخلاق والعولمة المهيمنة هي غربية بامتياز، وعندما حطمت الدين فإنها استبدلت قيمها المطبقة في مجتمعاتها وبالتالي جوهر ثقافتها بما يمكن ان نطلق عليه (النظام) ورغم ان هذا النظام الذي فرضته النخب السياسية قد حقق تقدماً فعلياً في مجالات متعددة من حياة المجتمعات الغربية فإن سيادة الايدلوجيا البراجماتية كان له ان يستبدل القيم الاخلاقية بنسيج آخر من السلوك الاجتماعي وأنه لبى متطلبات عصر التقدم التكنولوجي الهائل وتمكن من انتاج تغيير في مفهوم الثقافة بإلغاء القيم الأخلاقية المطلقة التي عبر عنها الدين والفلاسفة الكبار في الغرب وفرض مفاهيم جديدة للتعامل الإنساني والثقافة الإنسانية المرتبطة بالأنسنة والأخوة واحترام الآخر ليتحول العالم الى (غابة) حقيقية القوي فيها هو الذي يفرض ثقافته. ‏

ويتابع د.غزاوي القول : وفي عصرنا فإن التطبيق أبعد مايكون عن الإنسانية التي ارتبطت مكوناتها من خلال النتاج الحضاري المتفق على اطلاقيته بفكر الحق والخير والجمال ليتحول الى عولمة تمجد القوة والمال واستعباد الآخر. ‏

ومن المخاطر التي تروجها العولمة الغربية ـ تسليع المرأة هذا المكون الاجتماعي الذي اصبح جزءاً من ثقافة العولمة واصبح بديلاً عن كل الجهود الانسانية لتحرر المرأة. ‏

ـ البراجماتية هذه الثقافة التي سبقت عصر العولمة الحالي وتعني تغليب المصلحة الفردية على الأخلاق والقيم والمنافع العامة. ‏

ـ ثقافة التمييز العنصري وقيم تفوق العرق الأبيض واستعباد الشعوب الأخرى وإبادتها. ‏

أما الثقافة الاسلامية فهي تستند بالتأكيد على الايديولوجيا الاسلامية وعناصرها التي كونت حضارة عريقة ترتكز على سلسلة القيم الأخلاقية من أجل انشاء مجتمع انساني تسوده العدالة، فالاسلام رسالة عالمية (وماأرسلناك إلا رحمة للعالمين) ‏

والرحمة في رأس القيم الإسلامية، وبالتالي عنصر اساسي في ثقافته وتعاليمه. ‏

ورغم ان الاسلام لاينكر ايجابيات الثقافة الغربية إلا ان القيم الأخلاقية شرط لازم في كل الفروع التي تطرق اليها الإسلام والمجتمع المسلم، وعليه فإن العالم الاسلامي بحاجة لجهود أكبر في مضمار نشر الثقافة الاسلامية أو بالاحرى اقناع العالم بصوابيتها كصورة للرسالة الاسلامية. ‏

كما شارك في الندوة الدكتور نزيه الحسن حيث تحدث عن مستقبل الثقافة الاسلامية قائلاً: ‏

انقسمت الساحة الفكرية في العالم الإسلامي إزاء العولمة الى ثلاثة اتجاهات: ‏

ـ اتجاه المؤيدين مطلقاً والذي يأخذ معطيات هذه العولمة بكل مافيها سواء التقت مع المعطيات الثقافية الإسلامية والقومية ام لم تلتق بحجة اننا لانستطيع الانزواء وتشكيل جزيرة ثقافية في العالم. ‏

ـ اتجاه المعارضين مطلقاً الذي يرفض معطيات هذه العولمة بكل مافيها بدعوى اننا نمتلك هوية ثقافية مستقلة وان ضياع كياننا هو سلبية لاتعادلها كل ايجابيات العولمة هذه. ‏

