محاولة لفهم ما يجري في قطاع غزة

أحمد شهاب

سبعون في المئة من قطاع غزة يعاني انقطاع التيار الكهربائي، ويتعرض أكثر من 1.5 مليون فلسطيني لكارثة إنسانية محققة، فيما تصعّد القوات الإسرائيلية من عدوانها على القطاع بغرض “ردع” قادة حماس وتحريض السكان ضدهم، ويظهر أن ردع حماس يتم عن طريق “ردع الإنسان الفلسطيني” بصورة عامة، والانتقام من كل الذين أيدوا أو باركوا فوز حكومة حماس في يوم ما، بل حتى من الذين صمتوا تجاه الحركة، أو عارضوها بالأساليب السلمية، فالكل مستهدف من آلة الحرب الإسرائيلية، ولا شيء يستثنيها عن الاستمرار في العبث بحياة المواطنين وأمنهم.

غطاء للعدوان

فغزة تعيش قبل الكارثة الأخيرة، كارثة إنسانية متواصلة، والأوضاع المعيشية والصحية والإنسانية، والتدمير الاقتصادي والبيئي بلغ مداه مع سياسات العزلة، وإغلاق المعابر الحدودية، التي تفرضها إسرائيل بتأييد أميركي، وتواطؤ دولي، وصمت عربي، بما فيها الموقف المخجل لرئيس الحكومة الفلسطينية “غير الشرعية” محمود عباس.

إن الذين يطالبون حماس بالتوقف عن إطلاق الصواريخ لا يقدمون حلا للخروج من هذه الكارثة، بقدر ما يوفرون غطاء ودعما لاستمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع وأهالي غزة، كما وفروا من قبل الدعم والمبرر لها للاعتداء على لبنان وشعبه الآمن.

قطاع من المتفرجين

يبدو لي أن العرب أصبحوا أقرب إلى جمهور عريض من المتفرجين، على رغم أن آلة الحرب والتدمير لا تكاد تدور إلا في الحارات والقرى العربية والإسلامية، وباستثناء بضعة ألوف من أنصار إيران وحزب الله وحماس، ومئات من المتحمسين في مصر والبحرين، فإن البقية لا يكادون يجرؤون على القول إنهم يشعرون بالخزي والعار تجاه الاعتداءات الإسرائيلية على أهلهم في غزة، أو في بيروت، أو إنهم يشعرون بالمأساة تجاه استباحة الولايات المتحدة لساحات عربية مثل بغداد، فضلا عن دعمها المتواصل للإرهاب الصهيوني.

أين هي المشكلة؟ هل هي في “الشارع العربي” الذي اعتاد على القتل والإبادة والبدء بتقبلها بروح خائرة؟ أم أنها تكمن في القادة والحكومات الذين دجنوا الشارع العربي لقبول كل أنواع الاضطهاد بهدوء واستسلام، حتى لم يعد منظر طفل عربي تخترق رصاصات الغدر رأسه وتختطف حياته وبراءته، تحرك مشاعرهم، أو تستدعي ضمائرهم؟

لماذا ينتفض الهنود مثلا للدفاع عن كرامتهم، ويقفون بشموخ أمام إملاءات الإدارة الأميركية، ويرفعون شعار صناعة الحضارة الهندية لا تتم إلا بأيدٍ وعقولٍ هندية، بينما يتساهل العرب في التفريط بحقوقهم وكراماتهم وثقافتهم، ويعجزون عن رفض إملاءات الإدارة الأميركية؟ ولماذا تحولنا إلى جمهور من المتفرجين في وقت يُنتظر منا أن نكون فاعلين ومبادرين؟

في حالة أشبه بانتظار إعلان لإبادة آخر فلسطيني في غزة حتى يتضاعف الشعور الرسمي بأن الوضع “قد يتطلب” تدخلا عاجلا لوقف الإبادة الجماعية، ومن المؤلم حقا أن سياسة “ربع الساعة الأخيرة” والمبادرة عندما لا تكون للمبادرة معنى ولا قيمة، لاتزال تعتبر من السياسات الحكيمة والأثيرة عند صناع القرار في المنطقة العربية.

