خطوات في عصر الظهور المبارك

الهجرة الى النور

بقلم: الدكتور وليد سعيد البياتي

توطئة:

     يكتسب التاريخ قيمته من طبيعة الحدث وعملية التاصيل عبر حركته، وقد برهنت نظرية التكوين التي نشرنا بعض فصولها، ان لاقيمة للمعايير الانسانية مقابل المعيارية الالهية في ترسيم حركة الوجود، ومن هنا أصبح من الواجب ان تكتسب نهاية التاريخ مفاهيم الهية تنتظم مع قيمة الحدث النهائي الذي حمل اعباءه سلسلة شكلت مائة واربع وعشرون الفا من الانبياء والرسل، احتلت مساحة كبيرة في الوجود التكويني شكلت بمجملها حركة التاريخ الانساني من عصر الهبوط وحتى وفاة الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله.

 لاشك ان عملية التحول التاريخي ستقود بالنهاية الى مرحلة تحقيق غائية الوجود والتي ستظهر في تكاملاتها النهائية قبل فناء الجنس البشري، وهذه بالتأكيد لا تنفصل عن كم لا متناهي من المقدمات شكلت الرسالات السماوية اهم مواقعها. فكل نبوة او رسالة يمكن اعتبارها خطوة في سير البشرية نحو تحقيق غاياتها، كما ان كل الاحداث التي شكلت بمضمونها ونتائجها منعطفات ايجابية في حركة التاريخ يمكن اعتبارها خطوات واسعة في درب تحقيق غائية الحدث، ففي الوقت الذي اراد الحق سبحانه ان تصبح للرسالة الخاتم قيمة استيعابية لكل قيم الرسالات السابقة، اراد ايضا ان يكون لها قيمة تتبنى فهما اعظم ينطلق من كونها تهيمن على شرائع السابقة وتفسر ما قبلها، لتصبح الشريعة الاسلامية في موقف قيادة الامة نحو تحقيق الغايات، فقد قال عزوجل " وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ... " المائدة/48. بل مفهوم الهيمنة يحمل تضمينا مستقبليا تحدده قيمة الرسالة الاسلامية كونها رسالة خاتم. فالهيمنة هنا تشكل حالة استمرارية لا تتوقف بوفاة الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله ولكنها تعكس ضرورة الاستمرار المتمثل بالامامة التي تشكل بمجملها مشروع الاسلام المستقبلي في قوله: " ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين " القصص/5.

وهذا المشروع المستقبلي هو من سيتحمل قيادة الامة ويعيد كتابة حركة التاريخ وفق المنهج الالهي. فالرسالة السماوية التي تحمل عبئها نبينا الكريم كانت بداية الدرب والخطوة الاولى في العصر الخاتم الذي بدأ بالوحي الامين المرسل من الله تعالى شأنه لمن مثل القيمة العليا للجعل الالهي إلا ذاك النبي الرسول محمد صلوات الله عليه وآله، لتتوالى بعد ذلك اجزاء المشروع الالهي والتي شكلت خطوات احتل كل منها مساحة ما في حركة التاريخ، تصغر او تكبر لكنها كلها تمثل منهجا يقود الامة في مسار تحقيق الامل المنشود، حيث عاشت الانسانية في كل مرحلة جزأء او شكلا من هذا المشروع للتكامل بعد ذلك فكرة المشروع الالهي عندما تتحقق الغاية في ان يرث الائمة الارض قبل يوم القيامة.

الهجرة كقيمة مستقبلية:

     لاشك ان كرامة الانسان وحرمته تتجاوز في قيمتها حتى حرمة البيت العتيق، وهذه الحرمة احترمتها العقيدة، وكانت احد اهم المحاور التي ارتكزت عليها الشريعة الاسلامية, في تعاملها مع حاجيات الانسان، فقال الحق سبحانه: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " الاسراء/70. ومن هنا سعت الشريعة في بناء نظريتها في الحفاظ على الانسان لكونه احد اهم مرتكزات المشرع الحضاري, وهذا التفضيل يلقي على اعباء الانسان واجب الحفاظ على النفس وصيانتها من الوقوع في شراك الظلم، فقال الحق سبحانه " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي انفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا الم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها  فأولئك مأواهم جهنم وسائت مصيرا " النساء/97.

لتصبح الهجرة ليست فقط حكما شرعيا يحفظ قيمة الانسان وحرمته في الحياة الدنيا، والانسان يصبح ظالما لنفسة إن آثر البقاء في ساحة الظلم والاضطهاد مما يحول بينه وبين تحقيق المشروع الالهي، فالهجرة ليست فكرة عبثية إذ لاعبثية في الوجود كما لاعبثية في التشريع، ولكن لتحمل قيما عليا تحمي الانسان من سوء المصير في الاخرة, من جانب آخر تصبح الهجرة مشروعا لبناء مجتمع اسلامي مستقبلي يحفظ كيان العقيدة ويضع أسس استمرارها وفق المنهج الالهي والسنن الثابتة.

 فالهجرة سنة ثابتة في الحفاظ على الرسالات السماوية، فلم نجد نبيا ورسولا أو إماما ولاحتى مصلحا من كبار الاعلام ألا وقد مارس هذه السنة في بعض ايام حياته. فحفاظ المؤمن على نفسه من شروط الايمان، وقد جائت الرخصة الشرعية : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه إن الله غفور رحيم " البقرة/ 173. وهذا الشرط في المأكل والمشرب من اجل الحفاظ على النفس الانسانية، كما في بعض مسائل التشريع من باب الاضطرار.