ـ اتجاه المؤيدين مع ضوابط ويدعو هذا الاتجاه للأخذ من العولمة مايناسبنا من ايجابيات ومعطيات لاتتصادم مع قيمنا وثوابتنا الثقافية وندع الجوانب السلبية الهدامة لهذه القيم والثوابت. ‏

وان الفيصل بين مصطلحي العالمية والعولمة هو الأساس الذي نصالح به مابين الفريقين ،فالعالمية تتوجه بوسائل اختيارية محترمة حرية الانسان بينما العولمة هي فرض التعميم بوسائل اكراهية يوجهها اصحابها الى ارادة الانسان ليكسروه. ‏

واعتبر الدكتور الحسن ان العالم الإسلامي أول المؤهلين لوقف مد العولمة انطلاقاً من ركائز ينطلق منها في عمله الدعائي لبناء الإنسان وإصلاح علائقه مع بني جنسه ومع الكون والحياة هذه الركائز التي تسع الإنسان كله ايا كانت درجة رقيه وتطوره بل هي الأساس فيها وهي سنن ثابتة يعتمدها مأخوذة من القرآن الكريم كسنّة المساواة والتعارف والاختلاف ومبدأ التفاضل بين البشر. ‏

وعلى الصعيد العملي فقد شاركت الحضارة الإسلامية بناءً على هذه السنن في الثقافة العالمية وأثرتها في سيرها التاريخي محافظة على الثوابت الإسلامية. ‏

‏ الثقافة الإسلامية .. والعولمة(10)

­) خطاب الدفاع عن الثقافة الاسلامية الذي شنه رئيس وزراء دولة ماليزيا الاسلامية مؤخرا ، كان استشعارا حادا وجادا لواقع كئيب ، وانذارا قد لا يكون مبكرا يخص ما تتعرض له فضاءآت الثقافة الاسلامية من مخاطر المحاولات المتعمدة لاطفاء مناراتها والتعتيم عليها في وجه الاجيال التي هي وريثتها ، وصاحبة الحق في الدفاع عنها وصونها على مر التاريخ حاضرا ومستقبلا .

­) ويكتسب هذا الخطاب اهميته من كونه يصدر لأول مرة عن مسؤول كبير يرئس نظاما سياسيا ، وانه لم يكن مجرد دفاع تقليدي عن العقيدة والثقافة الاسلاميتين بقدر ما هو هجوم عنيف على الغرب والتحديات العولمية التي يفرضها على العالمين العربي والاسلامي , وتزداد اهمية هذا الخطاب في انه جاء ايضا في اجتماع وزراء خارجية دول مؤتمر منظمة الدول الاسلامية في دورته السابعة والعشرين المنعقد في كوالالمبور العاصمة الماليزية ، الامر الذي يضع الانظمة الاسلامية عربية كانت او غير عربية وجها لوجه امام هذه القضية الخطيرة .

­) وحقيقة الامر فان هذا الخطاب يتقاطع وتوجهات شرائح عريضة من المثقفين العرب والاسلاميين الغيورين على التراث والثقافة والعقيدة والذين ما فتئوا يخوضون معارك متواصلة دفاعا عنها في وجه تحديات كل اشكال العولمة التي تفرضها الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الاميركية على العالمين العربي والاسلامي متذرعة بالدفاع عن "كافة اشكال الحريات وفي مقدمتها الاجتماعية والابداعية" ومناصرتها في هذا السياق لموجات الارتداد والتطاول على المقدسات واستباحة المحرمات ، وتجسيد النظرة الدونية للتراث والأصالة واتهامهما بانهما لم يعودا يلائمان عصر الحداثة وما بعد الحداثة ، وانهما بالتالي اصبحا من التاريخ .

