حرائق الفساد الإداري.. قد تمطر في  أي مكان!

عدنان الصالحي/ مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

  يعتبر الفساد الإداري والمالي ظاهرة عالمية الانتشار ولا تقتصر على مساحة محددة من البلدان ولكنها تنتشر وتستفحل بصورة كبيرة في الدول التي تعاني عادة من هزات سياسية متكررة، ونظام اقتصادي متدهور وإدارة متهرية وقضاء مسيس.

   يرى بعض المختصين بأنه لا يوجد تعريف خاص لمصطلح "الفساد" ولكن هنالك اتجاهات مختلفة تتفق على أنه "إساءة استعمال السلطة العامة أو الوظيفة للكسب الخاص وبأنواع متعددة وأوجه مختلفة" ويضيف الباحثون على أن أهم تلك  الصيغ هو آلية دفع الرشاوى المباشرة إلى الموظفين والمسؤولين الحكوميين مقابل تسهيل عقد الصفقات، أو وضع اليد على المال العام، والحصول على مواقع متقدمة للأبناء والأصهار والأقارب في الجهاز الوظيفي دون استحقاق أو منافسة واقعية.

ويطلق البعض على هذا النوع من الفساد بـ "الصغير" أما ما يشار له بالنوع الآخر " الكبير" فذاك ما يرتبط بعالم المقاولات وتجارة السلاح وتمرير الأجندة السياسية لصالح جهة ما على حساب المصلحة العامة.

     وفي العراق لا يمكن تحليل أو فهم أسباب و طبيعة تلك الظاهرة التي أصبحت خطر يضاهي خطر الدكتاتورية إلا بمتابعة تاريخ نشأتها في ظل أوضاع نُظم الحكم المتتابعة على هذه الدولة، وعليه يمكن القول إن الفساد في العراق ليس وليد اللحظة الآنية، بل متجذر في البنية الهيكلية منذ تشكيل الدولة العراقية الحديثة التي تأسست على الخلفية الطائفية. وبالتالي فان ظاهرة الفساد في العراق هي إفراز طبيعي لسنوات طوال من سياسات متخبطة وقيادات غير كفوءة، وغياب شبه كامل لسلطة القانون لصالح سلطة الفئة والجماعة، مضافا للحروب المتتالية وما أنتجته من فقر اقتصادي مدقع، وتسيب إداري متشعب، وغياب ثقافة التفاني والإيثار في الوظيفة العامة مقابل الحرص في المنفعة الشخصية.

    كل هذا وغيره ساهم مساهمة كبيرة في إنتاج نظام إداري متفسخ وفساد مستشر في جميع أجهزة الدولة ولاسيما خلال فترة الحصار الاقتصادي في تسعينيات القرن الماضي.

   أما التغيير السياسي في البلاد فلم يفلح لحد الآن في رسم خطوط عامة وواضح لمحاربة تلك الآفة بصورة جلية رغم استغلال الأخيرة لحالة الدولة المربكة لما بعد التغيير في عمل الكثير من مد الأذرع بجميع الاتجاهات، وحتى هيئة النزاهة التي شكلت في هيكلية الدولة الجديدة لم تستطع من وقف جريان هذا التيار أو وضع حدود له، بل عانت هي الأخرى وبحسب مسؤولين كبار من نخر في بنيتها الأساسية وتشوه في تركيبتها وخير دليل هو التغير المتوالي لرئاستها وبعض المدراء فيها.

    إلا أن الشيء الجديد في ظاهرة الفساد في العراق وهو أمر ملفت للنظر هي عمليات تغييب الكثير من أدلة الإدانة في محاولة الجناة وأعوانهم من التهرب من أي متابعة قانونية في المستقبل أو الحاضر كظاهرة حرائق المؤسسات والدوائر المهمة والمباني الحكومية المتكررة ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

1-     حريق الطابق  الثالث في أمانة رئاسة الوزراء.

2-     حريق الطابق الخاص بالحسابات والمخازن في مستشفى الناصرية العام.

3-     حريق إحدى الطوابق في وزارة النفط ببغداد.

4-     حريق مصافي بيجي لمرات متكررة.

5-     حريق مصفى الشعيبة في البصرة.

6-     حريق الطابق الثاني لوزارة الداخلية.

7-     حريق إحدى مصافي حمام العليل في نينوى.

8-     وأخرها حريق البنك المركزي في بغداد.

