مصطلحات سياسية: الأوتوقراطية

الشـــــــــــــــــــخصية الأوتوقراطية...(1)

شبكة النبأ: وهي شخصية تتواجد في المجتمع ، ولكنها تواجهنا كثيرا في إدارة الاعمال ، تستمد قوتها من السلطة الإدارية الأعلى منها و أن المسؤلية قد منحت لها وحدها ولا تفوت لغيرها وتهمل هذه الادارة السلطة الغير رسمية وهي سلطة تمنح لها جانب من المرؤسين ومن السمات المميزة لهذا النوع من الإدارة مايلي:

- إصدار الأوامر والتعليمات التي تتناول كافة التفصيلات.

- الاصرار على طاعة المرؤسين والإستبداد بالرأي وإستخدام التخويف والترهيب.

- وهي شخصية غير ودية في اسلوبها .

- تلتزم بحرفية الإجراءات ولا تحيد عنها .

- دورها هو الدور الرئيسي إذا تقوم بجميع الأعمال الفنية الهامة أما دور المرؤسين فهو دور ثانوي فلا يقومون بأي عمل إلى باستشارتها.

- ينعدم الحوار بينهما وبين العاملين وخاصة بالأمور ذات الصلة بالعمل .

- تقود وتأمر وتوجب وتصدر القرارات والتعليمات وتتأكد من تنفيذها وعلى المؤسين أن يتبعوها .

- تنعدم قدرتها في قدرات وإستعدادات مرؤسيها وتقلل من قيمتهم الشخصية.

- تضع من الطرق والوسائل مايحقق سير العمل سيرا منتظما ودقيقا

- تتضمن هذة الإدارة بالعمل بدرجة كبيره.

- لا تتهم بعقد الإجتماعات الدوريه للتشاور مع العاملين .

- تقوم على فكرة الزعامة وغالبا ماتتعرض العلاقات بين الرئيس والمرؤسين بشتى الأضرار وتسوء علاقاته الخارجية مع أفراد المجتمع .

- يظل تماسك العمل مرهون بوجودها وعند غيابها ينفرط عقد المجموعة ويضطرب العمل .

- أن أهم مايميز هذه الشخصية هو الحزم والإنضباط في الادارة العمل.

- عدم تقبل هذه الشخصية للنقد الموضوعي أو التراجع عن مايصدره من تعليمات حتى وإن أدرك أنها تعليمات عير صحيحة.

- الإجتماعات التي يعقدها تكون في أضيق الحدود وغير دورية وبدون جدول أعمال كما أن وقت الإجتماع قصير وغير كافي للمناقشة والآراء ووجهات النظر للعاملين معه وغالبا ماتقتصر الاجتماعات على التعليمات فقط.

- في الأمور التي تصعب عليه لا يناقش العاملين فيها.

وبعد السرد لأهم خصائص تلك الشخصية الاوتوقراطية سنتناولها في ضوء الفكر الإداري التربوي المعاصر:

- هذا النوع من الشخصية يحدث تحسين في تأدية العمل والنمو الذاتي للعاملين ولكن بدرجة ضعيفة جدا في الانتاجية، وغالبا مايسود الخمول في الانتاج وعدم التطور السريع في الاعمال.

- روح التعاون الاختياري بين الرئيس والمرؤسين تكون منعدمة بل بين المراوسين بعضهم ببعض .

- الثقة تكون معدومة بين العاملين بينهم وبين بعض في ضوء هذه الشخصية الاوتوقراطية.

- الإدارة هي مصدر القرارات والتعليمات الفردية والتأكد من تنفيذها ، ويؤكد الفكر الإداري المعاصر على أن اتخاذ القرارت دون مشاركة العاملين قد يحدث خطأ كبيرا وسلبية في إنتاج القرارات . كما يفقد المراوسين الشعور بالرضى والفخر المصاحب للمشاركة في إتخاذ القرارت وعدم إعطائهم الفرصة للتقدم والنمو .

- هذا الأسلوب يضعف روح البحث والتفكير والإبتكار بين العاملين.

- أن العاملين تحت رئاسة النمط الاوتوقراطي يؤدون أعمالهم تحت سيطرة الخوف وفي جو من القلق والرهبة مع انعدام الرقابة الذاتية بينما يؤدي الفكر المعاصر على أن الفرق إذا توافرت الحرية المسؤلية يكون قادر على الابتكار وتحقيق ذاته والإلتزام بقيم عليا ويراقب نفسه مراقبة ذاتية سليمة للكل .

ويتضح مما سبق أن الشخصية الاوتوقراطية في الادارة للاعمال المختلفة اسلوب ونمط مرفوض من وجهة نظر الفكر الاداري المعاصر.

وهنا سوف نلخص أهم النتائج السلبية للسلوك الاوتوقراطي بالادارة للاعمال كالتالي:

- ضعف الإنتاجية.

- إنعدام التعاون وكراهية العمل .

- ضعف العلاقة الإنسانية .

- كثرة القرارات الخاطئة.

- انخفاض الروح المعنوية .

- انعدام الإبداع والإبتكار.

- ضعف الرقابة الذاتية من قبل الشخصية الاوتوقراطية.

- القلق والإضطراب لدى المرؤسين .

- الثقة المنعدمة بين الجميع.

- قلة فرص النمو لدى الجميع.

فهذه الشخصية يتضح من خلال السلبيات أنها ضارة على انتاجية العمل ومعرضة للفشل وابتعاد المرؤسين عن العمل وقلة الثقة بين الجميع في هذه الدائرة.

فالتربية وادارة التخطيط للفكر المعاصر تساهم في ابتعاد هذا النوع من الاشخاص وتقليل فرص عملهم لما لها من تاثير سلبي على المجتمع والاعمال الاخرى من ناحية اخرى

أتمنى في ختام ملخصي لهذه الشخصية أن تكون تلك النقاط التي سردتها لكم هي أهم مايواجه الشخصية من النواحي المختلفة وأن اكون لممت بها من جميع النواحي الشخصية والاجتماعية والفنية والانتاجية.

قيادة(2)

القيادة Leadership هي القدرة على التأثير وتحفيز الأفراد للقيام بأمر ما يوصل لتحقيق الأهداف. وتعد القيادة من أهم العناصر التي يجب توافرها في الشخص الإداري، لتكون سبباً في تحقيق أهداف المؤسسات بأعلى درجات الكفاءة والفاعلية. ويعد التوجيهDirecting هو جوهر عملية القيادة.

 أهمية القيادة

أنها حلقة الوصل بين العاملين وبين خطط المؤسسة وتصوراتها المستقبلية.

أنها تعمل على توحيد جهود العاملين نحو تحقيق الأهداف الموضوعة.

السيطرة على مسكلات العمل ورسم الخطط اللازمة لحلها.

تنمية الأفراد وتدريبهم ورعايتهم وتحفيزهم.

 أدوار القيادة

من الأدوار التي يقوم بها القائد المعلم، القائد مستشاراً، القائد قاضياً، والقائد متحدثاًباسم.

 القائد معلماً Educator

يجب على جميع المديرون أن ينجزوا دور القيادة التعليمي. ويؤدي المديرون هذا الدور بتعليم المرؤوسين مهارات الوظيفة، وكذلك السلوك المقبول والقيم التنظيمية السائدة في المؤسسة. كما يحقق المديرون كثيراً من السلوك التعليمي من خلال نتفيذ عملهم اليومي الخاص بهم. إن عاداتهم في العمل، واتجاهاتهم، و مواقفهم، وتصرفاتهم، تعدّ نموذجاً لكل من يلاحظهم.

 القائد مستشاراً Counelor

إن الدور القيادي الثاني الذي يلعبه المدير هو المستشار'. ويتضمن هذا الدور قيام المدير بالإصغاء، وتقديم النصيحة، ومنع حدوث المشكلات بين المرؤوسين، والقيام بحلّها في حال حدوثها. إن دور القائد مستشاراًَ لا يعني أن يقوم بحل جميع مشكلات المرؤوسين، إنما يعني تقديم المساعدة في تحديد المشكلة الرئيسة، والبحث عن الحلول الممكنة.

 القائد قاضياً Judge

يشمل دور القائد كقاض تقييم أداء المرؤوسين، وتنفيذ القوانين والأنظمة والإجراءات والسياسات، وتسوية النزاعات، وإقامة العدل.

تقييم الأداء يتطلب من المدير معرفة المعايير التي تستخدم في قياس المخرجات.

و تنفيذ القوانين والأنظمة والإجراءات والسياسات، فيرتبط بالاتصال والتدريب، لذلك يجب إبلاغ المرؤوسين، واطلاعهم على التعليمات والإرشادات الموجودة، وكيف تطبق على ظروفهم المحددة.

أما وظيفة تسوية النزاعات، فتتطلب ممارسة اللباقة والاهتمام بحل الخلافات.

وأما إقامة العدل فيتضمن إعطاء المكافآت والامتيازات لمن يستحقها، وكذلك فرض العقوبات المناسبة إذا لزم الأمر.

 القائد متحدثا باسم Spokesperson

يعمل القادة ناطقين باسم المرؤوسين عندما يقومون بنقل اقترحاتهم،و اهتماماتهم، ووجهات نظرهم إلى المسؤولين الأعلى، أي القيام بتمثيل وجهة نظر المرؤوس للجهات العليا في الإدارة.

أنواع القيادة (بالإنجليزية: Types of Leadership) يمكن تصنيف القيادة في مجموعتين، حسب سلوك القائد، وحسب الهيكل التنظيمي:

 التصنيف حسب سلوك القائد

 1) القيادة الأتوقراطية Autocratic Leadership

يعرف هذا النوع من القيادة بأسماء مختلفة كالقيادة العسكرية، أو القيادة الاستبدادية (الديكتاتورية). ويعود تاريخ هذه القيادة إلى العصور الاولى من تكوين الإنسان لمجتمعه، حيث كانت القوة ضرباً من ضروب الحياة، ويتميز هذا النوع من القادة بسلوكه التعسفي المستمد من السلطة المخولة له.

يعتمد هذا القائد على السلطة الرسمية المخولة له بموجب القوانين والأنظمة، ويميل القادة الذي يستخدمونه إلى حصر السلطةفيهم، والانفراد في عملية اتخاذ القرارت، ووضع الخطط والسياسات دون مشاكرة الكروسين في ذلك،و يتم عمل الجماعة بمشاركة القائد وتوجيهه المباشر، وفالباً ما يكون سبب ذلك عدم ثقة القائد بإمكانات المرؤسين في اتخاذ القرار المناسب. وإذا أُطيع القائد الأوتوقراطي المتسلط، فإن ذلك يتم تجنباً للعقاب الذي قد يفرضه على المسؤولين. ويركز هذا النوع من القادة على المهام المطلوبة، وعلى إنتاجية الجماعة، دون الاهتمام بمشاكل العاملين، ومعنوياتهم. ويتم أداء العمل بكفاءة عالية في الفترات الأولى أكثر منه في ظل القيادة الديمقراطية. كما أن الإنجاز يستمر في مستواه العادي بحضور القائد، ولكنه يقل عن ذلك في حال غيابه.

 أنواع القيادة الأوتوقراطية

يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع من القيادة الأوتوقراطية، تتراوح بين الأوتوقراطي العنيد المتشدد، والمتمسك بتطبيق القوانين و التعليمات، والأوتوقراطي الخيّر، الذي يحاول أن يستخدم كثيراً من الأساليب المرتبطة بالقيادة الإيجابية، من خلال الثناء و العقاب البسيط، كي يضمن طاعة مرؤوسيه له، و الأوتوقراطي المناور الذي يوهم مرؤوسيه أن يشركهم في اتخاذ القرار، وهو في الوقاع يكون قد انفرد باتخاذه، وهذا النوه من القيادة الأوتوقراطية المتسلطة يتمثل في الإدارة التقليدية بكل مواصفاتها.

 2)القيادة الديمقراطية

يعتمد القائد الديمقراطي على قبول التابعين لسلطته، وليس على السطلة الرسمية المخولة له. ويعد الأسلوب الديمقراطي في القيادة معاكساً للأسلوب الأوتوقراطي المتسلط. فهو يعتمد أولاً على تطوير العلاقات الإنسانية الجيدة بين القائد والأفراد، من خلال إشباع حاجاتهم و الاهتمام بهم، والاعتراف بأهمية دورهم في المؤسسة.

كما يركز هذا النوع أيضاً على مشاركة العاملين في مناقشة المشاكل التي يواجهونها، وبحثها، وفي اتخاذ القرارات التي تتعلق بعملهم، و يؤمن القائد الديموقراطي، بإمكانيات مرؤوسيه و قدرتهم على اتخاذ القرارات التي تتعلق بعملهم، و يزمن القائد الديمقراطي بدعم جماعات العمل و تشجيعهم على العمل الجماعي و التعاون.

 أساليب القيادة الديمقراطية

تتبع هذه القيادة أساليب الإقناع، والاستشهاد بالحقائق، والاهتمام بأحاسيس الأفراد و مشاعرهم، وجعلهم يشعرون بكرامتهم و أهميتهم، ولهذا فإن القائد الديمقراطي يستأنس بآراء أتباعه و يعير أفكارهم الاهتمام اللازم، ويقدر لهم المعلومات والإرشادات اللازمنة، ويلعب دوراً فعالاً في تنمية الابتكار، وتحقيق التعاون، وإطلاق قدرات المرؤوسين و طاقاتهم الكامنة.

 3) قيادة عدم التدخل Free-Rein Leadership

يخلتف هذا الأسلوب في القيادة عن كل من الأسلوبين السابقين، فالقائد الذي يستخدم هذا الأسلوب في القيادة لا يؤدي في حقيقة الأمر أي عمل يذكر، فهو يقوم فقط بإخبار المرؤوسين بالهدف المطلوب تحقيقه، ثم يتركهم يفعلون ما يشاؤون دون لتدخل فيهم، سواءً أتعاونوا أم لم يتعاونوا، يعملون أو لا يعملون، فهذا شأن خاص بهم. ولا يشترك القائد بموجب هذا الأسلوب في تنظيم شؤون المرؤوسين، أو التنسيق بينهم، ولا يتدخل أي أمر أو يوجه، أو يفصل في أي شيء. ويغلب على هذا النوع من القيادة عمومية التعليمات وعدم الاستقرار، وإهمال معظم جوانب النشاط، هذا بالإضافة إلى إضاعة الكثير من الوقت وازدواج الجهد.

الديمقراطية والرخاء الاقتصادي(3)

إننا نعيش حقبة من التوسّع الديمقراطي التاريخي. فقبل فترة غير بعيدة، سنة 1988، كان ثلثا حكومات العالم حكومات اوتوقراطية. أمّا اليوم، فان 70 بالمئة من الحكومات، في كل منطقة من مناطق العالم، أصبحت تسير في المسار الديمقراطي. فلأول مرة في التاريخ، يعيش أكثرية مواطني العالم في ظل شكل ما من أشكال الأنظمة السياسية ذات الحكم الذاتي. وفي حين تبقى هناك أمثلة عن حالات من التراجع، فان الاتجاه العام يبقى إيجابياً.

ان تقدّم الديمقراطية يزيد من الآمال في تحقيق توسّع مماثل من الرخاء الاقتصادي. وحقيقة الأمر انه بات من المعترف به ان الدول الديمقراطية الصناعية هي التي تمتلك الاقتصادات الأكثر حراكية، وابتكاراً، وإنتاجية في العالم. كما ان استقرار هذا النمو، ومتانة المؤسسات المالية التي تسانده، وحماية حقوق الملكية في تلك الديمقراطيات، قد مكنّتها من مراكمة واستدامة تحقيق التحسينات في نوعية حياة مواطنيها عبر أجيال عديدة.

غير ان 80 بالمئة من الدول، التي تمر في طور الانتقال إلى الديمقراطية، هي دول موجودة في العالم النامي. وقد أجج هذا الأمر نار الهواجس القائلة إن دَمَقرَطة البلدان، أو تحولها نحو الديمقراطية، "قبل ان تكون جاهزة" لذلك من المحتمل، ان يجعلها تعاني من الركود الاقتصادي. هذه المخاوف تعززها رؤية الظروف المعيشية في أميركا اللاتينية وأفريقيا، والتي لم تتحسن على الرغم من تحرّك هذه البلدان باتجاه الديمقراطية.

وهكذا نجد أنفسنا أمام مفارقة محيرة. فمن جهة، خَطَت الإنسانية خطوات جبّارة باتجاه المزيد من المشاركة والتمثيل في نظام الحكم خلال الجيل الفائت. لكن، من جهة ثانية، لا زالت هناك أوجه تضارب عميقة حول كيفية تأثير هذه التغيّرات على الرخاء الاقتصادي العالمي.

السجل التاريخي

تُظهر مراجعة السجل التاريخي أن العديد من هذه التحفظّات تبقى في غير محلّها. فقد حققت الديمقراطيات عالمياً، (كما دلّت على ذلك مؤشرات عن الحكم المستقلة التي أنتجتها مؤسسة فريدوم هاوس، أو بوليتي IV) متوسطات لمعدلات النمو زادت عن 25 بالمئة عن تلك التي حققتها البلدان ذات الأنظمة الاوتوقراطية، خلال كل عقد من العقود الأربعة الأخيرة. وحتى لدى البلدان ذات الدخل المُتدني، فقد حققت الديمقراطيات معدل نمو بالنسبة لدخل الفرد الواحد، بالمقارنة مع نمو إجمالي الناتج المحلي، مساويا لمعدل النمو لدى نظيراتها من البلدان ذات الأنظمة الاوتوقراطية. هذا مع العلم أن ربع تقديرات دخل الفرد في الأنظمة الاوتوقراطية غير متوفرة منذ سنة 1960. وحيث أن هناك اعتقاداً بان البلدان التي تتستر على نشر المعطيات الاقتصادية لديها يكون أداؤها دون المطلوب عادة، فان النمو الاقتصادي النسبي للأنظمة الديمقراطية يبقى أكبر مما هو معتقد.

كان متوسط معدل النمو للفرد الواحد في البلدان الديمقراطية، باستثناء شرق آسيا، حيث حقّقت بعض البلدان ذات الأنظمة الاوتوقراطية نمواً إستثنائياً، أعلى بنسبة 50 بالمئة منه في البلدان الاوتوقراطية. بعبارة أخرى، تميل البلدان النامية الديمقراطية مثل بوتسوانا، وكوستا ريكا، وجمهورية الدومينيكان، وغانا، ولاتفيا، وليثوانيا، وموريشيوس، والسنيغال، إلى النمو بسرعة أكبر من البلدان ذات الحكومات الاوتوقراطية مثل بيلاروسيا، والكاميرون، والكونغو، وكوبا، وسوريا، وتوغو، واوزبكستان، وزيمبابوى. ومنذ العام 1990، ونهاية التنافس بين الدول العظمى التي ساندت العديد من الاقتصادات الاوتوقراطية، فقد استمر متوسط الفوارق في معدلات النمو الاقتصادي في الاتساع.