­) واذا كانت هذه الشرائح المثقفة ما زالت بقواها الذاتية وبدافع من غيرتها الانتمائية تتصدى لكل افرازات العولمة وتنبري لمواجهتها . فان الطريق امامها ليست معبدة ذلك ان الاوضاع الداخلية في اقطارها تفرز تحديات جسيمة وخطيرة هي الاخرى تحد من فعالياتها وتحركاتها وتحقيق حد معقول من الانجاز. ويتمثل هذا في انها تعمل في واد ، في حين ان الانظمة السياسية العربية والاسلامية في واد آخر تتفيأ ظلال ارتمائها في احضان السياسات الغربية وموالاتها للغرب قلبا وقالبا . وجراء ذلك كله لم تعد تولي ما تتعرض له الثقافة الاسلامية وما تستحق من اهمية . فاصبحت غير مكترثة ولا مبالية . ويؤكد ذلك ان وسائل اعلامها ومناهجها التربوية وخطابها الثقافي تعتم على هذه القضية ، وعلى عكس ذلك فانها تسهم في نشر فعاليات العولمة وتوسيع مشاهدها. ويبرز التحدي الداخلي الثاني في شريحة اطلقت على نفسها مسمى "المثقفين الحداثيين" الذين ارتبوا في احضان الثقافات الغربية ، او انهم اعجبوا بها ، او انهم يرفضون لسبب او آخر الثقافة العربية الاسلامية . فحشدوا انفسهم على جبهتين اولاهما لمحاربة هذه الثقافة والنيل منها ، والثانية بهدف احلال ثقافة العولمة والحداثة والتغريب محلها ، وبالتالي تغيير مشاهدها العامة والخاصة . وهم في الحقيقة ليسوا اكثر من "طابور خامس ثقافي" يعمل بصورة مباشرة او غير مباشرة لحساب المعنيين بالامر يهدف اعادة تصميم المشهد الثقافي العربي الاسلامي واخراجه بصورة عولمية حداثية . لكن التحدي الاكبر الذي ما زال يفرض نفسه على العالمين العربي والاسلامي ويجعلهما لا يرقيان الى مستوى المسؤولية ، كونهما ما زالا يعانيان من مشكلات اقتصادية واجتماعية تفرض على غالبية مواطنيهما الجر اللاهث وراء تحصيل رغيف الخبز والدواء لكثير من الامراض المستأصلة ، ناهيك عن الفقر المدقع ومستويات الامية المرتفعة وبخاصة في قطاع الاناث امهات المستقبل . وكل هذا وذاك يتم تحت ظلال اجواء انعدام الحريات والمساواة والممارسات الديمقراطية وانتهاك منظومة حقوق الانسان . وغني عن القول ان التفكير في الثقافة ودرجة الانتماء لها يحتلان مواقع متأخرة على سلم الحاجات الانسانية ، ويتأثران سلبا او ايجابا بمستوى تحقيق حاجات الانسان الاساسية . وبناء على ما تقدم فانه ليس من المستغرب ان يشكل العالمان العربي والاسلامي تربة خصيبة ومرتعا سهلا لأية فعاليات غزو ثقافي في مجتمعات اما انها فقدت جهاز مناعتها الانتمائي الثقافي او انها اصلا تفتقر اليه .

­) واذا كنا حتى الآن قد تناولنا التحديات الداخلية التي افرزت على المشهد الثقافي العربي الاسلامي ظلالها القاتمة ، فان التحدي الاكبر يظل يتمثل بالوسائل التقنية المتطورة التي يمتلكها الغرب دون سواه والتي بواسطتها يشن حملته العولمية دون هوادة ، وبخاصة انه انتقل انتقالا ناجحا من مرحلة الثورة التقنية الى مرحلة الثورة المعلوماتية ، الامر الذي يسر له واعطاه المبرر – وهو يملك كل وسائل التفوق والفوقية – ان يقتحم ثقافات الآخرين وان يتدخل بتشريعاتهم وانظمتهم وقوانينهم ، وان يعرضها للمساءلة والمحاكمة والنقد والضغط من اجل تغييرها ، علاوة على استبدال المفاهيم والقيم بما يتناسب ومنظوره الثقافي . وهو هنا يتباكى على ضرورة منح "الحريات للمرأة والأسرة والمبدعين والمفكرين" على النمط الغربي الذي يحمل طابع الانحلال والانفلات والتحرر المطلق .

