حتى يغيروا (3) بالتي هي أحسن

قراءة في حلقات

نزار حيدر

 ثقافة جديدة، لعراق جديد.

هذا ما اتفقنا عليه في الحلقتين الماضيتين من هذه القراءة.

وقلنا بان من الثقافات التي يحتاجها العراق الجديد، هي؛

اولا: ثقافة الحياة

ثانيا: ثقافة التعايش

ثالثا: ثقافة المعرفة

رابعا: ثقافة الحوار 

لأن الله تعالى خلق الحياة متنوعة في كل شئ، بما فيها الانسان، عاداته، تقاليده، معتقداته، طريقة تفكيره، حبه وبغضه، وفي كل شئ، لذلك، فان امامنا احد طريقين، فاما ان نتعايش، وطريقه الحوار، او ان نتقاطع، وطريقه الخصام.

 العاقل، هو من يختار الحوار للعلاقة بينه وبين الاخرين، اما غيره فيختار الخصام والتقاطع، خيار الاول بسبب انه يمتلك المنطق، وخيار الثاني لانه لا يمتلك ما يتحاور فيه، فعقله خال، وروحه خالية، ولذلك يرفض الحوار، وبالتالي لا يقبل بالآخر ابدا.

   العراق، بلد متنوع في كل شئ، لا يمكن تحقيق التعايش بين ابنائه الا بالحوار، فهو الطريق الوحيد الذي يمكن ان نحقق فيه التعايش والسلم الاهلي، اما الافكار الشوفينية التي تعتمد اقصاء الاخر والغائه، والاستئثار والاعتداد بالنفس، والكفر بكل شئ الا بما اؤمن به انا، فذلك طريق الدمار الذي لا نهاية له، ولقد جربه كثيرون فلم يحققوا شيئا للعراق سوى الخراب والدمار، ولنا جميعا في نظام الطاغية المقبور والذليل صدام حسين خير دليل وبرهان وتجربة وعبرة، طبعا لمن يعتبر.

   اما شروط الحوار الذي يمكن ان يكون جسرا للتعايش والوئام والتوافق بين العراقيين جميعا، فهي كما يلي؛

   اولا: ان يكون الحوار من اجل التكامل، فلا يكن من اجل ذاته، فالحوار من اجل الحوار، انما هو بين الطرشان فقط، الذين يخوضون فيه معتمدين على حكم مسبق يرفض التنازل او الاعتراف بالاخر، او الاقتناع بما يتعارض وما اؤمن به.

   ثانيا: ان يكون الحوار عن علم ومعرفة، وليس عن جهل، ليؤتي ثماره الطيبة، فالذي يحاور عن جهل لا يمكن ان يقتنع بشئ مهما كان صائبا، والعكس هو الصحيح، فمن يحاور عن علم ومعرفة، تراه يطلب الحق والحكمة بغض النظر عن مصدرها، ولذلك ورد في الحديث عن رسول الله (ص) قوله {الحكمة ضالة المؤمن} وفي حديث آخر {خذ الحكمة ولو من فم كلب عقور} لماذا؟ لان المؤمن هدفه ان يتعلم وليس هدفه ان يجادل جدالا عقيما.

   ثالثا: ومن اجل ان نتصف بذلك، يلزمنا ان نتحلى بمجموعة الصفات والاخلاقيات التي نتهيأ بها لقبول الاخر وقبول الحكمة عند الحوار، بغض النظر عن المصدر، على طريقة {لا تنظر الى من قال، وانظر الى ما قال}، وان من ابرز هذه المناقبيات؛

   الف: سعة الصدر.

   باء: التواضع.

   جيم: الاعتراف بالخطا.

   دال: الاعتراف بالفضل.

   هاء: اللين في القول.

   وليكن شعارنا عند الحوار (الدقة في النقل، والصحة في الخبر، والحكمة في الطرح) فلا نتقول اذا ما حشرنا الاخر في الزاوية، ولا نكذب اذا ما كدنا ان نخسر جولة، ولا نتهور اذا ما احرجنا المتحاور في معلومة او معرفة او دليل وبرهان.

   رابعا: تعلم فن الاصغاء، فالمحاور الذي لا يصغي للاخر وهو يتحدث او يدلي بادلته وبراهينه، لا يمكن ان يصل الى نتيجة حسنة من اي حوار.

   ان كل واحد منا يتمنى لو يصغي له الاخرون وهو يتحدث، فلماذا لا يصغي هو عندما يتحدث الاخرون؟.

   هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان من العادات السيئة لدى الكثيرين منا، هي مقاطعة الاخر اثناء الحوار وعدم تركه يكمل الفكرة، وكاننا دوما نقرا افكار الاخرين حتى قبل ان يدلوا بها او يتكلموا عنها، وهذا خطأ كبير في اي حوار.

   علينا ان ندع الاخر ينهي حديثه قبل ان نقاطعه لندلي بما نعتقد به، وان من الخطا التصور بان الكلام العام يوضح الفكرة، ففي احيان كثيرة تتضح الافكار في تفاصيل الحديث، من دون ان يعني ذلك اننا نميل الى الثرثرة في الكلام ابدا، فالاختصار في الحديث يساعد على ديمومة الحوار، ولكن ليس كل الناس لهم القدرة على توضيح افكارهم بمختصر الكلام، ولذلك يجب ان نمنحهم الفرصة اللازمة لتوضيح افكارهم، من دون مقاطعتهم عند الحديث او عند طرحهم للفكرة.

   كذلك، فان هناك عادة سيئة اخرى، نتميز بها، نحن العراقيون، عند الحوار، الا وهي استعمال مفردات النفي كثيرا، فترانا نبدا كل حديث بالنفي كقولنا (لا) وان كنا سنكرر ما قاله الاخر قبل قليل، وكاننا لا نريد ان نسمع رايا صائبا من الاخر، مهما علا شانه، فنحاول ان نوحي له وكان الفكرة خاطئة اذا وردت على لسانه، وصائبة اذا ذكرت على لساني.

   يجب ان نمحو من صدر احاديثنا عبارة (لا، ولكن) التي تدل على محاولة الغاء الاخر، حتى قبل مناقشته ومحاورته، وهي دليل عدم الاحترام والتقدير للافكار التي يتقدم بها الاخر عند الحوار.

   هذه الصفة من العادات السيئة التي يجب ان نقلع عنها في الحوارات، لتاتي مثمرة وناضجة وذات منفعة، فاذا ذكر الاخر رايا صائبا نحاول ان نسمعه كلاما طيبا كأن نثني على الفكرة مثلا، او نقول له بان ما قاله صحيح، ثم نحاول ان نطور الفكرة او نصحح بعض ما جاء فيها من خطا او عدم صوابية.

   الى جانب كل ذلك، علينا ان نتعلم فن السؤال، الذي يحتاج الى الكثير من التواضع للعلم والعرفة.

   ان الكثير منا يخجل ان يسال، خاصة عند الحوار، ويعد ذلك منقصة او مثلبة ترجح كفة الآخر في جلسة الحوار، وهذا فهم خاطئ، فالسؤال باب للمعرفة وللحوار في آن واحد، ولقد ورد عن رسول الله (ص) قوله {العلم خزائن، ومفاتحه السؤال، فاسالوا رحمكم الله، فانه تؤجر بها اربعة، السائل والمتكلم والمستمع والمحب اليهم} كما ورد عن الامام محمد الباقر عليه السلام قوله {مفتاح العلم السؤال}.

   فاذا كان الحوار للعلم والمعرفة، حضر السؤال، اما اذا كان الحوار للتباهي والتخاصم وعرض العضلات، فلن يحضر السؤال، بل سيكون الغائب الاكبر، ولذلك، تقل الفائدة، وتنعدم النتيجة المنطقية للحوار.

   خامسا: الهدوء عند الحوار، والابتعاد عن الصراخ او استعمال الكلمات النابية والبذيئة، فعن الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام انه قال {عود لسانك لين الكلام}.

   كما ان من المهم ان نمسك اعصابنا عند الحوار، حتى لا ينفلت لساننا فيما لا يرضي الله والطرف الاخر، وليكن الهدف هو كلمة الحق في كل الاحوال، ولذلك كان رسول الله (ص) يدعو فيقول {واسالك كلمة الحق في الرضا والغضب}.

   ولنتذكردائما، بانه كما ان الفكرة التي اعتقد بها محترمة بالنسبة لي ولا يمكن ان تتغير الا بشق الانفس، كذلك، بالنسبة للاخرين، فان افكارهم محترمة في قرارة انفسهم، ولا يقبلون بان يستخف بها احد او يستهزئ بها الاخرون.

   علينا ان نحترم مشاعر الاخرين، كما نحب ان يحترم الاخرون مشاعرنا، مهما اختلفنا في الاراء والافكار، ولتكن الاية الكريمة {وجادلهم بالتي هي احسن} شعار كل جلسات الحوار.