   هذا ناهيك عن الحرائق في جانب القطاع الخاص وما لحق من أضرار كبيرة كالحرائق المتكررة في اكبر أسواق بغداد التي تعتبر المصدر الرئيسي والشريان (الابهر) في حركة السوق العراقية، وما يؤكد الغرابة الشديدة هي عدم الكشف عن أي تحقيق في الحوادث السابقة، فغالبا ما تنتهي التحقيقات إلى نتيجة واحدة وهي غلق الملف بصورة روتينية.

    ربما يرى البعض بان ظاهرة حرق المؤسسات الحكومية لا تعدو مسألة طبيعية لإهمال الموظف ولاسيما بعد حالة الفوضى في العمل بحجة الديمقراطية، وعدم وجود المحاسبة السريعة والرقابة الشديدة، ولكن متابعة الحالة التي بدت تسري في مراكز ومؤسسات الدولة بشكل شبه تتابعي يثير من الاستغراب ما يصل إلى درجة الاستفهام، وهذا ما نراه هنا.

   الحديث في هذا المضمار مهم جدا والحالة التي برزت إلى السطح أخيرا تشكل تهديدا حقيقيا لكل الانجازات التي قد تحققت أو يراد لها ذلك، وخطورة الظاهرة تكمن في تلك الثقافة الجديدة التي تمارس بحجة أو بأخرى لإرباك البناء الجديد وبأسلوب الفوضى العارمة أو خلط الأشياء وتغييب المعالم، وهي في حقيقة الأمر لا تبتعد كثيرا في هدفها عن (ثقافة الفرهود أو الحواسم) كما يعبر البعض، بل إنها اخطر من ذلك بكثير فالمخطط لمثل ذلك يضع في نيته المسبقة تدمير أكبر مساحة ممكنة لإدارة وأرشفة و خطط الدائرة المعينة في التطوير، وهي بكل الاتجاهات أما تغطية لسرقات سابقة أو تنفيذ لمخطط خارجي وتبقى تحت احد أنواع الفساد ( الصغير  أو الكبير).

  والسؤال المهم، هو كيفية حدوث تلك الحالات في أبنية ومراكز مهمة تكون فيها السلامة الصناعية والحالة الأمنية من الأمور المهمة جدا، وفي بنايات ومواقع شهدت حالات اعمار حديثة ومتطورة بنسب جيدة مع ملاحظة الجانب التقني والفني والسلامة الموقعية فيها، وقد وضعت التصاميم في أكثر المواقع المهمة بإشراف واستشارات شركات متخصصة في مجال البناء والأعمار، هذا بحد ذاته يثير حالة من الاستغراب والتوجس، فالأغلب يعرف ولاسيما من في تلك الأماكن بان أنظمة الإطفاء مثلا متوفرة في الطابق الواحد بعشرات العبوات، فكيف للنيران أن تسري بهذه السرعة في عدة غرف برغم تواجد الموظفين أثناء الدوام الرسمي لتلك الدوائر والذي يأتي على البناية بشكل شبه تام؟.

   الشيء الآخر، وحسب معلوماتنا تواجد أفراد حماية المنشات متمركز في كل قسم والمفروض أن يكون هؤلاء مدربين على جميع أنواع الدفاع الأمني والمدني والعسكري بحسب وظيفتهم المخصصين لأجلها, ونحن هنا لا نريد وضع هؤلاء الأشخاص موضع الاتهام بقدر ما هو حصر المسؤولية بالجاني الحقيقي وبيان من يقف وراء الحادثة.

  ولكن واقع الحال يجيب عن التساؤلات أعلاه بصور كارثية فالناظر إلى طوابق البنك المركزي في بغداد سيتصور أن البناية تقع في عرض الصحراء وعندما احترقت لم يكن احد بجوارها أصلا وليس في داخلها، ناهيك عن عدم نقل الصور في مواقع أخرى بحجة الوضع الأمني لها ولك أن تتصور الحالة.

   أما الأمر الذي يختص فيما بعد الحرائق ونواتجها فهي لا تكاد تعدو تكهنات وإطلاق التوقعات بطرق وأسباب الحريق والياته وعدم وجود أي ربط بين الحوادث التي تقع مرة في جنوب العراق لتنتقل بقدرة قادر إلى شماله بمجرد انطفاءها في سابقته ولتسكن فترة وتظهر في مركز العاصمة وهكذا تدور تلك الكتل النارية بدون تفسير حقيقي لها.