­) وخلاصة القول ان الثقافة العربية الاسلامية يخشى ان تكون قد اصبحت في مهب الريح او انها على كف شيطان العولمة . وعلى هذا الاساس فانها بحاجة الى حماية ودفاع قائمين على اسس علمية وتقنية واعلامية وتربوية سليمة تنطلق من احساس حقيقي بخطورة الموقف وسلبيات تداعياته ، ومن رغبة صادقة وارادة عازمة وحازمة على المواجهة تحت ظلال استراتيجية عمل مخطط لها بقصد التنفيذ والمتابعة الفعليين . وليس امام الانظمة الاسلامية الا طريقان لا ثالث لهما . فاما انها تظل على حالها من الانقسام والتفتت والتعادي والتقوقع الاقليمي وعدم الاكتراث واللامبالاة والافتقار الى الحد الادنى من التعاون والتضامن في ما بينها ، وعندئذ فانها تكون قـد تنازلت طوعا عن ثقافتها وعرضت بذلك عقيدتها للانهيار والانحلال –لا سمح الله- . واما ان تصحو من غفوتها وتقف متحدة في وجه تحديات العولمة الشريرة ومن يحركها ، كي يظل لها مكان تحت الشمس تتفيأ فيه ظلال تاريخها وثقافتها وعقيدتها التي صنعت منها خير امة اخرجت للناس .

الثقافة الإسلامية في عصرالعولمة(11)

إنَّ الموضوع الذي نحن بصدده جد خطير وهام؛ إذ لابد من هذه الوقفة مع واقع الثقافة في عالمنا الإسلامي الذي يواجه الآن كل تحديات أنواع العولمة (الدينية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأدبية، واللغوية، والفكرية، والثقافية).

ومما لاشك فيه أنَّ هذه المجالات جميعها تكون عقيدة وفكر وثقافة الأمة التي من خلالها يتحدد سلوك أفرادها، وقرارات قاداتها.

وقراءة منا لواقع الثقافة في عالمنا الإسلامي، وحال مثقفيها نجد أنَّنا -للأسف الشديد- مهيئين تماماً لقبول العولمة، بل والذوبان في الآخر، وهذه ليست نظرة تشاؤمية، ولكن حاضرنا الثقافي هو الذي يشهد بهذا، فنحن منذ ظهور الإسلام حتى وقتنا الراهن كنا فريسة لمخططات الغرب التي أوصلتنا إلى هذه المرحلة، ولابد لنا أن نكون صريحين وواقعين حتى لانخدع أنفسنا ونوهمها بحسن نية الآخر تجاهنا، وحتى لا نعطي للآخر حجماً أكبر من حجمه، أو نستهين بما يخططه ضدنا للتظاهر بأننا لسنا من ذوي نظرية التآمر التي نجح الغرب في أن يجعل عددًا كبيرًا من مثقفينا يعتنقها ليخطط ويحقق أهدافه دون أن توجه إليه أصابع الاتهام، ولنتقبل ما يخطط لنا دون إدراك أبعاد وخطورة هذه المخططات كما هو حاصل الآن، علينا أن نقرأ التاريخ، ونتعرف على حقيقة علاقة الشرق بالغرب، وأبعاد هذه العلاقة وأهدافها، ونتوقف عند علاقة الغرب بالإسلام وموقفه منه، ومخططاته لمواجهته، ونظرته للمسلمين عامة وللعرب بصورة خاصة، وما يفعله الآن معنا.