الأمر الهام أيضاً يتمثل في ان النمو الاقتصادي في البلدان الديمقراطية ميالٌ لان يكون أقل تقلباً منه في غيرها. فمن المرجح ان نسبة تعرّض البلدان النامية الديمقراطية إلى انكماشات حادة في إنتاجها الاقتصادي تَقِلّ بنسبة قدرها 70 بالمئة عن الانكماشات التي قد تحصل في إنتاج البلدان الاوتوقراطية خلال أي سنة معينة (أي، ما يماثل هبوطا قدره 10 بالمئة من إجمالي الناتج المحلّي). ثلثا تلك الديمقراطيات التي عانت من هذه "الكارثة الاقتصادية"، كانت من بين البلدان التي كانت تمر في مرحلة انتقالية من الاقتصادات الشيوعية في التسعينات من القرن الماضي.

وعندما نأخذ في عين الاعتبار تقديمات الرفاه الاجتماعي، فإننا نجد ان أداء البلدان الديمقراطية يتميّز بقدر أكبر بكثير. فمتوسط العمر المتوقّع لدى مواطني البلدان الديمقراطية النامية أطول بـ 12 سنة، كما ان نسبة الوفيات بين الأطفال (التي هي أساسية بالنسبة للعديد من مقاييس الرفاه) أدنى بنسبة 20 بالمئة، ومستويات التمكن من الوصول إلى المدارس الثانوية أعلى بنسبة 40 بالمئة، ومعدلات الخصوبة أدنى بنسبة 30 بالمئة، ومحاصيل إنتاج الحبوب أعلى بنسبة 25 بالمئة، كمتوسط، مما هي عليه في تلك الاوتوقراطيات التي لديها نفس المستويات المماثلة من الدخل.

انفصال ديمقراطي في أميركا اللاتينية وأفريقيا؟

إن نمط التوسع الديمقراطي وتحسن الرفاه الإنساني ينطبق أيضاً على أميركا اللاتينية وعلى البلدان الأفريقية الواقعة إلى الجنوب من الصحراء الكبرى. ففي أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي، وسّعت جميع بلدان المنطقة، البالغ عددها 33 بلداً، اقتصاداتها منذ 1990، باستثناء ثلاثة بلدان (هي فنزويلا، وهايتي، والبراغواي، أمّا المعطيات عن كوبا فغير متوفرة). يعكس هذا النمو زيادة بنسبة 25 بالمئة في الدخل الفردي، كمتوسط، كما يلاحظ حدوث تقدم متماثل في الظروف الحياتية في نفس الفترة. وقد هبطت نسبة الوفيات لدى الأطفال على نطاق المنطقة بمجملها بمقدار 15 بالمئة، وازدادت نسبة التمكن من الوصول إلى الماء النظيف في المناطق الريفية من 61 إلى 77 بالمئة، وارتفع تسجيل الطلاب في المدارس الثانوية بنسبة 20 بالمئة ليصل إلى 65 بالمئة منذ 1990. وهكذا، في حين قد يكون التقدم في أميركا اللاتينية أكبر مما كان مأمولاً له، وحيث التفاوتات في الدخل بقيت ثابتة، فقد تمّ تحقيق مكاسب فعلية ومتواصلة في ظل حكم قيادات المنطقة الديمقراطيين.

أما قدرة الديمقراطيات في التخفيف من التقلّبات الاقتصادية فأتت واضحة أيضاً في أميركا اللاتينية. فقد عانت أميركا اللاتينية 36 حقبة من التضخم النقدي السنوي الذي تجاوز 100 بالمئة خلال فترة الثمانيات من القرن الفائت. لكن، ومنذ العام 1992، لم تعرف الديمقراطيات سوى خمس حالات فقط من تلك الحالات، وجميعها حدثت في سورينام والبرازيل. وعلى نفس هذا المنوال، فقد تراجع عدد حالات الركود الاقتصادي الحاد، أي تلك التي نتج عنها هبوط بنسبة 10 بالمئة في الدخل الفردي بين سنة وأخرى، فإنه تراجع من 15 حالة خلال ثمانينات القرن الماضي إلى حالتين منذ العام 1990. ففي تَجنّبهم للأزمات الاقتصادية وتقلباتها، التي تميّز بها التاريخ الاقتصادي لأميركا اللاتينية، كان أنصار التحول نحو الديمقراطية أكثر قدرة على البناء على المكاسب الديمقراطية التي حققوها.

أما في أفريقيا، فقد تميّزت المسيرة نحو الديمقراطية بتفاوتات كبرى، إذ يمكن اعتبار ربع الدول الأفريقية تقريباً، البالغ عددها 48، من بين الدول التي تعمل في سبيل توطيد الديمقراطية. وهناك ربع آخر من الدول يسير على مسار الديمقراطية. لكن النصف الآخر من الدول الأفريقية لا زال، بشكل أو بآخر، يقف عند الجانب الآخر من طيف أنظمة الحكم. أمّا التقدم الاقتصادي والاجتماعي لأفريقيا، خلال العقد الماضي، فإنه يعكس عن كثب هذا التباين الديمقراطي. فقد حققت الديمقراطيات والعاملون على توطيد أسس الديمقراطية في أفريقيا زيادات إجمالية في متوسط الدخل الفردي نسبتها 15 بالمئة. وخلال تلك الفترة، عرفت الحكومات الاوتوقراطية وشبه الاتوقراطية، بالمقارنة، معدل زيادة في الدخل بنسبة سبعة بالمئة، تدخل ضمنها المكاسب التي حققها النمو في البلدان التي يعتمد اقتصادها إلى حد كبير على النفط مثل السودان، والكاميرون، والغابون، وغينيا الاستوائية (التي عرفت بمفردها توسعاً اقتصادياً بلغ خمس أضعاف منذ 1995). وعرفت نصف البلدان الأفريقية الاوتوقراطية أو الشبه اوتوقراطية، البالغ عددها 24 بلداً، نمواً سلبياً أو جموداً اقتصادياً منذ العام 1995.

التقدم الاقتصادي المتواصل في البلدان الديمقراطية الأفريقية يتم ترجمته إلى تحسّن في الظروف المعيشية. فقد هبط متوسط معدلات الوفيات لدى الأطفال بنسبة 18 بالمئة في البلدان التي تعزز الديمقراطية، وبنسبة 14 بالمئة في البلدان التي تسير في طريقها إلى الديمقراطية، منذ العام 1990. وعلى العكس من ذلك، كانت معدلات الوفيات بين الأطفال في البلدان الأفريقية ذات الحكومات الاتوقراطية أو الشبه أوتوقراطية، في معظمها راكدة، عند معدّل من التغيرات يتراوح بين 2.4 بالمئة وصفر، منذ العام 1990. بعبارة أخرى، لم تشهد الأغلبية العظمى من المواطنين في البلدان ذات الحكومات الاتوقراطية، مثل الغابون، والكاميرون، والكونغو، وسوازيلاند، وزيمبابوى، وأنغولا سوى القليل، ان لم يكن الانعدام، من التحسن في مستوياتها المعيشية.

لماذا تتفوّق الديمقراطيات

النتائج الاجتماعية والاقتصادية القوية التي ولدّتها الديمقراطيات، لا يمكن ان تُنسب إلى تَوفّر قدر أكبر من الموارد الطبيعية: فالديمقراطيات، في العادة، لا تتعرض لمستويات أعلى من العجز في مالياتها العامة كما انها لا تتلقى مستويات عالية من المساعدات المالية الخارجية. بل الذي يظهر هو ان مسار العمليات الداخلية الخاصة بالأنظمة الديمقراطية هي التي تكون المسؤولة عن حسن أدائها. ويكمن أحد "أسرار" النجاح الإنمائي للديمقراطيات في قدرتها النسبية على تجنّب الكوارث، ذلك انه نادراً ما تترك الديمقراطيات اقتصاداتها تصل إلى الهاوية. فمن بين أسوأ 80 أداءً سنوياً اقتصادياً تمّ تسجيلها منذ العام 1960، لم يحدث إلاّ خمسة منها فقط في بلدان ديمقراطية. ونظراً لحالة الوهن الشديد القائمة التي تواجه معظم المجتمعات التي تعيش في حالة من الفقر، فإن قدرة الديمقراطيات على تخفيف التقلّبات الاقتصادية توفر لها فائدة جوهرية. فبدلاً من الحاجة إلى انتشالها تكراراً من الانهيارات التي تسببها الأزمات الاقتصادية، تجد الديمقراطيات نفسها أكثر قدرة على تحقيق التراكمية في أصولها المالية بين السنة والأخرى. ومثلها مثل حسابات الادخار، التي تؤدي المكاسب المستديمة فيها، عندما تتراكم، إلى تحقيق الرخاء الاقتصادي.

ثمة طائفة متعددة من الأسباب الأخرى للسجل التاريخي الناجح للديمقراطيات في تحقيق للتقدم القائم على قاعدة عريضة. أما في المفهوم، فهناك ثلاث صفات مُميّزة تمتلك علاقة متبادلة فيما بينها تستحق الانتباه: مشاطرة السلطة، والانفتاح، والقدرة على التكيّف.

فالرئيس الديمقراطي، أو رئيس الدولة، عليه ان يحوز على تأييد الأعضاء الأساسيين في حزبه وفي حكومته، وفي هيئته التشريعية، وأحياناً في القضاء، قبل ان يتمكن من انتهاج سياسة معيّنة. وعلى نفس هذا النحو، يكون للمعطيات التي يوفرها له المجتمع المدني أهميتها أيضاً في التأثير عليه. فاجتماع كل هذه الطبقات من المساءلة الأفقية سوية هو ما يخفف من التطرف في صناعة القرار، ويحدّ أيضاً من الرعاية الشخصية أو المحسوبية، فيَتحسّن بالتالي احتمال قيام التمويل والمخصصات والتعيينات على أساس الاستحقاق والأهلية بدلاً من العلاقات الشخصية الخاصة. ومن جهتها، تُؤمّن الانتخابات الدورية الحرة والنزيهة، حافزاً واضحاً للقادة الديمقراطيين لكي يتجاوبوا مع مصالح عامة الناس وإلا أُخرجوا من الحكم.

وعلى نفس المنوال، فإن انفتاح الديمقراطيات، يساهم مباشرة، في الفاعلية الاقتصادية. فالأسواق التي يتسنى من خلالها وصول المشترين إلى المصادر المستقلة للمعلومات، تُولّد مزيداً من الثقة، كما إلى وجود الأسعار التنافسية، واجتذاب الاستثمارات. وكذلك الأمر، فإن إمكانية الوصول الأكبر إلى المعلومات تُشجّع أيضاً الحوار والتحليل السياسي المُتنور قبل اتخاذ القرارات. فالقادة يصبحون ملزمين في الرّد على المعلومات والآراء التي كانوا يفضلون، ربما، تجاهلها. في أوقات الأزمات، مثل المجاعة الوشيكة الحدوث، تخدم قدرة الصحافة على نقل أخبار الوضع المتدهور بمثابة نظام إنذار مُبكر لا غنى عنه. فالضغط الناتج عن دور الصحافة الذي يفرض على الحكومة اتخاذ الإجراءات السريعة، يُساعد في التخفيف من عواقب الكوارث. وفي المجتمعات التي تفتقر إلى آلية من التغذية الاسترجاعية للمعلومات كهذه، بإمكان الأزمات ان تتطور دون ان يعلم بها المواطنون المقيمون خارج المناطق المصابة، تاركين القيادات دون اتخاذ أمر بالعمل اللازم.

الديمقراطيات مَبنية في أساسها لتكون قابلة للتكيّف. فالمنافسة السياسية توفّر للقادة الحوافز التي تتواصل لدفعهم للتعرف على الأفكار الجديدة، والتي تساعد في معالجة الأولويات التي تهم المواطنين. والسياسات تتكيف مع تغيُّر الظروف. فالديمقراطيات، والحال هذه، تبقى في عملية مستديمة من إعادة التراصف والتحسين. فعندما تفشل أي مجموعة من القيادات في تصميم المسار الملائم للتقدم، تُسارع طبيعة التصحيح الذاتي لدى الديمقراطيات في استبدالها بسواها من القيادات التي تستطيع الإتيان بمجموعة أحدث من الافتراضات والاستراتيجيات. وبكلمات أخرى، ليس في الديمقراطيات ما يضمن ان كل شيء سيكون على أحسن ما يرام، لكنها تضمن حق مواصلة التغيير إلى حين بلوغ الأصوب. والحقيقة ان قدرة الديمقراطيات على تغيير القيادات بصورة منتظمة قد تكون السبب الأكبر الإفرادي لاستقرار تلك الأنظمة.

الاستثناءات الاوتوقراطية

من المؤكد ان العلاقة بين الديمقراطية والازدهار الاقتصادي ليست شاملة. فالبلدان الديمقراطية النامية لا تنمو جميعها بفعالية أكثر منها في جميع البلدان النامية الاتوقراطية. فهناك استثناءات. وعلى وجه التحديد، هناك تسع حكومات أوتوقراطية عرفت نمواً اقتصادياً مستداماً، على الأقل طيلة عقد من الزمن، منذ العام 1980، وهي بوتان، والصين، ومصر، وإندونيسيا، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية، وتايوان، وتونس، وفيتنام. ومن بين هؤلاء، حقق الآسيويون الشرقيون وحدهم أيضاً مكاسب مماثلة في مستويات التنمية الاجتماعية. زد على ذلك ان الآسيويين الشرقيين امتلكوا درجات من المساءلة السياسية تبلغ ضعفي المعايير التي تملكها الحكومات الاوتوقراطية. فالنمو الاقتصادي المستدام ممكن، بناء على هذا، في ظل الحكومات الاوتوقراطية، لكنه، بكل بساطة، نادر الحصول. أما من وجهة النظر السياسة الاقتصادية، فعلينا وضعها في الموقع التقارني لنستطيع مقارنتها مع النجاح التنموي اللافت للاوتوقراطيين الآسيويين الشرقيين مقابل الحكومات الـ 85 الاوتوقراطية الأخرى، التي لم تحقق، خلال هذه الحقبة الزمنية إلاّ نمواً باهتاً، وفي العديد من الحالات، نمواً رديئاً إلى أبعد الحدود. (والحقيقة ان 45 بلداً أوتوقراطياً عانت، على الأقل، أزمة اقتصادية كبرى، أي هبوطاً بنسبة 10 بالمئة في نتائج إجمالي الناتج المحلي، منذ العام 1990). فالدرس الجوهري الذي يجب استخلاصه من الاستثناءات الآسيوية الشرقية هو مدى الاختلاف الكبير بينها وبين معظم البلدان الاوتوقراطية.

الصين تُشكِّل المثال الأهم، أو الطفل المدلل، المعاصر للنموذج الاوتوقراطي. فقد عاشت الصين نمواً مُدهشاً خلال العقود الثلاثة الأخيرة، مما جعل العديد من الناس يرون من خلال وضعها الاستثنائي ان نظام الصين الاوتوقراطي هو الذي سمح للصين بالنمو طِبقاًَ لهذا المعدل، ومن ثم يطلقون التعميمات على أساسه. غير ان هذا الاستخلاص يتجاهل العقود الثلاثة من الركود الاقتصادي الصيني الذي سبق تبنّي الصين للسياسات الاقتصادية التي تقوم الأسواق الحرة في أواخر السبعينات من القرن الماضي. فخلال تلك الفترة الفائتة، عانت الصين صدمات ما سمي بالوثبة العملاقة إلى الأمام، والثورة الثقافية، والمجاعة الكبرى بين 1959 و1961 التي أودت بحياة ما يقدر بـ 38 مليون نسمة. وحتى في الفترة الحالية، فإن نزعة الصين إلى التعرض للأزمات، وانهيارات مصارفها، وتفشي فيروس الالتهاب الرئوي، أو مرض السارس، وانتفاضات الفلاحين، والنزاعات مع الجيران، وأنفلونزا الطيور، والكوارث البيئية، فجميعها بمثابة تذكير بهشاشة النمو الصيني.

الخاتمة

إننا نعيش زمناً تاريخياً وواعداً. فللتوسع العالمي للديمقراطية تداعيات كامنة بعيدة المدى لتعزيز الرخاء الاقتصادي والأمن في جميع أنحاء العام. غير ان هذه النتيجة مشروطة بإقامة أنصار الديمقراطية مؤسسات تحقق المشاطرة للسلطة، والانفتاح، والتصحيح الذاتي. ان اعتراف الديمقراطية بحماية الحيز الشخصي الخاص للناس هو الذي يؤكد تأييدها الأكبر لحقوق الملكية والحماية ضد انتزاعها. فالمبدأ الأساسي للديمقراطية القائل بان جميع المواطنين، بمن فيهم رئيس الدولة، خاضعون للقانون هو الذي يعطي الديمقراطيات قاعدتها الثابتة القائمة على حكم القانون. كما ان انفتاح الديمقراطية هو الذي يوفر الآلية للنقاش السياسي، ويمارس الضغط على القادة السياسيين لعكس سياستهم غير الفعالة، والكشف عن الانحرافات في القانون، ويلقي أضواء الشفافية على الفساد. وإذا كانت الديمقراطية لا تضمن النجاح الاقتصادي، فإنها على الأقل تقدم الحقوق والأدوات لأجل اتخاذ الإجراءات التصحيحية عندما يسير بلد ما في الاتجاه الخاطئ.

جوزيف سيغل مستشار أول للحكم الديمقراطي لدى مؤسسة ديفيلوبمنت أُلترناتيفز إنك. وهو مؤلف مشارك لكتاب: "محاسن الديمقراطية: كيف تشجع الديمقراطيات الازدهار الاقتصادي والسلام". (نشر دار راوتليج).

لمـــــاذا تتفــــــوق الديمقراطيــــــــــات؟(4) 

تبديد اسطورة

تؤكد عبارة "التطور الاقتصادي بجعل الديمقراطية ممكنة" ان موقع شبكة وزارة الخارجية الامريكية يؤيد مبدأ له اهمية كبيرة مفاده: ان الدول الفقيرة لابد لها من التطور الاقتصادي كي تحقق الديمقراطية. غير ان المعلومات التأريخية تثبت غير ذلك. ان الديمقراطيات الفقيرة قد نمت في الاقل بالسرعة نفسها التي نمت فيها الاوتوقراطيات الفقيرة. ومن الواضح انها قد فاقت الثانية في اغلب المؤشرات للازدهار الاجتماعي، وانها ايضا قد عملت افضل في تجنب الكوارث. ان مبدأ "التطور اولا والديمقراطية لاحقا" هو مبدأ خطر ليس بسبب انه خطأ فحسب، بل لانه ايضا قد قاد الى سياسات شنيعة، هي سياسات قوضت الجهود الدولية لتحسين حياة مئات الملايين من البشر في الدول النامية.

ان اولئك الذين يؤمنون بان الديمقراطية يمكن ان تتحقق فقط حين تكون الدولة قد تطورت اقتصاديا يتوسلون مسارا بطيئا نحو الديمقراطية. لكننا ومن معنا نؤمن ان البلدان تبقى دائما فقيرة لانها تحتفظ ببنى سياسية اوتوقراطية تؤمن ان الاستراتيجية الاولى للتطور تديم الدائرة المميتة للفقر والصراع والاضطهاد.