   البعض يرى بان كثرة حديث المسؤولين في عدة جوانب ساهمت بشكل أو بآخر في ردود فعل سلبية، فعلى سبيل المثال يتحدث بعض الوزراء أو من بدرجاتهم عن خطط الحكومة المستقبلية في إنتاج الحكومة الالكترونية أو الحملات المقبلة في مكافحة الفساد وغيرها، وهذا بدوره قد يحرك البعض لقراءة ما بين السطور ليستبق الحالة بفعل يحاول فيه ضمان عدم متابعته قانونيا أو كشف ما بذمته من ارتباطات سابقة.

متطلبات المرحلة

مما لاشك فيه بان الدولة بأجهزتها المتعددة والحكومة بصورة خاصة تواجه عقبات كبيرة منها الداخلي والخارجي،  ولاسيما في محاولة صعبة لتثبيت أسس نظام الحكم الجديد وترجمته على ارض الواقع بصور صحيحة وصحية، وهذا ما يحسب للكثير ممن هم في داخل تركيبتها بالجهد الطيب، غير إن السير في واد لا يعفي المسؤولين من متابعة المسالك الأخرى والقنوات المهمة التي قد تكون تنفيذية بحتة ولكن مردوداتها السلبية قد يكون ذات اثر سيء على العملية السياسية برمتها، وفي مرحلة الدولة الفتية كالحكومة الحالية فان سباق الزمن يكون عنصر مهم جدا في أي حساب، والتهاون في مجال ما قد يسري بنار التكاسل عن بقية الأجزاء،

وفي هذا عدة ملاحظات:

1- لقد اتسمت المرحلة التي شهدها العراق بُعيد التغيير السياسي بفوضوية كبيرة أنتجتها عناصر متعددة منها الإدارة غير المدركة لكثير من الحالات، وإسناد المناصب حسب القناعات الشخصية وغيرها، مما ولد حالة من الفساد المالي وغسيل الأموال وهذا يحتاج إلى الإسراع بالتفتيش عن بقايا المواقع التي تم التعيين حسب ما شرنا وإعادة تقييم المعينين.

2- أعلنت الحكومة العراقية بان العام الجديد سيكون عام الحرب على المفسدين وهذا يتطلب برنامج واسع يشارك فيه الجميع من اجل فرض (سلطة القانون) في المجال الإداري، وبطبيعة الحال فذلك يستلزم حشد الطاقات الإعلامية والقانونية والأخلاقية في متابعة الحالات وكشفها ولاسيما حالات الحرائق وتقديم المتورطين علانية للقضاء.

3- تكثيف البرامج التوعوية في مدى خطورة الحالة في تدمير البنى التحتية للبلاد من خلال تلف الكثير من الوثائق المهمة نتيجة الحرائق المتكررة، وعدم سوقها كحالة خبرية، وإرفاقها بتعليمات الدفاع المدني لتلافي الحالة مستقبلا، إن كانت تقع بصورة غير مقصودة.

4- تشريع القوانين الخاصة بحالات الفساد الإداري للمرحلة الحالية بصيغ أكثر صرامة كونها مرحلة مهمة في بنية الدولة الجديدة وضمان محاسبة المتسبب والمحرض والمنفذ والمتستر على حد سواء.

5- وضع موافقة هيئات النزاهة أو ما يعادلها من دوائر رقابية كشرط أساس لسفر أي مسؤول يتبوأ مقاعد مهمة في الدولة لضمان عدم هروب أي مرتكب لجريمة ما.

6- حث الجهات الثقافية ومنظمات المجتمع المدني للبدء بحملات توعية واسعة لمخاطر الفساد الإداري وما ينتج عنه من تدمير شامل لهيكلية الدولة وعدم اقتصار على الدوائر المرتبطة ببنية الحكومة في متابعة ذلك.

7- إشاعة ثقافة النزاهة الأخلاقية وإشراك الجانب العقائدي والاجتماعي في كون الفساد الإداري يشكل علامة سلبية في تركيبة الشخص وسمعته.

8- البدء بالمحاسبة والمتابعة من أعلى الهرم الحكومي والنزول إلى أسفل القاعدة  ضمان امتثال الجميع للمسائلة وعدم الاثنينية في القياس والحساب، وهذا بدوره يشكل علامة جيدة في خضوع الجميع لرقابة القانون والقضاء وعدم ترفع احد عن ذلك.

* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

http://shrsc.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 13 شباط/2008 - 5/صفر/1429