إنَّ ما يحدث ليس وليد التسعينيات من القرن العشرين ولكنه حصيلة قرون عديدة تصل إلى ما قبل عصور التاريخ، ومما ينبغي علينا أن نحذر من الغرب؛ لأنه يريد طمس هويتنا ومسخ شخصيتنا واقتلاعنا من جذورنا وإحلال ثقافته ودينه وعقيدته وأمراضه وانحلاله محل ديننا وثقافتنا وقيمنا وأخلاقياتنا، مع فرض هيمنته السياسية والاقتصادية والعسكرية علينا، وحرماننا من حق المعارضة وإبداء الرأي، والدفاع عن حقوقنا الشرعية. وجعلوا منا من أصبح يناهض كل ما هو إسلامي، ويطالب بإلغاء ثوابت الإسلام، وإسقاط الإسلام من دساتير الدول الإسلامية، وقصره على العبادات، ومنا من فقدوا ثقتهم في العقلية الإسلامية، وشككوا في قدرات المسلمين، ونسبة إنجازات المسلمين للغرب، ووصفوا الإسلاميين بسرقة أفكار الغربيين ونسبتها إليهم، بل نجد اللغة الإنجليزية قد أصبحت هي الأساسية في الدراسات الجامعية في جامعاتنا، ليس في العلوم التجريبية فقط، بل أصبحت لغة دراسة الاقتصاد والإدارة أيضاً.

كما نجد الغرب قد نجح في نسبة الإرهاب إلى الإسلام بشرائه لمجموعة من الأفاكين مستغلين حبهم للمال وحاجتهم إليه للقيام بأعمال إرهابية، ونسبتها إلى جماعات إسلامية، هم في الغالب وراء إيجادها وتكوينها، حتى أصبحت الحكومات الإسلامية تخشى من كل ما هو إسلامي.

أليس هذا هو واقعنا الآن؟

قد يقول قائل: الخطأ خطؤنا ونحن أوصلنا أنفسنا إلى ما نحن عليه الآن، وأنا أتفق مع هذا القائل، ولكن لكي نكون واقعيين لابد لنا أن نضع أيدينا على الأسباب التي أوصلتنا إلى الحال هذه، ومن وراءها؛ علَّنا نستطيع تلافيها. وهنا يتطلب منا أن نطرح هذه الأسئلة:

متى تعَّرف الغرب إلى الشرق؟ وماذا كانت طبيعة هذه العلاقة؟ وما أهدافها وغاياتها؟ وكيف كانت نظرة الغرب إلى الشرق؟ وما هو تأثيرها على الثقافة العربية والإسلامية؟

وسأبدأ بالإجابة عن السؤال الأول:

متى تعرَّف الغرب إلى الشرق:

لقد تعرَّف الغرب إلى الشرق عبر قرون طويلة، وعن طريق عدد كبير من الكتَّاب والرَّحالة والجغرافيين والمؤرخين، وقد اختلفت وسائل اتصال أوربا بالشرق باختلاف أهدافها وبواعثها من وراء هذا الاتصال، وقد بدأت بعلاقات تجارية ترجع إلى أيام الكنعانيين، ثمَّ تلتها علاقات حرب واحتلال في زمن الإسكندر الأكبر في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد الذي وقف علماؤه لدراسة الشرق ليتمكن من غزوه. وهذه تعد البداية الحقيقية للاستشراق.

صورة الإسلام في أوربا من خلال الكنسية وكتابات المستشرقين:

وعندما ظهر الإسلام كثّفت الكنيسة جهودها لمهاجمة الإسلام والنبي محمَّد -صلى الله عليه وسلَّم-، ولقد ظهرت آراء ومواقف فظة ومشوبة بالعصبية في العقيدة الإسلامية، وقد أوضح المستشرق البريطاني ريتشارد سوذرن في كتابه "صورة الإسلام في أوربا في العصور الوسطى"، وكذلك نظيره نورمان دانيال في كتابه "العرب وأوربا في العصور الوسطى" تلك المواقف الفظة المشوبة بالعصبية ضد الإسلام ونبيه -محمّد صلى الله عليه وسلم-، وإلحاق فعال وصفات به هو منزه عنها، ولا تمت إلى الحقيقة والواقع بصلة، فقط ليشوهوا صورته وليصرفوا الناس عن الإيمان برسالته وبنبوته، وليفرغوا حقدهم عليه، والمجال لا يتسع لذكر ما نسبوه إليه باطلاً، ولكن يبين لنا هذا أنهم في تعاملهم معنا يخرجون عن جميع مبادئ وأسس الحوار العلمي الموضوعي المنطقي الذي يتظاهر به الغرب في نقاشه وحواره معنا.