لماذا سادت اسطورة التطور اولا؟ اولا لأنها استندت الى فكرة شائعة، وضعها في وقت سابق عالم الاجتماع سيمور مارتن ليبست وآخرون قبل 45 عاما مضت، وهي تنص على ان النمو يخلق شروطا اولية ضرورية للديمقراطية من خلال توسيع التعليم، وبناء طبقة متوسطة آمنة، وانعاش توجهات مدنية. ثانيا، انها تتلاءم على نحو مريح مع متطلبات مرحلتها الاصلية وهي الحرب الباردة، عندما وصفت ثلث البلدان على انها ديمقراطية وكانت القليل جدا منها فقيرة جدا. واضحت انماط الحكومة ملحقة بالبلدان التي وقعت في فخ معارضة ميادين الجذب التي اوجدها المعسكر السوفيتي والمعسكر الغربي. وبدأ تثبيت الآمال نحو التقدم في الدول النامية في ما يبدو انه نماذج استثنائية للديمقراطية، كما في الهند وكوستاريكا وكولومبيا، كأنه مسألة غير واقعية في ظل هذه الظروف. فضلا عن ذلك، كان الغرب سعيدا في دعم الحكومات الاستبدادية البعيدة عن سيطرة الاتحاد السوفيتي لمنعها من التحول نحو الشيوعية.

ان اطروحة التطور ـ اولا التي تحدد فكرة الفائدة من النظم الاستبدادية قد تم الالحاح عليها فيما بعد الحرب الباردة، على الرغم من الارقام القياسية للتدني الاقتصادي للحكومات العسكرية الامريكية اللاتينية، وحكام "الرجل القوي" في افريقيا والدول الشيوعية في اوربا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق. وقد جاء هذا اساسا بسبب الاداء الاقتصادي الباهر لبعض الاوتوقراطيات الشرقية مثل سنغافورة واندونيسيا وكوريا الجنوبية وتايوان والصين فيما بعد. واعتمادا على تجارب هذه البلدان، حصل تنوع لنظرية (التطور ـ اولا) ونال التأييد الواسع: فحكومة تكنوقراط قوية، منعزلة عن فوضى السياسة الديمقراطية، هي الحل الامثل لاتباع سياسات ذات اقتصاديات هائلة بعيدة المدى وكفوءة. وتبعا لهذه النظرية، فإن تجربة روسيا في التسعينيات والاداء المتعثر للديمقراطيات الشابة في اوربا الشرقية وامريكا اللاتينية وافريقيا كانت تؤشر خطل السعي السريع الى الديمقراطية.

الاقوى، الافضل، الاهدأ

واذا تبدت نظرية (التطور ـ اولا) بأنها متكاملة، والبرهان عليها واضح: فالديمقراطيات في البلدان النامية لم تؤد الى اوتوقراطيات. ولكن قبل ان نستمر، من الاهمية بمكان ان نحدد معنى الديمقراطية. ان الدول الديمقراطية هي انظمة سياسية تتميز بالمشاركة الشعبية والمنافسة الشرعية نحو السلطة التنفيذية، والمراقبة المؤسساتية على هذه السلطة. وحين نطبق التعريف عمليا باستعمال مؤشر الديمقراطية رقم 4 في الدول الذي استنبطه تيد روبرت غور من جامعة ميريلاند عام 1990. يمنح المؤشر السنوي كل دولة درجة بين الصفر (الاقل ديمقراطية) و 10 (الاكثر ديمقراطية) اعتمادا على ما تقدمه الدولة من المميزات الديمقراطية التي اشرنا اليها انفا. ولمقارنة نماذج محددة من الحكومات فنحن نميز البلدان التي بين 8-10 على وفق هذا الميزان بكونها بلدان ديمقراطية، وتلك التي بين الصفر و2 على انها اوتوقراطية.

ولأن الجميع يتفقون بان اغلب الدول المزدهرة في العالم هي ديمقراطيات راسخة ولأن الجدل الحقيقي قد انتهى فيما اذا تكون الديمقراطية ذات الدخل المنخفض قادرة على النمو في مستوى منافس بالمقارنة مع الحكومات الاستبدادية ذات الدخل المنخفض، فإن هذا النقاش قد حدد بالدول ذات المستوى المعيشي تحت (2000 دولار على وفق قيمة الدولار في 1995). ولهذا فنحن نقارن نوعين من الدول: الديمقراطيات ذات الدخل المنخفض والدول الاستبدادية ذات الدخل المنخفض ايضا.

تشير المعلومات المتوفرة من البنك الدولي عن مؤشرات الدول النامية منذ 1960 وحتى الوقت الحاضر الى حقيقة بسيطة: ان الدول الديمقراطية ذات الدخل المنخفض لديها، على العموم، نموا يسير بالسرعة نفسها التي لدى النمو في الدول الاستبدادية ذات الدخل المنخفض طوال الاربعين عاما الماضية. وبعيدا عن اسيا الشرقية (التي سنتحدث عنها لاحقا) فإن متوسط النمو للديمقراطيات الفقيرة كان اعلى بنسبة 50% من الدول الاستبدادية. ان الدول التي اختارت السبيل الديمقراطية ـ مثل جمهورية الدومنيكان والهند ولا تيفيا وموزمبيق ونيكاراغوا والسنغال ـ قد تخطت تلك الدول الاوتوقراطية مثل انغولا وجمهورية الكونغو وسوريا واوزبكستان وزيمبابوي. فضلا عن ذلك، فبسبب ان 25% من اسوأ الدول الاستبدادية التي تضم كوبا وكوريا الشمالية والصومال، قد فشلت في توثيق انجازاتها، فإن انخفاض النمو في الدول الاوتوقراطية أكبر حتى مما تشير اليه المعلومات المتوفرة.

ان فارق تميز الديمقراطيات الفقيرة عن الدول الاستبدادية الفقيرة يبدو اكثر وضوحا حين يتوجه النقاش من نسب النمو الى قياسات اوسع في البناء. فالنمو يمكن ان يقاس على وفق المؤشرات الاجتماعية مثل اولويات الحياة، توفير الماء الصالح للشرب ونسبة الأمية والمحاصيل الزراعية ونوعية الخدمات الصحية العامة. فيما يخص كل هذه المقاييس الحياتية، فإن الدول الديمقراطية ذات الدخل المنخفض تتفوق كثيرا على تلك الدول الاوتوقراطية ذات الدخل المنخفض ايضا.

ان الناس الذين يعيشون في البلدان الديمقراطية ذات الدخل المنخفض، يكون معدل العمر اعلى بـ(9) سنوات من الدول الاوتوقراطية ذات الدخل المنخفض، ولديها 40% اعلى في فرص الدراسة في المدارس الثانوية واستفادة من المحاصيل الزراعية اكثر بـ 25%. والرقم الاخير مناسب فعلا على الأخص لأن 70% من الناس في البلدان الفقيرة يعيشون في الريف. ان مستويات اعلى من الانتاجية الزراعية تعني مزيدا من فرص العمل ورأس المال والطعام. كذلك فنسبة وفيات الاطفال في الدول الديمقراطية تقل 20% من نسبة الوفيات في الدول الاوتوقراطية الفقيرة. لابد ان ينتبه المحامون في الدول النامية خصوصا لتلك الأرقام لأن، نسبة حياة الاطفال لها الكثير من المؤشرات على الرفاه الاجتماعي، مثل الرعاية الصحية للحوامل والتغذية ونوعية ماء الشرب وتعليم الإناث.

إن المراجعة الدقيقة للمعلومات تشير الى ان الديمقراطيات ذات الدخل المنخفض لديها ميزة قوية اخرى: فهي افضل في تفادي الفواجع. منذ عام 1960 عانت الاوتوقراطيات الفقيرة من الانكماش الاقتصادي الشديد (إنخفاض 10% او اكثر في الدخل السنوي) على نحو مضاعف مقارنة بالديمقراطيات الفقيرة. سبعون في المئة من الاوتوقراطيات قد عانت من هذا الانكماش على الاقل مرة واحدة منذ عام 1980، بينما فقط 5 من 80 من اسوأ الامثلة من الانكماش الاقتصادي خلال الأربعين سنة الماضية قد حدثت في الدول الديمقراطية.

ومن خلال النظر عبر هذا المنشور فإن الكثير من فترات النمو السريع التي انضجتها الاوتوقراطيات الفقيرة، التي غالبا ما يحتكم اليها المدافعون عن التطور اولا، لم تكن اكثر من لحظات مفاجئة سرعان ما تنهار في الاوقات العصيبة.

فتشيلي، على سبيل المثال، رغم انها غالبا ما تعد انموذجا للنمو الاوتوقراطي بسبب توسعها الاقتصادي طوال 31 عاما في عهد أوغستو بينوشيت الذي دام 17 عاما، فقد عانت شيلي ايضا من ازمتين اقتصاديتين خلال هذا الوقت: فقد حصل انخفاض 12% من الدخل السنوي في السبعينيات وانكماش 17% في اوائل الثمانينات. وليس غير في منتصف الثمانينيات حتى تمكنت شيلي من تقوية مستوى الدخل السنوي على ما يعلو ذاك الذي كان عام 1973، وهي السنة التي تخلى فيها بينوشيت عن السلطة.

ان النقد الكثير الذي يرى أن الديمقراطية تقوم بالسمسرة من اجل الفوائد المنزاحة عن الشعب فتؤدي الى الضرر العام بالاقتصاد هو نقد مزيف بوضوح. فليس للديمقراطيات الفقيرة، في المعدل، نسبة كبيرة للعجز في الميزانية خلال الثلاثين عاما المنصرمة كما هو الحال في الاوتوقراطيات الفقيرة. علما ان كليهما ينفقان النفقات ذاتها على التعليم والصحة. وها هي الديمقراطيات تستعمل مصادرها على نحو اكثر فعالية. وليس مصادفة ان الديمقراطيات الفقيرة اقوى 15% الى 25% في محاربة الفساد وحكم القانون منها في الاوتوقراطيات الفقيرة.

كذلك فإن الديمقراطيات تقوم بعمل افضل بخصوص تجنب الحالات الطارئة؛ بينما ثمة 87% من اكبر ازمات اللجوء خلال الـ 20 سنة الماضية كان أصلها في الاوتوقراطيات، وان 80% من كل الاشخاص المبعدين داخليا في عام 2003 كانوا يعيشون في ظل الانظمة الاوتوقراطية، على الرغم من ان مثل هذه الانظمة تمثل الثلث من كل الدول. لقد أعلن آمارتا سن الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد السياسي ان ليست هنالك دولة ديمقراطية لها صحافة حرة قد عانت من أي مجاعة كبيرة.

يرى البعض ان الدمقرطة "قبل الأوان" في بلدان منخفضة الدخل مسؤولة عن تمكين الساسة الانتهازيين كي يثيروا الاضطرابات الأثنية والاقليمية، وحتى الصراعات المسلحة. وطبقا الى وجهة النظر هذه فإن القبضة الحديدية للقائد المستبد يمكنها البقاء على وحدة المجتمع المنقسم. لكن هذه الحجة ايضا، تفشل في مواجهة التجربة العملية. فالدول الفقيرة تسقط في هوة الصراعات، غالبا ـ تقريبا سنة في كل خمس سنوات منذ 1980. ولكن الديمقراطيين الفقراء يقاتلون بنسبة اقل من الفقراء في الدول الاوتوقراطية. في القرن الافريقي حيث دارت الحرب الاهلية قبل حين، فإن الدول التي قامت بالاصلاح الديمقراطي قد مارست الصراع المسلح بنسبة النصف عما اعتادت عليه المنطقة.

على الرغم من ان المعلومات تبين ان الديمقراطيات الفقيرة تقوم بعمل افضل في توليد منافع مادية لمواطنيها أكثر من البلدان الاستبدادية الفقيرة، ثمة بالطبع تنوع في كل معيار. البعض من الدول الديمقراطية تتخبط، والقليل من الانظمة الاستبدادية تزدهر، خصوصا في شرق اسيا. وتبين الحالات الاخيرة ان التطور ممكن في ظل الانظمة الاستبدادية. على ان هذا النمط من الحكومات المستبدة بعيد عن تمثيل اغلب الأوتوقراطيات في العالم. لقد دعمت كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة واندونيسيا القطاع الخاص، واتبعت استراتيجيات النمو المتجه نحو التصدير وتأثرت كثيرا بالديمقراطيات الغربية عندما تبنت هذه الاخيرة اقتصادا معيناً ومؤسسات سياسية معينة. فضلا عن ذلك، فكما اعلنت الصين من خلال سجلها الاقتصادي المهول في اواخر السبعينيات (عندما بدأت تتبنى سياسية اقتصاد السوق) ان الاستبداد ليس خاصية مميزة لنموها. (وهذه المسألة لم توفق من خلال الاداء الاقتصادي الكارثي للاوتوقراطيات الاسيوية الشرقية الأخرى مثل كوريا الشمالية وبورما وكمبوديا والفلبين في عهد ماركوس). لذلك، فرغم وجود حالات استثنائية. فإن رجاحة التجربة هي التي حري بها ان تقود سياسة النمو. وأن الدلائل العامة التي يعول عليها تشير الى ان: الديمقراطيات الفقيرة تتفوق على الاوتوقراطيات الفقيرة بثبات التطور خلال الاربعين سنة الماضية.

الافتراض المكمل لحجة التطور ـ اولا ان الديمقراطية لابد ان تتبع التقدم الاقتصادي. وتحديدا، ان يتبوأ بلد ما حالة الدخل المتوسط ـ يحددها فريد زكريا وآخرون في مجلة نيوزويك أن مستويات متوسط الدخل بحدود 6000 دولار كونها بداية المدخل المرجو ـ فإن الشعب الذي يكون ازدهاره مضطردا سينادي حتما بالمشاركة السياسية، مما يؤدي الى التحول الديمقراطي. ولكن ثمة مشكلة اجرائية في اختبار هذا الافتراض: فالدول الاستبدادية التي تمكنت من الوصول الى مستوى الدخل المتوسط قليلة. فمنذ عام 1960 لم تصل الى مستوى الدخل الذي يزيد على 2000 دولار من الدول الاوتوقراطية سوى 16 دولة. ومنها ست فقط ـ تايوان وكوريا الجنورية واسبانيا والبرتغال واليونان والمكسيك ـ وعلى نحو مختلف عليه ـ تبنت الديمقراطية بعد التوسع الاقتصادي. وهذا ما يشير الى ان هناك اساسا ضعيفا في تطبيق انموذج التطور ـ اولا على دول العالم النامي كافة. من اجل ذلك فإن معيار الـ 6000 دولار يشير الى ان كل الدول ماعدا 4 من 87 دولة تخضع حاليا للتحول الديمقراطي، بضمنها البرازيل وكينيا والفلبين وبولندا وجنوب افريقيا، هي ليست مؤهلة للديمقراطية.

اسس مفاهيمية

بعد تسليط الضوء على تفوق انجاز الديمقراطيات الفقيرة على الانظمة الاستبدادية الفقيرة، نتحول الى الاسس المفاهيمية لهذا النمط. ان الديمقراطيات الفقيرة لن تكون من الدول التسلطية لأن مؤسساتها تسمح بالمشاركة في السلطة ولأنها تشجع الانفتاح والتكيف.

ولدى القادة الديمقراطيون بواعث للاستجابة الى حاجات المواطنين العاديين. وإلا، سيجدون أنفسهم مطرودين، ولأن الناس العاديين يهتمون بشؤون الخبز، فإن هذه الأمور يكون لها النصيب الأوفر في ملفات المرشحين. وعلى النقيض من ذلك، فإن الولاء القبلي وولاء المؤيدين من الانصار الذين يستند اليهم القادة الاوتوقراطيين في سبيل امتلاك السلطة ما يمنحهم الاندفاع الضعيف في سبيل التركيز على الرفاهية العامة للمجتمع.

إن الفائدة المتنامية للديمقراطية تتجذر أيضا في التدقيقات والتوازنات التي تميز نظم الحكم ـ الذاتي السياسية. فالسلطة لا ينفرد بها أحد بمفرده أو فرع من الحكومة، حتى لو كان القائد الوطني قد ادعى أنه قد انتدب من الشعب. على الرغم من أن الديمقراطية عملية أشد ثقلا، لكنها تقلل من مدى التهور والفهم الضيق او السياسات الراديكالية التي يمكن ان تنتج عنها نتائج اقتصادية كارثية. وكذلك فإن الانظمة الاتحادية تضع التدقيق والتوازنات وفق مستويات مختلفة للدولة، فهي من هنا تحرس ضد المبالغة في تركيز السلطة في المستوى الوطني بينما تسمح للمرونة في مخاطبة الأوليات المحلية.

ولو قارنا بذلك الحال في الانظمة الاستبدادية، فإن الاحتكار السياسي يؤدي الى الاحتكار الاقتصادي. وليس سوى الاعمال والأفراد المرتبطين بالحزب الحاكم القادرين على الحصول على الأذونات والضمانات والمصادر الأخرى التي يحتاجونها في نجاح عملهم. ومثل هذه المعالجة التفضيلية تلغي المنافسة والمبادرة ولذلك تتضاءل الكفاءة الاقتصادية. فلا يلقى المستهلكون إلا اقل الخيارات وأعلى الاسعار. وعندما تفرض الولاءات السياسية قربها من التعليم والسكن والخيارات في العمل والحالة الاجتماعية في مدى الفرص المتاحة للمعارضين السياسيين يضيق الى حد بعيد. لذلك فإن الفضيلة المتممة للديمقراطيات هي أنها توفر مجالا للفضاء الخاص، المحمي من القانون، مما يجعله يغذي الابداع والحركة المستقلة والفعالية المدنية.

ان الدول الديمقراطية منفتحة في أغلب الأحيان: فهي تحث على تدفق المعلومات. كما ان المنظمات من داخل وخارج الحكومة تعلن بانتظام عن الاكتشافات وتعلم الناس، وتدفع القادة السياسيين الى مراعاة المدى الكامل من الخيارات، ناشرة الأفكار الصالحة من قطاع لآخر. إن التدفق الحر للأفكار، في كل جزئية في تدفق السلع، يعزز السياسات الكفوءة والمعدلة والفعالة. وعلى وفق هذا، فإن التطور هو ممارسة في تعليم الناس: الى غسل الأيدي وتحسين ا لمكننة الزراعية وأكل الطعام المغذي وحماية البيئة على سبيل المثال. والمجتمعات التي تدعم التدفق الحر للمعلومات لها استفادة مميزة في تلك الجهود.

