بين العولمة الثقافية وثقافة الاسلام

ياسر جعفر

 أختلفت الرؤى حول العولمة بين رؤية سلبية تصفها بالامتداد الاستعماري ولكن بحلية وهيئة جديدة وبطريقة حديثة أكثر دهاءاً من الطريقة التقليدية في استخدام القوة والالة العسكرية لنهب ثروات الدول واللعب بمقدراتها وتعيين مصيرها ومسخ انسانها ومصادرته لان هكذا سيطرة أصبحت مكشوفة والشعوب بشكل عام وصلت الى مرحلة من الرشد الذهني يجعلها تستنكر أي نوع من انواع الاحتلال العسكري المباشر وكان لابد من اتباع اساليب مموهة مخادعة (حسب هذه الرؤية) للسيطرة على الشعوب المغلوب على أمرها سيطرة اقتصادية وسياسية وثقافية.

ورؤية ايجابية بالمطلق تنطلق من شعورحاد بالضعف والعجز واستحالة اللحوق بالركب الحضاري الغربي الا بتقليده في كل شيء وتبني كل الافكار الغربية في مجالات الحياة كافة باعتبارها السبيل الوحيد الذي سوف تتطور به المجتمعات وتصل الى ما وصلت اليه الحضارة الغربية في عملية انقلاب سلبي على الذات والتراث واعتباره أهم اسباب التخلف والانحطاط الحضاري. 

العولمة الثقافية تعني الاجتياح والغزوواختراق الثقافات الأخرى ومحوها محواً كاملاً لكي لايبقى بعد ذلك من الثقافات الأخرى الا الفولكلور الشعبي الذي يتوقف عند جمالية الفن ومتعة المشاهدة، الذي لايقدم ولايوءخر، المفتقر الى المحتوى والعاجزعن التنمية الاجتماعية الفكرية الموءثرة الفاعلة في المجتمع. وبسبب العلاقة المباشرة والتأثيروالتأثر بين العولمات  الثقافية والسياسية و الاقتصادية  والحركة المتوازية  بين خطوط العولمة في أبعادها الثلاثة،  أصبح من الطبيعي ان تنطلق جميعها من نقطة واحدة ومبدأ واحد فلم تنفرد على سبيل المثال قوة واحدة  أومجموعة من القو! ى العالمية بعولمة الثقافة على مزاجها لكي تكون قوى اخرى مبداءاً للعولمة الاقتصادية اوالسياسية  وانما عواصف التغيير والتاثير انطلقت من مصدر واحد معروف هوالولايات المتحدة الامريكية في اطارأمركة العالم.

 أنها لم تكن وليدة طغيان طريقة فهم ونمط وثقافة معينة على الثقافات الاخرى بفضل عمق تلك الثقافة وسلامتها وارتكازها على اسس متينة بقدر ما كانت نتيجة للطغيان الاقتصادي وتحول صاحبتها الى القوة الاعظم في العالم.

العولمة الثقافية بالتحديد تختلف عن غيرها من عولمات لأنها أولاً تمس كيان الأمة وذاتها وهويتها وشخصية انسانها وثانياً امكانية مواجهتها تعد أكثر واقعية من مثيلتها الاقتصادية في مجتمع يفتقر الى الف باء الصناعة على سبيل المثال.

الاختلاف في الرؤى والمواقف  أدى الى الاختلاف في اتجاهات التعامل مع ظاهرة العولمة الثقافية بين التبني والمقاطعة. وأختلفت الاتجاهات والمنطلقات في سبل وحيثيات المواجهة ايضاً بين الرؤية الاسلامية وغيرها من اراء قومية عربية ولكن شتان بين هذه وتلك. التيار الثقافي الذي يجتاح اليوم الشعوب العربية الاسلامية لا تستطيع ايقافه الا قوه الايمان والالتزام وخطة مدروسة لصياغة الانسان صياغة اسلامية. عالمنا الاسلامي يختزن ببركة الرسالة الاسلامية طاقة عظيمة خارقة تستطيع التصدي لأكثر الموجات الثقافية الاختراقية شراسة لوأحسنا تطبيقها. لتكن مادتنا الاسلام، الثقافة الاسلامية ولا الثقافة العربية التي من غير الاسلام لاقيمة لها ولا ثقافة.

 ماذا يبقى من الثقافة العربية لواخرجنا العنصر الاسلامي منها؟ ثقافة قومية؟ وماذا جنينا من الثقافة القومية غير التبعية وفقدان الذات والتخلف والديكتاتوريات والشعارات والانظمية القمعية الدموية.

الغريب ان بعض المفكرين يتحدثون عن الثقافة العربية فقط والأخر الأكثر حيادية عن الثقافية العربية جنباً الى جنب مع الثقافة الاسلامية ولكن، هل هناك فعلاً ثقافة بناءة فاعلة هادفة لدى العرب قادرة على النهوض بواقع الأمة لوانتزعنا الجانب الاسلامي منهم؟ من كانوا العرب قبل الاسلام؟

كانوا كما وصفهم علي بن ابيطالب عليه السلام بما كانوا عليه من بوءس قبل البعثة:

" إنّ اللَّه بعث محمّداً(صلى اللّه عليه وآله وسلم) نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل. وأنتم معشر العرب على شرّ دين وفي شرّ دار. منيخون بين حجارة خُشن وحيّات صمّ، تشربون الكَدِر وتأكلون الجشب‏، وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم. الأصنام فيكم منصوبة والآثام بكم معصوبة ". (نهج البلاغة : الخطبة 26)

