تدمير الآثار الإسلامية في العهد البائد وعلاقتها بالتكفيريين

منشد مطلق المنشداوي- ماجستير آثار

 تعد كنوزنا وآثارنا العربية الإسلامية من أهم ما تركه المسلمون بعد فتح العراق واتخاذ أمير المؤمنين الإمام علي بن أبى طالب (عليه السلام) أرض العراق من الكوفة عاصمة للدولة الإسلامية بداء ازدهار الحركة الفكرية والعلمية والأدبية من الكوفة والبصرة وبغداد وسامراء ففتحت المدارس النحوية الكبرى، ثم مرحلة اختيار الأمام الحسين (عليه السلام) سيد شباب أهل الجنة أرض كربلاء لتمثل الصراع بين الحق والباطل بين السيف وبين الدم وبين المبادئ والمثل والقيم وبين الظلم والعبودية والانتهازية لقد أسس سكان العراق أسمى حضارة في تاريخ الشعوب لتؤسس حضارة ضخمة تطل بظلالها على الإنسانية ويرتشف منها طلبة العلم والأدب والمعرفة سلسبيلاً عذباً.

       وكم جُربت الدعوات، الرافضة للأضرحة والمقامات، قديماً وحديثاً، لكنها لم تلاق النجاح، وذلك ربما يعود إلى النفسية العراقية المطبوعة عبر التاريخ على التأثر بالروحانيات المتجسدة بقبة أو منارة. أحصى المؤرخ محمد حرز الدين (ت 1945) في «مراقد المعارف» 262 مرقداً ومقاماً، من الشيعة والسُنَّة، الغالبية العظمى منها شُيدت بأرض العراق، ومنهم الأنبياء والأئمة والأولياء. ناهيك مما سجله يوسف رزق الله غنيمة (ت 1950) من مراقد ومقامات يهود العراق في كتابه «نزهة المشتاق..».. وما جاء من تفاصيل في كتاب «النجف.. ماضيها وحاضرها» لجعفر آل محبوبة (ت 1957)، وكتاب «موسوعة العتبات المقدسة» لجعفر الخليلي (ت 1985). ناهيك من التصنيف في المراقد نفسها من كتاب «تاريخ المشهد الكاظمي» للشيخ محمد حسين آل ياسين (ت 2006)، إلى «تاريخ جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني» للشيخ هاشم الأعظمي. وغيرها كثير.

       إن المقصد من الإشارة إلى هذه التركة الثقافية الغزيرة، فيما يخص المراقد والمقامات، هو لفت الانتباه إلى حيويتها في المجتمع العراقي، فهي تحكي سير المدن والمحلات والقصبات، وكم من مدينة تأسست حول مرقد أو مقام. وتؤكد أن الخلاف الطائفي، الذي يتصاعد حالياً عبرها، لم يكن عقبة أمام تبادلها بين الشيعة والسُنَّة، كذلك مع الأديان الأخرى. فمرقدا الكفل والعزير اليوم تحت سدانة مسلمة، وهما من مقدسات وعُمران اليهود. وإذا كان مرقد الإمام موسى بن جعفر شيعي بالكامل، ومنذ الزمن العباسي، فمراقد أولاد له وأحفاد سُنيَّة بالكامل. وعلى أية طائفة يُحسب مرقد السيد أحمد الرفاعي (ت 578هـ)، وصاحبه شافعي المذهب وصوفي الطريقة، ويرقد في منطقة شيعية، ومنها عُرفت المدينة (بالرفاعي)، وهي تابعة لمحافظة الناصرية بالجنوب ؟.