إن المعلومات تكون في أحسن أحوالها التواصلية عبر القنوات المتعددة والمستقلة. مثال ذلك، كانت حملة فعالة للتعليم العام قامت بها الحكومة الأوغندية والمنظمات الحكومية في التسعينيات التي قللت من انتقال الأيدز في ذلك البلد. كانت اوغندا من قبل الأولى في العالم في نسبة المصابين من البالغين وصلت الى 30%. ولكن في عام 2003 هبطت تلك النسبة الى 7%. وعلى النقيض من ذلك، كانت المحاولات الصينية في عدم التصريح بالمعلومات خلال فترة انتشار مرض السارس قد سمحت في ان ينتشر الوباء قبل أن تنتبه اليه الدولة وتنسق لمعالجة الأمر، فحين أعلن عن الوباء، قاد عدم الوثوق بالحكومة الكثير من الصينين في المناطق الموبوءة الى انتهاك الحجر الذي فرضته الحكومة. إن هذا المثال يثبت ايضا فرضية اكبر: أن الديمقراطيات تقوم بعمل افضل في تصحيح الاخطاء. فحين تقوم السلطات العامة أو الخاصة باتخاذ بعض القرارات في المجتمعات المفتوحة، فإن النتائج تصبح معروضة وتقوم بالتصحيح إذا اقتضت الحاجة إلى ذلك.

إن الانفتاح يقلل كذلك من مدى الفساد. فالاعلام المستقل الذي يعتمد التحقيقات يخلق توقعات عالية فيما يتعلق بالشفافية والكشف عن الصراعات الحاسمة ذات الأهمية. فمن المفارقة، أن الانفتاح الأكبر في المجتمعات ذات الديمقراطية الجديدة قد يؤدي في البداية الى الفهم بأن الفساد يسوء. ومثالا على ذلك في كينيا، وجدت (الشفافية الدولية) من خلال جولة لها أن إدراك الفساد كان أسوأ في 2003 ـ وهي السنة الأولى للحكومة المنتخبة على نحو ديمقراطي ـ مما كان الحال في أواخر التسعينيات، عندما كانت الدولة خاضعة للحكم الاستبدادي بقيادة دانيال أرب موي. لكن المنظمة هذه نفسها كشفت ان الكينيين الذين دفعوا 9 رشاوى، موفرين 10% من دخلهم السنوي.

إن الشفافية تقوم بما هو أكثر من قطع قيمة الرشاوى، التي هي، من الناحية الفنية مجرد انتقال للمال من مواطن لآخر ولذلك لا تقلل من معدل المدخولات. يقيم البنك الدولي ذلك الفساد، الذي يعمل على أنه ضريبة على التجارة المشروعة ويكون مردودات غير مؤكدة، يكلف الاقتصاد العالمي 5% من قيمته الاجمالية، او 1.5 تريليون في كل سنة.

إن التكيف ميزة أخرى مفيدة للديمقراطيات. فتساعد الديمقراطيات على الاستقرار السياسي من خلال إنشاء آليات واضحة للنجاح. وهذا ما يسمح لها في التكيف الهادئ في حال الموت او الاندحار الانتخابي لقائد ما، مقللة من مدى الأعمال اللاقانونية والقسرية للاستيلاء على السلطة. لذلك فإن زخم التطور يكن معززا رغم التغير الطفيف في السياسات من إدارة لأخرى.

إن الارتباط بالوسائل الثابتة في انتقال السلطة يعكس التزاما بحكم القانون في ظل الديمقراطية: حيث يمكن للقادة ان يكسبوا الشرعية في عيون الناس فقط إذا تسنموا السلطة عبر العمليات الديمقراطية. إن الشرعية السياسية التي تتأسس تحت حكم القانون هي بدورها، توفر أساسا لتطبيق القواعد القانونية في ادارة الدولة والاعمال وانتظام في الاقتصاد راسخ الأساس.

وفي الأخير، فإن البنى الديمقراطية مهيأة على نحو جيد لتغيرات الظروف. ولأن السياسات في البلدان الديمقراطية تنطلق من عملية مدروسة للمحاولة والخطأ، لذلك فبإمكانها التكيف مع الوقائع على الأرض. عندما يكون ثمة جريان ثابت للسياسات والأفكار، فثمة ضغط للإصلاح والاسقاط وإبدال المبادرات غير العملية. إن الانتخابات هي الروابط المميزة التي تدور حولها هذه الترتيبات. ولكن حتى في ظل تول لقائد موهوب، يحدث تعديل دقيق وثابت. لذلك فإن الديمقراطيات مميزة، ليس لأنها دائما ما تنتهج افضل سياسة، بل لأنها تشرعن الحق في تغيير القادة والسياسات عندما لا تسير الأمور على ما يرام. هذه القابلية على إعادة الاحياء توضح لماذا يتحدث مواطنون في بلدان مستقرة مثل الأرجنتين وغواتيمالا وكينيا وجنوب أفريقيا عن الحياة في بلد "جديد" بعد التغيرات الديمقراطية الحديثة في القيادة.

على العموم، فإن الديمقراطيات تقدم نظاما هائل القوة لمؤسسات تحث على التطور. كلما كانت إجراءات الحكومة اكثر شفافية وأكثر نيابية وعرضة للمحاسبة أكثر، كلما إزدادت رجاحة السياسات والممارسات استجابة للأولويات الاساسية للمجتمع بعامته.

فصل الدين عن الدولة بين النظرية الراديكالية والنظرية الليبرالية(5)

 تتداخل في إشكالية فصل الدين عن الدولة اعتبارات شتى، منها ما هو إبستمولوجي، ويتعلق بطبيعة المعرفة العلمية من جهة، وطبيعة المعرفة الدينية من جهة ثانية، على افتراض إمكانها. ومنها ما هو معياري، ويتعلق بطبيعة القيم السياسية، بخاصة. ومنها ما هو مفاهيمي، ويتعلق بطبيعة الدين وطبيعة السياسة. وقد تناولت في عدد من مؤلفاتي السابقة كل هذه الاعتبارات، بكل تداخلاتها. بالطبع لا يسمح الوقت المخصص لمحاضرتي بإيفائها جميعها حقها من البحث.

سأركز في حديثي إليكم هذا المساء على قضية واحدة أساسية، ديموقراطية حقة، لا أفترض هنا أن هناك علاقة منطقية بين الديموقراطية وفصل الدين عن الدولة. موقفي هو أن العلاقة بين الديمقراطية الحقة والعلمانية هي علاقة موضوعية(1). وهذا يعني أن هناك اعتبارات واقعية شتى تتعلق بالطبيعة البشرية وطبيعة المجتمع الإنساني، وبنظرة البشر إلى عقيدتهم الدينية وما يعنيه كل هذا، عملياً وواقعياً،.. هذه اعتبارات تجعل من المتعذر تعايش الديموقراطية مع اللاعلمانية. إذن، التحدي الذي يواجه الديموقراطية جراء عدم فصل الدين عن الدولة هو تحدٍ لا يجوز مطلقاً الاستخفاف به.

كثيرة طبعاً هي التحديات التي تواجه الديموقراطية، ولكنها جميعها تهون إزاء التحدي الذي يمثله تسييس الدين لغرض إقامة دولة دينية. اللامبالاة، مثلاً، قد تضعفها، إذ تحول دون تحولها إلى ديموقراطية مشاركة. ووجود العديد من الجماعات ذات المصالح الجزئية المتعارضة قد يشكل الجسم السياسي، إذ يؤثر على فعالية المؤسسات الديموقراطية، وآليات صنع القرارات الجمعية بصورة سلبية، ووجود أكثرية إثنية، أو دينية، مصرة على الاستئثار بالسلطة، قد يمسخ النظام الديموقراطي، فينتج عن تطبيق مبدأ حكم الأغلبية، ما دعاه توكفيل طغيان الأكثرية. وغياب العدالة الاجتماعية، كما نعرف من خلال تفحصنا للأنظمة الديموقراطية في الغرب الرأسمالي، قد يدفع بالديموقراطية في اتجاه ما يماثل الأوليغاركية، إذ يعطي لقلة من أصحاب المال والنفوذ وزناً سياسياً يفوق بما لا يقاس ما يتناسب مع مستلزمات العدالة السياسية، ولكن أين هذه التحديات من التحدي الذي يمثله تسييس الدين لغرض إقامة دولة دينية، حيث الدين الذي يجري تسييسه لهذا الغرض هو دين الأكثرية؟ فكل تحدٍّ من التحديات السابقة يشكل، في أسوأ حال، تهديداً لمقوم أو آخر من مقومات الديموقراطية. أما التحدي الذي يمثله تسييس الدين، فإنه، لو تحقق الغرض منه، لا بد أن ينتهي، عملياً وواقعياً، إلى تقويض كل مقوم من مقومات الديموقراطية، أو القضاء على أي أمل، في مجتمعات غير ديمقراطية، كالتي بين ظهرانينا، في إقامة نظام ديموقراطي حقيقي.

 دين ودولة

 يتخذ هذا التحدي مغزىً خاصاً.، ونظراً لتسييس الدين، الذي يقوم على النظر إلى الإسلام على أنه دين ودولة، صارت هذه النظرة إلى الإسلام شبه مسلّمة، حتى من قبل أفراد لا تربطهم بالإسلام السياسي أي رابطة. والأسوأ من كل هذا أن الذين يتبنون هذه النظرة، ويعملون بوحيها، صار لهم تأثيرهم الواسع في المجال العام، وصاروا يشكلون في بعض أقطارنا البديل للأنظمة الأوتوقراطية القائمة في هذه الأقطار. فبدل أن يكون البديل الحقيقي لهذه الأنظمة الأوتوقراطية القائمة نظاماً ديموقراطياً يقوم على الإرادة العامة، فإن هذا البديل يكاد أن يكون نظاماً لا علمانياً، لا تقيد فيه الحريات السياسية فحسب، كما هو الحال في الأنظمة الأوتوقراطية القائمة بين ظهرانينا، بل تقيد فيه كل الحريات، بما في ذلك الحريات الشخصية، مما ينتهي إلى تحقيق شبه تماهٍ بين المجالين الخاص والعام.

لن أتعرض هنا للنظرة إلى الإسلام، التي تجعل السياسة شيئاً في صلب عقيدته، إذ تعرضت لها في العديد مما نشرته سابقاً، محاولاً إظهار فسادها وتناقضاتها(2). ما يعنيني هنا هو أن أبين أن العلمانية شرط لا غنى عنه لبناء نظام ديموقراطي سليم. ولذلك سأبدأ بتناول مفهوم الديموقراطية والمبادئ التي ينطوي عليها، لأعمل من ثم على تبيان التعارض بين هذه المبادئ ومستلزمات الموقف اللاعلماني.

لا يجوز الاستنتاج من كلامي أن الأنظمة العلمانية أنظمة ديموقراطية بالضرورة. إن موقفي لا يتضمن أكثر من القول إن الأنظمة اللاعلمانية هي أنظمة غير ديموقراطية بالضرورة. فالعلماني قد يذهب إلى حد المطالبة بعلمنة تامة للمجتمع، كما حصل في الاتحاد السوفييتي، مثلاً، مما يعني إقامة نظام تقيد فيه، بل تلغى عملياً، حرية الاعتقاد الديني. ولا أظن أن نظاماً كهذا، حتى وإن لم يتجاوز إلغاء حرية كالأخيرة، يمكن أن يعد بحق نظاماً ديموقراطياً. ولكن حتى لو لم تمس حرية الاعتقاد الديني في النظام العلماني، فإن هذا النظام قد يكون نظاماً كلياً، أو نظاماً ديكتاتورياً، كما نعرف من مثالي النازية والفاشستية(3). ولكن من الواضح أن النظام العلماني قد يكون ديموقراطياً، خصوصاً إنْ لم يتجاوز علمنة السياسة، بكل ما يعنيه هذا من تقليص لدور الدين في المجال العام. ولكن لا يمكن للديموقراطية، كما سأبين، أن تتعايش حتى مع تفشي النزعة في المجال العام نحو جعل الاعتبارات الدينية، لا ما صار يعرف بـ"العقل العام"، المعيار لتقويم السياسات والتشريعات - هذه النزعة التي تترجم عملياً إلى حركة سياسية مبتغاها تأسيس الدولة على الدين.

 الديموقراطية والعدالة

 من المسائل التي ينبغي التنبيه إليها في البداية مسألة أن النظام اللاعلماني قد لا يتعارض مع الديموقراطية بمعناها الإجرائي، ولكنه حتما يتعارض مع إقامة مؤسسات ديموقراطية عادلة. التركيز هنا هو على عدالة المؤسسات، إذ لا يبدو أن هناك علاقة مفهومية بين الديموقراطية والعدالة، مما يعني أنه يمكن من حيث المبدأ أن تكون دولة ديموقراطية وغير عادلة. ولكن، بحسب فهمي، الديموقراطية، غير مقرونة بالعدالة، وإن كانت قابلة للتصور، إلا أنها ديموقراطية في الشكل لا الجوهر. إنها، في أفضل حال، ديموقراطية إجرائية. ولذلك ما أريد التركيز عليه هنا هو السؤال، هل تسييس الدين، بما ينطوي عليه من أغراض، يتفق ليس فقط مع مستلزمات الديموقراطية، بمعناها الإجرائي، بل مع مستلزمات الديموقراطية، بمعناها الجوهري، أي من حيث كونها تتجسد في مؤسسات عادلة؟ لن أتناول العدالة هنا سوى بمعناها السياسي، لأن ليس ثمة شيء في الغرض من تسييس الدين، أو إقامة نظام لا علماني، ما يتعارض بالضرورة مع العدالة الاقتصادية.

لا بد، إذن، أن نبدأ بإبداء بعض الملاحظات حول معنى ومستلزمات المؤسسات الديموقراطية العادلة. من المفيد التركيز الآن على ما يكمن في صميم هذه المستلزمات، وأعني التعددية. كثيرة هي النظريات التي تعالج التعددية، ولكن سأكتفي بتناول ثلاثٍ منها باختصار، وهي: النظرية الكلاسيكية في التعددية، والنظرية الراديكالية، والنظرية الليبرالية. يركز التعدديون الكلاسيكيون، من أمثال روبرت دال Dahl وسيمور مارتن لبست Lipset، على الصراع بين الفئات ذات المصالح المتعارضة في المجتمعات الحديثة(4). ولكن هذا يصدق أيضاً إلى حد كبير على التعدديين الراديكاليين، من أمثال شنتال موف Mouffe، وأرنستو لاكلو Laclau وكلود لوفور Lefort ووليم كونلي Connolly(5) ما يميز بين هذين الفريقين من التعدديين هو أن الكلاسيكيين يجدون في الصراع مشكلة لا بد للديموقراطية من مواجهتها. وما يشكل محور اهتمامهم، لذلك، هو إيجاد طريقة لتحقيق الاستقرار في المجتمعات التي تجري ضمنها شتى الصراعات بين الفئات ذات المصالح المتعارضة. أما الراديكاليون، بالمقابل، فإنهم لا يجدون في الصراع مشكلة للديموقراطية، بل فضيلة من فضائلها، ومأسسة هذا الصراع، في نظرهم، هي من العوامل التي قد تضمن عدم تحول النظام الديموقراطي إلى نظام أتوقراطي.

إذا كانت النظرية الكلاسيكية تفهم هذا الصراع فهماً هوبزياً (نسبة لتوماس هوبز)، فإن الراديكاليين، بالمقابل، يستعينون بشكل واضح بمفهومات مستمدة من فلاسفة ما بعد حديثين، من أمثال ليوتار Lyotard وفوكو Foucault ودريدا Darrida. ولكن على الرغم من الفرق بينهما، فإن النظريتين تزوداننا بفكرة مشتركة من الصعب إغفالها، ألا وهي أن المجتمعات الحاضرة، مهما كانت متجانسة، مخترقة بالتعددية على شتى المستويات، إذ نجدها منقسمة داخلياً على أساس طبقي، وطائفي، وجنسي، وإثني.... إلخ.

النظرية الليبرالية في التعددية هي، على نحو أو آخر، محاولة لتسويغ وضع قيود على السلطة السياسية، بحيث يضمن ذلك المحافظة على الحريات الأساسية، كحرية الضمير، وحرية الفكر والشعور، وحرية الرأي، وحرية الفرد في أن يختط بنفسه الطريق التي يراها مناسبة لحياته، وفي أن يجتمع مع سواه لأي غرض مشروع. ما هو مشترك بين الليبراليين، على مختلف توجهاتهم الفلسفية، هو إصرارهم على ضرورة وضع حد فاصل بين المجال العام والمجال الخاص. ولكن قد تنشأ شتى الخلافات بينهم حول أين يجب وضع هذا الحد الفاصل، وما ينبغي استبعاده أو عدم استبعاده، من فئة الحريات الأساسية، وما إذا كان فهم الحرية ينبغي ألا يتجاوز فهمها سلبياً(6). ولكن ثمة فكرتين أساسيتين مشتركتين بين الليبراليين المعاصرين، وهما، أولاً، فكرة وجود رباط حميم بين الليبرالية والديموقراطية، ثانياً، فكرة كون التعددية من طبيعة القيم.

لنتناول، أولاً، الفكرة الأخيرة، فما يمكن اعتباره موقفاً معقولاً هنا، من وجهة نظري، بدون الحاجة إلى احتضان موقف شكوكي إزاء القيم، كما هو الحال بالنسبة للعديد من الليبراليين، هو أن هناك عقائد شاملة ذات طبيعة ميتافيزيقية، أو دينية، تشمل منظورات قيمية مختلفة، وتنطوي، بالتالي، على تصورات مختلفة للخير. قد لا يوجد تناسب بين هذه التصورات المختلفة، كما يعتقد أشعيا برلين، مما يعني أنه لا يمكن المفاضلة بينها على أساس عقلي. ولكن حتى لو لم نجارِ برلين في اعتقاده هذا، فإن ما يمكن تسويغه هنا هو أن العقائد الشاملة المعنية في هذا السياق لا يخضع الاختيار بينها لاعتبارات عقلية، وأن الوصول إلى اتفاق حول أيُّها صحيح غير ممكن إلا عن طريق انقلاب فكري جماعي، أو "وثبة إيمان" جماعية، وإلا فإنه يكون نتيجة فرض جماعة موقفها على الجماعات الأخرى، التي لا تشارك السابقة اعتقادها. بمعنى آخر، إن اتفاقاً كهذا، إن حصل، فإنما يحصل إما بأعجوبة، وليس نتيجة تفاعل حواري يقوده العقل،أو يكون مفروضاً. وما ينبع من هذا هو أن القيم التي تنطوي عليها أي عقيدة من العقائد الشاملة، لأنها جزء متمم للنسق المفاهيمي لهذه العقيدة، تتخذ طابعاً غير عقلي (ولا أقول لا -عقلي) شأن هذه العقيدة الشاملة نفسها.