قد يقول قائل إن طريقتهم اختلفت مع مشارف القرن العشرين، ولا سيما في العقود الأخيرة منه، وأقول هنا من خلال دراستي للاستشراق، ولبعض المدارس الاستشراقية -وأهمها المدرسة البريطانية والفرنسية والألمانية، وغيرها- وموقفها من السيرة النبوية؛ وجدتها لم تخرج عن الإطار الذي رسمه المستشرقون الأوائل الذين كان معظمهم من رجال الكنيسة، وعند دراستي لمصادرهم وجدت أن كتابات أولئك المستشرقين هي مصادرهم الأساسية، أمَّا المصادر الإسلامية فما هي إلاَّ مجرد إطار لوضع الصورة التي رسمها المستشرقون الأوائل مع تخفيف حدة الهجوم المباشر بتغليفه بغلاف يوحي بالمنهجية العلمية والموضوعية، ولكن عندما تتفحص في المحصلة والنتيجة تجد أنها لا تخرج عن الصورة التي رسمها أولئك المتعصبون الحاقدون على الإسلام ونبيه عليه أفضل الصلاة والتسليم، وتؤكد ما أقوله أهداف الدراسات الاستشراقية ونتائجها.

أهداف الاستشراق ونتائجه:

نتيجة لكشف بعض الباحثين العرب- في مقدمتهم الدكتور إدوارد سعيد، والأستاذ عبد النبي أصطيف، والدكتور أنور عبد الملك- أمام الرأي العام العالمي أهداف ومناهج المستشرقين مبينين مثالبه وعيوبه فلقد تخلى المستشرقون رسمياً عن مصطلح "مستشرق" في المؤتمر الدولي التاسع والعشرين للمستشرقين الذي عقد في باريس صيف عام 1973م، وقال المستشرق الصهيوني البريطاني الأمريكي برنارد لويس: "فلنلق بمصطلح مستشرق في مزبلة التَّاريخ"، لكنهم لم يتخلوا عن مناهجهم، وقد أعلنوا هذا في ذات المؤتمر، واتخذوا من مراكز المعلومات مصطلحاً جديداً للاستشراق الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية لتمارس من خلاله على الشرق ولاسيما الشرق الإسلامي ودول العالم الثالث نوعاً جديداً من الاستعمار، وهو أخطر أنواع الاستعمار ولم يسبق للبشرية أن رأت مثيلاً له، وهذا الاستعمار هو "العولمة".

...................................................................................

المصادر/

1- الشبكة الإسلامية

 2- موقع البلاغ

 3- الشيخ أحمد حسن/ موقع الجامعة الاسلامية في المدينة المنورة

 4- الشيخ جمال محمد بواطنه/  الجمعية الفلسطينية الاكاديمية للشؤون الدولية

 5- د. ناصر بن عبدالرحمن اليحيى/ موقع الالوكة

 6- المؤلف:د. عمر مولود عبد الحميد/  و د.جمعة محمود الزريقي / المركز القومي للبحوث والدراسات العلمية- ليبيا

 7- ياسر جعفر/ شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 3 كانون الثاني/2008 - 23/ذو الحجة/1428

 8- محمد الأوراغي/ موقع البلاغ

 9- سهام رمضان / صحيفة تشرين

 10- لطفي زغلول / شبكة بوابة العرب

 11- سهيلة زين العابدين حمَّاد/  موقع الاسلام اليوم

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 21 شباط/2008 - 13/صفر/1429