   سادسا: اعتماد مبدا الاحترام المتبادل، والابتعاد عن لغة التكفير والتخوين والاستهزاء والاستخفاف والانفعال، فعن سيد الشهداء الامام الحسين بن علي عليهما السلام انه قال {قولوا للناس احسن ما تحبون ان يقال لكم، فان الله يبغض اللعان السباب الطعان على المؤمنين الفاحش المتفحش السائل الملحف، ويحب الحيي الحليم العفيف المتعفف}.

   علينا ان نقبل من الاخر ما نقبله من انفسنا، ونرفض من انفسنا ما نرفض من الاخر، فليس من الانصاف في شئ ان نتناقض مع انفسنا، فعن الامام الحسين بن علي بن ابي طالب سبط رسول الله (ص) انه قال {كفى بالمرء غشا لنفسه ان يبصر من الناس ما يعمى عليه من امر نفسه، او يعيب غيره بما لا يستطيع تركه، او يؤذي جليسه بما لا يعنيه}.

   سابعا: لندع لغة العنف والتصفيات الجسدية والسياسية (اغتيال الشخصية) جانبا، ولنحكم لغة الحوار والمنطق فيما بيننا، وعلينا ان نقرر جازمين، كنس العراق من اثار الماضي الاسود الذي خلفه لنا النظام المقبور، فنتسلح بقوة المنطق، وننبذ منطق القوة، فنعشق لغة الدليل والبرهان، ونكره لغة التشفي والانتقام واتخاذ الارباب من دون الله تعالى، حتى لا نكن مثالا سئيا لمن وصفتهم الاية الكريمة {الذين اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله}.

   ثامنا: لنقرر دائما بان الخلاف لا يفسد للود قضية.

   يجب ان لا ندع الخلاف كنتيجة نهائية لاي حوار، يتحول الى سبب للخصام والقطيعة، مهما كبر.

   ليكن منهجنا قائم على اساس الاستمرار في الحوار مهما اختلفنا، فقد نصطدم في المرة الاولى، فنختلف في المرة الثانية، الا اننا سنتفق في المرة الثالثة، وهذا هو المطلوب من الحوار، اي حوار.

   لنعتمد مبدا الحوار في ايجاد الحلول لمشاكلنا، ليس السياسية والامنية فحسب، وانما حتى العائلية والتعليمية وغيرها، فليحاور الاب ابنه بدلا من ان يشهر العصا في وجهه، ولتحاور الام بنتها بدلا من ان تصرخ في وجهها وترفع الحذاء بوجهها، وليحاور المعلم تلميذه بدلا من ان يعاقبه جسديا، وهكذا.

   كذلك، فليكن الحوار هو السلاح الذي نعتمده في الاقناع والتطوير، وعلى مختلف الاصعدة، فنستبدل به كل الوسائل غير الحضارية وغير الانسانية الاخرى.

   تاسعا: اختيار مواضيع الحوار بما ينفع الناس، وعدم الخوض فيما لا يغني ولا يسمن من جوع.

   مشكلتنا، اننا نخوض، في اغلب الاحيان، في حوارات عقيمة لا تنفع في شئ، فنضيع بسببها الوقت والجهد وفي احيان كثيرة صداقة الاخرين، ولذلك يجب ان ننتبه الى مادة الحوار قبل الدخول فيه، لنكون على علم بها قبل ان نقرر المشاركة فيه، فلقد دخل رسول الله (ص) ذات يوم المسجد، فاذا جماعة طافوا برجل فقال ما هذا؟ فقيل علامة، فقال، وما العلامة؟ فقالوا اعلم الناس بانساب العرب ووقائعها وايام الجاهلية واشعار العرب. فقال (ص) ذلك علم لا يضر من جهله ولا ينفع من علمه.   

   عاشرا، واخيرا: يلزم ان يدور الحوار في اجواء من الحرية بعيدا عن االقهر والاذلال والكبت وتكميم الافواه، فالراي الحر لا ينتجه المرء اذا كان مقموعا، والفكرة الصواب لا ينطق بها من لم يشعر بالحرية والامن.

   لذلك، يلزمنا كعراقيين ان نعمل ونتعاون على اشاعة جو الحرية والسلام والاستقرار، لنهئ الاجواء المناسبة لكل حوار، بغض النظر عن نتائجه او طرفيه او مادته وموضوعه، المهم ان نخلق الجو المناسب، لغيرنا قبل ان يكون لنا، فهو اليوم لغيرنا وغدا لنا، وبذلك تكون الاجواء المناسبة للحوار، اي حوار، هي المصلحة المشتركة بيننا جميعا، كما انها القاسم المشترك الذي نحتاجه جميعا، ان لم يكن اليوم لنا، فغدا.

يتبع.... 

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 13 كانون الاول/2007 - 2/ذو الحجة/1428