ما تنطوي عليه تعددية القيم هو أن القيم لا يمكن وضعها في هرمية منظمة ميتافيزيقياً. وهذا يعني أنه يمكن أن توجد عدة تصورات معقولة للخير، مما يفسر لماذا الحكم والاختيار الفرديان في مجال القيم هما من الأهمية بمكان، بحيث يصدق على الشخص الذي يحكم ويختار أنه يقترب من أنموذج الفرد المستقل بذاته، كما تصوره كنط في فلسفته الأخلاقية(7). إن هذا، ولا شك، يستوجب المساواة الأخلاقية بين جميع الأشخاص، من حيث كون كل منهم كائناً مستقلاً بذاته. ولا يجوز للدولة، في هذه الحالة، أن تخضع لنفوذ أي عقيدة من العقائد الشاملة المعنية، وأن تنحاز لتصور الخير الذي تنطوي عليه هذه العقيدة. فإن هذا لا يمكن أن يعني عملياً سوى مأسسة قيم الجماعة التي تتبنى هذه العقيدة، وفرضها على الجماعات الأخرى. وبهذا تنزلق الدولة نحو الأبوية paternalism متدخلة بصورة غير مشروعة في حياة الفرد، فارضة عليه أن يرى الخير كما تراه هي، وليس كما يراه هو بنظرته الخاصة.

 النزعة الأبوية

 من هنا نفهم إصرار الليبرالي على ضرورة التزام الدولة الحياد إزاء التصورات المختلفة للخير، ومعاملة الأشخاص على النحو الذي يستلزمه كون كل منهم ذاتي الاستقلالية يستوجب رفض النزعة الأبوية والنزعة الكمالية معها، فتبقى للفرد الحرية الكاملة في أن يختار قيمه، والحياد إزاء التصورات المختلفة للخير هو بالضرورة حياد إزاء العقائد الشاملة، التي تشكل الأساس لهذه التصورات المختلفة. وما يصدق على هذه التصورات لجهة كونها تخضع للحكم والاختيار الشخصيين، إنما يصدق بصورة أقوى على العقائد الشاملة هذه، فإذا كان يصدق على القيم أنه لا يمكن وضعها في هرمية مرتبة ميتافيزيقياً، فإن هذا يصدق من باب أولى على العقائد الشاملة. إذن، يمكن من حيث المبدأ وجود عدة عقائد معقولة كهذه.

لا يمكن، بالنسبة لليبرالي، فصل مبدأ الحياد، من حيث كونه ذا أهمية لمسألة التعددية، عن فكرة أسبقية الحق على الخير(8). فهذا المبدأ يفرض الفصل بصورة واضحة بين الخاص والعام، مما يستلزم ألا تخضع للسلطة السياسية سوى الأفعال التي يمكن أن تكون ذات نتائج تطال عدالة العلاقات الاجتماعية. وهذا يعني في المجال العام للقواعد المحافظة على العلاقات الاجتماعية الأولية على القواعد التي يعني التقيد بها تحقيق الخير، وفق تصور معين له، ولا يمكن، بالتالي، الإجماع حوله.

لا يقوم مبدأ الحياد على مبدأ احترام الاستقلالية الشخصية وحده، بل إنه يقوم أيضاً على مبدأ الاحترام المتبادل. يمكننا هنا وضع المبدأ الأخير على النحو التالي: على افتراض وجود عدة عقائد شاملة، حيث تكون الأسس لكل عقيدة منها غير شفافة للذين لا يعتتقون هذه العقيدة، فإن أصحاب كل عقيدة من هذه العقائد ملزمون باحترام السلطة المعرفية لأصحاب العقائد الأخرى في ما يخص ما يرونه بنظرتهم الخاصة على أنه حق، أو خير، أو ذو قيمة. إن هذا المبدأ يستلزم، إذن، المساواة المعرفية بين جميع الفرقاء، وينفي، بالتالي، أن يكون لأي منهم امتياز معرفي في المجال الذي يعنينا هنا. كل فريق، ولا شك، سيدّعي لنفسه امتيازاً معرفياً، وسيرفض التخلي عن سلطته المعرفية لأي فريق آخر، مما يعني أنه من غير المحتمل أن ينجح أي فريق في جعل سلطته المعرفية هي السلطة النافذة في المجتمع بأكمله، إلا عن طريق فرضها على جميع الفرقاء، على افتراض أن الفرصة متاحة له لفعل ذلك. من هنا يتضح أن الاحترام المتبادل هو البديل الوحيد العادل والمنصف، الذي ينبغي أن ينظم على أساسه تعامل الفرقاء بعضهم مع بعض(9)، ورفض هذا البديل هو بمثابة رفض مبدأ القابلية للكوننة. ما يثبته المبدأ الأخير هو التالي: بالنسبة لأي م (حيث م هو متغير يمكن أن نستبدل به فعلاً ما، أو طريقة ما في التعامل، أو سياسة ما)، إذا افترضنا أن مبدأ ما يكفي لتسويغ م، إذن يتبع من ذلك أن هذا المبدأ إياه يكفي أيضاً لتسويغ أي شيء آخر شبيه بـ م بالنسبة لكل المسارات المجردة لـ.م،.. ما يتضمنه هذا، في السياق الحالي، هو أنه إذا كان ثمة مبدأ يكفي لتسويغ رفض معتنقي أي عقيدة من العقائد الشاملة المعنية التخلي عن سلطتهم المعرفية لأصحاب أي عقيدة أخرى، إذن، فهذا المبدأ إياه يكفي لتسويغ رفض الأخيرين التخلي عن سلطتهم المعرفية للسابقين.

من الواضح الآن لماذا يقود رفض مبدأ الاحترام المتبادل إلى رفض مبدأ القابلية للكوننة، فما يتضمنه رفض مبدأ الاحترام المتبادل هو أن الفريق الرافض له يفترض أن من حقه أن يحل سلطته المعرفية محل السلطة المعرفية لسائر الفرقاء، على الرغم من أنه يرفض أن يكون لأي فريق آخر الحق نفسه. ما يرضاه لنفسه لا يرضاه لسواه. ولكن إذا كان مبدأ القابلية للكوننة يؤسس حق كل فريق، في وضع من المساواة المعرفية، في أن يرفض التخلي عن سلطته المعرفية لأي فريق آخر، إذن.. فإنه ينكر على أي فريق الحق في أن يطلب من الآخرين التخلي عن سلطتهم المعرفية له.

 الديموقراطية والتعددية

 إذا كان لا مفر، على المستوى المعياري، من تبني مبدأ الاحترام المتبادل، إذن لا مفر أيضاً من تبني مبدأ الحياد، في المجال العام، إزاء العقائد الشاملة. فلو قامت الدولة، مثلاً، بالترويج لعقيدة من هذه العقائد دون سواها، فإن هذا سيكون بمثابة خرق لمبدأ القابلية للكوننة، أي بمثابة حض لأصحاب العقائد الأخرى على التخلي عن سلطتهم المعرفية لأصحاب العقيدة التي تروج لها الدولة. ولكن هذا، كما رأينا، يتعارض مع مبدأ الاحترام المتبادل. من الواضح، إذن، أن الضرورة المعيارية للمبدأ الأخير ينبغي أن تترجم إلى حياد من قبل الدولة إزاء العقائد الشاملة المتعددة. إذا كانت التعددية توجب أن تكون للعدالة السياسية الأولية (أي أن تكون للحق الأولية على الخير)، فإن العدالة السياسية بدورها توجب أن تكون للديموقراطية الأولية على كل الأنظمة السياسية المنافسة. نجد هنا الرباط الحميم - ولا أقول المفهومي - بين الليبرالية والديموقراطية. إن الإجراءات الديموقراطية، بحسب هذا الفهم، لن تكون مجرد إضافة إلى مجتمع تحققت فيه من قبل شروط العدالة السياسية، أي ميكانيزم إضافي لتجميع التفضيلات في المجتمع، بل إنها ستكون بالأحرى جزءاً لا يتجزأ من المؤسسات العادلة. إن إيجاد الطرق الفعالة في تسهيل التفاعل الحواري بين المواطنين، والمشاركة الفردية والجماعية في الحياة العامة، وغير ذلك مما يتصل بحرية القول، وحرية العمل، هي شيء ضروري لتبلور مبادئ العادلة، ولوضعها موضع التنفيذ، بدون إفساح المجال لأصوات فعلية تمثل منظورات مختلفة كي تعبر عن المصالح المحددة والقيم والهويات والتجارب العينية التي يتكون منها العالم الاجتماعي، بكل ما في داخله من تعدد وتنوع، لا يمكن إيجاد طريقة فعالة للمجيء بالمعايير المطلوبة لتنظيم سيرورة التفاعل الاجتماعي الحواري بين ممثلي مختلف المصالح والمنظورات القيمية والهويات في غياب أصوات كهذه، أو في غياب الشروط الضرورية لسماعها، فإن المبادئ المعيارية التي ستنظم العلاقات الاجتماعية على أساسها، في هذه الحالة، ستكون معرضة لاتخاذ طابع استبعادي وغير عادل.

التعددية هي الحد الأوسط بين العدالة والديموقراطية. ففي غياب التعددية في المصالح والهويات والمنظورات القيمية، لا تعود مسألة عدالة، أو عدل، المؤسسات الديموقراطية مسألة مطروحة. إن هذا واضحاً من كون افتقار المؤسسات الديموقراطية إلى العدالة يعني تجسيدها لسياسات استبعادية. ولكن سياسات كهذه ممكنة، فقط، إذا كان ثمة شيء يمكن استبعاده. إذن، على افتراض وجود مجتمع غير تعددي بالمعنى الخالص، فلا حاجة للديموقراطية في هذا المجتمع لأنْ تكون أكثر من ميكانيزم لتجميع التفضيلات، ولكن بما أن وجود مجتمع غير تعددي هو من المستحيلات الواقعية، فإن المطالبة بالمزاوجة بين الديموقراطية والعدالة تصبح ذات أهمية قصوى.

إذا كانت التعددية هي في أساس الربط بين الديموقراطية الإجرائية والعدالة، فما هو الأساس للديموقراطية الإجرائية؟ إنه، باختصار، يكمن في عدم جواز خضوع البشر لسلطة أحد بدون رضاهم. فلا أحد، هو من الذكاء والحكمة والطيبة والعدل، بمكان، بحيث يجوز أن يعطى الحق في أن يحكم الآخرين بدون رضاهم. إن الأهمية الإيجابية التي يمكن إسنادها إلى الفكرة الأخيرة هي أن كل الذين ينتمون إلى المتَّحد السياسي نفسه، ويتأثرون، لهذا السبب، بمؤسساته السياسية، من حقهم أن يشاركوا في تشكيل وإدارة هذه المؤسسات، بغض النظر عن المنظور، أو المصلحة التي يمثلها كل منهم. فالقيم والسياسات التي يفُترض أن تنتج عن عمل هذه المؤسسات لا تعني فئة من فئات المجتمع دون سواها، بل إنها تعني جميع الفئات والأفراد في المجتمع. فهي، أصلاً، ما يفترض أن تنظم حوله حياتهم الاجتماعية المشتركة. إذن، هذا يعطي لكل فرد، أو فئة، الحق في المشاركة، وينبغي أن تكون متاحة للتجميع بدون استثناء. من الافتراضات الأساسية المسبقة للالتزام بالمثال الديموقراطي الاعتقاد بقدرة العقل الجمعي (العقل العام) على إيجاد الحلول للمشكلات التي تواجهه. فالبشر، عن طريق تعاونهم في استخدام مواهبهم وقواهم العقلية، قادرون على الحصول تدريجياً على المعرفة والحكمة الضروريتين لتوجيه جهودهم الجماعية في اتجاه ما يخدم مصالحهم المشتركة.

بإمكاننا الآن أن نحدد، في ضوء ما سبق، الشروط اللازمة لإقامة مؤسسات ديموقراطية عادلة. سألخص هذه الشروط في خمسة: أولاً، الإرادة الجمعية الواحدة هي التي ينبغي أن تكون المصدر الأخير للسلطة السياسية، ولا حق لأي فرد، أو جماعة، الاستئثار بهذه السلطة.

ثانياً، ينبغي أن تكون الفرص نفسها متاحة للجميع للمشاركة في الحياة السياسية، مما يستدعي حياد الدولة إزاء المصالح المشروعة المتنافسة، وكذلك إزاء العقائد الشاملة المعقولة، والمنظورات القيمية المتعارضة.

ثالثاً، ينبغي إعطاء كل مواطن الحق في ممارسة الحرية على أوسع نطاق يسمح به إعطاء حرية مماثلة للجميع.

رابعاً، لا يجوز تجريد أي عضو من أعضاء الدولة من حقوق المواطنة على نحو تعسفي، أي، مثلاً، على أساس ديني أو إثني. خامساً، ينبغي تأمين إطار تعاوني تتوافر ضمنه الشروط القمينة بحصول تفاعل اجتماعي حواري بين كل ممثلي المصالح المشروعة والمنظورات القيمية المتنوعة، وكذلك كل ممثلي العقائد الشاملة المتعددة، بحيث تتاح الفرصة لكل صوت لأن يسمع ويتقيد جميع الفرقاء بمبدأ الاحترام المتبادل.

 العلمانية والديموقراطية

 لنتاول الآن السؤال الذي تتمحور حوله هذه الدراسة، أي السؤال: لماذا هي العلمانية شرط ضروري لإقامة مؤسسات ديموقراطية عادلة؟ هذا السؤال، في ضوء ما سبق، يتحول إلى السؤال: لماذا يعني غياب العلمانية غياب مؤسسات تتوافر فيها الشروط الخمسة المذكورة أعلاه؟

حتى نعالج هذا السؤال على نحو مناسب، من المستحسن أن نحاول، أولاً، تحديد النتائج المترتبة على الموقف، لأنه يقوم على الاعتقاد بأن للدين أغراضاً دنيوية تتجاوز تهذيب النفس بالأخلاق الحسنة، وما شاكل ذلك. في فكر الإسلاميين بالذات، الإسلام دين ودولة، بل إن الإسلام عقيدة شاملة كل الشؤون الأخروية والدنيوية، على حد سواء. إن هذا يدفع بهم إلى حد الاعتقاد أن شمولية الإسلام هي في صلب ماهيته، باعتباره ديناً - أي في صلب ماهيته العقدية. وهذا ما يفسر لماذا نراهم لا يتورعون عن اعتبار العلمانية مروق من الدين، وصنو الإلحاد(10). فالاعتقاد في الله، من منظورهم، يتضمن منطقياً واجبات تشمل كل مناحي الحياة الدنيا، السياسية منها وغير السياسية. ولذلك فإن علمنة السياسة، التي تعني، على الأقل، الفصل بين الواجبات الدينية والواجبات السياسية، هي، بحكم "منطق" تفكيرهم، بمثابة نقض للاعتقاد بالله.

لا يمكن أن يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لأي موقف مناف للعلمانية، بغض النظر عمّا إذا كان هذا الموقف نابعاً من منظور إسلامي، أم من منظور مسيحي، أو يهودي أصولي. فإن أي موقف كهذا لا بد أن ينطلق من الافتراض أن العقيدة الدينية، التي اتفق أن صاحب هذا الموقف يدين بها، تفرض عليه رفض ما يدعوه روبرت عودة Ratiomale ciple of Secular The (مبدأ المسوغ العلماني)(11) ينص هذا المبدأ على أن من واجبات الوهلة الأولى facie rima واجب عدم تأييد، أو دعم أي قانون، أو أي سياسة عامة، تقيد أفعال البشر على نحو أو آخر، إلا إذا كان ثمة أسباب علمانية لهذا التأييد، أو الدعم، والمقصود بالأسباب العلمانية تلك الأسباب التي لا يفترض التسليم بها، الاعتقاد بالله، ولذلك فإن رفض هذا المبدأ هو بمثابة تأكيد على عدم الاعتراف بكفاية، أو حتى أهمية، الأسباب العلمانية، وهذا بدوره يقوم على تأويل رافض هذا المبدأ لعقيدته الدينية، على نحو يجعلها تفرض عليه عدم الاكتفاء بالأسباب العلمانية، أو حتى إيلاءها أهمية تذكر. من هنا يتضح كيف يتحول الإلزام السياسي بسحر ساحر إلى إلزام ديني.

 الإسلام السياسي

 يبلغ هذا منتهى الوضوح في الحركات الممثلة للإسلام السياسي، حيث نجد أن من السمات البارزة المشتركة بينها الاعتقاد بأن الإسلام يرتبط مفهومياً بالسياسة، أي اتخاذ الإسلام بعداً سياسياً. إذن، هذا ليس حاصل ظروف تاريخية أملت اتجاهه هذا الاتجاه، بل إنه شيء في صلب عقيدته، باعتباره ديناً، وهذا يترجم، من منظورهم، إلى واجب ديني يفرض تنظيم المسلمين في حزب سياسي، من أغراضه الأساسية إقامة دولة إسلامية، أي دولة منظمة حول المبادئ والقيم الإسلامية. فالإسلام، باعتباره ديناً، لا يكتمل، بحسب هذه النظرة، إلا إذا تحقق الغرض الأخير. من الواضح هنا أن تسييس الإسلاميين للإسلام يختلف بصورة جوهرية عن تسييس دعاة لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية للمسيحية، لأن الأخيرين لم يروا إلى السياسة بوصفها ترتبط جوهرياً بالمسيحية. وكذلك فإن تسييسهم للإسلام، وإن تشابه نوعاً ما مع تسييس اليمين الديني في الولايات المتحدة للمسيحية، إلا أنه تجاوز الأخير، نظراً لرؤيتهم الإسلام، من جهة، على أنه نظام شامل كل مناحي الحياة، ولرؤيتهم السياسة، من جهة ثانية، على أنها وسيلة لتحقيق هذا النظام الشامل، عملاً بالأمر الإلهي. وهذا يفرض تبنيهم الموقف الكلياني في السياسة، حيث تعني أسلمة السياسة أسلمة كل مناحي الحياة. وحتى المعرفة والعلوم لا تُستثنى من الأسلمة. ومن يذهب إلى هذا الحد في عملية الأسلمة، فإنه لا يمكن أن يرضى بأقل من أسلمة تامة للقانون والاقتصاد، والتربية والفن، والقيم.. إلخ. وأسلمة شاملة كهذه تتضمن الحقوق، وأنّ الواجبات الدينية للمسلم تشمل واجب إخضاع كل مناحي الحياة لمعايير إسلامية، بل وتجعل الواجب الأخير متمماً للواجبات الأساسية للمسلم، واجب العبادة والصوم والحج الزكاة. هنا نجد بذور نظام كلي(12)، فهذه النظرة إلى الإسلام، على افتراض نجاح الآخذين بها في تأمين استلامهم مقاليد السلطة السياسية في بلدهم، لا بد أن تترجم إلى ترتيبات سياسية لا تسمح لأي منظور علماني، أو غير إسلامي، أن ينافس المنظور الإسلامي في أي مجال من مجالات الحياة. فكل هذه المنظورات الأخرى، وإن كانت تتعلق بجوانب للثقافة والحياة الاجتماعية، لا تعتبر بحق مشمولة بالدين، بوصفه ديناً، إلا أنها ستجد نفسها، في ظل دولة دينية، معرضة باستمرار لشتى الضغوط للاندماج في المنظور الديني بحسب فهم الإسلاميين له، أو، على الأقل لعدم الانحراف عن التنوع الثقافي، بكل ما ينطوي عليه من تعددية قيمية، وكذلك الحريات الشخصية لا بد أن تكون الضحية في وضع كهذا.