مستقبل الأمة

المسألة لا تخضع لتعميمات وشعارات عاطفية ولا تحتمل ذلك، وإنما هي حديث عن المستقبل، فما يحدث هو جزء من تشكيل مستقبل المنطقة، إنها خارطة طريق تدفع نحو تدمير ما تبقى من عزة وكرامة عربية وإسلامية، هكذا يحاصرون ما بقي من رجال في أمتنا هنا أو هناك، ليدمروا آخر معاقل القوة والمنعة، ولا أعتقد أن العزة والكرامة هي مجرد شعارات، إلا عند من فقد الشعور بها.

لكني أُقر أن مسؤولية الأمة ومنعتها وقوتها ليست مسؤولية قادة وحكومات فقط، بل هي مسؤولية شعوب وأفراد أيضا، فمستقبل هذه الأوطان هو بيد أبنائها، فالمؤسسات الاجتماعية والأحزاب السياسية تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية، إذ لا يكفي أن تقدم بيانات وخطابات إنشائية أمام الدماء التي تسيل يوميا من غزة إلى بغداد، ولا يكفي القول إن هذه القوى عبرت عن حنقها، أو غضبها من الممارسات الاسرائيلة أو الأميركية، فلن ترهبهم غضبة تيار سياسي لا يكاد يعرف أهل البلد أسماء مؤسسيه وأعضائه، ولن يولّوا منهم الأدبار، لكنها معنية بتبني مبادرات عملية جمعية على المستوى الوطني لوقف الانتهاكات المستمرة على المنطقة، فذلك أجدى من الانشغال بالصفقات السياسية الداخلية.

والمؤسسة الدينية ورجال الدين يتحملون مسؤولية أيضا، فهم معنيون بترحيل خلافاتهم الجانبية، ووقف الحديث عن قضايا خلافية “زيارة القبور” و“البكاء على الأموات”، بينما تتحول بلادنا كلها إلى قبور بأيدي أعدائنا وأيدينا.

أي عالم دين نريد؟

نريد عالم الدين الذي يشعر بالمسؤولية فيستصغر الانشغال بإصدار فتاوى ضد المختلفين معه في مسائل عقدية أو فقهية، ويستجمع قواه الفتوائية في دفع المؤسسات الاجتماعية والدينية نحو الاهتمام بالقضايا الجوهرية، ونحو العدو الحقيقي لأمتنا وإنساننا.

وأعتقد أن هذا أضعف الإيمان للتكفير عن سنوات من إثم إشغال العقل المسلم عن قضاياه الحقيقية، وجريمة تحويل القوى الشابة والمتعلمة في العالم العربي إلى مجاميع من القتلة والمأجورين لتفخيخ الأبرياء وذبحهم في المساجد والأسواق والأماكن العامة، فمن المستفيد مثلا من التوجه لإعلان الجهاد والحرب ضد العرب والمسلمين في بغداد مثلا، وتراخيه عن الدعوة للتطوع لخدمة المسلمين في غزة؟

جريمة منظمة

ولمصلحة من تُعمم ثقافة الكراهية الطائفية والدينية وتُثار النزاعات والتوترات في المنطقة، بينما يتصافح الرئيسان في الخفاء، ويتفقان على إزاحة حماس عن طريق الضغط على سُكان غزة، والتضييق عليهم للثورة على حماس، وطردها من غزة؟

ما يجري في غزة جريمة منظمة تستهدف أكثر من غزة، وأبعد من حماس، والموقف الرسمي والشعبي العربي المتباطئ عن اتخاذ خطوات ملموسة لتخليص الغزاويين من محنتهم يحتاج إلى تفسير، وتفسيره ربما نجده لدى تتبع موقف المؤسسة الرسمية والدينية، وملاحظة مواقف الأحزاب والجماعات السياسية في العالم العربي.

* كاتب كويتي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 28 كانون الثاني/2008 - 19/محرم/1429