" أضاءت به (صلى الله عليه وآله وسلم) البلاد بعد الضلالة المظلمة، والجهالة الغالبة، والجفوة الجافية، والناس يستحلون الحريمَ،ويستذلون الحكيمَ، يحيون على فترة ويموتون على كفرة" (نهج البلاغة : الخطبة 151)

" بعثه (صلى الله عليه وآله وسلم)، والناس ضُلاّل في حيرة، وحاطبون في فتنةٍ،قد استهوتهم الاَهواءُ،واستزلّتهم الكبرياءُ، واستخفّتهم(6)الجاهلية الجهلاءُ، حَيارى في زلزالٍ من الاَمر، وبلاءٍ من الجَهل، فبالَغَ (صلى الله عليه وآله وسلم) في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحَسَنة " (نهج البلاغة : الخطبة 95)

كانوا كما وصفهم جعفر بن ابيطالب في حواره مع النجاشي:

"  أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، وبقينا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وقد أمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، وحقن الدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئًا، وأن نقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان... "  (السيرة النبوية 1| 335)

فحولهم الاسلام مما كانوا عليه من بؤس وشقاء وتخلف وعمى في بضع سنين الى صناع حضارة ورواد نهضة ورفعهم من الحضيض الى قمة الهرم الحضاري. اذاً فالثقافة الاسلامية التي تحمل فيها من المؤهلات والخصوصيات ما يمكَنها من تغيير المجتمع والتاريخ، ما يمكنها  ان تصنع الحضارة وانسانها من لاشيء من الطبيعي ان تمتلك في مادتها على المستوى النظري ما يكفي لمواجه العولمة الثقافية.

المواجهة الفاعلة للعولمة الثقافية تكمن في العودة الى ثقافة الاسلام وقيمها وترسيخها في المجتمع لان الالتزام الديني والايمان بالقيم الاسلامية بالعقل والروح والقلب والقالب  سوف يكون كفيلاً بايجاد المناعة الذاتية لكل حالة اختراق ثقافي سلبي بل سوف تتحول المسألة من حالة دفاع ورد فعل امام الثقافة الغربية الى حالة جديدة من الهجوم المعاكس أي العولمة المعاكسة، (العولمة الاسلامية اذا صح التعبير).

المنطلق في هذه المواجهة هوالعمل على مستويين:

على المدى القريب (في البعد الزمني) الذي يمتد افقياً على مساحة المجتمع لدعوته للقيم النبيلة والهوية الاسلامية والشخصية الملتزمة المسؤولة وتبيين حقيقة الثقافة الغربية التي يطغى فيها الجانب المادي وتتبلور فيها معاني الانانية والفردية والمصلحة الشخصية والنظرة النسبية للاخلاق ولابد ان تكون المواجهة هنا باسلوب للطرح يتناسب مع مقتضيات المرحلة لكي تؤتي العملية أكلها.

 فقد تكون النظرية في غاية الرقي والكمال ولكن سوف تضيع وتصبح غير مجدية عندما نخطيء في طريقة عرضها وقد تكون النظرية فارغة في محتواها ومعانيها ولكنها عندما تسوق بطرق مؤثرة تتحول الى العولمة الثقافية الأمريكية التي نعاني منها اليوم.

  العولمة الثقافية تتبع ثقافة الصوت والصورة، الثقافة السمعية البصرية فمن اللاطبيعي ان تواجه بالطريقة التقليدية من خلال الكتاب والمحاضرة ف! قط. لانك تحاول رد التأثير العاطفي بالتاثير العقلي المنطقي وشتان بين الاستجابة لهذا وذاك. التطور المدهش الذي حصل في مجال وسائل الاتصال والاعلام المرئي والمسموع والانترنيت يتطلب رداً سريعاً يتناسب مع مستوى الهجوم. رد مضمونه اسلامي ولكن بطريقة عرض عصرية.

وعلى المدى البعيد الذي يمتد عمودياً في عمق المجتمع هوالعمل على غرس الالتزام والقيم واخلاقيات الشخصية الاسلامية في قلب وعقل الجيل القادم  وبناء الهوية الاسلامية والانتماء لديه من خلال  الاسرة والمدرسة  الصالحة المربية. عملية التربية على الأسس الاسلامية سوف تولد التحصين الذاتي امام محاولات الاختراق الثقافية. المشكلة التي نعاني منها هي تحويل المواضيع الخطيرة لكثرة التكرار الى "كليشهات" نمر عليها مرور الكرام في كل مرة بحاجة فيها الى الوقوف والتأمل والنظر والتعمق ظناً منا باننا عالجنا المسألة ولكن شتان بين فهم المشكلة ومعالجتها. لابد ان ندرك بان ما بين مدرسة "المدرسة" ومدرسة "البيت" هناك متسع من الوقت يكفي لصناعة الانسان وبناء شخصيته.

 الم نقل ان الجيل في بعده الزمني يمتد الى عشرين عام؟ المدرسة الصالحة والبيت الصالح  كفيلان لترسيخ المفاهيم والقيم والثقافة الأسلامية وبناء هوية الفرد واشتراكهما في الهدف سوف يؤدي الى ملء الثغرات التي قد يحدثها احد العاملين بما يقدمه العامل الاخر لتتكامل بعد ذلك الصورة لدى الجيل المتلقي.

وأخيراً الثقافة المادية البحتة التي تمثلها العولمة اليوم ثقافة اللاعمق واللاثقافة. انها ثقافة مشوهة وان كانت كثيرة الألوان وسوف لاتستطيع ان تصمد امام الثقافة الاسلامية بعمقها وروعتها التي تلامس روح الانسان وتعانق فطرته.

"فاما الزبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض كذلك يضرب الله الأمثال" الرعد :17

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 3 كانون الثاني/2008 - 23/ذو الحجة/1428