يتضح هذا أكثر عندما نأخذ في الاعتبار المبَّرَر، من وجهة نظر الإسلاميين، لاعتبارهم إقامة دولة إسلامية واجباً دينياً، هذا المبرر هو أن "الحاكمية هي لله" لا شك طبعاً أن ثمة تأويلاً لإسناد الحاكمية لله لا يمكن الاعتراض عليه، ألا وهو التأويل اللاهوتي (الكلامي) المتعارف عليه. والله، بحسب هذا التأويل، هو الخالق لكل شيء والضامن لاستمرار كل شيء في الوجود، مما يعني أنه أيضاً الحاكم المطلق والنهائي للكون. إن إسناد الحاكمية لله، بهذا المعنى، يقوم على حقيقة تحليلية لا يمارى فيها، أي حتى الملحد، أو اللاأدري يسلم بها، مادامت تُجَّردُ من أي مدلول وجودي، أي حقيقة أن الله بالتعريف هو الخالق لكل شيء، والضامن لاستمرار كل شيء في الوجود. فما دمنا هنا معنيين بالتصور السائد للألوهة في التقليد الإبراهيمي، فإن مفهوم الله يتضمن محمول كونه الخالق، والضامن للوجود. ثمة تصورات أخرى، طبعاً، لا تقود إلى النتيجة نفسها، بخصوص كيف ينبغي أن نفهم سيادة الله على الكون. خذ، مثلاً، التصور الربوبي لفولتير، ما يتضمنه هذا التصور هو أن الله خلق الكون، ولم يعد له أي شأن فيه بعد خلقه له، ولكن ما يعنيني هنا هو التصور التقليدي، الذي يتضمن أن الله يحكم العالم، بمعنى أن القوانين الطبيعية، وكل ما في الكون يخضع لإرادته المطلقة، ويجد ضمانه في القدرة الإلهية الكلية، أو الله وحده يمتلك القدرة على تعليق هذه القوانين، أو حتى إلغائها، إذا شاء ذلك.

لا يقف الإسلاميون عند الحد الأخير في فهمهم للحاكمية الإلهية، بل إنهم يُخرجون مفهوم الحاكمية من سياقه اللاهوتي (الكلامي) الخالص، ليزودوه بدلالة سياسية - اجتماعية.. (أنا شخصياً أرفض هذا الفهم للحاكمية الإلهية، وقد بينت في كتابات أخرى عديدة أنه فهم يقوم على أغلوطة كبرى، هي أغلوطة تحويل الجائز إلى واجب). إنه، بمعنى آخر، يقوم على النظر إلى العلاقة التاريخية بين الإسلام والسياسة، التي هي، في أفضل حال، علاقة واقعية، وبالتالي، جائزة Contingent على أنها علاقة واجبة منطقياً(13). بدون هذا الخلط بين الجائز والواجب، لا يمكن فهم الحاكمية الإلهية، إلا بمعناها اللاهوتي الخالص، أي على أنها لا تتضمن أكثر من كون الله هو الخالق والضامن المطلق للوجود.

 تأويل الحاكمية

 ولكن لا يعنيني هنا ما هو التأويل الصحيح لمفهوم الحاكمية الإلهية، وبالتالي، لعلاقة دين سماوي، كالإسلام، بالشؤون الدنيوية. ما يعنيني بالأحرى هو تأويل المسيسين للدين، مسلميهم ومسيحييهم ويهودييهم، على حد سواء، لهذا المفهوم والنتائج المترتبة على هذا التأويل. وما يتضح مما سبق هو أن الحاكمية الإلهية، بحسب هذا التأويل، تمتد إلى المجال السياسي - الاجتماعي، وهذا يعني أن التنظيم السياسي للمجتمع ينبغي أن يخضع للقانون الإلهي. نجد في هذا التأويل بذور تكوُّن الشروط المثالية لإعطاء السلطة السياسية، التي تعمل بمقتضى هذا التأويل، الحريةَ لإخضاع كل مجالات الحياة لتشريعاتها. كيف يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك، مادام الله، بحسب هذا التأويل، هو الحاكم المطلق والنهائي لكل شيء، أي لا شيء إلا ويخضع لسلطته، حيث تفهم السلطة هنا بمعناها الاجتماعي - السياسي؟ لا شك أن تأويلاً كهذا يحول شعار "الحاكمية لله" إلى وصفة ممتازة للتوتاليتارية بأروع صورها فـ"منطق" تأويل الحاكمية على النحو المعني هنا هو "منطق" اختزالي وشمولي في اختزاليته. وهو، من جهة ثانية، لا يُخرج من دائرة هذه الواجبات حتى ما يتعلق بالمجال الخاص، مجال الحريات الشخصية، وهنا تكمن شموليته. ولذلك، فإن اتخاذ السلطة الإلهية مدلولاً سياسياً - اجتماعياً يعني، في هذه الحالة، إخضاع الأفعال الإنسانية لقانون إلهي كلي الشمول. وهذا لا يعني فقط تحويل الإلزام السياسي إلى إلزام ديني، بل، والأسوأ من ذلك، إخضاع كل مجالات الحياة للسلطة السياسية، التي هي، عملياً، سلطة بشر، ليس إلاّ، فسلطة الله، على افتراض أنها تمتد إلى المجال السياسي - الاجتماعي، لا يعقل أن تمارس إلا بصورة غير مباشرة، أي من خلال البشر، بعكس سلطته على الطبيعة، التي تمارس على نحو مباشر، على افتراض رفض موقف الربوبي من علاقة الله بخلقه. وهذا لا يمكن أن يتضمن سوى أن الذين يدّعون الكلام باسم الله، أو أنهم المؤهلون للحكم باسم الله، لو أتيحت لهم الفرصة لأن يحكموا سيقومون، في غياب أي معرقلات لمساعيهم، بتنفيذ منهاجهم القاضي بإعطاء الشرع الإلهي، بكل شموليته المزعومة، طابعاً رسمياً من خلال التشريع الإنساني. ولكن ماالذي يمكن أن يعنيه هذا، عملياً، سوى تلاشي المجال الخاص في المجال العام، أي إقامة نظام كلي(14)؟

من الواضح، في ضوء ما سبق، أنه لا شرط من الشروط الخمسة الضرورية لبناء مؤسسات ديموقراطية عادلة يمكن أن يتوافر في دولة دينية تقوم على التأويل السابق للحاكمية الإلهية. لنبدأ بالشرط الأول: يتضمن هذا الشرط، كما رأينا، أن تكون الإرادة الشعبية وحدها مصدراً للسلطة، وبالتالي، عدم استئثار أي فرد أو جماعة بالسلطة. ولكن إذا كانت الحاكمية لله وحده، وكانت تفهم على أنها ذات مضمون سياسي - اجتماعي. إذن، ما دامت الحاكمية في المجال العام لا تمارس إلا من خلال بشر، فإن ما يتبع مع هذا بالضرورة هو أن الجماعة الإيديولوجية التي ستحكم باسم الله لن يكون لها غرض أهم من الاستئثار بالسلطة. كيف يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك، ما دامت الحاكمية، التي هي لله وحده، تؤول إليهم، عملياً؟ الإسلاميون أنفسهم لا يكلون من التصريح بدون أي تردد أنهم حزب الله، والأحزاب المنافسة هي أحزاب الطاغوت. حتى الذين يزعم أنهم معتدلون (راشد الغنوشي، مثلاً)(15) ليسوا على استعداد للتسامح سياسياً مع منافسيهم، إلا إذا لم يختلف الأخيرون معهم سوى بخصوص الوسائل، وليس الغايات(16). إذن، ينبغي أن تؤول السلطة السياسية إلى الذين لا هدف لهم سوى أن يحكموا باسم الله، وأن تبقى السلطة بأيديهم، ماداموا لا ينحرفون عن هذا الهدف. أما الباقون، حتى وإن لم يضطهدوا، فإنهم حتماً سيهمشون تهميشاً تاماً. السلطة السياسية هي من حق السابقين وحدهم، ليس لأنه يقوم على الإرادة العامة، بل لأنهم المؤهلون للحكم باسم الله.

لا ينفع الاعتراض هنا على تحليلنا السابق على أساس أن الله لا يحكم بصورة مباشرة، ولا هو من يمنح الحاكم سلطته، مما يعني أن الفرصة متاحة لإقامة نظام سياسي يعطي للإرادة العامة، من حيث المبدأ، دوراً بارزاً، وحتى حاسماً، في تقرير من يحكم. أقول لا ينفع الاعتراض على هذا الأساس، لأن كائناً ما كان النظام السياسي القائم، وبغض النظر إلى أي حد يتمثل هذا النظام بالأنظمة الديموقراطية المعروفة، من الناحية الإجرائية، فإن واقع الأمر هو أن الدولة الإسلامية المتصورة من قبل الإسلاميين ستتخذ، دستورياً وتنظيمياً، الصورة التي تضمن حصر السلطة السياسية فيهم. إن هذا نابعاً بالضرورة من "منطق" تفكيرهم - وما نجده في إيران ما هو إلا صورة صارخة له - هذا "المنطق" الذي يرتد إلى ثلاث مكونات أساسية. المكون الأول يتعلق باعتقادهم أن واجب إقامة دولة إسلامية هو واجب ديني. والثاني يتعلق باعتقادهم أن الدولة الإسلامية المرجوة ينبغي أن تستوحي تشريعاتها من القانون الإلهي. والثالث يتعلق باعتقادهم أنهم وحدهم المؤهلون لإعطاء التأويل المناسب للقانون الإلهي، وفض مكنونه السياسي - الاجتماعي. انطلاقاً من هذه الاعتقادات الثلاثة، كيف يمكن للذين يسلمون بعناد أخرق بها، وكأنها مسلمات واضحة بذاتها، كيف يمكن لهم، في حين استلامهم مقاليد السلطة السياسية، ألاّ يجعلوا الاستئثار بها غرضهم الأساسي؟

عدم محاولتهم الاستئثار بها ستكون، من وجهة نظرهم،إخلالاً بواجبهم الديني، أي عدم امتثال لأمر إلهي. وواضح أنه لا يمكن أن يوجد، من وجهة نظرهم، أي دافع لعمل، أو للاستنكاف عن عمل شيء ما أقوى من كون هذا الشيء هو، في اعتقادهم، ما يأمر الله بعمله، أو الاستنكاف عن عمله. من نافل القول، إذن، إنهم لو تسلموا مقاليد السلطة، فإن "منطق" تفكيرهم سيدفع بهم بالضرورة نحو عمل كل ما يلزم لضمان حصرها في أيديهم بصورة دائمة. وأي دور فعلي يبقى للإرادة الجمعية في هذه الحالة؟

 الديموقراطية والحياد

 لننتقل الآن إلى الشرط الثاني لإقامة مؤسسات ديموقراطية عادلة، أي شرط الحياد. المبرر الأساسي لإقامة مؤسسات كهذه، كما بينَّا، هو أنه لا يجوز أن يخضع البشر لسلطة أحد بدون رضاهم. حق تقرير السياسات والقيم التي يفترض أن ينظم حولها مُتَّحدهم الاجتماعي هو حق لكل عضو من أعضاء هذا المتحد، وليس لفئة مختارة منهم، أو حتى لأكثريتهم، وامتلاكهم هذا الحق جمعياً مشتق من امتلاكهم له، استغراقياً. إذن، هو، في أساسه حق لكل شخص في أن يشارك في الحياة السياسية على قدم المساواة مع كل شخص آخر، مثلما هو، في عالم مخترق بالتعددية، حق لكل منظور في أن يشغل حيزاً في الفضاء العام. لا نحتاج إلى كبير عناء هنا لنبين أن الدولة الإسلامية المزمع إقامتها لا يمكن، بحكم طبيعتها، أن تكون محايدة إزاء المنظورات المتعددة، وأن تعمل، بالتالي، على ضمان المساواة في فرص العمل السياسي لجميع الأفراد والفئات، وتوفير الشروط لكل صوت لأن يسمع. إن إقحام الدين في السياسة على طريقة الإسلاميين، أو اليمين الديني في الولايات المتحدة، مثلاً، لا بد أن يقود في اتجاه عدم الاعتراف بمشروعية التعددية. وهذا يعود إلى وجود نزعتين في الدين، أَيَّ دين، النزعة الاختزالية، والنزعة نحو إسباغ طابع مطلق على العقيدة الدينية. لا خطر من هاتين النزعتين على التعددية، ما دام لا يتجاوز فهم العقيدة الدينية مضمونها الميتافيزيقي لتزويدها بمضمون سياسي - اجتماعي. ولكن لا بد أن تختلف الصورة كلياً، في حال تزويد العقيدة الدينية بمضمون سياسي - اجتماعي، إذ لا بد أن يقود هذا، بسبب هاتين النزعتين، إلى تكون شروط معادية للتعددية، أو الاختلاف، بأي معنى من معانيه. فالنزعة الاختزالية، مثلاً، في حال تجسدها في مواقف معينة من القضايا العامة، تتحول إلى نزعة نحو النظر إلى التعارض في القيم، أو المصالح، أو المنظورات، على أنه يُختزل في تعارض واحد أساسي: تعارض بين الخير والشر (بين حزب الله وحزب الطاغوت). والمعادل لهذا في المعترك السياسي هو تحول الصراع إلى قتال لا ليونة ولا استعداد للمساومة فيه، بدل أن يكون شيئاً يمكن تدبره سياسياً على نحو يستهدف التقريب بين وجهات النظر المتعارضة والمصالح المتضاربة.

والنزعة الثانية هي نزعة الدين نحو جعل معاييره نهائية ومطلقة. وفي حال تجسد هذه النزعة في أيديولوجيا سياسية - اجتماعية، فإن ما يترتب عليها، في أفضل حال، هو النظر إلى ما يتعارض مع المضمون السياسي - الاجتماعي المزعوم للعقيدة الدينية على أنه انحراف خطير عن الحق والحقيقة، دون أن نذكر أن النظر إليه كذلك، من هذا المنظور، يسبغ عليه طابع الخطيئة المميتة.

من هنا يتضح أن ترجمة هذه النزعة إلى موقف محدد من القضايا السياسية والاجتماعية هو بمثابة ترجمتها إلى موقف ينظر إلى كل المواقف المخالفة له، مع المصالح أو القيم التي تمثلها، على أنها مجردة من أي مشروعية، ولا تستحق أي اعتبار. ونزعة كهذه لا يمكن أن تتعايش مع الاختلاف والتعدد، أو أن ينتج عنها نظام سياسي محايد.

قد يعترض بعضهم على أساس أن الدولة الدينية المرجوة لا يمكن أن تكون غير عادلة، ما دامت تتخذ من القانون الإلهي أساساً لها. فالقانون الإلهي عادل بالتعريف. ولذلك فالمؤسسات السياسية التي ستعمل بوحيه لا بد أن تتوافر فيها شروط العدالة أكثر من أي مؤسسات من نوعها لاتعمل بوحيه. ردي على هذا الاعتراض بسيط: إنه ليس أكثر من مجرد هراء الإدعاء أن القانون الإلهي هو الذي سيوجه عمل هذه المؤسسات. ما يصح قوله، بالأحرى، هو أن ما سيشكل الموجَّه لها هو ما يعتقد الإسلاميون أنه القانون الإلهي، وما يزعمون أنه المضمون السياسي - الاجتماعي له. فالقانون الإلهي المزعوم يتحول إلى إيديولوجية سياسية - اجتماعية عاكسة لوجهة النظر الخاصة بالجماعة الإسلامية التي ستؤول إليها مقاليد السلطة، ومعبرة عن المصالح الخاصة بها. ونتائج هذا واضحة، فما دامت الجماعة المعنية لا يمكن أن تعترف أنه بمقدور أي جماعة سواها لا تشاركها منظورها أن تصل إلى المواقف الصحيحة من القضايا العامة، فإنها ستعمل على استبعاد أي دور سياسي لأي جماعة ذات منظور منافس. لا يمكننا، في هذه الحالة، أن نتوقع أن تتاح لغير المسلم أو اللاأدري، أو حتى للمسلم الليبرالي، أو العلماني، أي فرصة حقيقية للمشاركة في الحياة العامة على قدم المساواة مع الذين يتماهي منظورهم من المنظور الإسلامي المسيطر. من الاعتراضات على موقفي الاعتراض على أساس أن المؤسسات الديموقراطية تعمل وفق قاعدة الأغلبية، وإذ كانت أغلبية السكان في بلد ما من المسلمين واختارت، ديموقراطياً، أن يقوم الحكم فيها على أساس ديني، فلا يمكن أن يكون في هذا انحراف على مستلزمات إقامة مؤسسات ديموقراطية عادلة. إن ردي على هذا الاعتراض هو أن الطريقة التي قد تؤدي إلى إقامة حكم إسلامي، في هذه الحالة، وإن كانت ديموقراطية، من الوجهة الإجرائية، إلا أنها، من حيث الجوهر، تمثل كل ما هو مناف لإقامة مؤسسات ديموقراطية عادلة. ما نلاحظه، بدئياً، هو أن مجرد مطالبة جماعة اتفق أنها أكثرية عددية في مجتمع ما،.. مجرد مطالبتها بأن تصبح أغلبية سياسية، وأن يكون هناك ضمان دستوري لاستمرارها كذلك، منافية لروح الديموقراطية، وللواجبات المدنية النابعة منها. إن هذا يصدق على هذه المطالبة، بغض النظر عما إذا كانت الجماعة المطالبة بذلك تشكل أكثرية دينية، أو أكثرية إثنية، أو ثقافية.

لتوضيح هذه المسألة أكثر، من الضروري التمييز، في البداية، بين المبادئ المكونة للممارسة الديموقراطية، والمبادئ التي ينبغي أن توجه اختيارنا للأساسيات الدستورية(17). مبدأ حكم الأغلبية هو من النوع السابق، ولا مهرب من تبني هذا المبدأ، لأنه لا يمكن عملياً وواقعياً تحقيق الإجماع حول القضايا السياسية. أن نطالب بالإجماع في المجال السياسي هو بمثابة مطالبتنا بشل الإرادة الجمعية، ولكن الأمر يختلف بالنسبة لاختيار الأساسيات الدستورية. لا يمكن قبول إقامة هذا الاختيار إلا على أساس الإجماع. أن نطالب هنا بأقل من الوصول إلى إجماع حول هذه الأساسيات، أو بأقل من تحقيق "إجماع متشابك(18)" بسحب تعبير جون رولز Rawls، هو أن نفسح المجال واسعاً أمام أكثرية دينية، أو عرقية، لأن تؤمن لنفسها التحول إلى أغلبية سياسية دائمة. ولكن أن تتماهى الأكثرية الدينية، أو العرقية مع الأغلبية السياسية، على أساس دستوري، هو أن تصبح بالضرورة غير ديموقراطية، وغير عادلة، لأن حكمها، في هذه الحالة، لن يقوم على قاعدة الأغلبية، بالمعنى الإجرائي المتعارف عليه، إذ إنه لا بد أن يتجه نحو تحويل هذه القاعدة إلى مجرد ستار لطغيان الأكثرية. ولذلك فإن المبادئ التي ينبغي أن تشكل الملاذ الأخير لأي مجتمع ديموقراطي - المبادئ الدستورية - لا يمكن أن تضمن إقامة مؤسسات ديموقراطية عادلة، إلا إذا كان ثمة إجماع متشابك حولها. الإجماع المتشابك فرض واجباً على مستوى اختيار الأساسيات الدستورية، لضمان أن تكون المبادئ المتفق حولها منصفة للجميع، ولا تقود، على مستوى الممارسة، إلى طغيان الأكثرية.