       فقد حدثت الكثير من الانتفاضات والثورات المتتالية ضد سياسة القمع والاستبداد كانتفاضة صفر 1977، حينما حاول البعثيون منع زيارة الإمام الحسين الشهيد (عليه السلام). وكانت الانتفاضة الشعبانية عام 1991 واحدة من أبرز تلك الانتفاضات والتي راح ضحيتها أكثر من (150) ألف مواطن عراقي، ناهيك عن التدمير الذي حصل في عموم المحافظات التي شاركت في الانتفاضة بشكل عام حتى إن النظام المقبور قد قام بضرب المدن المقدسة بصواريخ  ارض ارض ؛ وكان لمدينتي النجف وكربلاء النصيب الأكبر من هذا التدمير عندما أمر الطاغية المقبور حسين كامل بضرب مرقد الأمام الحسين (عليه السلام)  سبط الرسول محمد (ص). إضافة إلى 

 

تفجير الجوامع والحسينيات لقمع الانتفاضة. إن مراقد الأئمة عليهم السلام هو إرث الإنسانية الحضاري لذلك تفجير هذا الإرث الحضاري يعد اعتداء على الحضارة والمعتقدات الإنسانية. لذلك  فان مفجري بيوت الله هم أعداء الله. وكربلاء اسمها يعني من العهد البابلي كور الآلهة وكربلاء عن ياقوت الحموي وتعني الرخاوة في القدمين أو رخاوة التربة في الإنبات والزرع وعند آخرين تعني النبات الأحمر وقد ذكرها الزبيدي في تاج العروس ولسان العرب لابن منظور والصحاح للجواهري  وابن بطوطة في رحلته.

       كما جرى أيضا في زمن النظام البائد الذي ارتكب جرائم كبرى بحق الموروث الثقافي العراقي.. مثل ذلك إزالة بيوت ومعالم قلعة مدينة كركوك في منتصف الثمانينات وفي التسعينات وجزء كبير منها مأهول بالتراث والمئات من الدور التراثية الرائعة. كما تمت إزالة المناطق المحيطة بالمراقد والعتبات المقدسة في النجف وكربلاء وسامراء والكاظمية والأعظمية في بغداد وهي أماكن جميلة ورائعة اثاريا. لقد شكل ذلك تشويها متعمدا لأنه لا يجوز التعامل مع المدن الإسلامية التاريخية بطريقة غريبة فتفتح داخلها الشوارع العريضة وتمد أعمدة وأسلاك الكهرباء والتلفون فيها.. إن هذا كفر بحق هذا الموروث في وقت نرى في دول عربية أخرى مثل المغرب هناك المدن القديمة في الرباط وفاس ومكناس مسورة وجرى التحديث خارجها مما حافظ على أصالتها وجماليتها التاريخية. هناك ما يُعيق عمل دائرة الآثار، وهو تدخل السلطة بين الحين والآخر، بطلبات بعيدة عن الحرص على الأثر. ومثال على ذلك، هُدم حائط تُراثي في حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني وما حصل للحائط التراثي في حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني. زار (الصنم)  الحضرة القادرية، ولم يتمكن يومها من الدخول بسبب الازدحام، فرجع وقرر توسيعها بهدم الحائط، وتوسيع البناء. وقد شمل الهدم الحائط وجانبا من المكتبة والفسحة العثمانية، وهي الوحيدة ببغداد من ناحية الحجم والطراز المعماري  حيث هُدم سنة 2001.  كما أن جامع سيد سلطان علي، الذي يقع على حافة دجلة الشرقية وسط بغداد، تعرض للعبث أيضاً، وهو من العمائر التراثية. وكذلك تعرضت مساجد أخرى للعبث باسم التجديد. بموازاة ذلك جرى التعدي على الكثير من المباني الدينية كالمزارات والمساجد بحجة التحديث والتطوير لكن الهدف الخفي وراء ذلك هو إزالة الشواهد التاريخية المثبتة على تلك المباني وتغيرها أو سرقة أعمال التزيين والزخرفة وغيرها الموجودة في تلك المباني كما جرى لقبة جامع الإمام أبي حنيفة النعمان في الأعظمية حيث أزيل القاشاني (السيراميك) الذي يغلف القبة الذي يرجع تاريخه للقرن التاسع عشر واستبدل بالآجر الذي غيّر معالم القبة والجامع، وكذلك هدمت الدور المجاورة للأضرحة والمباني المحيطة بها في كل من الأعظمية وباب الشيخ والنجف وكربلاء وتركت أرضاً خراباً إلى الآن. وكل ما هدّم كان من أجمل الدور والمساجد والمدارس والأسواق والخانات بحجة إظهار تلك المزارات وفي حقيقة الأمر كان الهدف تشتيت وتهجير سكان تلك المناطق القديمة والتي غالبا ما تشكل بؤرا للمعرضة السياسية وقطع الرابط الروحي بين السكان وتلك المباني.