لاشك ان الهجرة كقيمة مستقبلية تتجلى في امكانية استمرارية البناء الانساني كوجود وكفكر، فبناء المجتمع الامن وفق المنهج الالهي يعد خطوة حقيقية على مسار التكامل وصولا الى عصر الظهور المبارك.

تحرير العقل:

     لاشك ان تحرير العقل من المنهج السلبي المتخاذل عن الفكر الرسالي، سيعني تحريرا للوجود الانساني من السقوط في وحل القناعات السلبية، فالعقيدة الاسلامية جائت محررة للانسانية من استبداد الطواغيت، غير ان بعض الفلاسفة لم يدركوا هذه القيم العليا كما نرى في فلسفة الغزالي عندما يصبح (الحاكم الجائر والسلطان المفروضة طاعته قسرا) هو المرجع السياسي الوحيد في عقيدة (المستبد العادل)، في حين نجد ان الشريعة الاسلامية وفق المنهج الرسالي لاهل البيت عليهم السلام تحدد القيمة العليا للانسان حتى تتجاوز حرمته عند المشرع حرمة البيت الحرام، فالعقل في محتواه اليقيني يدرك قيمة تفضيل الفاضل على المفضول، وهي قيمة ايجابية تنحو منحا مستقبليا وهذه الفكرة تقود الى حقيقة سلطة العدل المسقبلية. فالانسان يحمل في داخلة تلك الفكرة المستقبلية في تحرير العقل من الجوانب الظلامية، وبالتالي فان الوعي بالمستقبل سيصبح اكثر وضوحا، مما يكرس حركة الانسان الايجابية تجاه الاتي، وهنا يصبح تحرير العقل هجرة ايجابية الى النور. " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور والذين كفروا اوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات اؤلئك اصحاب النار هم فيها خالدون " البقرة/257.

 فالعقل هنا أما ان تتم هجرته الى نور الهداية وفق المنهج الرسالي الالهي، او الارتداد به الى ظلمات الجاهلية تبعا للمنهج الطاغوتي، فقد اراد الله لهذا العقل ان يستنير بالرسالة الهادية الى الحق كما هو منهج الانبياء والرسل واوصيائهم، غير ان عملية تنوير الوعي الجمعي لاتتعلق بالمصلح (النبي والرسول والوصي والامام) قدر تعلقها برغبة الانسان نفسه في الخروج من وحل القناعات السلبية الى تكامل المعرفة، وهذه العملية ليست فعل تراكمي وان كان كذلك في بعض جوانبه، لكنها حالة من الحركة الذاتية في استنهاض الوعي والاستفادة من المنهج الالهي بإعتباره الشكل الوحيد القادر على تحرير العقل، واطلاق الوعي الجمعي من خلف قضبان الجاهلية ليتم بذلك اخراج الانسانية من الظلمات الى النور. لاشك ان تحرير العقل كان احد اهم اشكاليات الفلاسفة في مناهجهم الانسانية والعقلية، غير ان الهجرة الكلية بالعقل من السالب الى الموجب لم تتحقق إلا عبر المنهج الرسالي، وهذا يفسر فشل الفلسفات الوضعية وتهافت افكارها ومناهجها في انقاذ العقل وتنوير الوعي.

الانتظار:

     قدم الفكر الاسلامي عقيدة الانتظار في منهج اهل البيت عليهم السلام من منطلقات مستقبلية ترسم ملامح مشروع الزمن الاتي، باعتبار ان علاقة الانسان بالمستقبل علاقة تفاعلية باتجاه متبادل، فالانسان الذي هو احد عوامل حركة التاريخ، هو بالتالي عامل موثر في الحركة المستقبلية، حتى يصبح هذا المستقبل نتاجا واقعيا لحركة الانسان وتفاعله مع الوجود. ولما كان الانتظار في مفهوم اهل البيت عليهم السلام لايعني الاستسلام للواقع، فهو ايضا لا يعني الهروب من الواقع عبر الانتظار, بل يصبح الانتظار احد اشكال تحدي الواقع باعتبار ان فكرة الخلاص تشكل احد اجزاء العقيدة الاسلامية، بل انها تحتل حيزا متقدما في الفكر الاسلامي انطلاقا من نظرية الجعل الالهي من جانب، و تحقيقا لقوله: ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين " القصص/5. وهذا يفسر الموقف الاسلامي من الزمن وحركة الوجود الذي يسير نحو تحقيق غاية، تمثل هذه الغاية قيما عليا. ففي الوقت الذي نرى فيه ان عمر الامام الحجة عجل الله فرجه الشريف ومعايشته لحركة التاريخ سيعني انه عليه السلام يحقق استيعابا كليا للحياة ولما تمثله حركة التاريخ الانساني والوجودي، فانه من جانب آخر يكون ملهما للانسانية في قيمة الانتظار باعتباره يتبنى اسسا واقعية تلامس حياة الانسان فكرا وعملا. وهذا الانتظار سيشكل بالتالي مساحة تردم  الفراغ بين الواقع والاهداف المستقبلية. وهكذا يصبح الانتظار تعبيرا عن هجرة الوعي عبر الاجيال من الخضوع للواقع الى الامل. فالمجتمع الاسلامي لاينظر الى المستقبل باعتباره وهما أو مساحة زمنية يتمثل فيها الرعب من المجهول، بل باعتباره حقيقة تمثل غائية الوجود.

* المملكة المتحدة – لندن

[email protected] 

شبكة النبأ المعلوماتية-الخميس 10 كانون الثاني/2008 - 1/محرم/1429