 الأكثرية الدينية

 لنفترض أن المبادئ الدستورية في مجتمع ما تعكس فقط منظور الأكثرية الدينية في هذا المجتمع. من الأمور

التي تترتب على ذلك هو أن هذه المبادئ ستجسد تصور الخير الخاص بهذه الأكثرية، والنابع من عقيدتها الشاملة، مثلما ستجسد المصالح الخاصة بها. ولذلك فإن وضع هذه المبادئ موضع التنفيذ لا يمكن أن ينتج عنه سوى شيء واحد: فرض تصور خاص للخير على الجميع وتهميش، إن لم نقل إخراس، كل الأصوات الممثلة لتصورات أخرى للخير، ولمصالح أخرى. لا متسع، في هذه الحالة، للتعددية، من حيث هي تعددية قيم وتعددية مصالح.

زد إلى ذلك أن دستوراً هذا شأنه لا بد أن يستبعد الشروط الثلاثة الباقية لإقامة مؤسسات ديموقراطية عادلة. الشرط الثالث، كما رأينا، هو إعطاء كل عضو من أعضاء الدولة الحق في ممارسة الحرية على أوسع نطاق يسمح به إعطاء حق مماثل للجميع، وحرية الاعتقاد مركزية هنا، وهي تشتمل على حق الفرد في أن يعتقد في أي دين يشاء، وفي أن يغير، أو يتبنى، موقفاً لا أدرياً أو ملحداً. ولكن حرية كهذه لا يمكن تأمينها إلا في دولة تلتزم الحياد، ليس فقط إزاء العقائد الدينية المتباينة، بل وأيضاً إزاء الدين، فلا يمكن لدولة دينية، أو لا تلتزم الحياد إزاء الدين، أن تناط بها مسؤولية تأمين حرية الاعتقاد الديني ونشر روح التسامح في المجتمع إلى الحد الذي يتيح للأفراد أن يمارسوا حرية الضمير في غياب أي إكراهات خارجية. لا يمكن أن يتولد عن الدولة الدينية سوى ما هو معاد لروح التسامح. إنها تخلق الشروط المثالية لتسهيل ممارسة الضغوط غير العادية على من لايدينون بدين الدولة، ليغيروا دينهم، ويتبنوا دين الأكثرية، وعلى الذين يدينون بدين الأكثرية، ليستمروا في اعتقادهم. إن "منطق" الدولة الدينية هو على نحو لا يسمح بتكون الشروط القمينة بممارسة حرية الضمير. قد لا توجد قوانين تحد من هذه الحرية - وإن كان هذا شبه مستحيل - ولكن واقع الأمر هو أن غياب الحياد إزاء العقائد الدينية في هذه الدولة يشجع الأكثرية الدينية على عدم التسامح الذي قد يُترجم إلى ممارسة ضغوط مستمرة على الأخيرين ليدينوا بدين الدولة.

بالإضافة إلى الضغوط الناتجة عن عدم التسامح، توجد ضغوط أخرى ناتجة عن كون الدولة الدينية، مدعوة، بحكم طبيعتها، لاستبعاد من لا يدينون بدين الدولة، إنِ اتُّفق أنه دين الأكثرية، وكذلك اللاأدريين والملحدين، من حقوقهم المدنية، ومعاملتهم معاملة المجرمين. وهذا يتعارض مع الشرط الرابع من الشروط الخمسة الضرورية لإقامة مؤسسات ديموقراطية عادلة، أي شرط عدم حرمان أي عضو من أعضاء الدولة من أي حق من حقوقه المدنية على أسس تعسفية. كل عضو من أعضاء الدولة، بغض النظر عن اعتقاده الديني، أو موقفه من الدين، يتأثر بسياسات وتشريعات هذه الدولة. وهذا وحده يعطيه الحق، ليس فقط لأن يكون له دور في تقرير وإدارة مؤسسات الدولة على قدم المساواة مع سواه، بل وأن يكون له أيضاً نصيب عادل من الخيرات، والمنافع، والأعباء العامة.

ليست اعتقادات الشخص، كائنة ما كانت، ذات أهمية بهذا الخصوص، ولكن فقط كون هذا الشخص يشارك في حياة مُتَّحد ولا بد أن يتأثر، على نحو أو آخر، بالقرارات الجمعية لهذا المتحد. وهذا لا يعطيه فقط الحق في أن يشارك على قدم المساواة مع سواه في الحياة السياسية، التي يفترض أن تنتج عنها هذه القرارات، بل وأيضاً الحق في أن يسعى للحصول على أي منصب أو وظيفة، حتى وإن كانت تتعلق بصورة مباشرة وأساسية بصنع القرارات المتعلقة بالحياة العامة. في الدولة الدينية، دين الشخص، أو موقفه من الدين، هو ذو أهمية كبرى في تقرير مدى امتلاكه لحقوق المواطنة، وما هو نصيبه من الخيرات، والمنافع، والأعباء العامة. في الدولة الإسلامية المنشودة من قبل الإسلاميين، مثلاً، مواطنية غير المسلمين لن تعتبر مكتملة بدون تبنيهم الإسلام ديناً. أما اللاأدريون والملاحدة، من بين المسلمين بالولادة، فإن مصيرهم سيكون أسوأ بكثير من مصير غير المسلمين، إذ إنهم سيعاملون معاملة المجرمين. فحتى إسلامي "معتدل" نسبياً، كراشد الغنوشي، لا يتورع عن تأييد تجريم المرتدين، وما يميزه عن غير الإسلاميين هو أنه يعتبر جريمتهم جريمة سياسية، ليس إلا(19). ولكن من الواضح أن تجريم المرتد، بغض النظر عن كيفية تصنيف "جريمة" الارتداد، هو بمثابة تجريد لمواطنين من بعض حقوقهم بسبب اعتقاداتهم.

من الجدير بالملاحظة هنا أن العلمانيين، حتى وإن لم يتخلوا عن إسلامهم، سيكون لهم مصير المرتدين نفسه في الدولة الإسلامية المنشودة. فكما رأينا في البداية، فإن العقيدة الإسلامية، من منظور الإسلاميين، تتضمن اعتبار إقامة دولة إسلامية واجباً دينياً، مما يستدعي النظر إلى العلمانية على أنها مروق من الدين الحنيف، وبالتالي، شكل من أشكال الارتداد. ولكن حتى ولو تجنب العلمانيون، بأعجوبة، مصير المرتدين في الدولة الإسلامية المنشودة، فإنهم حتماً لن يوضعوا سوى في خانة أعداء الدولة، مما سيزود القيمين على مقدرات الدولة بكل ما يحتاجون إليه لتجريدهم من الكثير من حقوقهم الأساسية، بسبب اعتقادهم العلماني.

لننصرف الآن إلى تناول الأسباب لتعارض الدولة الدينية مع الشرط الخامس والأخير لإقامة مؤسسات ديموقراطية عادلة. يتعلق هذا الشرط، كما رأينا بتأمين إطار تعاوني قمين بحصول تفاعل اجتماعي حواري بين ممثلي مختلف المنظورات والمصالح الجمعية المشروعة والعقائد الشاملة، بحيث يتقيد الجميع بمبدأ الاحترام المتبادل(20) في المجالات التي ليس لأي فريق أي امتياز معرفي فيها، فالمبرر الأساسي للمؤسسات الديموقراطية، كما بينَّا، هو الاعتقاد بضرورة إعطاء جميع الأفراد والفئات الفرص نفسها للمشاركة في تقرير القيم والسياسات والمعايير التي يفترض أن تنظم حولها حياتهم المشتركة. ولكن لا يمكن فصل الاعتقاد الأخير عن الاعتقاد بقدرة "العقل العام" على إيجاد الحلول لمشكلات المجتمع المشتركة. ولكن العقل العام هو العقل الجمعي، ولا يمكن، بالتالي، أن يعمل بصورة فعالة إلا ضمن إطار تعاوني، حيث تكون سيرورة التفاعل الحواري المجسدة لعمل العقل العام كلية الشمول، وتجد الضمان لاستمراريتها في التقيد بمبدأ الاحترام المتبادل.

 خاتمة

 لا يمكن لدولة دينية سوى أن تستبعد من سيرورة التفاعل الاجتماعي الحواري كل من لا يدينون بدين الدولة، وكذلك كل العلمانيين، حتى وإن كانوا يدينون بدين الدولة. فمن غير المعقول أن نتوقع مشاركة الأخيرين مشاركة فعالة في تقرير السياسات والقيم والمعايير التي يجب أن ينظم حولها مُتَّحدهم، والتي سيكون لنتائجها أثر على مصالحهم. لا مفر من استبعاد الأخيرين من المشاركة الفعلية - لا الإسمية - في الحياة العامة، ما دام ما تعنيه هذه المشاركة في الدولة الدينية هو الوصول إلى اتفاق حول أي السياسات والتشريعات والقيم المقترحة تنسجم على النحو الأفضل مع التعاليم الدينية. وكون المشاركة تعني هذا، يتضمن بالضرورة أن الوحيدين الذين لهم الحق في أن يقوموا بدور فعال في المجاز العام هم الذين ينتمون إلى الجماعة الدينية الحاكمة، ويؤيدون أيديولوجيتها السياسية

  الاجتماعية اللاعلمانية، وكل من عداهم لا بد أن يحظر عليه بصورة آلية القيام بدور كهذا. إن وضعهم، في هذه الحالة، هو وضع المتفرج على ما يجري على المسرح العام.

يتضح هذا أكثر بالنظر لكون الدولة الدينية، أو حتى المطالبة بإقامتها، تشكل خرقاً فاضحاً لمبدأ الاحترام المتبادل. يستلزم هذا المبدأ، كما رأينا، أن تقترن المساواة في المشاركة مع المساواة المعرفية. وهذا يعني أنه عندما يتعلق الأمر بتعارض عقائد ميتافيزيقية شاملة، أو بتعارض منظوراتها القيمية المختلفة، فإن ما هو مطلوب، كحد أدنى، لضمان استقرار المتحد الاجتماعي هو أكثر من تحقيق تسوية موقتة Modus Vivendi  بينها. ما هو مطلوب بالأحرى هو تقيدها بمبدأ الاحترام المتبادل، الذي يوجب كما بيّنّا، أن يحترم مؤيدو كل عقيدة، أو تصور شامل للخير، الحق المعرفي لكل من يؤيدون عقيدة أخرى، أو تصوراً آخر، في أن يختاروا الطريق التي يرونها مناسبة إلى "الحق" و "الحقيقة". الاحترام المتبادل، في هذا السياق، يعني المساواة المعرفية. في غياب المساواة المعرفية، في المجال العام، تتحول سيرورة التفاعل الاجتماعي الحواري حول القضايا العامة إلى ساحة عراك، حيث كل فريق يحاول فرض عقيدته وتصوره الشامل للخير على المجتمع ككل. وهذا، في الواقع، يشكل بداية عملية استبعادية تنتهي إلى إلغاء المساواة في المشاركة، إلا إذا لم تتوافر لأي فريق الفرصة لفرض سلطته المعرفية على سائر الفرقاء، مما قد ينتهي بهم إلى تحقيق تسوية موقتة، ولكن في حال نجاح فرض فريق سلطته المعرفية، فإن نجاحه في ذلك هو بمثابة نجاح في الحظر على أي فريق آخر القيام بأي دور يذكر في الحياة العامة. إن غياب المساواة المعرفية هو غياب للمساواة في المشاركة وبداية انهيار سيرورة التفاعل الاجتماعي الحواري في المجتمع المدني.

ليس انهيار سيرورة الحوار محتوماً فقط في حال قيام دولة دينية، بل وأيضاً في حال تسييس الدين على طريقة اليمين الديني في الولايات المتحدة، وطريقة الإسلاميين عندنا. ثمة فرق طبعاً بين ما تؤول إليه هذه السيرورة في ظل دولة دينية، وما تؤول إليه نتيجة تسييس الدين، سعياً وراء إقامة دولة دينية. ففي الحالة السابقة، نجد أن الجماعة التي تحكم باسم الدين يعدو إليها وحدها تقرير شروط المشاركة في الجدل الذي يمكن أن يجري حول القضايا العامة، نظراً لكون سلطتها المعرفية هي السلطة النافذة. ولذلك حتى يحق لأي فريق آخر أن يشارك في هذا الجدل، فإن عليه أن يتقيد بهذه الشروط وأن يتخلى، بالتالي، عن سلطته المعرفية للفريق الحاكم، وإلا فسيستبعد من المشاركة في ما يجري على الساحة العامة. أما في الحالة الأخرى، حيث يجري تسييس الدين طلباً لإقامة دولة دينية، فإن الفريق اللاعلماني ليس في وضع، بَعْدُ، يسمح له بأن يقرر شروط المشاركة في الحقل العام. ولكن، مع ذلك، فإن مجرد تسييس الدين للغرض المذكور يشكل خرقاً فاضحاً لمبدأ الاحترام المتبادل، ولمبدأ المساواة المعرفية معه. يعود سبب ذلك إلى أن المطالبة بتأسيس دولة دينية هي مطالبة بإقامة مؤسسات سياسية وقانونية واجتماعية، حيث يكون للسلطة المعرفية للفريق المطالب بها القول الفصل. وهذا بمثابة دعوة لكل فريق منافس للتخلي عن سلطته المعرفية للفريق اللاعلماني. لا يوجد اعتراف في هذه الدعوة بأنه لا وجود لإلغاء الحسم في المسائل ذات الطبيعة الدينية، أو الميتافيزيقية، وأن الطريقة الوحيدة المنصفة لأصحاب العقائد الشاملة المختلفة لتنظيم تعاملهم مع بعض هي وضع اختلافاتهم الميتافيزيقية جانباً، بحيث يبقى العقل العام بمنأى عن مؤثراتها. إنّ دعوة كهذه تتضمن أن الفريق الذي تصدر عنه يعطي لنفسه الحق في أن يضع سلطته المعرفية محل السلطة المعرفية لأي فريق آخر. من هنا يتضح لماذا تسييس الدين هو خطوة كبرى في اتجاه إلغاء سيرورة التفاعل الاجتماعي الحواري، وإلغاء دور العقل العام معها، ولماذا يشكل، بالتالي، واحداً من أهم التحديات التي تواجه محاولة إقامة مؤسسات ديموقراطية عادلة.

 الحواشي

1-  لم أتناول هنا مفهوم العلمانية، إذ هذا يحتاج إلى بحث مستقل. لا حاجة، لغرض هذه الدراسة، سوى إلى النظر إلى الموقف العلماني على أنه يستلزم ألا تقيد أفعال البشر بأي قوانين أو سياسات عامة، إلا إذا كان ثمة أسباب، أو مسوغات، لهذا التقييد، لا يفترض التسليم بها الاعتقاد بالله. لفظة "علمانية" كما أستعملها في ورقتي، هي، إذن، النظير العربي لـ"Secularism" ولذلك ما تدل عليه هذه اللفظة ليس موقفاً من طبيعة الحقيقة، وما إذا كانت نسبية، أم مطلقة. الموقف الذي تدل عليه لا يستلزم، على المستوى الإبستمولوجي، أكثر من ضرورة اعتبار المعرفة المتعلقة بالشؤون الزمنية مستقلة منطقياً عن "المعرفة" الدينية. للتزود بصورة واضحة ومفصلة عن كيفية تصوري للعلمانية، أنظر: عادل ضاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية (لندن: دار الساقي، 1993)، ص37 - 75.

2-  للإطلاع على موقفي من طبيعة علاقة الإسلام بالسياسة، أنظر: المصدر السابق، الفصل الحادي عشر. أنظر أيضاً: عادل ضاهر، أولية العقل - نقد أطروحات الإسلام السياسي - (بيروت: أمواج، 2001) الفصل الثامن، وعادل ضاهر، "نقد الصحوة الإسلامية"، في مواقف (العدد 58، ربيع 89)، ص 49 - 74.

3-  من الاعتراضات على نعتي نظاماً مثل النظام الشيوعي، أو النازي، بأنه نظام علماني اعتراض مفاده أن نظاماً كهذا لا يمكن أن يكون علمانياً، ما دام يضفي طابعاً مطلقاً على الأيديولوجيا الاجتماعية - السياسية التي تشكل قاعدته. من الواضح طبعاً أن إضفاء نظام كهذا طابعاً مطلقاً على أيديولوجيته يجعله مماثلاً للأنظمة اللاعلمانية، لجهة كون الأخيرة تضفي طابعاً مطلقاً أيضاً على إيديولوجيتها الاجتماعية - السياسية. ولكن ثمة فرقاً جوهرياً هنا، يكمن في أن الأخيرة تضفي هذا الطابع المطلق على إيديولوجيتها لاعتقادها أنها مستمدة من مصدر سماوي معصوم على نحو مطلق، بينما لا يقوم إضفاء الصفة السابقة طابعاً مطلقاً على أيديولوجيتها سوى على اعتبارات مستقلة عن الاعتقاد بالله. وهذا الفرق له كل الأهمية، من الوجهة المفهومية، لغرض عدم استبعاد هذه الأنظمة من ما صدق مفهوم العلمانية، بحسب فهمي للعلمانية، بحسب فهمي للعلمانية. قد يصدق على المعترض أنه ينظر إلى لفظة "علمانية" على أنها مشتقة من "علم" وليس على أنها، كما أنظر إليها أنا هنا، النظير العربي لـ"Secularism" ولكن النظر إليها، كذلك، يجعل العلمانية موقفاً يقضي بالنظر إلى المنهج المتبع في العلوم الطبيعية على أنه المنهج الصالح لكل مجالات المعرفة، حتى ما يتعلق منها بالإنسان. يشار إلى هذا الموقف عادة بلفظة "علموي"، لا بلفظة "علماني"، هو، في بعض صوره، موقف أيديولوجي من العقل، إذ إنه، بالإضافة إلى جعله العلوم الطبيعية الأنموذج الأساسي لكل نشاطات المعرفة، يقلص العقل إلى مجرد عقل وسائلي، أو تكنولوجي، نازعاً عنه وظيفته المعيارية. وهذا الموقف لا يعنيني هنا لا من بعيد ولا من قريب، وهو، على أية حال، موقف مرفوض من قبلي ]أنظر: عادل ضاهر، الفلسفة والسياسة (لندن: دار الساقي 1991) [. قد تكون في ذهن المعترض دلالة أخرى للفظة "علماني" لا تستلزم أكثر من استعمال هذه اللفظة للإشارة إلى الموقف الذي يجسد الروح العلمي، حيث يفهم بالروح العلمي النزعة نحو الموضوعية، والعزوف عن التعصب والجزمية (الدوغمائية) وما شابه ذلك. الروح العلمي ضروري طبعاً لإقامة مؤسسات ديموقراطية عادلة، لأن التسامح من أجلى مظاهره. ولكن لا علاقة للعلمانية، كما أفهمها في بحثي الحالي، بالروح العلمي. فقد يكون العلماني، بالمعنى الذي يعنيني هنا، دوغمائياً في علمانيته إلى أقصى حد، أي في اعتقاده أنه لا يجوز أن يقيد البشر بقوانين إلا إذا وُجد أساس لها في مصدر غير سماوي.