إن حرب المراقد والمساجد لها جانبان: سياسي وعقائدي. فهناك جماعات لا تؤمن بمراقد مهما كانت منزلة أصحابها، ومن أولويات برنامجها السياسي هو تصعيد الفتنة الطائفية حتى الذروة، وهذه الجماعات (الصداميون، القاعدة، الجماعات التكفيرية).

وأصبح هناك نمط من الجرائم التي يجري تنفيذها في خدمة العقيدة التكفيرية التي ترى في عباد الله الصالحين من أهل بيت النبوة وفي قبورهم مجرد أوثان يتعين هدمها وتطهير الأرض منها ولذا  فالجريمة هي عمل عقائدي ذو بعد سياسي أكثر من كونها عملا سياسيا ولا شك أن لائحة السوابق الإجرامية من هذا النوع تطول وتطول.

تفجير مرقد الإمام علي الهادي في سامراء في شباط (فبراير) 2006، بعد تفجير قبة مرقد الإمامين علي الهادي وحسن العسكري، وقامت مرة أخرى التنظيمات التكفيرية يوم الأربعاء 13-6-2007 بتدمير مئذنتي الإمامين الهادي والعسكري في سامراء.

يعتبر مشهد الإمامين علي الهادي - سنة (254 هـ) توفي الإمام علي الهادي (ع) ودفن في داره - والحسن العسكري - سنة (260 هـ) سجن الإمام الحسن العسكري (ع) وفي السنة نفسها توفي عليه السلام ودفن إلى جوار أبيه. عليهما السلام أهم معالم سامراء ومن أهم المعالم المقدسة في العراق، وفيها مشهد صاحب الزمان (عج) وقبة سرداب الغيبة وقبر السيدة نرجس زوج الإمام العسكري المتوفاة سنة (260 هـ)، وقبر السيدة حليمة بنت الإمام الجواد عليه السلام، ومرقد السيد محمد بن الإمام علي الهادي عليه السلام المتوفى سنة (252 هـ)، وقبر أبي هاشم داود من ذرية عبد الله بن جعفر، ومقر الإمام محمد الدرّي الذي ينتهي نسبه إلى الإمام الكاظم عليه السلام المتوفى سنة (300 هـ). فالحادث يمثل انتهاكاً صارخاً لقدسية موقع يحظى بأهمية دينية بالغة في نفوس عامة المسلمين في العراق، والمسلمين الشيعة على وجه الخصوص.

تقع مدينة سامراء على الضفة الشرقية لنهر دجلة وتبعد نحو 118 كم إلى الشمال من العاصمة بغداد، وتقع على خط طول 43 درجة و45 دقيقة، وعلى خط عرض 34 درجة و35 دقيقة، يحدها من الشمال تكريت، ومن الجنوب بغداد، ومن الغرب الرمادي، ومن الشمال الغربي الموصل، ومن الجنوب الشرقي ديالى-  وبعد أقل من 8 ساعات من تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء ,أقدمت مجموعة إرهابية أخرى على تلغيم مرقد الإمام علي كمال الدين بن موسى الكاظم (ع) في قرية عرب ثعيلب في مدينة الخالص وتفجيره عن بعد مما أدى إلى تسوية المرقد بالأرض علما بأن التكفيريين قاموا قبل ذلك بتفجير أكثر من (70) مزارا ومرقدا دينيا للشيعة.

