الثقافة البصرية ومعاول الحروب

شبكة النبأ:  نموذج البصرة يمكن تعميمه على اغلب المدن التي تاثرت بالحروب وما انعكس عن هذه الحروب من هجرات داخلية وما تفشى من عوز في الشعب العراقي فقطعا يتاثر الجانب الثقافي بكونه انعكاس فني للتبدلات الاجتماعية والاخلاقية والسياسية ويحمل الخصائص المستحدثة نتيجة لذلك فقد منى الادب او الثقافة بصورة عامة الى هجرة واغتراب شديد اضافة الى تبدل المعالم في البيئة الاجتماعية. 

في مدينة الفاو جنوب البصرة، تفصل الناس عن العالم مياه متلاطمة وتوصلهم إليه أشرعة تحملهم على متن الريح، فهي مدينة تقع على أعتاب البحر وتستمد جلّ خصائصها منه ولابد لهذه البيئة البحرية من ان تترك آثارها على ثقافة المدينة ومخيلة مثقفيها.

فالقاص عبد الحسين العامر الذي غادر مدينته بعد الحرب دون عودة يصف لـ ( أصوات العراق ) المدينة قبل الحرب الإيرانية- العراقية كانت مظاهر الحياة البحرية في الفاو متفاعلة مع أمكنة المدينة الغنية بالتجارب والمشبعة بلحظات التاريخ، لذلك كان شغفنا بالإبداع يعادل شغفنا بالمغامرة ومخاطر البحر. وقد شكل البحر  المنتج المكاني للمدينة وسماتها الطبوغرافية المتشكلة من لسان من اليابسة يمتدُ في فم البحر.

وأضاف العامرقبل أن تمطر الحرب أولى قذائفها وحممها على هذه المدينة، كان يسكنها أكثر من 22 ألف نسمة يمتهنون زراعة النخيل والحناء والصيد والعمل في ورش الميناء وشركة النفط.

ومثل أي ميناء في العالم نمت حركة ثقافية وفنية ورياضية ملفته للنظر، فالعروض المسرحية كما يقول العامر  كانت تتوالى على قاعة سينما نادي الميناء وسينما نادي شركة النفط ، وتكون جمهور كبير من المتابعين للمسرح ، وظهر كتاب في المسرح ،من بينهم يحيى محمد علي وصالح حبيب الموسوي وريسان جاسم وسلطان عبود.

ومدينة الفاو التي تقع على مسافة (100 كم جنوب البصرة) هي أقصى نقطة من العراق، وأول المدن العراقية التي طالتها نيران الحرب الإيرانية العراقية، إذ أصبحت ساحة لهذه الحرب منذ أيامها الأولى، مما تسبب بهجرة جميع ساكنيها إلى مدينة البصرة أو المدن العراقية الأخرى، وامتدت هذه الهجرة حتى نهاية الحرب عام 1988. وبعد الحرب عاد عدد قليل من أهلها.

 وأوضح العامربالمقابل كانت تنمو حركة ثقافية في مجالٍ آخر، ودليل ذلك ظهور جيل من القصاصين أنجبتهم الفاو من بينهم مجيد جاسم العلي وريسان جاسم وطاهر ظاهر حبيب ومحمد سعدون السباهي وعبد الحسين طه .

وتأسست في البصرة عام 1970 جماعة قصصية أطلقت على نفسها جماعة الـ(12) قصة، أصدرت مجموعتين قصصيتين ،شارك فيها 12 قاصا من قصاصي البصرة، بينهم القاص العراقي المعروف محمد خضير، ومجموعة من قصاصي الفاو المذكورين ،وحققت هذه الجماعة حينذاك طفرة ملحوظة في القصة العراقية.

وتابع العامر ومن الشعراء حسين جابر وحسن زهراو، وفي الفن التشكيلي برز صاحب البغدادي وصاحب كاظم والفنان يحيى محمد علي.

وأشار العامر إلى ان اللقاءات الثقافية كانت تتم إما في نادي الموظفين، أو مقهى غريب، أو في بيوت بعض محبي الثقافة، منهم الشاعر مجيد الموسوي وعلي جاسم شبيب وصالح حبيب.

وخلص العامرلقد شكل مبدعو المدينة أرثا عميق الجذور، ولكنّ أحداً لم يلتقط إثرهم اليوم، فالمدينة تكاد تخلو من الرموز الإبداعية والأدبية، وقد آثر بعض المبدعين فيها العودة إليها بعد غياب طويل، في حين فضّل البعض الآخر الرحيل عنها نهائياً بعد دورات الخراب القاسية التي عصفت بالمدينة.