4-  أنظر:  frank Cunningham, Theories of Democracy, New York: Routledge, 2002), chap5.

5-  المصدر السابق، الفصل العاشر.

6-  يعود التمييز بين الحرية السلبية والحرية الإيجابية إلى أشعيا برلين. أنظر: Isaiah Berlin, Four Concepts of Liberty, (Oxford: Oxford University Press, 1969),pp. 121- 132.

7-  أنظر: Inmanuel Kant, Grounding tie Metaphysics of Morals,: tran. by j. Ellington (Hackett Publishing Co., Inc. 1981).

8-  الاعتقاد بأسبقية الحق على الخير سمة بارزة لما صار يعرف بالليبرالية الديونطولوجية المستوحاة من فكر عمانوئيل كنط، وأهم ممثل لها هو جون رولز. أنظر:

John Rawls, Political Liberalism New York: Columbia University Press, 1996),lecture v .

9-  أنظر: عادل ضاهر، أولية العقل، ذكر سابقاً ص 144 - 151.

10-  الاعتقاد بوجود رباط ضروري بين الدين والدولة في الإسلام، وأن العلمانية مروق من الدين واضح في الأعمال التالية: راشد الغنوشي، وحسن الترابي، الحركة الإسلامية والتحديث (الخرطوم: مكتبة دار الفكر، 1980) ص90 وص190: حسن البنا، مذكرات الدعوة والداعية (القاهرة: دار الشباب، د.ت)، ص283؛ يوسف القرضاوي، الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف، (دار الشرق، ط2، 1984)ص 112؛ علي التميمي "الضياع بين التقريب والتخريب" في منبر الحوار، عدد9، السنة الثالثة (ربيع 1988)، ص142؛ أنور الجندي، الإسلام والدعوات الهدامة (بيروت 1974) ص 271-293.

11-  أنظر: Robert Audi, Religious Commitment And Secular Reason (Cambridge: Cambridge University Press, 2000),p.86.

12-  للتعمق في فهم طبيعة النظام الكلي، أنظر: ناصيف نصار "إسهام في نقد النظام الكلي"، في الفلسفة العربية المعاصرة، بحوث المؤتمر الفلسفي العربي الثاني (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1988)، من 61.

13-  أنظر: عادل ضاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية، ذكر سابقاً، الفصل الحادي عشر.

14-  عالجنا الطبيعة التوتاليتارية للدولة الدينية بإسهاب في: عادل ضاهر، أولية العقل، ذكر سابقاً، الفصل الثامن.

15-  راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1993)، ص294-295.

16-  عالجنا هذا الاعتراض بصورة أكثر تفصيلاً في: أولية العقل، ذكر سابقاً، ص391-59.

17-  أنظر: John Rawls, Political Liberalism, op. cit, Lecture IV.

18-  المصدر السابق.

19-  راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ذكر سابقاً، ص49-50.

20-  عالجنا هذه المسألة بإسهاب في: عادل ضاهر، أولية العقل، ذكر سابقاً، ص400-410.

 

 النظام اللاعلماني قد لا يتعارض مع الديموقراطية بمعناها الإجرائي، ولكنه حتما يتعارض مع إقامة مؤسسات ديموقراطية عادلة. 1

النظرية الليبرالية في التعددية هي، على نحو أو آخر، محاولة لتسويغ وضع قيود على السلطة السياسية، بحيث يضمن ذلك المحافظة على الحريات الأساسية، 2

 فما يتضمنه رفض مبدأ الاحترام المتبادل هو أن الفريق الرافض له يفترض أن من حقه أن يحل سلطته المعرفية محل السلطة المعرفية لسائر الفرقاء، على الرغم من أنه يرفض أن يكون لأي فريق آخر الحق نفسه. 3

 ففي غياب التعددية في المصالح والهويات والمنظورات القيمية، لا تعود مسألة عدالة، أو عدل، المؤسسات الديموقراطية مسألة مطروحة. 4

 . فلا أحد، هو من الذكاء والحكمة والطيبة والعدل، بمكان، بحيث يجوز أن يعطى الحق في أن يحكم الآخرين بدون رضاهم. 5

 تسييس الإسلاميين للإسلام يختلف بصورة جوهرية عن تسييس دعاة لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية للمسيحية، لأن الأخيرين لم يروا إلى السياسة بوصفها ترتبط جوهرياً بالمسيحية. 6

 إذن، ما دامت الحاكمية في المجال العام لا تمارس إلا من خلال بشر، فإن ما يتبع مع هذا بالضرورة هو أن الجماعة الإيديولوجية التي ستحكم باسم الله لن يكون لها غرض أهم من الاستئثار بالسلطة. 7

 الدولة الإسلامية المزمع إقامتها لا يمكن، بحكم طبيعتها، أن تكون محايدة إزاء المنظورات المتعددة، وأن تعمل، بالتالي، على ضمان المساواة في فرص العمل السياسي لجميع الأفراد والفئات، وتوفير الشروط لكل صوت لأن يسمع. 8

 فإن المبادئ التي ينبغي أن تشكل الملاذ الأخير لأي مجتمع ديموقراطي - المبادئ الدستورية - لا يمكن أن تضمن إقامة مؤسسات ديموقراطية عادلة، إلا إذا كان ثمة إجماع متشابك حولها. 9

من الواضح أن تجريم المرتد، بغض النظر عن كيفية تصنيف "جريمة" الارتداد، هو بمثابة تجريد لمواطنين من بعض حقوقهم بسبب اعتقاداتهم. 10

 سيرورة التفاعل الحواري المجسدة لعمل العقل العام كلية الشمول، وتجد الضمان لاستمراريتها في التقيد بمبدأ الاحترام المتبادل. 11

 ليس انهيار سيرورة الحوار محتوماً فقط في حال قيام دولة دينية، بل وأيضاً في حال تسييس الدين على طريقة اليمين الديني في الولايات المتحدة، وطريقة الإسلاميين عندنا. 12

هل هناك اختيار بين الاستقرار والحرية؟(6)

* دولة (الاوتوقراطية) ذات الطبيعة السلطوية جعلت الواقع في الدول العربية مزيجا - لا يختلف عليه اثنان - من نزعتي القمع والقهر معا بدعوى ان الحرية ليست سبيلا للاستقرار الذي يجب ان نسعى اليه باي ثمن وتحت اي ظرف من الظروف

في واحد من تصريحاتها الاخيرة - والذي كررته مرة اخرى في محاضرتها بالجامعة الاميركية في القاهرة - تحدثت وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس عن مسألة تتجاوز في اهميتها كل ما قالته عن الشرق الاوسط قبل ذلك الحديث وبعده. لقد ذكرت ان الانظمة في الشرق الاوسط اختارت الاستقرار بديلا للحرية وكانت النتيجة ان شعوبها لم تعرف الاثنين معا، فلا حرية لديها ولا استقرار ايضا. وفي ظني ان هذه المقولة هي من اعقل الاطروحات التي تقدمت بها الولايات المتحدة الاميركية في السنوات الاخيرة، فشعوب المنطقة العربية تحديدا عانت كثيرا من غيبة الحرية كثمن للاستقرار وكلما تحركت تلك الشعوب - شان غيرها من شعوب الدنيا - قيل لها دائما ان الاستقرار اجدى وانفع واستقرارا دائما بحرية منقوصة افضل من حرية تعاني من الاضطرابات والاعتصامات والمظاهرات و غيرها من لوازم الحريات! والامر في تصوري يحتاج الى الطواف حول النقاط الآتية:

اولا: ان الصراع العربي الاسرائيلي اعطى دائما مسوغا جاهزا للانظمة الديكتاتورية كي تقهر شعوبها ان ارادت وان تقمع صوتها متى شاءت والمبرر واضح ومباشر وبسيط (فلا صوت يعلو على صوت اميركا) احيانا و(الاستقرار مطلب اولى بالرعاية)، احيانا اخرى، وهكذا اندمج الحلم العربي في دائرة الصراع وتعذر على المواطن ان يستمتع بحريته او يباهي بكرامته او يطالب بحقوقه.

ثانيا: ان شرعية النظم العربية بدت دائما مستمدة من سطوة القوة وليست نتيجة للديمقراطية فتعودنا في العالم العربي على الحزب الواحد ان وجد، والحاكم الواحد وهو موجود دائما، وتحولت حياتنا الى ما يشبه حالة الانفصام في الشخصية التي تجعلنا نتحدث عن شعبية بعض النظم عندما نشير اليها علانية بينما هي تفتقر الى ذلك بالكامل في الشارع السياسي.

ثالثا: ان الدولة (الاوتوقراطية) ذات الطبيعة السلطوية جعلت الواقع في الدول العربية مزيجا - لا يختلف عليه اثنان - من نزعتي القمع والقهر معا بدعوى ان الحرية ليست سبيلا للاستقرار الذي يجب ان نسعى اليه باي ثمن وتحت اي ظرف من الظروف.

رابعا: ان طبيعة الدولة البوليسية في عالمنا العربي جعلت الحلول الامنية مفضلة لدى النظم القائمة فتوقفنا عن العمل السياسي الذي حل محله النشاط الامني وهو بطبيعته غاشم مسيطر لا رؤية له لهذا فان غياب الرؤية جاء اساسا من اعتماد الحلول الامنية على حساب الحلول السياسية على اعتبار ان الامن اقصر طريق للاستقرار الظاهري واسرع تحقيقا للضغوط المطلوبة على قوى الشارع اذا تحركت.

خامسا: ان هناك خلطا لا يخفي على احد بين حالتي الاستقرار والسكون، فلقد توهمنا في العالم العربي ان السكون يعني الاستقرار، بينما الامر ليس كذلك على الاطلاق فالسكون حالة (استاتيكية) فيها جمود يؤيدي الى ترهل النظم بينما الاستقرار حالة اخرى تتميز بتوازن القوى وسلامة الوجدان وقدرة الجماهير على التعبير عن آرائها والتصرف وفقا لمعتقداتها، فسياسة التصفيات والاساليب القمعية يمكن ان تؤدي الى السكون ولكن الاستقرار لا يتحقق الا بالقدرة على ملكية عوامل اساسية في مقدمتها الديمقراطية الحقيقية والمشاركة السياسية الكاملة والوعي الوطني المستنير.

هذه ملاحظات اثارتها كلمات السيدة كوندوليزا رايس والتي لا نظن انها كانت تعني بها كل هذه المعاني التي قدمناها ولكن لانه حديث ذو شجون فاننا ننظر الى ذلك التصريح بكثير من التقدير ونراه واحدا من اصدق التعبيرات الاميركية عن واقع الشرق الاوسط - واما اقلها - في السنوات الاخيرة، وقد يقول قائل ولم هذا التحليل المتشائم وفي العالم العربي نماذج ديمقراطية تبدو كالجزر المعزولة التي لا يتركها احد على حالها بل هي تعاني من كل المتاعب والمشكلات التي تأتيها من خارجها وليس بالضرورة من داخلها ولعل النموذج اللبناني يشكل جزءا من هذا الفهم؟ واذا تأملنا كثيرا من النظم بعيدا عن العالم العربي فسيدهشنا وجود كثير من خارج الاطار الذي نتحدث عنه، فما اكثر النظم الشمولية التي قهرت الانسان وقمعت التنظيمات السياسية وحافظت على استقرار شكلي هو في جوهره سكون صامت يخفي النار تحت الرماد ومع ذلك قبلته الشعوب وراهنت عليه باعتباره يمثل في الظاهر حالة استقرار قد تدوم بينما واقع الامر يشير الى غير ذلك، ولعل الكتلة الشرقية في ظل النظام الشيوعي هي خير دليل على ما نقول اذ لم يتحقق فيها ما كانت تسعى اليه تلك الدول وما كانت تحرص عليه انظمتها وفي اللحظة المناسبة انتهى الامر الى فراغ حقيقي، لذلك فاننا نعتقد ان الذين قايضوا الاستقرار الوهمي بالحرية السياسية انما سقطوا في الاختبار الحقيقي الذي واجهته الانظمة المعاصرة واذا قرأنا تصريح السيدة رايس مرة اخرى فاننا ننظر اليه في اطار يقوم على منظور الاصلاح الذي تراه الولايات المتحدة الاميركية لهذه المنطقة من العالم ولنا على ذلك تعليق النقاط الآتية:

۱- ان العقلية الاميركية سواء على المستويين الديبلوماسي او الاعلامي تتحدث عن الشرق الاوسط ككتلة واحدة وهو امر لا نتفق معها فيه بل اننا نرى المنطقة من منظور آخر يقوم على منطق السرعات المتفاوتة اخذا في الاعتبار ان درجة الاستقرار ومستوى الحرية لا يمثلان معا نسقا واحدا بين الدول العربية ولذلك فان عمومية الحديث تجعله يفتقر الى المصداقية ويصم كل الانظمة بنفس الصفات.

۲- ان حديث وزيرة الخارجية الاميركية ليس خالصا لوجه الله والعروبة ولكنه - شأن غيره من الاحاديث الاميركية في السنوات الاخيرة - يأتي نتيجة احداث سبتمبر/ايلول ۲۰۰۱ ولا يعبر عن الحرص على الاصلاح في المنطقة بقدر حرصه على المصالح الاميركية فيها والرغبة في التخلص من بعض الانظمة واحلال نظم اخرى محلها تكون اكثر ولاء (لواشنطن) بغض النظر عن درجة ديمقراطيتها.

۳- ان الجانب الايجابي في تصريح السيدة رايس يكمن في صدقها عندما تشير الى اهمية الاستقرار في المنطقة بالنسبة الى بلادها رغم ان الشعوب دفعت الثمن الباهظ لذلك متمثلا في القدر الكبير من سلطوية الانظمة الفردية واستخدامها المفهوم المغلوط للاستقرار في خدمة سياسات القهر والقمع والتسلط.

۴- دعونا نعترف في شجاعة بوجود الدورة الشريرة للحياة السياسية في المنطقة العربية وهي التي بدأت بالاستعمار ثم انتقلت الى مرحلة الاستبداد ليعود الاستعمار من جديد فلقد ملأت الانظمة العربية الدنيا صخبا وضجيجا تحت مظلة مقاومة الاستعمار وتصفية وجوده في دولها بينما مارست في الوقت ذاته ابشع اساليب القهر واشد انواع الدكتاتوريات وطأة واستبدادا، وهو الامر الذي ادى الى شيوع الارهاب وانتشار العنف والذي استدعى بدوره الاستعمار من جديد وجاء بالوجود الاجنبي الى المنطقة مثلما حدث في العراق، ولذلك فان الدول العربية عانت معاناة مزدوجة من الاستعمار والاستبداد معا وهما اللذين تعاقبا على شعوبها في العقود الاخيرة.

۵- ان تصريح السيدة رايس يحاول ان يبشر بمرحلة جديدة لا تقايض فيها الدول العربية استقرارها بحريتها بل هي تطلب الاثنين معها وتسعى لهما في آن واحد ولا تفرق بينهما ما دام الامر متصلا بقدرتها على اللحاق بركب التطور والمضي نحو الاصلاح الحقيقي وليس مجرد الاصلاح الشكلي الذي ينطلق احيانا من الولاء (لواشنطن) ومحاولة ارضائها.

ان تصريح السيدة كوندوليزا رايس عن ان الشعوب العربية دفعت حريتها الحقيقية ثمنا لاستقرارها الزائف هو تصريح يستحق العناية ويستوجب الدراسة ويلفت الانتباه لانه يعني قبل كل شيء ان الشعوب العربية دفعت الثمن الفادح في كل المراحل سواء كان ذلك الاستعمار الاجنبي او الاستبداد الداخلي و أظن ان الشعب العراقي يمثل النموذج الاوضح لهذه الدائرة الشريرة، فياليت السيدة رايس تلتفت الى هذه الحقيقة التي احدقت بالدول العربية على امتدادا السنوات الاخيرة، ليتها تدرك ايضا ان تصريحها - رغم صدقيته الاستثنائية - يثير الشجون ويذكر بالاوجاع ويفتح بابا يصعب اغلاقه، بقيت نقطة اخيرة اثرتها في سؤالي لها اثناء محاضرتها في قاعة (ايوارت) بالقاهرة خلال زيارتها الاخيرة للمنطقة، لقد قلت لها ان الصراع العربي الاسرائيلي كان هو المبرر الذي استخدمته بعض النظم العربية للعصف بالحرية ووأد الديمقراطية بدعوى الحفاظ على الاستقرار واستمرار الاوضاع على ما هي عليه فكان ردها ايجابيا كما أكدت حرص الولايات المتحدة الاميركية على تحريك التسوية السلمية وقيام الدولة الفلسطينية، وقلت في نفسي ليتها تكون صادقة النية فالاصلاح الداخلي مرتبط بالسلام الخارجي.

مفهوم الاوتوقراطية(7) 

أوتوقراطية :

مصطلح يطلق على الحكومة التي يرأسها شخص واحد، أو جماعة، أو حزب، لا يتقيد بدستور أو قانون، ويتمثل هذا الحكم في الاستبداد في إطلاق سلطات الفرد أو الحزب، وتوجد الأوتوقراطية في الأحزاب الفاشية أو الشبيهة بها، وتعني الكلمة باللاتينية الحكم الإلهي، أي أن وصول الشخص للحكم تم بموافقة إلهية، والاوتوقراطي هو الذي يحكم حكمًا مطلقًا ويقرر السياسة دون أية مساهمة من الجماعة، وتختلف الاوتوقراطية عن الديكتاتورية من حيث أن السلطة في الأوتوقراطية تخضع لولاء الرعية، بينما في الدكتاتورية فإن المحكومين يخضعون للسلطة بدافع الخوف وحده.

...................................................................................

المصادر/

1- مجلة المعلم

 2- ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

 3- جوزيف سيغل، المستشار الرئيسي للحكم الديمقراطي في مؤسسة "البدائل التنموية" / موقع يو إس إنفو

 4-  جوزيف تي. سيغل و مايكل أم. وينشتاين و مورتن أتش. هالبرن / جريدة المدى العراقية

 5- د. عادل ضاهر/ مجلة تحولات

 6- مصطفى الفقي/ جريدة الوفاق العراقية

 7- مجلس النواب البحريني

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 30 كانون الثاني/2008 - 21/محرم/1429