       ومن ثم فليس هناك مجال للربط بين هذا العمل التفجيري الإجرامي وما يدعيه البعض عن مقاومة الاحتلال، إضافة إلى هدم رأس ملوية سامراء. إن تنظيم القاعدة والنظام البائد هما المسوؤلين عن التفجير، فالأول ينطلق من فكره الذي يحرم إقامة الشواهد والمراقد حول الأئمة والأولياء والصحابة ولذلك فإنها تستهدف مساجد ومراقد الشيعة والسنة على السواء كما أقدمت هذه الجماعات على تفجير مرقد عبد القادر الجيلاني القطب الصوفي الشهير في قلب بغداد، وغيرها من المراقد في عموم العراق.

 أما فلول النظام البائد التي ما فتئت تعبث بالعراق لتحقق ما تعهدت به من إبادة وتدمير البلاد والعباد وهي ترمي من وراء تدمير القبتين إلى إثارة فتنة طائفية والوصول إلى حرب أهلية تهدم كل ما تحقق في فترة ما بعد السقوط وتمهد لعودة بقايا النظام البائد. ولربما هناك صلة بين ضرب ضريح الإمام الحسين إبان الانتفاضة الشعبانية والذي استفز التاريخ وملايين المسلمين، وبين المفخخات التي هدمت ضريح العسكريين في سامراء وبين هدم رأس ملوية سامراء. فكلاهما منقطعان عن التاريخ، بقدر انقطاعهما عن الحاضر. وعند الربط بين ما حصل من تدمير وهدم وإزالة في العهد البائد وهذه الأيام نجد إن الأفكار واحدة مع اختلاف الأقنعة.. زرقاويين.. تكفيريين.. بعثيين.

وإذا أردت الخوض في المعنى الاصطلاحي لتنظيم القاعدة فيدل على ان أعمالهم لا تجد مسوغاتها الإسلامية الفقهية، ولكنهم تمكنوا من إيجاد فقهاء قتل وتفخيخ وانتحار يخلط اليابس والأخضر، لذا فالمصطلح (تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين) الناجم عن عدم فهمهم للتراث الإسلامي الذي يدعون تبنيه وتبني مفاهيمه وأحكامه، وفي هذا المصطلح نزعة للميل إلى الاصطلاح الاستشراقي في نظرتهم للمنطقة، بدلا من تبني الاصطلاحات الإسلامية والعربية، فمصطلح (بلاد الرافدين) أو (وادي الرافدين) أو (النهرين) هو مصطلح اكتشفه الاثاريون الأوائل الذين اهتموا بآثار وحضارة العراق القديم منذ منتصف القرن الثامن عشر و القرن التاسع عشر الميلادي، وعلى الرغم من وجود من اهتم بتاريخ العراق القديم من مؤرخي العرب القدماء أمثال ابن قتيبة الدينوري والمسعودي، وكذلك مفكري الإسلام مثل أبي نصر الفارابي والرازي،  إلا أننا لا نجد أية إشارة لمعرفتهم بهذه التسمية، وان وجدت فان التسمية تعود في نظر المسلمين إلى حقب العراق الوثنية، أما في عصر الجاهلية و صدر الإسلام فكانوا يطلقون على المنطقة (أرض السواد) لكثرة خضرتها وكان العرب يطلقون على اللون الأخضر (الأسود) وكانوا يسمونه  العراق قيل لكثرة عروق الزرع في أرضه، واستقر اسم العراق على هذا الإقليم طيلة حكم بني العباس وما تلا هذه الحقبة.

وخلاصة القول إن المتتبع للأحداث يمكن أن يرى شراذم البعث تائهة في الصحاري أو قابعة في أوكارها  الإرهابية  إذ لم تكن متقنعة بمصطلحات دينية أو قومية وحتى إرهابية مثل قناع الزرقاوي أو القاعدة الخ، إن تفجير بيوت الله والهرب هو عمل إرهابي جبان بصفاته الفاشية أي قتل الناس شعوب جماعة وأفراد. 

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 5 كانون الثاني/2008 - 25/ذو الحجة/1428