من بين العائدين الفنان التشكيلي صاحب البغدادي الذي وصف انطباعاته بعد العودة منذ عودتي الى مدينتي الفاو وأنا اشعر بخواءا ثقافي وفكريً وفنيً لم تشهده المدينة من قبل، ومع ذلك بادرت بالدعوة إلى إقامة مهرجان ثقافي ، وحظيت الدعوة باستجابة البيت الثقافي بالبصرة، وبدعم من مجلس المحافظة تم إقامة مهرجان ( الفاو مرسى للثقافة والإبداع ) في 29 / 3 / 2007، والغريب أن المهرجان لم يحضره سوى الجمهور القادم من مركز محافظة البصرة،ولم يحضره من مدينة الفاو سوى أعضاء الهيئة المنظمة للمهرجان والشاعر  إبراهيم عبد الرزاق.

لم يستسلم البغدادي لخيبة التجربة الأولى إنما واصل  بادرت مبادرة أخرى ، وهيَ التبرع بعمل أعمال نحتية تتوزع في داخل المدينة ومينائها، ولم احصل على أية استجابة من الجهات المعنية في المحافظة، واستطيع القول أن ما طرحتهُ لم يخرج عن كونه فكرة وتصاميم ما زالت على الورق فحسب.

الفنان التشكيلي عبد الصاحب البغدادي عاد الى مدينة الفاو بعد غياب طويل قضاه مقيماً في هولندا ، وشارك في معارض هولندية وأوروبية قُبل على أثرها عضواً في جمعية التشكيليين الهولنديين. وتساءل البغدادي أين ذهبت المكتبة العامة ودكاكين الكتب والصحف والمجلات التي كانت تزخر بها المدينة أيام زمان ،علاوة على المكتبات الشخصية"؟

تشكل الفاو مثلثاً بين شط العرب وخور عبد الله، ويستدل من وثائق التاريخ أن المدينة  ظهرت إلى الوجود قبل 1811م و توسعت مع توسع النشاط التجاري والاقتصادي والصيد فيها بعد إقامة الحصن العسكري العثماني عام 1886م . وفي 6 تشرين الثاني نوفمبرعام 1914 أنزلت بريطانيا جنودها في الفاو لمهاجمة الدولة العثمانية ، ومروراً بالسنوات التي أعقبت تأسيس المدينة صارت الفاو بوابة العراق البحرية المطلة على العالم ، وبدأت مفاصل حياتها الاقتصادية تنتعش بعد أن اتسعت، وعرفت محلياً وعربياً وعالمياً بمزارع الحناء التي أصبحت رمزاً للمدينة ، والصيد هو من أهم المهن التي يمارسها أهالي الفاو، وقد تركت هذه البيئة أثرها على النتاج الثقافي القصصي . 

 القاص طاهر ظاهر حبيب بين هذا التأثير كان لطبيعة مدينة الفاو كميناء ومركز تجاري ، انعكاسه على التنوع العرقي ، ففيها الهنود والفرس والبلوش . وكان لهذا الخليط البشري أثره في العملية الإبداعية، إذ بقت هذه المدينة غزيرة الإنتاج في الجوانب الإبداعية والفكرية والثقافية حتى حدوث الحرب عام 1980.

ومع كونها مدينة بحرية وميناء عرفت الفاو كمدينة زراعية وشهدت الصراع التقليدي الذي عم الجنوب العراقي بين الاقطاع والفلاحين ، هذا الصراع الحيوي تحول الى هاجس إبداعي يصفه القاص طاهر طاهر اتسمت الفاو بوعي مبكر لدى المثقفين من أبناء المدينة، وعلى هذا الأساس وبفعل الظروف التي ذكرتها، ظهرت بوادر الأدب والفن والرياضة بشكل واضح ومتميز، و حصد أبناء المدينة من الأدباء جوائز متقدمة في مجال القصة القصيرة، وعلى سبيل المثال فاز كل من القاص محمد سعدون السباهي و القاص صباح خلف عباس بالجائزة الأولى لمسابقة ( إذاعة صوت الجماهير ) آنذاك.

الحوب والهجرة أثرت على الحياة الثقافية في المدينة ويضرب موفق ياسين أحد المتابعين للشؤون الثقافية في مدينة الفاو مثالا حين عاد اليها عام  1996..عدت للمدينة وأنا احمل معي من مدينة الزبير مكتبة ثقافية شخصية قوامها نحو 400 كتاباً، ولاحظت أن المدينة أصبح لا يعنيها أمر الإبداع والثقافة، والدليل لم يضاف الى مكتبتي الشخصية من الكتب سوى 10 أو 11 كتاباً خلال وجودي بالمدينة طوال هذه المدة، فليس هناك مكتبات ولا صحف ولا مركز ثقافي ولا أي نشاط يمت للثقافة بصلة..رغم كثرة الصحف التي تصدر في بغداد والبصرة ، حالياً إلا أن أية صحيفة لم تصل الى مدينة الفاو منذ انهيار النظام السابق ، إلا ماندر.

واقترح أن يعاد تأهيل المركز الثقافي في المدينة، وهو بناية مستقلة ذات أجنحة بنيت قديماً لهذا الغرض، لكي يتحول الى مركز ثقافي حقيقي من شأنهِ أن يُعيد بعض من تاريخ المدينة الزاخر بالإبداع والمبدعين.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 17 كانون الاول/2007 - 6/ذو الحجة/1428